تعتبر
اللغة حاضرة بكثافة في مختلف الموضوعات والقضايا الفلسفية منذ بدايات
الآداب والتفلسف ومحاولات المعرفة ونشأة النظريات، وذلك الحضور كان
ضمنياً، إما بصورة مباشرة بمثل ما نجده في مسائل المنطق بصوره المختلفة
(حجج زينون، مقولات أرسطو، منطق الرواقيين...) وبمثل ما نجده في نظرية
المعرفة في شكلها المبدئي وما لحقها من تطورات منهجية، وإما أن يكون
الحضور الضمني للغة من خلال مسائل تتعلق باختيار لغوي من أجل تحري قوة
المعنى في موضوعات فلسفية تأملية أو تحليلية، كما يكون ذلك الحضور في
أعمال إنسانية أدبية وفنية خارج المجال الفلسفي. ويمكن أن نتصور شكل
الحضور اللغوي هذا باعتباره سنداً لأي طرح عندما تستدعي الضرورة.
بالاطلاع
على آراء الفلاسفة حول مختلف القضايا يمكن التعرف على الحضور اللغوي
داخلها: فمثلاً تعد محاورات أفلاطون عملاً أدبياً قبل أن تكون عملاً
فلسفياً نظراً لما حوته من فن ومتعة لغوية وروح حوارية عالية، وفي جانبها
الفلسفي قدرة لغوية تمكن أفلاطون من خلالها أن ينقل أفكار وفلسفة أستاذه
سقراط إلا أنه تجاوز تلك الرسالة إلى مرحلة إبداع حيث نلاحظ النفس
الأفلاطوني أيضاً في المحاورات، ذلك النفس الذي يتضمن تحليل الأفكار
والمنطق بالإضافة إلى دعم نظرياته الفلسفية داخل المحاورات وأهمها نظرية
المثل، ففي محاورة قراطيلوس بحث أفلاطون عن طبيعة اللغة بتساؤله عن مدى
تطابق الأشياء مع مدلولاتها أم أن العلاقة اتفاقية؟ وخلص في ذلك إلى ما
يعني محاكاة الأشياء. ودرس الفارابي معاني اللغة وخلص إلى نظرية تجمع بين
الاتفاق والتدبير، ففي كتاب (الحروف) يتحدث الفارابي عن الاتفاق في
الألفاظ من أجل الدلالة على الأشياء، وبعد التواضع والتواطؤ على استخدام
ألفاظ بعينها تصبح تلك الألفاظ لاحقاً مما اصطلح عليه، وعند حدوث حاجة
جديدة لدى الإنسان فإنه يخترع تصويتاً ثم يتحول إلى دلالة ويضاف له
تصويتات لاحقة حتى يتم وضع الألفاظ لكل ما يحتاجون إليه في ضرورية أمرهم.
وبهذا
فإن اهتمامات الفلاسفة باللغة كانت حول التصورات والمعاني الكلية دون منهج
بعينه حتى وإن تباينت الصور بين فيلسوف وآخر. ومع بدايات الفلسفة الحديثة
تحول الاهتمام تدريجياً إلى حقل المفاهيم انطلاقاً من تمييز الأفكار
وعلاقتها بالوضوح والبرهان بمثل ما نجده لدى ديكارت، وبعد ذلك تكثف الجهد
المعرفي حول اللغة لدى أكثر من مدرسة، فهيجل تناول علاقة الرمز بالفكرة
وميز بينهما من حيث المجرد والعيني، وأتى فيلسوف المنطق تشارلز بيرس فبحث
المدرك العقلي ووضع مقولات الرتبة بهدف صياغة أسس معرفية تقوم على الفروض
العلمية والخبرة والنتائج المترتبة على استمرارية الفكر، وأكمل فريجه
نظريات ليبنتز الخاصة ببناء لغة رمزية من أجل تحقيق تقدم معرفي، وبذلك
يكون فريجه بدأ بلفت الانتباه بما تستحقه الدلالات من علم خاص بها كما أن
له الفضل بتأسيس منطق حديث.
بعد
ذلك تأتي النقلات النوعية في فلسفة اللغة والتي أسست لتيارات ومناهج قوية
حيث استمر صداها حتى الآن، وتتمثل أول تلك النقلات بدراسات ونظريات
فردينان دي سوسير في البنيوية اللغوية، فقد درس تعدد عناصر اللغة في
ميادين شتى بهدف العثور على بنية لها وتحديدها، كما نفى أن تكون هناك رابطة
طبيعية بين الدال والمدلول وبين أن العلامة اللسانية اعتباطية، ثم نرى
جهود بنفنيست الذي اختلف مع سوسير وعمق البحث الفلسفي عن اللغة من حيث
المفاهيم ودورها في إثراء الفكرة، متناولاً ما تقوم به اللغة من ترتيب
علائقي، وكذلك علاقة الضرورة بين الدال والمدلول فهما وجهان لعملة واحدة
ويشكلان بدورهما المحتوى. وتعرفنا نظريات جاكبسون على وظائف اللغة والتي
استنتجها عندما درس عوامل التواصل اللفظي، وبناء على تلك العوامل وضع
تصنيفاً لوظائف اللغة. وأما منهج الوضعية المنطقية والتي انبثقت من أعلام
دائرة فيينا وأبرزهم شليك وفتجنشتاين ورودلف كارناب فترى أن الفلسفة هي
البناء المنطقي للغة، وبذلك يكون التركيز على التحليل المنطقي للقضايا.
نضيف
لذلك نظريتين حققتا نقلة نوعية، وهما: نظرية التأويل التي صاغها بول
ريكور، حيث أراد إنشاء فلسفة في اللغة عن طريق نقد مسلمات البنيوية،
والتمييز بين علم الدلالة والسيمياء، ويرى ريكور بأن الجملة هي الحدث
الفعلي أثناء الكلام، ولذلك هي كل غير قابل للانحلال إلى مجموع أجزائه،
والثانية هي نظرية الفعل التواصلي لدى هابرماس، ويتمثل موقفه بأن هذا
الفعل يحقق نموذجاً يتضح فيه التفاعل المستمر بين الذوات المختلفة.
وفي
رأيي أن ما تحقق حتى الآن من نظريات ومناهج حول فلسفة اللغة لم يكن إلا
تقدماً نسبياً، فتلك الجهود لم تتناول مجمل الإشكالات الفلسفية بما يخص
اللغة، بل إن بعض الجهود ركزت على جوانب للغة دون غيرها فخرجت مبتورة
لأنها لم تدرك ديناميكية اللغة وما يحيط بها.
وأهم
الإشكالات التي تمثل تحديات وصعوبات في فلسفة اللغة: نطاق كل من المعرفة
واللغة، وإشكالية الخاص والعام لدى الأمم، وأيضاً التداخل بين مجالات
المعرفة.
إن نطاق المعرفة
بأبعادها الواقعية والمادية والمثالية والعقلية أكبر بكثير من نطاق اللغة،
وذلك يعني بأن إمكانات اللغة لا تفي دائماً بشرح ما لدى الإنسان من فكر.
ونعني بإشكالية الخاص والعام أن هناك حساً مشتركاً ومعاني يدركها جميع
البشر إلا أن اختلاف اللغات من حيث خصائصها ومعجمها وسياقها يؤدي إلى طيف
واسع من المفاهيم لكل مفردة ولكل جملة مما يتسبب في تشتت المشترك بين
البشر. كما أن أكبر إشكالية كون اللغة تدخل في كل مجالات المعرفة دون
استثناء مما يشكل تداخلاً بين تلك المجالات فيؤدي إلى خلط مفهومي وعلمي،
وهذا الخلط يحدث إما بتلقائية نتيجة لمشتركات الألفاظ وما تدل عليه أو
نتيجة لمحدودية التعامل الثقافي، وأحياناً يحدث هذا الخلط نتيجة لتحيز
معرفي فكل مهتم بمجال ما يحس بأن اللغة خاصته المتاحة وأنه يختار الألفاظ
التي تناسب ما يعول عليه كثيراً. وإشكالية التداخل تلك وقفت حاجزاً أمام
إنجاز فلسفي مؤمل يجمع بين أفق معرفي يحيط بمؤثرات اللغة وعمق فلسفي يعي
منهج البحث.
|
منقول من موقع المجلة العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق