إعلان فشل الخيال السياسي: بعد أن فسخ الواقع الخيال، يحبو الخيال قزماً بين أشجار اللا طمأنينة، تبدو الطرق في مفترقاتها متاهة بورخيسية مكتملة، من هنا سكة الندامة، من هنا سكة البلاهة، إن لم تستطع الاختيار، خذ حبة المهدئ كاملة، واثبت علي الأقل في مكانك، حتي تتغير أبعاد المتاهة، أو ينتهي الجيم بانقضاء الوقت، المرحلة القادمة تحتاج جيوستيك أحدث.
كانت تلك آخر كلمات الكاتب الشاب هاني درويش علي صفحته الشخصية علي الـ »فيس بوك« تعبر عن رأيه فيما يحدث الآن في مصر. كلمات ربما لا تناسب شخصية هاني الذي عرفه أصدقاؤه وقراؤه يتمكن عادة من الوصول إلي معني مما يحدث حوله يكون من خلاله رأيه وينطلق مدافعاً عنه ومجادلاً حوله في حماس. إنما يبدو أن القلب كان قد تعب، قلب الشاب الثلاثيني لم يحتمل أكثر، فتوقف عن العمل، عصر الثلاثاء الماضي تاركاً كل من عرفه في مصر ودول عربية من كتاب ومثقفين في صدمة عبرت عنها كلماتهم علي صفحته وصفحاتهم.
عمر هاني درويش (٤٧٩١) كان مليئاً بالنشاط والطاقة.. بدأ منذ فترة الدراسة الجامعية حيث كان واحداً من الناشطين السياسيين في جامعة عين شمس، جزءا من تنظيم الاشتراكيين الثوريين، معبراً بوضوح عما يعتقد فيه، ففي عام 1996 شارك في التضامن مع الطلاب المعوقين بعد إلغاء النسبة الخاصة بهم في التعيين بالوظائف الحكومية، وهو الموقف الذي تم القبض عليه بسببه وخضع للتحقيق في النيابة ثم أفرج عنه بعد شهر تقريباً.
عرف الوسط الثقافي المصري واللبناني هاني درويش من خلال كتاباته المتنوعة في مجالات مختلفة لا يربط بينها سوي حماسه اللافت لما يكتب عنه، في الأدب والسياسة بشكل خاص، وبالقدر نفسه من الاحتراف عن المكان والبشر، مستفيداً في ذلك بسعة إطلاع، واتصال دائم بما يحدث حوله في المجتمع، وبهواياته أيضاً التي مارسها بالشغف نفسه وعلي رأسها ولعه بكرة القدم.
نشر هاني درويش كتاباته في أكثر من موقع منها جريدة »الحياة« اللندنية، وفي مجلات وجرائد لبنانية: »نوافذ«، ومؤخراً في جريدة »المدن«، و»بالمستقبل،« وكان من العناصر الفاعلة في تجربة جريدة »البديل« المصرية، كما عمل لفترة في مؤسسة »أخبار اليوم« وتحديداً في مجلة »آخر ساعة«، وأشرف في العام الأخير من حياته علي الجزء المصري من موقع »مراسلون« وهو مشروع ألماني كان هدفه دعم مراسلي الأقاليم الصحفيين في مصر وتونس وليبيا.
ننشر هنا لهاني درويش واحداً من آخر مقالاته التي نشرها في جريدة »المدن« الإلكترونية في ٥٢/٧/٣١٠٢.
جمعة تفويض الفاشلين قتل البلطجية
دعوت قبل شهر، في مقالي بـ »المدن«، إلي عقلنة الإخوان المسلمين، وذلك قبل أيام من خروج ملايين المصريين إلي الشوارع في ٠٣ يونيو. كان افتراض العقلنة قائماً علي تصور مبسط يخلو من السذاجة، بل ويبشر في مضمونه بقدرة التيار الإسلامي علي التسييس. فتجربة عام من حكمهم أظهرت ما في »سياستهم« أحياناً من التوحش والغبن، بل وأكاد أضيف الانقلاب علي مفهوم السياسة نفسه، كصراع للمصالح. كان مقالي عن العقلنة دعوة، لا إلي مواجهة أطراف أخري تبدي الجنون، بل إلي مواجهة الميل للانتحار الجماعي لدي التيار الذي سقطت مشروعيته السياسية حتي قبل 30 يونيو. كان الإسلام السياسي الذي أتمناه عاقلاً، مدعواً من كل الأطراف إلي تبني مصالحة. نذكره، كخصوم، بمصالحة في البقاء جزءاً من المشهد السياسي، معترفين له بالغلبة لا بالمغالبة، نكاد نتوسل إليه النظر خارج مجاري الانحطاط التي يشد إليها مجمل المجال السياسي.
دارت الأيام الصعبة، وكتبت هنا أيضاً، عن احتمالات العنف، وإمكان حفر التيار الإسلامي لقبره بيده، إن أدام عنفاً منفلت العقال في مواجهة الدولة بأدواتها التسلطية المشرعنة، وفي مواجهة الناس في بيوتهم وأحيائهم. وما تخيلته في انفلات العقال، واختيار العنف بديلاً من التفاوض تم بحذافيره، بل ووصلنا اليوم، بطلب الجيش من الجماهير تغطية عنفه الآتي، إلي انغلاق المصيدة كاملة علي الطائفة الإسلامية السياسية. فبعد أسابيع من توزيع الصدامات في قسمة لا تخلو من جنون، بين سيناء وكمائن الشرطة من جهة، وبين الهجوم السافر علي أحياء قاهرية في عز صوم المصريين وتقواهم البراغماتية، أثبت التيار الإسلامي جنونه المطبق. لقد تحول من طائفة سياسية إلي عشيرة من اللصوص القتلة، معبّرين عن كمّ الكره الدفين للمجتمع، غير مفرّقين في عنفهم بين أجهزة الدولة التسلطية التي تمارس العنف المشرعن بشكل غير فني أو قانوني، وبين آحاد الناس من الأهالي المتنقلين في شوارعهم، لتلتحم إرادة تأديب التيار الإسلامي وتتساند، جيشاً وشعباً.
لماذا أذكر القارئ في هذا المقال بمقالات سابقة، حاولت استشراف المستقبل القريب، المستقبل الذي بات الآن حاضراً أو ماضياً؟ لأن بعضاً من التفاعل الجاري الآن مع الأزمة مقطوع الصلة بسياق التاريخ القريب والمقدمات الموضوعية. ولأن ماكينة العنف الدائرة أنست الكثير من المتابعين مسؤولية أي من الأطراف عن إدامتها، بل والسباق نحو إطلاق سعارها. فما طرحته أيضاً حول ميل المصريين إلي نبذ العنف المستدام، أو الانتقام، ثبت حسن ظنه. الإسلاميون يسيطرون منذ شهر علي ميدان النهضة بالجيزة. خرجوا منه، في عنف ممنهج، إلي الأحياء القريبة، نحو أربع مرات، أسقطوا فيها عشرات القتلي، في ظل غياب كامل للشرطة والجيش الفاشلين إلا في حماية مقراتهما. ورغم ذلك، أقول رغم ذلك، لم تلتئم عصبة هذه الأحياء بتنويعاتها الطبقية علي قلب رجل واحد للهجوم علي اعتصام القتلة الغرباء. بل وتحمّل حيّ مدينة نصر، حيث اعتصام رابعة العدوية، بلادة وابتذال الاعتصام، واكتفي قاطنوه بالشكوي عبر فيديوهات، بوجوه مموهة، خشية الانتقام منهم. أليس هذا دليلاً كافياً علي نبذ المواطنين العاديين لدعاوي الثأر لقتلاهم أو العصبوية المناطقية؟
لماذا أسجل هذا الآن؟ لأننا لو وضعنا، إلي جوار ذلك، الجهوزية الاستباقية للأجهزة الأمنية التي ثبت فشلها في حماية مقرات الجيش في سيناء، وثبت تهافتها في صد عدوان السلفيين والإخوان علي أقسام الشرطة، حيث استعملت القنابل والقناصة من قبل التيار الإسلامي، لاكتشفنا سوياً صدق وعد الإسلاميين الإلهي في ابتزاز العنف. نحن أمام أجهزة دولة مذعورة، حمت فقط مقر الحرس الجمهوري بمذبحة، وجمهور صائم منقسم علي نفسه حول حرمة الشهر الكريم، فيما الطرف المبادر بالهجوم، الجوال بين الأحياء والميادين، بأسلحته وإرهابه، مدرك لحجم هذه الرخاوة، وقادر علي استغلالها حقوقياً ودولياً في ظل عفن شامل بإسم الشرعية الصندوقية المجهضة.
وأعود وأذكر بما قلته هنا من قبل، الآن، قبل ساعات من مشهد المعركة الاخيرة (دعوة السيسي لملايين المصريين للخروج لشرعنة عنفه)، أن الباب الموارب لاستيعاب »الجماعة« (بعدم القبض علي قياداتها التي تمارس التحريض جهراً، أو بعدم تنفيذ حكم حل جماعتهم بشكل قانوني، أو بتصميم الجيش علي محاكمة مرسي وإخفائه بشكل قسري بتهم تافهة كالتخابر)، هو الجزرة التي طالت فقضمها »الإخوان« حتي عروشها الخضراء. بل وأكلوا، في سباق العض التفاوضي، اليد التي حمتهم من الملاحقة القانونية الحقيقية، أي الجيش نفسه. وحتي بعد خروج دخان التفاوض السري حول إجلاء مرسي من دون محاكمة، هو وقيادات جماعته، في مقابل فض الاعتصام، علي ما رشح من تقارير صحافية، ظل »الإخوان« والسلفيون في هلوسة جماعية يرتلون نغمة عودة مرسي المستحيلة. هذا في العلن، فيما وفودهم الجوالة علي مقرات السفارات الأجنبية لا تخفي الازدواجية التفاوضية. الجيش وبالإخوان« يتفاوضون سراً علي عدم المحاسبة، فيما يستثمر الطرفان في جمهوريهما أرصدة العنف، ويدفع الثمن علي الأرض أناس عاديون، هم في الغالب ضحايا »الإخوان« في الأحياء والطرق. وعلي العاديين الآن تفويض الجيش الذي لم يحمهم بإدامة قمع كاسح يعيدهم إلي البيوت سالمين.
ولكي يكتمل المشهد، اختفت القوي المدنية الديموقراطية بالكامل. عاجزة هي كالعادة عن طرح جدول أعمال حقيقي لنداء التفويض. استسلم البرادعي، وهناك تشكيل الحكومة الجديدة لأداء الدور البيروقراطي الإنقاذي النخبوي. وذلك من دون أي قدرة علي التفريق بين جمهورهم السياسي التائه الآن رعباً من تصاعد فاشيتين، وبين غريزة الجماهير العادية، التي ستنزل بأكبر تفويض سياسي تاريخي لإدامة العنف خارج القانون، مستسلمين للشرط الأخلاقي المبدئي حول اللاتفاوض اللحظي مع سافكي الدماء من الإسلاميين، ومن دون حتي طرح مبادرة أو جدول أعمال يثني الجيش عن إجراءاته الاستثنائية الملوح بها. جدول أعمال لإنقاذ السياسة نفسها من غشم الطرفين، مستسلمين إلي لاعقلانية توقيع شيك أبيض. الثورة علي محك، ويبدو أن استمرارها يبقي رهينة الغرائز
هاني درويش
منقول من موقع أخبار الأدب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق