محمد حسان
الكورس الشعبى 1948 |
حياة الفنان عبد الهادي الجزار حياة ثرية علي المستويين الشخصي والإبداعي . تترافق منعطفاتها مع ما مرت به مصر من ثورتها المستمرة للتحرر من الاستعمار البريطاني وسطوة الملكية ثم قيام ثورة يوليو ومحاولاتها لإعادة نهضة مصر وإقرار شخصيتها المستقلة المتفردة.حياته القصيرة مارس 1925 إلي مارس 1966 تسير إبداعه في خطوط متوازية مع مسيرة الوطن وكذلك مسيرة حياته الشخصية وكأنه مرآة عاكسة لأحلام وطموحات ومعتقدات مصر, بل وشخصية مصر في ثرائها وفي تنوعها. علي مدي واحد وأربعين عاماً هي فترة حياة الفنان عبد الهادي الجزار قدم ابداعات متفردة في مجالات ابداعية عديدة كلها جديرة بالاحترام والتقدير والإعجاب: مصورا، صانع جداريات، شاعرا وزجالا، ناقداً ومنظر في فلسفة الفنون، كاتبا للقصة القصيرة والمقال والمحاضرات، مطربا وقارئا للقرآن.
لم يتوقف الجزار عند موهبته التي تنبه لها كبار النقاد الفنيين وهو في السادسة عشرة من عمره وما منحه من الدراسة المجانية في كلية الطب بل دأب طوال حياته علي التزود بما يفيده كإنسان مبدع مهموم بالشأن المصري فدرس الي جوار الطب الذي هجره الي دراسة الفنون الجميلة ثم دراسة الآثار الفرعونية بالقسم الحر ثم دراسة الهندسة ليستطيع رصد حركة بناء السد العالي بالإضافة لحصوله علي ما يوازي درجة الأستاذية في الفنون من أكاديمية روما .
وتعد المسيرة الإبداعية للجزار بجلاء تعبيرا ابداعيا عن روح الشخصية المميزة لمصر بثرائها وبهمومها وبطموحاتها , فنجد أول لوحة حاز عنها الجائزة الأولي وهو في سن السادسة عشرة عن أهمية الاعتناء بالصحة والنظافة لدي عموم الشعب والتوعية بها وتلك اللوحة أهلته للحصول علي الدراسة المجانية في كلية الطب.
أما لوحته الأولي التي عرضها في معرض مشترك مع أستاذه حسين أحمد أمين
فكان اسمها الكورس الشعبي أو طابور الجوع وعنونها الجزار نفسه وهو مازال تحت العشرين من عمره باسم رعاياك يا مولاي مما عرضه للسجن لشهر كامل هو واستاذه المناضل الفنان حسين أحمد أمين مما دعا الفنان الرائد محمود سعيد بيك نسيب الملك فاروق لتوجيه استعطاف موجه للملك فاروق فتم الافراج عن الجزار وعن أستاذه دون تمام مدة السجن.
ثراء عالم الجزار لم يتوقف عند البعد الاجتماعي أو التوعوي السياسي بل تجاوزه لآفاق جديدة جعلته في موقع الحلقة الوسيطة بين محاولات الرواد الذين سبقوه في عالم الفن التشكيلي وبين مجايليه ومن جاءوا بعده.
فلم يقع الجزار في شرك النقل التصويري الفوتغرافي المتقن للأجواء الشعبية مثل الموالد الشعبية أو الزار أو رصد السلوكيات الشبيه المرتبطة بالمعتقدات الضاربة في عمق الشخصية المصرية مثل شخصيات قارئ الكف أو الأحجبة بل تجاوز حالة المشدوه المنبهر بالعوالم الشعبية لكونه واحد من تلك البيئة غائصاً فيها بل وأحياناً مؤمناً بمعتقداتها.
وفي إحدي قصائده يقدم نفسه كواحد ممن يعتقدون في السحر الذي يتجاوز مفهومه كمصطلح محدود يرتبط بأعمال شريرة بل يتجاوزه الي إيمان بالخيال كحل وكقوة فاعلة في الحياة :
دعني أعيش في السحر الذي أحبه
فأني لا أريد أن أعرف ما هي الأشياء
فإن الحياة مع المعرفة لا أستطيع احتمالها
لأن المعرفة شيء لا يعرف إلا في اللاوعي
وتلك المعرفة وعالم اللا وعي التبسا الجزار ذاته الذي عاش مشحوناً بما تشربه منذ مولده في حي القباري بالإسكندرية المتاخم لحي الجمرك ومشاهداته اليومية لعوالم شبحية لأناس يعيشون علي حافة الحياة حافة الفقر لكنهم أحياء, وكذلك ما كان يتلقاه من جرعات دينية من والده العالم الأزهري وتعمقت ثقافة الجزار الشعبية المصرية بعد انتقاله لمنزل متاخم لمقام السيدة زينب مما دفعه للالتحام بالعالم الشعبي كواحد منه وظل معتزاً بانتمائه للإسكندرية ولحي السيدة زينب حتي بعد انتقاله بعد الزواج لحي المنيل. ولم تنقطع زياراته ولا تأملاته للمكانين الأثيرين الي عقله وقلبه وابداعه.
ولا يتوقف ابداع الجزار عند التصوير في حدود الرمز بل يستجمع كل مخزونه الشعبي والفلسفي والعلمي فنجده كما يستخدم الألوان الشعبية المصرية الزاهية والخطوط الرفيعة التي لا تحدد معالم الوجوه بقدر تقديم الحالة النفسية والمعنوية لشخوص اللوحة ويتعمق ذلك في اللوحة التوأم للوحة طابور الجوع أو الكورس الشعبي في لوحة الماضي والحاضر والمستقبل التي يحتفي فيها بثورة يوليو قبل قيامها بعام كامل ويتنبأ بها فيقول عن اللوحة :
تاريخ هذه اللوحة يرجع الي عام 1951 وفي هذه الأثناء كانت عهود الإرهاب تدمي الذكريات وتضفي عليها لوناً قاتماُ رهيباً, ولكن هذا لم يمنع من أن تصمد العزمات وتهيئ نفسها للغد حيث تستطيع أن تتأثر جميع هوامل الماضي الكريه وكانت اللوحة الماضي والحاضر والمستقبل.
أما الماضي فهو واضح من الجو الخلفي للوحة وهو بين أسوار السجن وقد أطل منه سجين علي جنازة تسير كما أطلت امرأة بيدها طفل , والسجين والمرأة والطفل يمثلون جميعاً الحياة الحبيسة المضطربة التي تلتصق بخيال الحاضر.
أما الحاضر فهو الوجه الكبير الواضح وتبدو فيه عناصر القوة والعزم والإصرار وشرود الذهن في ماضِ كريه والتفكير في غد باسم جميل؟ وبدت شعبية الحاضر في الأحجبة والأقراط المدلاة من أذن الحاضر والمعلقة علي صدره.
بقي المستقبل وهو واضح من المفتاح الموضوع أمام الحاضر ولعل المفتاح يعطي فكرة عن المستقبل وما فيه من أسرار وخبايا خفية ...
هذه اللوحة لعلها لا تحتاج إلي رؤية قصتها فإن عهد كل مصري بالحياة المصرية 1951 قريب.
لقد مرت البلاد بفترة من أحلك فترات حياتها فعاش عدد كبير من شبابها في السجون لأنهم رفعوا رأسهم في وجه الطغيان والفساد ولأنهم جرأوا علي ، يبدوا رأيا أو يقولوا حقا وكانت الأنفاس مكتومة والحريات مقيدة والخطوات مغلولة وكل شيء حبيس ارادة حكام لا يرعون الله في الشعب ولا يحسون بما تعانيه الجماعات ولقد أردت أن تنوب اللوحة في التعبير عن إحساسات الناس وقتها - ولعلها فعلت.
عاشق من الجن1953 |
يتجاوز الجزار رواد فن التصوير المصريين في التعامل مع البيئة الشعبية كمجرد راصدين لها أو كعابري سبيل يرون الشعب من عليائهم إلي كونه روحا مصرية خالصة منغمسا في الحياة الشعبية متنقلاً بين أسرارها وفي إجابته علي أحد أسرار صديقه وزميله في جماعة الفن المعاصر حبيب عازار في سؤال للإذاعة الفرنسية يجيب عن نشأته السكندرية وعلاقته بالبيئة الشعبية فيقول : ولدت في الإسكندرية وعشت في حي من أحيائها الشعبية (القباري) فكان لذلك أكبر الأثر في إنتاجي بعد ذلك لأن ذلك هو حي العمال والطبقات الفقيرة فكانت عيني منذ الصغر تقع علي عمال أرصفة الفحم وهم من أهالي الصعيد النازحين إلي الإسكندرية وكنت أراهم وهم يفرغون شحنات الفحم داخل المراكب والصنادل كما كنت أراهم وهم عائدون إلي الحي وقد كست وجوههم طبقات الفحم السوداء وكانوا ينظرون كالأشباح الضامرة وهم يحملون المقاطف.
وكنت ألاحظ عمال الملح بين أكياس الكيماوي والأرض تبرق من تحتهم وبجانبهم البحر والصيادون وقد لفحت الشمس بشرتهم فصار لونها أحمر قاتما ولكن الشرايين تجري من تحتها مملوءة بالدماء وكنت أري علي وجوههم علامات الصبر وقصة الكفاح الطويل مع البحر و مع البشر ومع القدر وظهر ميلي بعد ذلك إلي التعبير عن الكتل البشرية في المراحل الأولي ومنها صورة المجتمع الأول (سنة 1946 ) في الرسومات بالحبر الشيني التي تمثل الإنسان داخل الأعشاش معلقة علي الشجر بيوت من أعواد الغاب ( البوص ) أو داخل وبجانب القواقع وكأنهم حشرات تلد وتتكاثر ثم تفني ليأتي غيرها.
وكانت تبدو في نظراتهم الشرود وكان تجوالي في أنحاء الإسكندرية في جهة الملاحة والجبال الغربية للصيد وملازمتي البحر من الصغر أكبر الأثر في ربط تلك المجموعات البشرية بالعناصر الطبيعية كما كان لذلك أكبر الأثر أيضا في الإحساس بنغم الطبيعة والفورم وتحديده ( كما في صورة الرجل والقوقعة سنة 1948) وعلي العموم قد كانت تلك الفترة التي عشتها في طفولتي في الإسكندرية هي المصدر الأول الذي حدد اتجاهاتي وميولي في إنتاجي الحالي مثلما تشتف الأحلام صورها من الأزمنة الأولي للطفولة والرواسب التي يدفعها العقل الباطن إلي الظهور... لابد قبل الكلام عند توضيح العوامل والمؤثرات التي تكيف إنتاجي الفني وتطبعه بطابع خاص هو الطابع الشعبي لابد أن نذكر الحياة الشعبية ونوضح طابعها وما هو المقصود بكلمة ( الشعبية ) هنا. فالمقصود بالحياة الشعبية هي تلك الحياة التي يحياها السواد الأعظم من الشعب الذين يعيشون بطريقتهم الخاصة وهي أقرب إلي الفطرة المرئية الحديثة وأساليبها العلمية وهذه الحياة الشعبية نجدها في القري والأرياف كما نجدها في المدن الصغيرة والكبيرة في مصر وهي واحدة في جوهرها وأن اختلفت في مظهرها وأثر تلك الحياة الشعبية في الإنتاج الفني بتقسيمه قسمين..
من الملاحظ دائما أن العناصر الشعبية وتركيبها هو مكيف ومصنوع بطريقة عمليةتتفق مع الحياة التي يحياها ذلك الرجل الشعبي فنجدها راسخة رسوخ عقائدهم فالكراسي الشعبية التي نجدها في القهوة الشعبية ومقابض العصي والسكاكين والدكك والمركوب والهون والعربة وبناء الحوائط والشبابيك والسلالم كل ذلك متميز بالثقل والمتانة والذوق الذي يتفق مع إحساساتهم وقد تأثر إنتاجي الفني بذلك.
إن الحياة الشعبية مملوءة بالمعاني الإنسانية والمتناقضات التي تخلق من الرجل الشعبي خاضعا تحت تأثير عاملين أحدهما مادي والآخر ديني روحاني ولكل من هذين العاملين تأثير في الآخر لكي يعيش هو وأسرته في حدود وإمكانيات مجتمعه ومنهم من يعجز عن ذلك فيتخذ من الدين والعقائد طريقا يعيش منه فالناحية الاقتصادية والناحية الدينية هما اللذان يحددان موقف الرجل الشعبي من مجتمعه ولنضرب مثلا الناحية الاقتصادية. توجد في القاهرة كثير من أضرحة الأولياء في الأحياء الشعبية وغير الشعبية ولكننا لا نسمع عن احتفال ديني أو مولد يحتفل به الجهة الغير شعبية وذلك طبيعي لان أهل الحي الشعبي يشعرون بتبادل المنفعة الاقتصادية في حيهم من وسائل النقل وأقامه الزينات وبيع الحلويات وغيرها. أما من الناحية الروحة فبعضها عقائد متوارثة من الدين وغير الدين وبعضها رموز روحانية يخلقونها لأنفسهم لكي يشعروا بأنهم يعيشون في عالمهم المستقل وأنهم بهذه الرموز يستطيعون أن يصلوا إلي حل مشاكلهم التي لم يجدوا طريقا آخر لحلها لأنهم يعرفوا العلم وأساليبه فهم يستطيعون أن يحلوا بعض العقد النفسية بواسطة الزار كما أنهم يستطيعون شفاء بعض الأمراض عن طريق السحر وهكذا..
هذا عن الحياة الشعبية في حد ذاتها أما عن أثر تلك الحياة في إنتاجي فهو شيء آخر يختلف تمام الاختلاف فقد هذه الحياة منذ طفولتي وكان لابد أن يتأثر إنتاجي بها ولكن هناك فارقا بين أن أكون فنانا شعبيا وأن يكون إنتاجي فنا شعبيا وبين أن أكون محللا للحياة الشعبية ودوافعها فالفنان الشعبي هو ذلك الفنان الذي يرسم بالفطرة كتلك النقوش التي نجدها علي جدران المنازل الشعبية من رسم المحمل والحج ورسم البقر علي دكان اللبان ورسم الأسماك والصيد علي دكاكين السمك وغيرها وفارق بين أن أنظر إلي تلك الحياة الشعبية من خلال منظار آخر هو التعبير عن الحياة الشعبية خلال المعاني الفلسفية الإنسانية فالفنان لا يأخذ من الواقع إلا القدر الذي يمكنه من الحصول علي ماده للتعبير عن نفسه وهو امتزاج الناحية الموضوعية بالناحية الذاتية فالحياة الشعبية من ناحيتها الروحية فيها جانب عاطفي وفيها جانب دراماتيكي ويظهر بوضوح في الحركات والانفعالات النفسية حتي في النواحي التي يبدو فيها المرح والزهور نجد في قرارها العميق رواسب كثيفة من المآسي والعقد الذي يغلفها ذلك المنظر حتي تبدو لنا في تعدد الألوان الصارخة والتركيبات الغامضة والعقائد الموروثة والمستوي المعيشي المرهق للأعصاب .
وما علاقة ذلك بالغموض في الفن؟ إن الرمز الفني ليس كالرمز الرياضي أي أننا لا نستطيع أن نقارن الرمز الذي له مدلولات معترف بها بذلك الرمز الذي يمس محور الوجود والحياة؛ ولو أن الرموز الفلسفية ( وخاصة في الفنون الحديثة ) ولا أقصد هنا الرمز بمعني الأشكال التي تمثل في الطبيعة ولكن الأشكال التجريدية أيضا قبل الخط واللون والمساحة يمكن إيجاد مدلولات ومعادلات لها تماما كما في الجبر والهندسة وخاصة بعد أن تمكن علم النفس من الكشف عن كثير من النظريات التي توضح سلوك الإنسان وامكان اضطراد ذلك الكشف بالتعاون بين الناقد والفنان.ولكن تلك المدلولات الفنية الفلسفية تصبح قرينا مشابها ومماثلا للرمز الرياضي الذي يتناول الجزيئات في الحياة بينما الفن الرمزي يتناول الوجود كل مرتبط بالكيان والفكر الإنساني ويصبح الرمز الفني في هذه الحالة يحوي لتلك الرموز الجزئية منها الرياضيات وغيرها من التجارب والعلم وقد نشأ الغموض في الفن الحديث وهو غموض يتعلق بالوجود الأصلي للكائنات جميعها بالحياة والموت بالخير والشر بالمادة والروح ومن هنا كان إنتاجي يحوي رموزا شعبية في قالب ذلك المعني الفلسفي الذي تحدثنا عنه.
كما يضيف الجزار محللا الغموض في أعماله, ولماذا اتجه إليه: "إن الغموض في إنتاجي يحوي خلال تلك الأعمال التحليل لأن الحياة الشعبية هي ذلك القالب الذي أفرغ فيه ذاتي لتتخذ ذلك الشكل الجديد ليس فيه الوصف الصحفي أو السينمائي وإنما هو تحطيم الواقع إلي جزيئات وهذه الجزيئات تتخذ داخل الذات الخالقة لتبني نوعا جديدا وتركيبا آخر مثل غاز الأيدروجين الذي يتصاعد من تفاعل حامض الايدروكلوريك عند وضعه علي الرخام فهو موجود في المادة أصلا ولكنه شيء جديد له خواص أخري. فأنا عندما أعيش في الحياة الشعبية بين ثناياها وأقلب صفحاتها وأفكر مع أفكارها تكون الذات مثل الأله التي تختزن فيها الزوايا الموافقة ويحصل نوع من التصفية ثم اندماج مع العقل الباطن حتي تتكون تلك الصورة الجديدة في ثوبها الرمزي الذي يشبه الغموض أما عن الغموض في الحياة الشعبية ذاتها فهو شيء في الحقيقة لا وجود له لأن كل فترة أو كل رمز أو كل عقيدة في الحياة الشعبية لابد أن لوجودها سببا ما ولابد أن لها أصولا ترد وحينئذ فلابد أن ذلك الغموض هو عند من لم يعرف خفايا الحياة الشعبية. فمثلا الأحجبة التي تعلق علي الصدور أو الجباه إذا فتحتها وجدت بداخلها بعض آيات من القرآن تحوي معاني تتصل بالدعاء لمنع الشر (مثل ومن شر حاسد إذا حسد) أو بعض الرموز (الخمسة وخميسة ) والخميسة هي تصغير للخمسة والتصغير للتأكيد في المفعول والقول والرقم خمسة له أصل في المثيولوجي القديم فهو يمنع الشر والحسد من الشر. فهي أذن تمنع الشر. والرقم (7) له اتصال بالعالم العلوي من (السبع سماوات طباقا) ولذلك فهم يستبشرون بالرقم 7 وعادة وضع (المنيعة) السائلة وتصليبها علي عتبة الدار يمنع مفعول السحر لان السحر هي من الأشياء التي يمارسها (كما يعتقدون) الكافرون بالله فعندما يتخطي إنسان ذلك العلامة فكأنه قد داس علي مفعول السحر فلا يمتد أثره إلي داخل الدار وعادة (حرق الأثر) فهم عندما يحصلون علي قطعة من ثياب شخص ما يعزمون علية ببعض الكلمات فيذهب مفعول الشر الذي كان يضمره الحاسد أو غيرة والمسألة أولا وقبل كل شيء بالتأثير النفساني الذي يتخذه من حقائق وتجارب مادية..
وكثير من هذه العقائد تتصل بمسائل روحانية صرفه أي أنها لا دخل لها بالدين مثل اعتقادهم في تناسخ الأرواح وهم يستعينون بالزار والضحايا لطرد الأرواح الشريرة التي تسبب الأمراض والعقد النفسية.
ويتبدي مفهوم الجزار هذا عن البيئة الشعبية وتفهمه لها في أعمال كثيرة امتزج فيها الإبداع النثري بالشاعري باللوني مثل لوحة :عاشق من الجن التي تبدو كجدارية فرعونية مصرية قبطية اسلامية في تمازج فريد:
عاشق من الجن تايه في بحور ويصن
يغسل ذنوبه في تراب العمر
طالع ع الفاضي
وتحت منه بير
نصه الفوقاني جبس
مزروع في وادي النوم
نوم الصبايا ويا وحيد القرن
نوم التروس جوه عروق الزان
وجلد راسه قحف
ولع بنار الصبر
وجنب منه غفير
ربي صغار وكبار
فايه ورا فايه
يرموا علي سلام
دار السلام في سلام
عليها ألف سلام
وكذلك في لوحة مواليد عرايا
مواليد عرايا
مواليد عراي وعذاري بتتخلق
سندس قفاطينة محبوكة شراشيبها
كوالين شفايفة تتعشق في أنفاسة
خرجه من الجوف بتتغربل براكينة
يفضل يبك الروح أزاي منين الروح جايه
شغل الكلام يا سلام عليه محسوب
اللي اتجمع سر الوجودله وجود
داير علي القلب والسمع حبه وعاش
ويتنقل الجزار بقدرة إبداعية وبفهم ووعي أولاً لأدواته التي يبدع بها وكذلك ببيئته التي يعيد إنتاجها في أعمالها والتي هي أيضاً البيئة التي ينتج لها إبداعه فنجده في النثر كما في الزجل كما في الشعر كما في رصد الأحلام مبدعاً علي قدر كبير من التمكن والوعي برسالته كفنان دونما الوقوع في أسر التنظير أو التعقيد بل تتسم أعماله بالبساطة الشديدة ومن ثم الوضوح
1
أخذت أجري وراء طائر صغير أبو فصادة وأقذفه بالحجارة لأقتله ولكنه كان في كل مرة يطير ويختبئ وأخيرا تربصت له وراء شجرة إلي أن اقترب هذا الطائر من سور حديقة منزل وقذفته بحجر لا أدري إذا كانت أصابته أم لا ولكنني هجت عليه و أمسكته بيدي وهو طائر وضغطت عليه حتي كاد يتهشم في قبضتي وقد قدم إليه أخي محمد طعاما ذرة فكان هذا الطائر الذي كبر حجمه مثل الدجاجة يأكل بينهم وقد لاحظت أن رقبته مقطوعة ولكنه مع ذلك كان يأكل .
2
كنت أستحم في بحر مع عدد من الناس تحيط بي الصخور والأعشاب وفجأة وجدت بعض الناس وهم يبعدون عني بمسافة كبيرة مشغولون بالبحث عن شخص غريق وشعرت بعدم الرغبة في البحث معهم وخرجت من الماء مهرولا وأخذت أجري و أجري وكان يطاردني كلب متوحش مثل الذئب وكنت أضربه وأخيرا دخلت في كوخ وأحكمت غلق الباب والمنافذ حتي لا يدخل علي أحد وبينما أنا منشغل في تغيير ملابسي إذا بالشخص الغريق يدخل علي فجأة ويقول أنا الذي كنت غريقا
3
كنت أستحم في بحر مع عدد من الناس تحيط بي الصخور والأعشاب وفجأة وجدت بعض الناس وهم يبعدون عني بمسافة كبيرة مشغولون بالبحث عن شخص غريق وشعرت بعدم الرغبة في البحث معهم وخرجت من الماء مهرولا وأخذت أجري و أجري وكان يطاردني كلب متوحش مثل الذئب وكنت أضربه وأخيرا دخلت في كوخ وأحكمت غلق الباب والمنافذ حتي لا يدخل علي أحد وبينما أنا منشغل في تغيير ملابسي إذا بالشخص الغريق يدخل علي فجأة ويقول أنا الذي كنت غريقا
4
كنت أجلس في حجرة بها أزهار ملونة كثيرة وهي مجموعات وكانت تجذبني فيها المجموعة البنفسجية وكانت توجد أختي أمنية بنفس الحجرة وقد نبهتها عندما كانت تمشي بالحجرة لئلا تدوس بقدمها في قارب الفول الثابت الذي كان موضوعا علي الأرض ولكن رغم ذلك التنبيه انغمس كعب قدمها في هذا الطبق .
محمد حسان
ابن الكلاب 1953 |
ابن الكلاب النحس
ابن الكلاب النحس
ابن العبيد الحمر
واطي الجبين والخد
رمز لزمانه ندل
عايش لنفسه بس
ماسح بزروه كبش
عامل لنفسه عرش
فوق الترعة والزرع
نازل في دينه حرق
سبع شواشي سود
زي الغراب النوح
تنعي الخير في البر
أما سليم الكف
واخد علي عهد
نطوي عهود الظلم
البين
كويت ايدي بايدي لما دريت بالنار
شط البحور مرقدي والموج بنالي دار
من صغر سني وأنا ريس علي الأبحار
أشخلع مع الموج وألعب مع التيار
البين عملي جمل وإندار عمل جمال
لوي خزامي وشيل تقلي الحمال
قولتلوا يا بين هو الحمل التقيل ينشال
قالي يا جدع أمشي خطاوي خطاوي
وكل عقده لها عند الكريم حلال
خايف أموت
كتبت كتابات من غير حبر بمعاني
ومدحت في الزين جيتني الناس بمعاني
وسافرت في الغيب لا زاد ولا مي
والرزق بالله لا بعشرة ولا بمية
أنا خايف أموت يموت الفن قبلية
تحزن عليا الظنايا الكل بمعاني
دكان الحلاق دخلت دكان الحلاق بعد أن غبت عنه هذه المرة أكثر من شهر حتي طال شعر رأسي من الجانبين ومن القفا لدرجة ملحوظة. وكان محمد صبي الأسطي الحلاق هو الذي يعرف سر شعري واتجاه المقص بداخله حتي يعيده إلي حالته الطبيعية وجلست أنتظر دوري وأهش الذباب الذي تراكم عند باب الدكان بمجلة الصباح التي رماها إلي الصبي لأقتل بها الوقت وأخذت أقلبها في كسل لعلي أعثر فيها علي خبر مهم يذهب عني مضايقة الذباب ورائحة الزبائن. ووقع بصري علي هذه الجملة (مسابقة القصة) وقرأت تفاصيلها في غير اهتمام ودارت في رأسي فكرة الاشتراك في المسابقة ولكن قلت لنفسي أنت لست كاتبا أو قصاصا إنك رسام وفنان بالألوان والخطوط وطريقة تعبيرك هي الصورة لا الكتابة والكتابة لها خبازوها كما أن التصوير والرسم والموسيقي كل له مبدعه الذي تخصص فيه فمن العبث أن تحاول الكتابة وتضحك الناس عليك وأي كتابة ؟! إنها قصة وليست كتابة خطاب إلي صديق أو مذكرة بشأن طلب ترقية من وزارة المعارف فارم عنك هذه الفكرة ولا تزج بنفسك فيما لا يعنيك. وحينئذ انتهي زبون وجلس زبون آخر بعد أن عزم علي فقطع حبل تفكيري في موضوع المسابقة ولكن الأمر كان هينا فهذا زبون يريد تنظيف ذقنه فقط من شعرها الكثيف وعاودتني فكرة المسابقة وكتابة القصة فقلت لماذا لا يكون الإنسان كاتبا ورساما ولماذا لا يكون أكثر من ذلك موسيقيا مثلا أو شاعرا أو غيره ولماذا لا يجمع صفات معينة داخل نفسه، أليست كل الفنون مرتبطة ارتباطا وثيقا ببعضها البعض؟ أليست منابع الإلهام الفني واحدة في كل الأشياء ؟ وهل الإنسان خلق وعليه ختم أحمر أو أزرق بنوع موهبته إذا كانت هناك موهبة ؟ فلماذا لا تحاول هذه المرة؟ وبفرض إنك أخفقت فماذا ستخسر ؟ لا شئ أما إذا كان لك حظ وأنت من الفائزين فسوف...... وعندئذ انتهي الزبون الثاني وجاء دوري. فقلب الصبي الوسادة وحرك المقعد ودخلت فيه ثم استدار وفرش الفوط حول رقبتي وجسدها فوق صدري وأخذت أنظر في المرآة إلي شكلي لعلي أجد فيه شيئا جديدا ولكن للأسف لم أجد شيئا. وكل مرة ينظر فيها الإنسان لا يجد شيئا جديدا ولكن من أين إذا هذا التغير الذي طرأ علينا منذ أن كنا أطفالا صغارا ننظر في المرآة حتي صارت لنا هذه الذقون وهذه التجاعيد. آه إنه الزمن الذي لا نحس به. فالذي لا ينظر في المرآة أبدا هو الذي لا يشعر بالزمن أما الذي ينظر دائما في المرآه فسوف لا يحس بالزمن لأن سحنته تتغير تغيرا بطيئا والتغير البطيء لا وجود له في الحالة النفسية عند الإنسان والحيوان ولكن له وجود في العقل وعند العلماء والتجار والمشتغلين بالسياسة. وقطع الصبي حبل تفكيري عندما سألني عن كمية الشعر التي أريد إزالتها فقلت له هذه مهنتك وأنت حر تصرف في رأسي كما شئت ولكن بشكل فني أليس هذا هو اختصاصك؟ وعاودتني فكرة المسابقة مرة أخري وكيف أنني كنت في هذه المرة أفكر في الحظ عندما أفوز في المسابقة وينشر اسمي وقصتي ويقرؤها آلاف الناس ويستمتعون بها ويتعجبون لها ليس هذا فقط وإنما حتما سأحصل علي فوائد مادية وعندئذ أستطيع أن أجمع هذا المبلغ وأضعه علي العشرين جنيها التي اقتصدتها في ثلاثة أعوام من مرتبي كمدرس بالفنون. إذن فهو مهر كامل أستطيع الزواج به وكنت في كل مرة أفكر فيها في الزواج تنتابني حمي شديدة من المهر وأتراجع حتي يعدلها المولي الكريم إذن فهي فرصتك فتقدم بالقصة. ودخل زبون جديد وقال نعيما مقدما فقلت أنعم الله عليكم يا سيدي. وجلس الزبون في ركن وتناول مجلة الصباح التي كنت قد وضعتها بجانبي وأخذ يقلبها وينظر إلي صورة الممثلة التي علي الغلاف. أه إنها جميله ولكن دمها ارد وألقي بالمجلة ثم أخذ يهش الذباب ويلعن الصبي لإهماله وعدم تنظيف الدكان بالماء (والفنيك) وانتهي الصبي من رأسي وأخذ يلطخ الصابون علي صدغي وذقني وسن الموس ويقلبه علي شريط من الجلد وعاودتني فكرة القصة وقلت لنفسي هذه المرة تشجع وأكتب قصتك. وأخذت أفكر أي قصة سأكتب لقد جاءت القصة وأخذت صور كثيرة من الحياة تمر أمام خاطري بعضها واقعي لدرجة الخيال وبعضها خيالي لدرجة الحقيقة. أأكتب عن الناس ونفوسهم وعلاقاتهم وطبائعهم أأكتب عن الحياة ومآسيها حلوها ومرها. هل يستطيع إنسان أن ينسي ما يدور داخل البيوت والمستشفيات والمصالح الحكومية. هل يقدر بطل أن يتحدي المدنية التي يعيش فيها ويفر إلي الصحراء لينجو من فوضي المواصلات. إن العالم يدور والحرب الباردة لا تبرد بين الكتلتين والدول الصغيرة تريد أن تحنو عليها وتدثرها حتي لا يصيبها هذا البرد أين العاطفة والإنسانية أين الرجولة والكرامة أين الديموقراطية الحقة أين الوعود أين... أين أين القصة. نعيما هكذا واستيقظت علي هذه الكلمة أنعم الله عليكم ودفعت له الحساب وذهبت إلي منزلي وأنا أفكر في القصة وتذكرت أنها لا بد أن تكون قصة وطنية ترمز إلي التضحية وإنكار الذات وفي هذه اللحظة ركبني شعور غريب أخذ يتسلل إلي سراديب نفسي وضحكت ولكن من داخل عظامي وشراييني ولو اجتمع علماء النفس من جميع بقاع الأرض ليفسروا هذا الشعور ومعني هذه الضحكة لباءوا جميعا بالفشل. ولكن الحقيقة هو أنني أحسست في تلك اللحظة معني الوطنية وإنكار الذات. أحسست هذا المعني ولكن من عمق وتجريد. أدركت أن الوطنية وإنكار الذات هما أن يكون الفرد إنسانا والإنسانية هي أن يحب الإنسان كل ما حوله من جماد ونبات وحيوان وإنسان. أدركت أن الإنسان خلق في هذا الوجود ليحب لا ليكره ويبغض وهذا الحب مقرون بالعمل والإخلاص من أجل الواحد من أجل الله سبحانه وتعالي. |
وينتقل قلم وريشة الجزار معه في كل مكان حتي في نومه وفي أحلامه وفي غرفة العمليات حيث يصور ماحوله قبل دخوله لإجراء عملية دقيقة بالقلب: جمعتنا نحن الخمسة غرفة أو عنبر واحد في قسم الجراحة بمستشفي الجمعية الخيرية عندما دخلت كان لا يوجد منهم الا اثنان فقط أخذا يحملقان وينتظران التحية، فادركتهم بالسلام عليكم ولم أتفرس في شخصهما لحين استعدادي لاتخاذ سرير في الركن كان أحدهما طاعن في السن وأسود والآخر طاعن في الاسمرار وصغير واخذت مكاني علي السرير وأخذت أقلب الصحيفة وألاحظهما من جنب ومن أعلي حافة الجريدة ورأيت عم علي يلف حول رأسه الأسود عمامة بيضاء ذات شال أبيض طويل يتدلي علي كتفيه بعد أن أخذ جملة حلقات حول رأسه ورقبته وكان يضع عصاه التي يتعكز عليها علي حافة السرير. ورأيته وهو يمسك قدمه الملفوفة ويتألم ويتأوه محركا ساقيه في الهواء وضاربا كفا علي كف تارة ومطوحا برأسه ذات اليمين وذات الشمال مثل بندول الساعة تارة أخري وقد ظهرت علي عينيه المصفرتين وعلي أنفه الأفطس دلائل الألم وهو يأخذ نفسه وينفخه علي طرف قدمه الملفوف ويجر جسمه تارة في ركن من السرير وتارة أخري يعكس وضعه بالنسبة للسرير ويجعل قدميه تحت الوسادة حتي لا يجعل نفسه يشعر بالألم من جراء الوضع الطبيعي تمام كما تفعل النعامة عندما تدفن رأسها في الرمال. وسألت عم علي ماذا بك فانفجر يتكلم بلغة قناوية اخذت التقط منها ما هو شائع واخذ يتمتم ويقول عملية في الصباع ده ستة شهور. الدكتور الهجان وعامر و و و وأخذ يعد أسماء بعض الاطباء الذين قاموا باجراء هذه العملية له ثم قال : أصله نقطة دفشت في العضم وخلاص وأخذ يسير ملوحا اصبعه من بعيد علي قدمه الملفوف كان نشف شال القشرة الدكتور كب عليه الدوا قام شعوطه يابا يابا يابا واستمر علي هذه الحال طول الليل ولم ينم الا عندما حضرت الممرضة وحقنته بمخدر- أما المريض الثاني فراقبته مطروحا علي الفراش ولا يكاد يظهر له حس سوي عينين براقتين وسط وجهه . أما الرجل نفسه فقد حضر من طرف الشركة لتجري له عملية في العينين ولم يدفع شيئا لأنه تابع للشركة والمستشفي يحاسب الشركة. أما أنا فموظف في الحكومة واضطررت لدفع خمسة جنيهات في البداية ودفعت ثمن العملية وجميع أثمان الأدوية وندبت حظي اذ لم أكن موظفا في شركة حتي أعالج مجانا. وقد كان عم علي أيضا خفير شركة بالسويس ولذلك فهو لم يدفع مليما واحدا، وفي الساعة السادسة صباح يوم الأحد حضر تمورجي ، قمت باجراء عملية غسيل للبطن استعدادا للعملية، وحضرت نقالة، وقلت للتمورجي إنني أستطيع أن أمشي علي قدمي لغاية غرفة العمليات ولكنه رفض، واستلقيت علي النقالة بعد أن أخذت محفظتي التي بها النقود في جيب البيجامة ومنديل ومشط، وعند مروري بباب العنبر حقنتني احدي السسترات بحقنة في الذراع علمت فيما بعد انها لتنشيف الريق، وصعدنا للدور الثاني داخل المصعد وأنا ممدد فوق النقالة، وطلب مني التمورجي وهو يدفع النقالة الي غرفة العمليات أن أسلمه الساعة والمحفظة، التي في جيبي فقلت له إن بها فلوس العملية وسأعطيها للدكتور أما الساعة فقد سلمتها اليه ونظرت الي يدي فوجدت أن جلد الساعة لا يزال له أثر ربطة علي الجلد وتاركا مكانا أبيض حول معصم اليد ، وفي الردهة وجدت دكتور البنج الذي اختبرني قبل ذلك بيوم لمعرفة مدي احتمال القلب لتأثير المخدر وقاس ضغط الدم أيضا وكان دكتورا ظريفا . منقول من أخبار الأدب |