. |
من هو الثوري؟ يسأل ألبير كامو..
ويجيب: رجل يقول لا.
ربما تلخص هذه الإجابة البسيطة سيرة حياة الفنان والفيلسوف الفرنسي الذي يحتفل العالم هذه الأيام بذكري ميلاده المائة. كامو لم يكن نموذجا فقط لأديب فرنسي (ولد في الجزائر)، بل أيضا نموذجا للكاتب كما ينبغي أن يكون..المتمرد الدائم..الأبدي!
كانت حياته سلسلة من المفارقات، ثوري يتساءل دائما عن معني الحياة وجدواهاومعاناة الإنسان فيها وحيرته من أمرها، هو نفسه عاشق للحياة...يري أننا " لا ننشد عالماً لا يُقتَل فيه أحد، بل عالماً لا يمكن فيه تبرير القتل" وهو العالم الذي كان يبحث عنه في الحياة التي غادرها مبكرا بعد أن حصل علي جائزة نوبل وكان في الثلاثينيات ...
هنا محطات في عوالم كامو ..كاتب الظل والنور ...
خطوات في دروب كامو
دينا مندور
. |
يعد كامو، وفقاً لمواقفه، فيلسوفا من نوع خاص، فقد اعتبر منذ أيامه الأولي كصحفي أن الصحافة عمل فلسفي مكتمل الأركان، كما أنه عرف الصحفي " الناقد" بأنه " مؤرخ يوم بيوم
الاثنين، 4 يناير 1960. كانت السيارة ماركة فاسيل فيجا تجري علي الطريق بين سون وفونتانبلو، يركب بها ألبير كامو، وميشيل جاليمار( صاحب دار النشر الأشهر جاليمار وصديق كامو)، وزوجته جانين، وابنته آن. اصطدمت السيارة بحاجز، فانقلبت وتدحرجت علي الأرض العشبية علي جانب الطريق. مات كامو علي الفور. وفي حقيبته السوداء كتاب العلم المرح لنيتشة، ونسخة فرنسية من نص " عطيل" ومخطوطة غير مكتملة من 144 صفحة، والتي عرفت فيما بعد بالرجل الأول. في هذا اليوم لم يكن كامو يبلغ من العمر سوي 46 عاماً! كم ننسي إلي أي حد مات كامو شاباً! إذ يري الكثيرون أن مسيرة أخري كانت تنتظر الكاتب والفيلسوف، مسيرة عنوانها "صاحب نوبل في الآداب". وآخرون تمنوا لو شهد كامو استقلال الجزائر(1962)، ليروا ما سيكون عليه رد فعله، خاصة وهو المعروف بموقفه الجدلي من تلك القضية. وربما انبري الصحفيون والمتابعون للساحة الثقافية في تصور تعليق كامو عند رفض صديقه اللدود سارتر تسلم جائزة نوبل(1964)، متعللاً بأسباب سياسية وأيديولوجية، فيما يعلم الخبثاء أن رفضه لم يأت إلا اعتراضاً علي منح الجائزة لمنافسه الأهم، قبل ترشحه لها بسبع سنوات كاملة. كان ينقصه الكثير ليشهده. ولكن انتهت حياته في ذاك اليوم، دون أن ينتهي الجدل حول أفكاره ومواقفه، جدل يتراوح بين القبول والرفض، وبين سماحة التأويل وعنف الإتهام.
لم ينشغل كامو بقيم كما انشغل بالحقيقة والحرية، ويقول موجزاً مكانة الكاتب : "أحببت أن أعيد الكاتب إلي مكانته الحقيقية، بلا أية ألقاب، سوي تلك التي يتشاركها مع زملائه في النضال، مغلوب علي أمره وعنيد، غير عادل ومفتون بالعدالة، يكتب أعماله بلا خجل ولا غرور، وعلي مرأي ومسمع من الجميع"، هذا التعبير البليغ القصير ينضم إلي باقي كتابات كامو وتوصيفاته للإنسان والتاريخ والحرب والحق والحب والصداقة، مانحاً للقراء متعة مقابلة الذات واكتشافها عبر لغة فريدة ومختلفة، تتسم بالتجسد من فرط وضوحها، وحروف نابضة بتثمين حقيقي للحياة، واحتفاء دائم بها.
بضدها تتمايز الأشياء... هذا التثمين والاحتفاء بالحياة، له ما يفسره؛ إذ أن درب الكاتب لم يكن ممهداً علي أي مستوي من مستويات الحياة. فألبير كامو ولد في 7 نوفمبر 1913، في مدينة " موندوفي" القريبة من مدينة عنبة الحالية في الجزائر الفرنسية، محافظة القسطنطينة، أبوه هو لوسيان أوجستان كامو، الذي ولد هو الآخر في الجزائر، وينحدر من عائلة تنتمي للفرنسيين الأول الذين استوطنوا الجزائر، المستعمرة الفرنسية آنذاك، وأمه هي كاترين سينتي. مات أبوه في معركة مارن في بريطانيا، تاركاً الأم بلا مورد ومعها طفلاها (لوسيان، وألبير). لتعود الأم إلي بيت والدتها وتعيش مع طفليها في غرفة من غرف المنزل مع الجدة والخال. إذن لم يعرف كامو عن أبيه سوي بعض الصور وحكاية ذات دلالة تتلخص في شعور الأب بالقرف أمام مشاهد الإعدام التي كانت تنفذ في الحرب. لم تكن الأم تسمع تقريباً، وبالطبع لا تقرأ ولا تكتب. ولم تكن تفهم ما يقوله محدثها إلا عند الإمعان في حركات شفتيه. وعن ذلك كتب كامو: "كانت هناك امرأة، أضحت فقيرة بسبب موت زوجها، تاركاً إياها مع طفليها. عاشت عند والدتها، التي كانت فقيرة هي الأخري، مع أخ لها، عامل. كانت تعمل لتكسب قوت يومها، كانت تنظف البيوت، تاركة تربية أولادها لأمها . القاسية، والمتكبرة، والمسيطرة، والتي ربتهم بقسوة شديدة".
الأم.. يزخر تاريخ الأدب بنماذج الأمهات. ولكن ما من أم تشبه الأخري. إلا أننا مع كامو نتوقف أمام نمط خاص؛ ونموذج فريد. فأم الكاتب الكبير لم تكن تكتب. وصاحب اللغة الفريدة، لم يسمع لغة أمه! حيث تقتصر مفرداتها علي عدد يسير من الكلمات والذي لا تستخدمه إلا في أشد حالات الإحتياج للنطق! كما أنها لم تكن تسمع تقريباً! وظل الإبن لا يعرف ما إذا كانت هذه الحالة قد إنتابتها بسبب مرض التيفود الذي عانت منه في مراهقتها، أم أن صدمة خبر وفاة الزوج (في 11 أكتوبر1914، في بريطانيا أثناء الحرب،) هي التي سببت لها هذا الثقل اللغوي. كما يروي أنه حين شاهد صورتها وهي تمسك بصورته وتنظر إليها بحنان، هب صارخاً : " إذن فهي تحبني... نعم تحبني." . كانت علاقته بأمه شديدة الخصوصية، إذ لم تنطو علي تبادل لغوي، ولكن انطوت علي الكثير من الحنان والعطف الذي يشعر به ابن إزاء أم محدودة الإمكانيات ( مادية، وجسدية، وذهنية) ومسئولة عن نفسها وعن ابنيها، وبين أم رأت في الابن الواعد ما يمكن أن يعوضها عن فقد الزوج وعن سنوات الألم ، دون أن تمتلك الوسيلة للتعبير له عما يدور بنفسها. وعنها قال كامو : " أمي... هي أكثر قضية آمنت بها في الوجود." كما يذكر أنه حين كان يستيقظ من النوم ولا يجدها في المنزل، كان يخرج إلي الشرفة ويبحث عنها بعينين متلهفتين عبر الشرفات المحيطة، عله يجدها تعمل في إحدي بيوت الجيران، وإذا وجدها تابعها في صمت إلي أن تعود.
في خدمة الحقيقة والحرية... أحياناً ما يعرّف الفيلسوف، تعريفا أوليا، علي أنه من يصنّع المفاهيم ويوفقها مع بعضها البعض، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذا التعبير، فإننا لا نستطيع أن ننكر عن كامو هذه المهمة وهذا الإنشغال والموهبة، بل، والتقنية. ولنتأمل مثالاً واحداً دالاً: مثال" التاريخانية"، والذي كان محور كتابه الإنسان المتمرد، وعن سؤال ما " التاريخانية"؟ أجاب كامو: "هي الحالة الذهنية لأولئك الذين يستجيبون للتاريخ. أو بالأحري: هو سلوك تلك الفئة الخاصة جداً من العبيد الذين يرون في التاريخ سيداً لهم، ويعتبرونه التجسيد للمطلق والقانون. بل هي الميتافيزيقيا، ضمنية كانت أو صريحة، التي تعد مصدراً للحلول، الممنوحة لعالم أصبحت فيه "العلامات" "أهدافا"، وتبدل فيه مفهوم " فيما وراء" ب" فيما بعد"؛ ولا يُعتّد بالقيم فيه إلا حين تنتصر". > > >
حياة نكتبها... وكتب نحياها... يعد كامو، وفقاً لمواقفه، فيلسوفا من نوع خاص، فقد اعتبر منذ أيامه الأولي كصحفي أن الصحافة عمل فلسفي مكتمل الأركان، كما أنه عرف الصحفي " الناقد" بأنه " مؤرخ يوم بيوم" حيث " ينبغي أن يكون همه الأول هو الحقيقة". وهو فيلسوف يري في الكتابة الروائية، الطريق الملكي، لتقديم الفلسفة، فكتب في عام 1936، في الجزء الأول من يومياته: " في هذه الحالة، لا نفكر إلا من خلال الصورة، إذا أردت أن تكون فيلسوفاً فإكتب روايات." ثم أضاف في عام 1938 "الرواية ليست إلا فلسفة في هيئة صور". ثم في الجزء الخامس من يومياته: " أنا لست سوي فنان: والفنان بداخلي هو الفيلسوف؛ وذلك لسبب واحد بسيط وهو أنني أفكر وفقاً للكلمات، وليس وفقاً للأفكار"... إذن هو فيلسوف فنان. بل ، وفيلسوف لم يفصل يوماً حياته الشخصية عن مغامراته الفكرية، ودائماً ما مارس اللعبة المزدوجة لحياة يكتبها، وكتب يحياها. هذا النوع من الفلاسفة هو نوع يبتكر سلوكاً وأسلوباً في الوقت الذي يؤلف فيه عملاً أدبياً.
الغريب... هي أول رواية منشورة لألبير كامو، (1942)، والتي مثـّلت حدثاً أدبياً حال ظهورها. وتعد من أهم كلاسيكيات الأدب العالمي، قُرئت في العالم أجمع، وتُرجمت إلي كل اللغات تقريباً، بل وأحياناً ما ترجمت أكثر من مرة إلي نفس اللغة (لها أربع ترجمات إلي العربية، علي سبيل المثال) وتتنافس هي وروايته الطاعون (1947) علي لقب "أفضل أعماله الروائية" إذ ينقسم القراء بين هاتين الروايتين. فأنصار الطاعون، يرون أنها تقدم طاقة إيجابية للقراء، نص يموج بالتفاؤل والأمل، فيما يري أنصار الغريب أنها الأولي باللقب لما أحدثته من صدمة فكرية حين قدم كامو اللامبالاة الناعمة، وسوء الفهم المستقر في قلب الحالة الإنسانية، وفي العلاقة بين الإنسان وواقعه، من خلال بطل الرواية الذي يشعر أنه غريب عن العالم المحيط به، ثم يجد نفسه قاتلاً بالصدفة،علي إثر سلسلة من " الظروف" ، ويستمر في الشعور اللامبالاة حيال قضيته ومصيره. فلا يختار المستقبل علي حساب الحاضر، ولا يحتفي بالمشاعر بل بالحواس.
" اليوم ماتت أمي. أو ربما أمس، لا أعرف" دشّنت تلك العبارة اللامبالية والصادمة في آن، مشروعاً أدبياً وفكرياً أكثر إتساعاً مما تمثله رواية الغريب في مجملها، هذا المشروع الذي وعي له كامو مبكراً جداً ، بل وقسمه إلي مراحل كما أوجز هو شارحاً من خلال كلمته في ستوكهولم حين تسلم جائزة نوبل للآداب ديسمبر 1957 : " كانت لدي خطة محددة حين بدأت الكتابة: أردت أولاً أن أعبر عن العدمية. من خلال ثلاثة أشكال؛ روائي: الغريب، ومسرحي : كاليجولا، وفكري: اسطورة سيزيف. كما أنني بشرت بالإيجابية من خلال ثلاثة صور أيضاً : روائي: الطاعون. ومسرحي: العادلون. وفكري: الإنسان المتمرد. ثم أدخلت علي الخطة مرحلة ثالثة تدور حول موضوع الحب." ولكنه هو الموضوع الذي عاشه أكثر مما استطاع التعبير عنه، إذ لم يمتلك الوقت الكافي بعد هذه الليلة لإستكمال مشروعه الفكري. تعبر الغريب عن كاتب متمكن من بنية السرد، وكتابة ذات شكل وأسلوب خاص وفريد؛ ويلاحظ النقاد أن فنه قد نضج من خلال الإنغماس في تأملاته الإنسانية والفلسفية، بل ومن خلال حياته اليومية، ومن اقترابه من معاصريه نساء ورجالاً، ومن قراءاته المستمرة للنقد الأدبي.
ومع تصفح أوراق كامو ومذكراته نجد بعض تفاصيل رواية " الغريب" (1942) مكتوبة في يومياته في ربيع 1938 ، فمثلاً ، في أعقاب زيارة قام بها لحماة أخيه لوسيان في دار المسنين الموجودة في مارنجو (وهي نفس الدار التي تحدث عنها في روايته ذاكراً موت أمه فيها)، فكتب في نوفمبر 1938 "اليوم ماتت أمي" علي الرغم من أنه لم يكن قد شرع في كتابة الرواية نهائياً، والتي بدأ كتابتها في ديسمبر 1939. كما أفضي لفرانسين فور، التي تزوجها فيما بعد، بأنه بعد أن بدأ في كتابة الرواية، توقف، وأنه يتقدم أكثر في كتابه الفكري: أسطورة سيزيف معللاً : " أنه أكثر نضجاً بداخلي من الرواية". ولم تبدأ الخطة الفعلية لكتابة الغريب إلا فيما بين يناير ومارس 1940، بين الجزائر ووهران، إلا أنه انطلق في كتابتها بعد انتقاله للعيش في باريس والعودة للعمل الصحفي هناك. كتب في مايو 1940 في خطابه إلي فرانسين فور: " لقد أنهيت الرواية لتوي. ولكن عملي لم ينته، بلا شك. فمازال أمامي بعض التفاصيل التي سأراجعها ، وأخري سأضيفها، وأخري سأعيد كتابتها. ولكن المهم أنني انتهيت، وأنني خططت آخر عبارة... إنني أحملها منذ سنتين، وتأكدت من خلال الطريقة التي كتبتها بها، أنها كانت محفورة بداخلي."
وفي إحدي فقرات مذكراته نجد عبارته الرنانه، التي كتبها في 21 فبراير 1941: " أنهيت سيزيف، اكتملت ثلاثية العبث، إذن، تبدأ الحرية."
كامو- سارتر.. كيف بدأت القطيعة؟
. |
يصعب علي الباحثين والكتاب المرور بحياة كامو، دون الاصطدام بعلاقته الشائكة التناقضية : " كامو- سارتر" وهي التي تثير أحياناً مثيلاتها التاريخية: "راسين- كورناي" و"فولتير- روسو" . حيث احتل الكاتبان، في أعقاب الحرب العالمية الثانية ساحة الجدل الفكري، واهتم كل المتابعين بالحلقات المتوالية بين الكاتبين.في الأصل كانت الصداقة هي التي تجمعهما، ولكن سريعاً ما غيرت المنافسة بينهما طبيعة العلاقة. وفي نهاية سنوات الأربعينيات اتسعت المسافة بينهما، وكان كل منهما يعلن إنتماءه لليسار، مع احتفاظ كل منهما بمفهوم مختلف عن الأدب الملتزم.
ثم كتب كامو الانسان المتمرد (1951 ) ، بما يتضمنه من نقد شديد للماركسية والإشتراكية. هنا بدأت القطيعة، علي إثر مقال عنيف كتبه فرانسي جانسون بناءً علي طلب من سارتر رئيس تحرير مجلة " لو تومب مودرن" التي نشر فيها هذا المقال، والذي رد عليه كامو وفنّده نقطة بنقطة. ولا يفوتنا الإشارة إلي أن كامو قد وجه رده إلي سارتر وليس إلي كاتب المقال، علماً منه بأن سارتر هو من يقف وراء مقال كهذا، وبالطبع هو من جذب سارتر نحو حلبة الصراع العلني، فوجد سارتر نفسه مجبراً علي الرد مرة أخري بمقال يحمل اسمه، استهله بعبارة: "عزيزي كامو"، كما فعل جانسون الشيء ذاته، متهمين كامو بعدم كفاءته الفلسفية، وإفراغه التاريخ من محتواه، وتصدير فكرة إستحالة الثورة. فيما حاول آخرون أمثال جورج باتاي تفهم توجه كامو ومسيرته الفكرية حول الثورة الروسية والإشتراكية.
كتب كامو الرد تحت عنوان: رسالة إلي رئيس التحرير، واستهله بكلمات رسمية: " سيدي رئيس التحرير" ثم أضاف: " لقد انتهزت فرصة مقال، عنوان ساخر، نشر في مجلتكم ، لأوضح للقراء بعض الملحوظات التي تتعلق بفكر وسلوك هذا المقال. السلوك، الذي لا ترفضه أنت بالطبع، وأنا علي يقين من ذلك، بل، كنت داعم له، ولكن ما يذهلني في الواقع هو الضعف الواضح في مستوي المقال". مستمراً في إضافة عباراته القوية المباشرة، التي لا تحمل أي مواربة.
فيما رد سارتر، تحت عنوان" رداً علي كامو" : " عزيزي كامو... علي الرغم من أن صداقتنا لم تكن سهلة إلا أنني أتحسر عليها كثيراً. وإذا كنت تقطع صداقتنا اليوم، فلابد لها أن تنتهي. لقد جمعتنا أشياء كثيرة، وفرقتنا أشياء قليلة. ولكن هذا القليل هو كثير في حد ذاته: فالصداقة، هي الأخري، قد تكون شمولية." مسهباً ومستخدماً ألعابه اللفظية، وعباراته اللاذعة في توجيه أقسي الإتهامات إلي كامو. "
والمنافسة بين سارتر وكامو لم تتوقف علي الإنتاج الأدبي، بل امتدت إلي الصعيد الإنساني والعاطفي، أي منافسة الرجل للرجل، وليس المفكر والمفكر فحسب. فقد كتب سارتر، في رسائل إلي كاستور : لا أطيق رؤية هذا " المتشرد الجزائري" ، الذي يجذب ويغوي كل امرأة تقابله في طريقه! " إذن المنافس] أيضاً امتدت لمجال وارد بين الرجال عامة، ولا يستثني منه الكتاب والمفكرون. وإلي جانب المعلن، كان بينهما الكثير من " المسكوت عنه" سياسياً. ولكن بعد مرور السنوات، وجد العديد من أنصار سارتر، يعترفون أنه ربما كان كامو علي حق، وربما كان هو الأكثر رؤية للحقيقة، والأكثر بصيرة.
وبعد ذاك اليوم، الإثنين 4 يناير 1960، بعده بثلاثة أيام، نعي سارتر صاحبه، في "لانوفال اوبسرفاتوار" داعياً المجتمع الثقافي إلي عدم اعتبار منجزه الأدبي منجزا "غير مكتمل"، بل اعتباره "مجملاً". فاستهل مقاله قائلاً: " منذ ستة أشهر كنا نتساءل فيما بيننا، ماذا عساه سيفعل؟ كان ممزقاً بين متناقضات، توجب عليه إحترامها، فاختار الصمت. ولكنه كان من اولئك الرجال النادرين، الذين نستطيع إنتظارهم، لأنهم يختارون علي مهل، ويظلون أوفياء لاختياراتهم."
نحن ورثة تاريخ فاسد
ترجمة: عاصم عبدربه
. |
نص الخطاب الذي ألقاه كامو أثناء استلامه جائزة نوبل (1957) عن ترجمة "الغريب" التي صدرت مؤخراً في هيئة قصور الثقافة - سلسلة المائة كتاب.
ومن اختار مصيره كفنان، لأنه يشعر أنه مختلف، سوف يدرك سريعاً أنه لن يشري فنه ويعزز تفرده إلا من خلال اعترافه بالتشابه مع الجميع. فالفنان يتشكل خلال رحلات الذهاب والعودة الدائمة بينه وبين الآخرين
لا ينفصل دور الكاتب عن واجبات وتبعات ثقيلة.. وبالتحديد، فإنه لايمكنه اليوم أن يضع نفسه في خدمة من يصنعون التاريخ: إنه في خدمة من يرزحون تحت نيره. أو إن لم يفعل، فسوف نراه وحيداً معزولاً ومحروماً من فنه
كل جيل يعتقد أنه مكلف ومنذور لإعادة بناء العالم. غير أن جيلي يعرف جيداً أنه لن يقوم بذلك، لكن دوره ربما كان أكثر أهمية. إنه يقوم علي منع العالم من أن يتفسخ وينهار
سيدي، سيدتي، أصحاب السمو الملكي، سيداتي، سادتي:
بقدر ما كان امتناني عميقاً، بحصولي علي هذا التقدير الذي شاءت مؤسستكم الحرة تشريفي به، بقدر ما رأيت إلي أي حد كانت هذه الجائزة تفوق إمكانياتي الشخصية. إن كل رجل، وبالأحري كل فنان، يود أن يكون مشهوداً. وأنا أيضا أرغب في ذلك لكن بالنسبة لي، لم يكن ممكناً أن أتلقي قراركم دون أن أجري مقارنة بين أهميته وآثاره وبين ما أنا عليه في حقيقة الأمر. كيف يمكن لرجل يكاد يكون شاباً، لايملك إلا ظنونه ومشروعاً أدبياً ما يزال قيد الإنشاء، معتاد علي العيش في عزلة العمل أو في خلوات الصداقة، ألا يتلقي بشيء من الذعر قراراً ينقله فجأة من حالة رجل وحيد ومقتصر علي ذاته، إلي بؤرة ضوء باهر؟ وبأي قلب أيضاً يستطيع أن يتقبل هذا التكريم، في الوقت الذي يرغم فيه كتاب آخرون - من بين أهم الكتاب في أوروبا- علي أن يلوذوا بالصمت، وفي نفس الوقت الذي يمر فيه وطنه الأم بفاجعة لاتنتهي؟
لقد مررت بهذه الحيرة، وعرفت هذا الارتباك الداخلي. ولكي أستعيد الطمأنينة، تعين علي، باختصار، أن أؤدي ما علي تجاه قدر كان شديد السخاء معي. ونظراً لأنني لا أستطيع أن أضاهيه معتمداً علي قدراتي وحدها، فلم أجد ما يدعمني في ذلك إلا ما دعمني طوال حياتي، وفي أكثر ظروفها تبايناً: إنها الفكرة التي كونتها عن مهنتي وعن الدور المنوط بالكاتب. لعلكم تسمحون لي فقط أن أشرح لكم، بكل الحب والامتنان، وبأبسط ما يمكن، ماهية هذه الفكرة.
بصفة شخصية، فلم أكن لأستطيع أن أحيا بدون مهنتي وفني، لكنني لم أنصب هذا الفن أبداً فوق كل شيء. بالعكس، فهو - إن كان ضرورياً بالنسبة لي - فذلك لأنه لاينفصل عن أحد، ويتيح لي أن أعيش كما أنا، في مستوي الجميع. الفن - من وجهة نظري - ليس ابتهاجاً شخصيا، تسلية فردية. إنه وسيلة لتحريك مشاعر أكبر عدد ممكن من البشر، عبر تقديم صورة متميزة للأفراح والأتراح المشتركة. وعليه، فإنه يجبر الفنان علي ألا ينفصل عن ذاته، إنه يخضعه للحقيقة الأكثر بساطة وشمولية. ومن اختار مصيره كفنان، لأنه يشعر أنه مختلف، سوف يدرك سريعاً أنه لن يشري فنه ويعزز تفرده إلا من خلال اعترافه بالتشابه مع الجميع. فالفنان يتشكل خلال رحلات الذهاب والعودة الدائمة بينه وبين الآخرين. في وسط الطريق بين الجمال الذي لايمكنه أن يستغني عنه، وبين الجماعة التي لا يمكنه أن ينتزع نفسه منها. هذا هو السبب في أن الفنانين الحقيقيين لا يغفلون الاهتمام بأي شيء إنهم يلزمون أنفسهم بالاستيعاب بدلاً من التخمين وإبداء الآراء. وإن كان عليهم أن ينتصروا لشيء في هذا العالم، فلابد أن يكون انتصارهم، كما تقول عبارة نيتشه الخالدة، لمجتمع لن يكون القاضي هو السيد فيه... وإنما المبدع، سواء كان عاملاً أو مفكراً.
في نفس الوقت، فلا ينفصل دور الكاتب عن واجبات وتبعات ثقيلة.. وبالتحديد، فإنه لايمكنه اليوم أن يضع نفسه في خدمة من يصنعون التاريخ: إنه في خدمة من يرزحون تحت نيره. أو إن لم يفعل، فسوف نراه وحيداً معزولاً ومحروماً من فنه: ولن تنزعه من وحدته كل جيوش الاستبداد، بالملايين من رجالها، حتي، وخصوصاً إن قبل أن يتبع خطاهم. لكن صمت سجين مجهول يعاني من المذلة والمهانة، في الطرف الآخر من هذا العالم، يكفي لإخراج الكاتب من منفاه الاختياري في كل مرة، علي الأقل، يتمكن فيها من ألا ينسي هذا الصمت، وسط نعيم الحرية، وأن يحل محله حتي يجعله يتردد عبر الوسائل الفنية.
ما من أحد منا كبير بما يكفي للقيام بدور مماثل. لكن في كل ظروف حياته، مغموراً كان أو مشهوراً بصورة عابرة، مقيداً في سلاسل الطغيان، أو حراً، بصورة مؤقتة، في التعبير عن نفسه، يستطيع الكاتب أن يتعرف علي شعور جماعة حية، سوف تقبل به، شريطة أن يقبل بقدر ما يمكنه، بالنهوض بالمهمتين اللتين تصنعان أهمية مهنته: أن يكون في خدمة الحقيقة وفي خدمة الحرية.
ولأن رسالته هي أن يوحد بين أكبر عدد ممكن من البشر، فإنها لايمكن أن تتوافق مع الكذب والاستعباد، اللذين يزيدان من عزلة الكتاب أينما وجد.
ومهما كانت أوجه عوارنا الشخصية، فإن نيل مهنتنا سوف يترسخ دائماً في التزامين من الصعب التمسك بهما والحفاظ عليهما: رفض الكذب بشأن ما نعرفه" ومقاومة الاستبداد.
وخلال أكثر من عشرين عاماً من تاريخ أخرق، مفقود بلا حيلة، وشأن كل أقراني من البشر، في تقلبات الزمن، كان ما ساعدني، هو ذلك الشعور المبهم بأن الكتابة اليوم كانت شرفاً، لأن فعل الكتابة هذا كان يجبر ويحتم ألا تكون مجرد كتابة. كان يجبرني بصورة خاصة علي أن أحمل، بنفسي - وكما أنا، وتبعاً لقدراتي، مع كل من يعيشون نفس القصة- الآلام والآمال التي نتقاسمها، إن هؤلاء الرجال المولودين مع بداية الحرب العالمية الأولي، الذين وصلوا إلي العشرين من عمرهم في الوقت الذي أقيم فيه النظام الهتلري، وأقيمت أولي الدعاوي الثورية، التي سوف تتواجه بعد ذلك، لتكمل خبراتها الثقافية، في حرب إسبانيا، في الحرب العالمية الثانية، في عالم المعتقلات، في أوروبا التعذيب والسجون، هؤلاء الرجال عليهم اليوم أن يقوموا بتربية أبنائهم، والقيام بأعمالهم في عالم يهدده الدمار النووي. وأظن أن أحداً لايمكنه أن يطلب منهم أن يكونوا متفائلين. وأنا أري أن علينا حتي أن نتفهم، دون أن نتوقف عن مقاومتهم، خطأ هؤلاء الذين - مزايدة في اليأس - قد طالبوا بالحق في وصم أنفسهم بالعار، واندفعوا بقوة إلي عدمية هذه الحقبة، لكن يبقي أن غالبيتنا، في بلادي أو في أوروبا، قد رفضوا هذه العدمية، وشرعوا في البحث عن مشروعية ما كان عليهم أن يصنعوا لأنفسهم طريقة للعيش في ظرف كارثي، ليولدوا مرة أخري، ويناضلوا - بعد ذلك في أعمالهم وبلا أقنعة - غريزة الموت في دنيانا.
ولاشك أن كل جيل يعتقد أنه مكلف ومنذور لإعادة بناء العالم. غير أن جيلي يعرف جيداً أنه لن يقوم بذلك، لكن دوره ربما كان أكثر أهمية. إنه يقوم علي منع العالم من أن يتفسخ وينهار. إنه وريث تاريخ فاسد، تختلط فيه الثورات الخائبة، بالتقنيات، التي أصابها الجنون، بالآلهة التي ماتت والمذاهب الفكرية التي خارت قواها، حيث تستطيع أنظمة حكم مبتذلة أن تدمر كل شيء، مع أنها لم تعد قادرة علي الإقناع، حيث انحط العقل الإنساني إلي حد أن يجعل من نفسه خادماً للكراهية والاستبداد. ولابد لهذا الجيل من أن يستعيد، في ذاته، وفيمن حوله، وبدءاً من سلبياته وحدها، شيئاً مما يخلق كرامة المحيا والممات. وإزاء عالم يتهدده التشقق والانشطار، حيث يجازف قضاة محاكم التفتيش الجدد بأن يقيموا ممالك الموت دائماً، يعرف هذا الجيل أن عليه، فيما يشبه سباقاً مجنونا بعكس عقارب الساعة، أن يخلق بين الأمم سلاماً، لايكون سلام العبودية، وأن يوفق من جديد بين العمل والثقافة، وأن يبني مع كل البشر جسراً يربط بينهم. ليس من المؤكد أنه يستطيع الوفاء بهذه المهمة الهائلة، لكن من المؤكد أنه- في كل مكان في العالم- قد قيل فعلا برهانه المزدوج علي الحقيقة والحرية، وفي الوقت المناسب، يعرف كيف يموت بلا كراهية لذاته. يستحق هذا الجيل أن نحييه وأن نشجعه في كل مكان نجده فيه، وخاصة هناك، حيث يضحي بنفسه. إلي هؤلاء الرجال، أود علي كل حال، وأنا متأكد من موافقتكم الكاملة، أود أن أرد التكريم الذي أوليتموني إياه لتوكم.
في الوقت نفسه، الذي تحدثت فيه عن نبل مهنة الكتابة، لعلي أعدت الكاتب إلي مكانته الحقيقية، حيث لايمتلك أية مؤهلات وصفات أخري سوي تلك التي يتقاسمها مع رفاق النضال، رهيف لكنه عنيد، جائر ومولع بالعدالة، يبني عمله الفني بلا خجل أو غطرسة علي مرأي من الجميع، موزع دائماً بين الجمال والألم، مكرس في النهاية كي يستخرج من كيانه المزدوج الإبداعات التي يحاول بلا هوادة أن يجعل منها قدوة لحركة التاريخ الهدامة. فمن يستطيع، بعد كل هذا، أن يأمل منه حلولا جاهزة وأمثلة أخلاقية جذابة؟ إن الحقيقة غامضة، مراوغة، يجب السعي وراءها دائماً. والحرية خطرة، صعبة المعشر وقاسية، بقدر ما هي مثيرة للحماس. وعلينا أن نسير صوب هاتين الغايتين، في صعوبة ومشقة، لكن بإصرار وثبات، واثقين سلفاً من أننا سوف نواجه عثرات علي طريق بمثل هذا الطول. فأي كاتب كان سيتجاسر إذن، بحسن نية، علي أن يجعل من نفسه داعياً للفضيلة؟ أما بالنسبة لي، فعلي أن أقول - مرة أخري - إنني لست شيئاً من كل ذلك. إنني لم أستطع مطلقاً أن أتنازل عن النور، عن سعادة الوجود، عن الحياة الحرة الطليقة التي نشأت وكبرت فيها. وبالرغم من أن اشتياقي الحزين إلي تلك الأرض يفسر الكثير من أخطائي وزلاتي، فقد ساعدني بلا ريب علي أن أفهم مهنتي بشكل أفضل، ولا يزال يساعدني علي التماسك والثبات، بالقرب من كل هؤلاء الرجال الصامتين، الذين لايتحملون الحياة التي قدرت لهم في هذا العالم، إلا من خلال الذكري أو عودة تلك الهناءات العابرة القصيرة والحرة.
عائد. والحال كذلك- إلي ما أنا عليه في الحقيقة، إلي حدودي، إلي ما أنا مدين به، مثل ما أنا مردود إلي عقيدتي الصعبة، أشعر بأنني تحررت" أكثر، من أن أوضح لكم في النهاية مدي أهمية وسخاء هذا التقدير الذي منحتموني الآن، أكثر تحرراً من أن أقول لكم أيضا انني: كنت أود لو تلقيته كتكريم موجه إلي كل من خاضوا معي هذه المعركة، ولم يحظوا بأية ميزة، بل علي العكس، قد لاقوا العنت والاضطهاد والشقاء. يبقي علي إذن أن أشكركم عليه، من أعماق قلبي، وأن أقطع أمامكم علنا وعلي الملأ، كشهادة شخصية علي امتناني، نفس الوعد القديم بالوفاء، الذي يتعهد به لنفسه كل فنان حقيقي، دون أن يعلن ذلك.
التمرد في مواجهة العبث
أحمد عثمان
. |
في عام 1939، تحت عنوان "بؤس بلاد القبائل"، وقع كامو سلسلة من المقالات التي أثارت فضيحة مدوية. مواقفه المؤيدة للمسلمين لن تمر مرور الكرام. بعد اعلان الحرب، منعت "الجزائر الجمهورية" من الصدور
استقلاله الذهني الحاد قاده للبعيد : علي الرغم من نشوة النصر، كان قادرا علي توبيخ المنتصرين. حينما ألقيت القنبلتان الذريتان علي هيروشيما ونجازاكي، انفجر سخطه. كان الوحيد الذي تجرأ علي الانتقاد.
التقي آلبير كامو والعبث منذ طفولته، حينما استدعي والده، العامل في معمل الخمور بقسطنطينة، للتوجه الي الحرب علي بعد آلاف الكيلومترات، في مستنقعات المارن ــ حيث يموت في بداية خريف 1914 لم يكن آلبير قد بلغ وقتها سوي بضعة أشهر. بقول آخر لا يحتفظ بأدني ذكري عن الوجه الأبوي. أو بالأحري، لا يستطيع أن يذكر الا غيابه. لآلبير أخ أكبر، لوسيان، الذي يكبره بثلاثة أعوام بالكاد. كاترين، أمهما، التي وجدت نفسها برفقة طفلين وهي لم تزل صغيرة السن، غادرت مزارع الكروم الي المدينة واستقرت لدي أمها، في الجزائر العاصمة.
الحياة شاقة. يتقاسم الطفلان، الأم، الجدة، وأيضا الخال، اتيان، الأبكم الي حد ما، شقة صغيرة من ثلاث غرف، في شارع ليون، بالحي الشعبي ببلكور، حيث تهتز الجدران مع مرور عربات الترام.
لا تعرف كاترين القراءة ولا الكتابة. حقق آلبير احدي معجزاتها حينما حاز علي شهادة التعليم الأولي من المدرسة الحكومية : حياة، قدر. بعد سنوات طويلة، يتذكرها الكاتب حينما يهدي معلمه في الجزائر، السيد لوي جرمان، خطابه الذي قاله أمام أعضاء أكاديمية نوبل. ولكن في دار السينما "لو موسيه"، أكبر محل للجذب في الحي، قام آلبير، التلميذ النجيب عن أخيه، بفك شفرات المشاهد الدخيلة التي تتلاحق علي الشاشة بين الأخبار المصورة والفيلم. وأنشأ يكتشف رويدا رويدا الخزي الذي يحيط بالفقر...في عام 1930،احتفالات بالجزائر الفرنسية منذ مائة عام. بلبلت الاحتفالات بمئوية الغزو أفكاره. محموما، نافثا دما من فمه، يصاب بداء السل. يرقد في مصحة مصطفي علي اعتبار أنه يتيم الأمة في حالة سيئة...
بدأت أولي خطواته الأدبية بعد عامين، في عام 1932، في مجلة "سود" (جنوب). قصائد، مقالات قصيرة، مقالات نقدية. نبرة تتحرر تدريجيا : البداية الاحتفالية.
لدي ماكس-بول فوشيه التقي كامو وسيمون هييه : وجه بيضوي، عينان بنيتان واسعتان، ساقان طويلتان تسبقها سمعة فتاة "متحررة" قبل الأوان. الرجلان، وآخرون بالتأكيد، يغازلونها. ارتبط كامو بها. بهر العاشقان أصدقاءهما. يتزوجان سريعا، غير أن البعض ذكر أنهما تزوجا في عام 1934.
في العشرين من عمره، كان لكامو هذا العبوس الذي يعبر عن حزمه. في يده شهادة في الفلسفة وعمل في الصحافة. يحسم مزاجه الكثير من الانشغالات، الأدبية والجمالية علي وجه الخصوص، التي يجابهها. ولكن مع الوقت تنفتح حياته علي بعد آخر : السياسة.
لم يتأخر الصخب الذي يعصف بأوروبا عن اللحاق بركب المستعمرات. لاقامة سد أمام الفاشية، اتحدت قوي اليسار بمختلف دول القارة العجوز مؤسسة الجبهة الشعبية. بين القوي المختلفة، انتسب كامو الي الحزب الشيوعي. لكن الشعبة الجزائرية من الحزب الشيوعي الفرنسي انحرفت نوعا ما عن الخط الذي حددته الدولة الأصلية. بينما كان العدو في باريس هو ألمانيا الهتلرية وايطاليا الموسولينية، كان العدو في الجزائر هو باريس، أو بالأحري، الامبريالية الكولونيالية، التي نظر الشيوعيون الجزائريون اليها علي كونها الطور الأعلي للرأسمالية، علي حد مساواة مع الفاشية. تذكر كامو عمال بلكور، من فرنسيين و"أولاد البلاد"، الذين يدخنون نفس السجائر في المشارب أو في مركبات الترام، وبذلك جذب من هذا الماضي أعدادا من الجزائريين المنتمين الي التزامه اليساري، وكذا بداية العقيدة : ضد الشر، أي الظلم، الذي لن يمحيه الا التضامن الانساني العالمي. في نفس الوقت، قادته الكتابة عن سان أوغسطين في ذكراه الي أن يعزز رأيه عن النزعة التشاؤمية الميتافيزيقي. التزام وتشاؤم : هكذا نشأت المفارقة الكاموية.
هل السياسة والجمالية قابلان للتوفيق بينهما ؟ ظل هذا السؤال يلاحق كامو. بدون شك، في محاولة للرد علي هذا السؤال أسس "مسرح العمل"، حيث الاسم نفسه برنامج. الهدف ؟ عرض المسرحيات الكلاسيكية والمعاصرة علي أكبر عدد من الجمهور. في البداية، لم يكن سوي دراماتورجيا يهتم بالمسرح. كانت الوظائف التي يشغلها عديدة : مدير، مخرج، معد، ممثل... ولكن لم يحن الوقت بعد كي يكون مؤلفا.
كان عاما 1936 و1937 عامين مفصليين. في بادئ الأمر، انفصل كامو عن زوجه. كمدمنة علي المخدرات، أمضت سيمون فترة من الزمن في مصحة للتخلص من سمومه. بين علاجين، كانت اللحظات النادرة التي تمضيها بصحبة كامو تنتهي بالمشاجرة ذ وهكذا انفصل الزوجان. فضلا عن ذلك، طالبه الحزب الشيوعي الفرنسي بتعديل بعض مواقفه، غير أنه رفض وغادر الحزب. ولكن في عام 1937 صدر له "الظهر والوجه"، وكذا مقالات مكرسة تحديدا عن حي بلكور. أقام كامو لدي بعض الأصدقاء أو استأجر غرفا بأسعار زهيدة، غازل فتيات، وكتب. متحررا من هذين الالتزامين، السياسي والعائلي، اللذين أصاباه بقلق عنيف، استسلم لنفسه في شوارع الجزائر.
علي الرغم من تسويده للعديد من الصفحات البيضاء، لم ينظر كامو بعد الي نفسه ككاتب. بالمقابل، ارتضي بكونه صحافيا. في عام 1938، لم يتردد عن ملاقاة باسكال بيا، الذي أسس لتوه صحيفة "الجزائر الجمهورية". كناقد أدبي، كان معجبا أساسا بجيد (آندريه) ومالرو (آندريه).
ومع ذلك، لمع جيدا في المجال السياسي. في عام 1939، تحت عنوان "بؤس بلاد القبائل"، وقع كامو سلسلة من المقالات التي أثارت فضيحة مدوية. مواقفه المؤيدة للمسلمين لن تمر مرور الكرام. بعد اعلان الحرب، منعت "الجزائر الجمهورية" من الصدور.
كان العالم بأسره علي طريق الجنون والرعب. كامو، بلا عمل، ارتحل بين الجزائر ووهران، حيث يحيا حبه الكبير، وليس الحصري : فرانسين فور. سريعا، أضجرته وهران، وعلي وجه الخصوص التعطل. معالجا من داء السل، كان يعرف بأنه لن يتوجه للقتال. أخبره باسكال بيا، الذي رجع الي باريس بعد منع "الجزائر الجمهورية"، بأنه وجد له مكانا في "باريس-سوار". كان الانفصال عن فرانسين مؤلما.
في 16 أكتوبر 1940، وصل كامو الي باريس، خلال الفترة التي حفظها التاريخ تحت اسم "غرابة الحرب". كانت الرقابة تسيطر علي صحافة العصر، وقد أفرغت المهنة من كل معني، مما أفضي بكامو الي الاتجاه نحو الأدب. بينما كانت الصحافة تؤكد أن الجيش الفرنسي في أفضل حالاته وأن علي الألمان أن يلبثوا مكانهم، شرع آلبير كامو في كتابة "الغريب"، رجوعا الي المدونات، المقاطع والفصول المبعثرة التي كتبها في الجزائر. بعد أيام، قبل أن تشن ألمانيا هجومها الشامل، كتب الي فرانسين فور يعلنها بأن روايته انتهت. منهكا ومحرضا، كان يشعر بأنه انتهي من عمل الكاتب الحقيقي.
بيد أن التاريخ أنشأ يكتب في هذه اللحظة، لحظة المعركة. كانت "باريس-سوار" والصحف الباريسية الأخري متفائلة الي حد كبير، ولكن كان الاندحار العسكري. في يونيو، فرت الحكومة من باريس. فريق "باري-سوار" تبعها. وهنا طلب الماريشال بتان الهدنة.
خلال هذا الهدوء، قدمت فرانسين للقاء آلبير في ليون، حيث استقرت هيئة تحرير "باري-سوار". يتزوجان. لسوء الحظ، الصحيفة، وقد فقدت جانبا كبيرا من قرائها، تخلصت من عدد من محرريها. وهنا فقد كامو بدوره وظيفته. كانت وهران ذ حيث تستطيع عائلة فرانسين استضافة الزوجين - طوق نجاة الزوجين.
مرة أخري وهران، مرة أخري السأم... كامو، للوقوف علي قدميه، أنشأ يعتقد في عمله أكثر فأكثر. تراسل مع باسكال بيا، الذي بقي في ليون.
باسكال بيا، الذي أحب كامو كأب له، بحث له مرة أخري عن عمل في فرنسا. ولم يجد. غير أنه قدم له خدمة : عمل علي تنشيط معارفه لكي يساعده في نشر "الغريب" لدي غاليمار.
عاده المرض ثانية. نصحه الأطباء بالاقامة شتاء في الجبل، بالأحري في أوروبا. بقليل من المال الذي أتاه من غاليمار ومن راتب فرانسين تمكن الزوجان من الرحيل. استقرا في البداية في شامبون-سور-لينيون (في "الهوت-لوار"). ثم رجعت فرانسين الي وهران، تاركة زوجها وحيدا في فرنسا. منخرطا في حركة (وصحيفة) "كومبا" (معركة)، قام باسكال بيا باخطار كامو بمجريات المقاومة. ولكن، وقتذاك، كان الكاتب لا يفكر الا في كسب الجزائر. وبما أنه أمر مستحيل، كتب "الطاعون"...
عام 1943 وفاة جون مولان خلال ترحيله الي ألمانيا، وهبوط الحلفاء في صقلية. مع استقراره في باريس، أصبح كامو قارئا للنصوص في غاليمار، حيث بدأ يربح عيشه بصورة طيبة. وعلي وجه الخصوص، استعاد عمله الصحافي. في المقاومة السرية، في "كومبا"، حيث لم يزل باسكال بيا مرشده. قاوم كامو بالقلم، بالقلم وحده. لم يلمس السلاح. علي مدار هذه المرحلة، صادق جون بول سارتر وعقد علاقة مع الممثلة ماريا كاساريس. كما جري طوال حياته، لم يكف المرض السابق بالسل عن التدخين ولم يهجر كذا الشراب. بعد سنوات، كتب في احدي كراساته، أن الشراب حقق له نشوة خادعة وأنه أصبح مع الوقت زاهدا...
مع التحرير، كامو، الذي لم يكن يسعي لكي يكون بطلا، أصابه القلق من عمليات التطهير ومن هؤلاء المثقفين الذين يعتبرون أقل بطولة منه بيد أنهم يظهرون أكثر صلابة. استقلاله الذهني الحاد قاده للبعيد : علي الرغم من نشوة النصر، كان قادرا علي توبيخ المنتصرين. حينما ألقيت القنبلتان الذريتان علي هيروشيما ونجازاكي، انفجر سخطه. كان الوحيد الذي تجرأ علي الانتقاد.
بداية العصر الذهبي لحي سان-جرمان-ديه-بريه. وبرغم من أنه ليس من أعمدة (مقهي) "الفلور"، صداقته مع سارتر احدي صور هذه المرحلة. عن الأخ الذي يصغره بثماني سنوات، قدم سارتر هذا الوصف : "اتصال رائع بين رجل ونتاجه". وذات مساء، قال له باسما، بنبرة ودية : "أنا أكثر ذكاء منك". لم يعارضه كامو مطلقا. ومع ذلك، اذا كان سارتر مقتنعا بذلك، فهل كان يحتاج الي تنبيهه ؟ أو الي طمأنته ؟
استعاد كامو الصلة مع احدي محبوباته : المسرح، مسرحية "كاليجولا" التي حققها جيرار فيليب، التي شغلت ذهنه منذ عام 1938 والتي لم يكف عن التفكير فيها خلال الحرب.
لم يزل أحد وساوسه القديمة يلاحقه : كيف يتم التوفيق بين السياسة والجمالية، الابداع والالتزام ؟ كان هذا السؤال يثير جميع معاصريه. حتي أنه طرحه في خطاب نوبل. في هذا الصدد، كان سارتر متمسكا بموقفه : وهكذا تبدي مفترق طرق لوجهات النظر بين الرجلين. بدون أن يدافع عن نفسه اعلاميا، رفض كامو مع ذلك الاشارة اليه "بالوجودي" التي عمل البعض علي تصنيفه بها. في عام 1951، صدر كتاب "الانسان المتمرد". وتبعه مقال لفرانسيس جونسون ينتقده لرجعيته. نشر المقال في "الأزمنة الحديثة"، المجلة التي يديرها سارتر. متجاهلا كاتب المقال، كتب كامو مباشرة الي صديقه، الذي نشر تعليقه في العدد التالي، مرفقا برد صارم. ما هي الجملة القاتلة ؟ "أخلاقك تحولت في البداية الي نزعة أخلاقية، واليوم ليست الا أدبية".
لم يكن سؤال العلاقة بين الفن والسياسة بعيدا. في نفس هذا الرد، رجع سارتر الي الطفولة الفقيرة لكامو، متهمه بكلمات غير صريحة بكونه ذريعة اليسار. خلف تواضع ظاهر، كامو السريع التأثر، شعر بكونه قد جرح. لم يعد الرجلان يتحدثان.
كانت حرب الجزائر آخر التزام لآلبير كامو. وآخر مواجهاته مع سارتر. بينما كان الأخير يعظم الاستقلال الخالص والبسيط، كان كامو لا يري الي أن الأرض التي شهدت ولادته تكون أرضا غريبة. حقق هذان الموقفان شيئا من الحيرة وعدم الفهم. الدم الذي يروي الجزائر مثل دمه. عاني كامو من هذا الصراع، الذي اعتبره كصراع الأخوة. هل خففت جائزة نوبل، التي تلقاها في عام 1957، المصاحبة بتحيات فرانسوا مورياك وويليام فوكنر، عن أحماله ؟ من المحتمل. مكنته من شراء منزل في البروفانس، بلورمارين، قرب بحر متوسط طفولته، تحت هذه الشمس الدافئة التي تنقصه دوما. هذا الشراء لم يجلب له الحظ. في 4 يناير 1960، بدلا من أن يسافر الي باريس من لورمارين بالقطار، عرض ميشال غاليمار عليه أن يستقل سيارته. وعلي بعد مئات من العاصمة، ولسبب غير معروف، انحرفت السيارة عن طريقها. ويموت آلبير كامو تحت وقع الحادثة.
من وإلي جان دانيال
|
رسائل كامو
|
|
ت: أحمد عبداللطيف
شاهدان من القرن العشرين يتبادلان المراسلات خلال سنوات. هنا نجد كامو العنيد والحريص علي الشكليات لكنه أيضاً المتيقظ، الذي يقدم عملاً أو مساعدة لصديق من أجل إطلاق سراح بعض السجناء. كما نجد جان دانيال الحنون والمشغول بأزمة صديقه. مفكران كبيران فرنسيان من أصل جزائري، وجهاً لوجه. مراسلات أخرجها هذا العام، في عامه الثالث والتسعين، جان دانيال، وبشكل حصري لجريدة الكولتورال الإسبانية التي احتفلت بكامو عبر نشر هذه الرسائل.
كابري، 26 فبراير 1950
أشكرك لأنك أرسلت لي نسخة من كاليبا ]مجلة ثقافية أسسها دانيال[ التي تضم "العادلون". الطبعة جيدة بصدق، لكنني لا أستطيع أن أقول نفس الشيء عن النصوص المنشورة. الحقيقة أن العدد في مجمله بدا لي مغرضاً، لقد ركز علي الجانب السلبي من القضية فقط. وبعد أن قرأت النصوص، بدا لي أنكم تنصحون الناس أن يبقوا في البيت مكتوفي الأيدي. الأمر ليس أنني أعرف إن كان يتحتم قتل الحارس مع وجود أطفال ثم الهروب بل هل يتحتم قتل أبناء الحارس أيضاً لتحرير السجناء. القضية هامة. زمننا لا يجيب بنعم أو لا. أنا لم أقترح الموضوع، غير أنني اخترت أن أحيي من اقترحوه، واستخدمتهم ووقفت خلفهم مختبئاً. حقيقي أيضاً، مع ذلك، أن إجابتك ليست: حتمية البقاء بالبيت، بل 1) هناك حدود والأطفال حد (من بين حدود أخري) 2) يمكن قتل الحارس. 3) لكن من الضروري أن يموت الشخص نفسه. أما الإجابة الضمنية للفترة التي نعيشها فعلي العكس: 1) ما من حدود. الأطفال بالطبع، لكن في حسابات موجزة.. 2) لنقتل كل العالم إن كان ضرورياً. 3) لنرفع شعار الشرف.
تدخلي الوحيد يكمن في عرض الدراما، إبراز كيف تتطور والقول:فكروا فيه. نحن علي مسافة من مشكلة الرعاية التي تمزق القلب والتي اراد البعض أن يراها في "العادلون" والتي يبدو أن حضرتك تستحضرها من جديد. بالطبع لم أكن لأكلف نفسي عناء الرد إن لم يكن الأمر متعلقاً بمجلة كاليبا. لكنني أعرف أنه في حالتك وحدها يمكنني التحدث عن إهمال ما، وبالتالي ما من شيء أفضل من التحدث بصراحة. أما ما يخص الأمور الأخري، فربما أكون مخطئاً.
رغم هذا، فالعدد يبدو لي ممتازاً. كنت محقاً تماماً بنشر سيد وخادم لتولستوي فهي عمل عظيم. هل فكرت في أدولف (بي. كونستانت) وهي عمل آخر عظيم؟
مودتي
كامو
ملحوظة: احتفظ بما قلته لك سراً، بالطبع ولا تلوم أحداً من مساعديك ولو كان لوماً ناعماً.
ألبير كامو إلي جان دانيال
٢٥ أغسطس 1954
عزيزي دانيال
أكتب لك كلمات سريعة لأقول لك علي الأقل إنني حزين لطريقة تقديم مقالي. اسمي في الغلاف والإشارة الغامضة في نهاية المقال، جعلاني أستحضر جريدة L Express. هذه ليست القضية فأنا لم أقرر بعد وعندما أقرر سأفعل بشكل عملي. لكن قمة الكوارث خطأ مطبعي نقل كلمة حرية في عبارة عن أورتيجا إلي جاسيت. طالع سييء، لكنني كنت أريد أن أخبرك برد فعلي، ما لا يمنع احترامي لحضرتك.
ألبير كامو
جان دانيال إلي ألبير كامو (ورقة عليها لوجو فندق سان جورج بالجزائر، ربما في عام 1957)
عزيزي ألبير كامو
لا أعرف إن كنت ستتلقي هذه الرسالة وأنت في باريس أم لا. أتمني ذلك، لأنك يجب أن تعرف أنني لم أشتق لصداقتك مثل الآن وأن هذا العام الحزين ترك علامته في نفسي، وكان بعدنا سبباً من بين أسباب أخري لحزني. ربما أنا المسؤول عن هذا ربما. لكن ذلك لم يجعل العاقبة القاسية محل قبول من جانبي.
سبب آخر كان العام الجزائري. هنا أري، رغم كل انتصارات السماء التي تعرفها حضرتك، مشاهد مبغضة. نحمل للجزائر جرحاً. ففي الجزائر العاصمة، حيث نتمني أن نسعد بعودة الهدوء إليها، تمحو الاعتقالات والتعذيبات كل ما يثير في العالم العربي الفخر بالنصر. شيء فظيع يا ألبير كامو ما يعيشه هنا بلدنا، شيء فظيع لا يمكن احتماله. هذه المرة عليك أن تنصت لي وعليك أن تنصت لي بالثقة التي أري بها الأشياء من خلال حساسيتك الخاصة. انتهيت من قراءة الضيف التي هي "السيد والعبد" الجزائرية. إنها تقدم أفضل كامو. والإهداء أثار عاطفتي، كما أثار عاطفة أصدقائك الحميمين.
المخلص
جان دانيال
جان دانيال
ألبير كامو إلي جان دانيال
باريس، 18 يوليو 1952
عزيزي دانيال
أكتب لك هذا الخطاب لضرورة قصوي. ومنذ عدة ساعات وأنا أحاول أن أطلعك علي وضع ربما يهمك.
الأمر كالتالي: بلوخ ميشيل ]جان بلوخ ميشيل، كاتب فرنسي ومن أصدقاء كامو[ قام بحوار مع بريت، الذي تعرفه حضرتك، علي ما أظن، والذي يدير وكالة أنباء يعمل بها بلوخ ميشيل. بريت قال له إنه يريد أن يوسع عمله، وكما قد علمت فحضرتك متاح، وبما أنك تشعر بألفة مع مجلة كاليبان فقد تحب أن يرحبوا بك في فريق عملهم. لقد حدثني ميشيل في الأمر في الليلة السابقة علي انصرافك، وهاتفتك في الثانية عشرة والنصف ليلاً، ولأنك لم ترد، فكرت أنك انصرفت منذ الصباح، بحسب ما قلته لي. أندريه بينيكوه ]صحفي فرنسي{ صحح لي خطأي وأعطاني عنوانك. لكن لم نخسر شيئاً. أبسط شيء أن تقوم حضرتك بزيارة بريت دون تأخير، وأن تخبره أن ميشيل قد أخبرك بنيتهم وتسأله ماذا يمكن أن تفعل.
يجب أن أقول لك إنني أتمني من كل قلبي أن توفق في هذا الامر، لأنك بذلك ستعود من جديد لتكون بيننا.
أضغط علي يدك بكل ود.
جان دانيال لألبير كامو 1951
عزيزي ألبير كامو
لدي ما يكفيني من دماء متوسطية لأخشي عادات الأدباء-هذا التجسيد للتدهور الباريسي- ولا أريد أن أشكرك أن أرسلت لي مخطوط كتابك. لكنني انتهيت في التو من الرجل المتمرد وأحب أن تسمح لي، قبل أي شيء، أن أعبر عن إعجابي وتقديري الحار. لقد انتهيت من الكتاب قبل أن تظهر المقالات النقدية ورغم أنني كنت مقتنعاً بأهمية الكتاب التي لا جدال فيها، إلا أنني لم أكن متأكداً من عدم تصويب سلاح القضاة المتخصصين إليك. حسناً، سواء عبروا عن رأيهم بمديوكرية أم لا كلهم استقبلوا عملك كحدث. وأنا شعرت بسعادة كثيفة وعميقة كأنني بطريقة ما أشارك في نجاح حضرتك. ولأنني أشاركك، أطلب منك أن تصدق صداقتي المخلصة والكلية، واسمح لي أن تكون صداقة أخوية.
ألبير كامو
جان دانيال إلي ألبير كامو
عزيزي ألبير كامو
شكراً لرسالتك: لمحتواها، لاهتمامك الذي توليه لي، لما يرمز إليه فعلك، في بيئة تمنحني كل أنواع الألم، أو أغلبه. لا أضجر من قول إن نفس الأشياء، نفسها، التي كانت نبعاً للسرور صارت نبعاً للضيق. حتي ماء البحر قد يغير ملمسه. شيء فظيع. اعذرني إن استفضت، فالذنب ذنبك: فكل ما تفعله لي أفعال صديق.
كتبت في الحال إلي بريت، الذي أعرفه بالفعل (إنه أحد القلائل في اليونيسكو الذي ساعدني بشكل فعال وبحسن تصرف). إن عاودت لقاء بلوخ ميشيل، أيمكن أن تشكره نيابة عني؟
قبل أن أتلقي خطابك كنت قد قررت الكتابة لك. الموضوع متعلق بهذه الأزمة التي تمر بها والتي لا أتجرأ علي تحليلها، وكنت أحاول أن أقول لك إن شيئاً واحداً فقط يمكن ويجب أن يخرجك من أزمتك: احتياجي لك وبشدة، احتياج الآخرين لك وبشدة. ربما تكون هذه حقيقة وحيدة تناهض الغرور. لا تنظر لهذه الكلمات علي أنها ربما تكون وقحة، بل تعبر صدقاً عن تقديري لشخصك ولكتابتك.
جان دانيال
جان دانيال لألبير كامو ( رسالة عليها لوجو مجلة
L Express)
باريس، الثاني من ديسمبر 1958
عزيزي ألبير كامو
أكدوا لي أن تدخلاً من جانبك يمكن أن يحقق، في هذه اللحظة الدقيقة، إطلاق سراح أو التخفيف من وضع السجناء المذكورين في القائمة التي أرفقها لك. فقط أريد أن أدافع عن الاهتمام بهؤلاء السجناء، وبعضهم أصدقاء لي، وليس لدي نية لعمل أي دعاية من أي نوع لاقتراحي الذي أقدمه لك وما يمكن أن تقوم به من إجراءات. لكنني أعرف أن السيد باتين، رئيس لجنة حماية الحريات والحقوق الفردية سيتحدث حول قضية عدد من المسلمين المعتقلين وأعرف أنه لن يتجاهل طلباً من جانب حضرتك. الأمر عبارة عن مجموعة من القوميين القادرين علي فعل تأثير سياسي وقوي في دائرتهم. أنا سعيد بمكالمتك التليفونية. هدفي لم يكن العودة لرؤيتك، بل استئناف صداقتنا.
جان دانيال
(استطاع كامو، كما يظهر ذلك في رسالة أخري، أن يساهم في إطلاق سراح السجناء)
|
منقول من موقع أخبار الأدب |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق