شيموس هيني في حواره مع باريس بوك ريفيو
|
الشعر يملك القوة لإيقاف العنف
|
حاوره: هنرى كول ترجمة: أمير زكى
ولد في مقاطعة ديري بأيرلندا الشمالية عام 1939، شيموس هيني كان الأخ الأكبر لتسعة أطفال في أسرة كاثوليكية. بعد حصوله علي شهادة في اللغة الإنجليزية من جامعة كوين عام 1961، عمل هيني معلما بإحدي المدارس، وبعدها بعدة سنوات ظل شاعرا بشكل حر. عام 1975 عُين في وظيفة بقسم الإنجليزية بكلية التربية في دبلن، حيث كان يدرّب الطلبة علي التدريس حتي عام 1981. دعته جامعة هارفارد لنصف عام دراسي عام 1979، ثم عُرِض عليه ترتيب بأن يعمل هناك بشكل جزئي، مما سمح لهيني أن يقوم بالتدريس في نصف عام أثناء الربيع ثم يعود لأيرلندا حيث تقيم عائلته. عام 1984 أنتخب كأستاذ لكرسي بويلستون للخطابة والشعر في جامعة هارفارد. إلي جانب ذلك، وفيما بين العامين 1989 و1994، كان أستاذا للشعر بجامعة أوكسفورد. بعدها حصل علي جائزة نوبل في الأدب عام 1995، استقال هيني من كرسي بويلستون، ولكن ظل مرتبطا بجامعة هارفارد كشاعر زائر ببرامج الإقامة.هيني كتب إثنتي عشرة مجموعة أشعار، وهي: موت مولع بالطبيعة (1966)، باب يفتح علي الظلمة (1969)، تجاوز الشتاء (1972)، عمل الحقل (1979)، سويني متشردا (1984)، جزيرة ستيشن (1985)، مصباح الزعرور (1987)، رؤية الأشياء (1991)، مستوي الروح (1996)، ونثره جُمع في ثلاثة كتب: انشغالات (1980)، حكومة اللسان (1989)، إصلاح الشعر (1995). أعماله تتضمن أيضا نسخة من مسرحية فيلوكتيتس لسوفوكليس بعنوان "العلاج في طروادة" (1990) وترجمة مع ستانسيلاو برانتشاك لانتحابات يان كوفانوسكي (1995).أجري اللقاء في ثلاثة نهارات في منتصف مايو عام 1994 في غرفات هيني في منزل آدامز بهارفارد. (أضفت إليه بشكل مقتضب بعدما تلقي هيني جائزة نوبل) شجرة تفاح في قمة توردها تبدو من نافذة غرفة المعيشة. سيعود هيني إلي أيرلندا مع نهاية الشهر. أثناء حديثنا تتسلل أصوات وضحكات الطلبة من الممر. كان التليفون يرن باستمرار حتي تم فصله. تم تقديم الشاي مع كعك من مخبز بيبريدج فارم. ترابيزة للقهوة مع مكتبين من خشب البلوط مغطيين بشكل مرتب بأكوام رسائل ومسودات وأوراق إدارة ومجلات أدبية وكتب إلخ. كان هيني يجلس علي الأريكة تحت ضوء المصباح. خليط مريح من النظام وعدم الترتيب جعل الحوار يسهل بدؤه. باقة من الليلك موضوعة في إناء قريب. وعلي المدفأة كانت هناك صور للعائلة. مع كل جلسة كان هيني يرتدي بدلة، وقميصا أبيض مكويا ورابطة عنق، حذاؤه من ماركة دكتور مارتنز كان ملمعا. ورغم أن شعره الأبيض كان محلوقا إلا أنه كان أشعث. كان يسافر بكثافة في الأسبايع الماضية، ورغم أن عينيه البنيتين كانتا مثقلتين، إلا أن عقله كان حاضرا. بعد كل جلسة كنا نشرب كأس جاك دانييلز.هل تشعر أن التدريس طوال هذه الأعوام أثر علي كتابتك؟من المؤكد أنه أثر علي مستويات طاقتي! أذكر أن روبرت فيتزجيرالد حذرني، أو علي الأقل كان قلقا بشأني من هذه الجهة. ولكن بطريقة جيدة أو سيئة ـ الآن أشعر أنها سيئة، وفي وقت مبكر كنت أشعر أنها جيدة ـ ـ كنت أعتقد أن الشعر سيأتي كهبة وسيجبر نفسه علي الوجود في أي وقت أحتاجه فيه ليأتي. إحساسي بالعالم، وبما ينتظرني في الحياة، كان من ضمنه أن أحصل علي وظيفة. ببساطة كان هذا مرتبطا بجيلي، بتكويني، بخلفيتي »الصبي الحاصل علي منحة، القادم من الريف. حقيقة الأمر هو أن أكثر الأشياء الإعجازية وغير المتوقعة في حياتي هو مجيء الشعر نفسه« وكتعال وميل. بدأت كمدرس في بلفاست عام 1962. درّست لمدة عام في مدرسة توماس الثانوية. وحصلت علي درجات جيدة في الإنجليزية بجامعة كوين وشعرت أن لديّ إمكانية أدبية، ولكني لم أكن أملك ثقة حقيقية. ثم بدأت أكتب بجدية في نوفمبر عام 1962 ويراودني بعض الأمل. وكشاب لم يتخرج بعد أسهمت بقصائد في مجلة دارسي اللغة الإنجليزية. كنت جزءا من مجموعة ضمت، بين آخرين، شيموس دين، الذي كان نجم المجموعة إلي حد كبير، وجورج مكويرتر وهو شاعر الآن بجامعة بريتيش كولومبيا في فانكوفر، وكان هناك آخرون ذوو طموحات أدبية في جامعة كوين في هذا الوقت علي سبيل المثال ستيوارت باركر الذي أصبح كاتبا مسرحيا في النهاية ـ وأنا كنت واحدا وسط هذا الزحام. ولكني لم يكن لديّ أي حس بالانتقاء أو الغرض أو الطموح. كان اسمي المستعار في جامعة كوين، في المجلات التي نشرت فيها هو إنكيرتوس وهو يعني باللاتينية المتشكك ــ كنت أركل الكرة الموجودة بالقرب من المرمي، ولكني لم أكن أوجهها للمرمي. ثم بدأ التيار يفيض عام 1962. أذكر أنني أخذت كتاب "لوبريكال" لتيد هيوز من أرفف مكتبة بلفاست العامة وفتحته علي قصيدة "منظر خنزير" وتركته في الحال وكتبت قصيدتين كانتا غالبا محاكاة لهيوز. القصيدة الأولي كانت بعنوان "جرارات"؛ أذكر السطر الذي يقول: "تُغَرغِر بحزن" ـ هذا الذي أعجبني كثيرا وقتها. أرسلتها لجريدة "بلفاست تليجراف" ـ ليست أعظم جريدة أدبية في العالم ولكنها مع ذلك نشرت القصيدة. وكان لهذا أهمية كبيرة لأني لم أكن أعرف أحدا في الجريدة، هذا الذي عني أنهم قبلوها بسبب مميزات القصيدة نفسها كما هي.نشأت في أسرة لم يكن الرجال فيها متعلقين بالكتابة، لكنك عرفت فكرة الإيقاع الشعري لأول مرة كشيء جميل عن طريق أمك. هل يمكنك الحديث قليلا عن حياتك العائلية كطفل؟أبي كان مخلوقا من العالم القديم فعلا. كان من المفترض أن يكون في بيته في كهف طبيعي.الجانب الخاص بأسرته والبيوت التي ارتبطتُ بها من جانب أسرته كانت تنتمي لأيرلندا الريفية. هذه الأيام أيضا أنا واع أكثر فأكثر به كشخص تيتم في فترة مبكرة من حياته. توفي أبوه فجأة عندما كان صغيرا جدا. وأمه ماتت من سرطان الثدي.بالتالي نشأ هو وأخوته وتربوا علي أيدي الأعمام والعمات. تربي أبي مع ثلاثة أعمام عزاب، رجال منغمسين في تجارة الماشية حتي رؤوسهم، يرتحلون ويعودون من الأسواق في شمال إنجلترا، ومنهم تعلم تجارة الماشية. بالتالي كان المنزل الذي قضي فيه أعوامه الناشئة خاليا من النساء، مكان بنمط محافظ ومتقشف. كل هذا أثر فيه وبالطبع وصل إلينا بحضوره وشخصيته.ماذا عن أمك؟حسنا، أمي كانت أكثر حداثية. عائلتها كانت تعيش في قرية كاسلداوسون، وقد كانت قرية صناعية من جهة ما. العديد من الناس هناك كانوا يعملون في مصنع كلارك للكتان. أحد أعمامها كان وقّادا بالمصنع، وشقيق لها كان يعمل هناك أيضا، وآخر كان يقود شاحنة ـ وحصل علي ترخيص لصناع مخبز بلفاست في منطقة كاسلداوسون. واحدة من أخوتها كانت ممرضة، وأخري ذهبت إلي إنجلترا أثناء الحرب وتزوجت في النهاية من عامل مناجم في نورثومبيرلاند. أعتقد أنه يمكن القول إن عالم أبي كان عالم توماس هاردي وعالم أمي كان عالم د. هـ. لورانس. هل كانت هناك كتب في المنزل؟ليس الكثير منها. وسط الكتب كان في منزل الخالة سارة. هي تعلمت لتكون مُدرّسة في العشرينيات (من القرن الماضي) وجمعت لنفسها نوعا من المكتبة. كان لديها الأعمال الكاملة لتوماس هاردي علي سبيل المثال، نسخة مبكرة من ثلاثة مجلدات لأعمال ييتس ـ المسرحيات والقصص والقصائد.هل تظن أنك بشكل أكبر شاعر سيرة ذاتية، أم شاعر اجتماعي، أم شاعر رعوي أم شاعر سياسي؟إن كنت في موقف مفزع حيث يوجد شخص لا ألفة ولا اهتمام له بالشعر وقال لي: "ما نوع الشعر الذي تكتبه؟" سأميل للقول: "حسنا، أنا شاعر سيرة ذاتية بشكل أكثر أو أقل، شعر يعتمد علي الذاكرة". ولكني سأقول أيضا أن محتوي السيرة الذاتية في ذاته ليس الهدف من الكتابة. ما يهم هو دافع صياغة الشكل، بزوغ والتقاء الإثارة في الكل. لا أظن أنني شاعر سياسي ذو موضوعات سياسية أو فهم سياسي محدد للعالم، بطريقة برتولت بريخت كشاعر سياسي أو آدريان ريش أو آلان جينسبيرج بطريقة أخري.هل ييتس شاعر سياسي؟ييتس شاعر عام. أو شاعر سياسي بطريقة أن سوفوكليس كاتب مسرحي سياسي. كل منهما مهتم بالمدينة. ييتس ليس شاعرا سياسيا متحزبا، حتي لو مَثّل قسما محددا من المجتمع والثقافة الأيرلندية وانتقده الماركسيون لأن لديه تحيزا رجعيا وارستقراطيا بالنسبة لمخيلته. ولكن الجهد الكلي للمخيلة متوجه نحو الشمول. التشكيل الأولي للمستقبل. إذن بالطبع هو شاعر ذو أهمية سياسية عظيمة، ولكني أظن أنه شاعر صاحب رؤية أكثر منه شاعر سياسي. يمكنني أن أقول أن بابلو نيرودا شاعر سياسي.كيف يمكنك أن تصف صوتك الخاص؟حاولت بقصد شديد في مجموعة "عمل الحقل" أن أنتقل من نوع الكتاب المتأمل والممتع ذاتيا صوتيا إلي شيء أقرب لصوتي المتكلم الشخصي. وأعتقد أنني بعد "عمل الحقل" كنت أسير في هذا الاتجاه. هو نوع مختلف من الطموح اللغوي الذي كنت أتبعه في "موت مولع بالطبيعة" أو "تجاوز الشتاء" أو "شمال". أردت لهذه الكتب أن تعبر عن تركيب وحروف ساكنة ومتحركة وأصوات، أن تعبر عن المادية التامة للكلمات. لقد سمعت أنك قلت أن قصائدك الجديدة وسأُضمّن في هذه التصريح كل مجموعة "تربيعات" ـ هي جزء من حركة شعرية تبغي العودة، ليس لبراءة ووردسوورث، ولكن إلي ما قبل اللغة وقبل القومية وقبل الكاثوليكية، قبل أن يتشفر كل هذا، هل هذا حقيقي؟حسنا، في "تربيعات" كان هناك تلهف ورغبة محددة لكتابة نوع من القصيدة لا تنغمس في الحال فيما يُطلَق عليه "الجدل الثقافي". وهي واحدة من مشاكل - إلي جانب كونها واحدة من امتيازات - الشعراء في أيرلندا. كل قصيدة إما أن توضع في إطار الانتماءات السياسية أو يتم كشف انتمائها الخفي.هل تظن أن فقدانك لأبويك أثر في كتابتك؟ بطريقة ما في "تربيعات" هناك محو للماضي، هذا الذي يأتي مع موت أحد الأبوينلقد حضرت وفاتيهما، كنت في الغرفة مع أخوتي. لحظات من الاكتمال. كلاهما مات في سلام. "رحلا هادئين" ربما قالا ذلك لنفسيهما. لم يكن هناك اضطراب كبير أو ألم جسدي. أبي مات من السرطان، بالطبع كانت هناك فترة تدهور، ولكن في النهاية كان الانهيار التدريجي متوقعا وغير مؤلم نسبيا. ماتت أمي بشكل أسرع بسبب جلطة خلال ثلاثة أيام. مرة أخري كانت لدينا الفرصة لنتجمع. كان هناك حس بالاكتمال الشكلي. ولكن أيضا إدراك بأنه لا شيء يمكن تعلمه، فأن تكون في حضرة الموت يعني أن تكون في حضرة شيء بسيط جدا وغامض جدا. بشكل ما، أعادت هذه التجربة الحق في استخدام كلمات مثل "النفس" و"الروح"، كلمات كنت أخجل منها بشدة، خجل أدبي، أعتقد أن خجلي كان بسبب الإذعان الخاطيء لتحريمات التجريد، ولكنه أيضا خجل نتج عن العلاقة المعقدة مع ماضيّ الكاثوليكي. أنا أحبه بالعديد من الطرق ولم أهجره تماما، ولكن من جهة أخري أنا أتشكك لأنه يقدم لي مدخلا جاهزا مرضيا للكلمات المتعلقة بما وراء الطبيعة. ولكن تجربة وفاة والديّ أعادت إليّ بعض التنوع فيما يتعلق بهذه الكلمات، أدركت أن هذه الكلمات ليست مربكة، إنها متصلة بروح الحياة الموجودة بداخلنا.هل تشعر أن الشاعر عليه التزام في الأوقات الصعبة سياسيا؟أظن أن الشاعر الذي لا يشعر بضغط الأوقات الصعبة سياسية إما أن يكون غبيا أو متبلدا. أشعر بثقة شديدة من هذا معتمدا علي صياغة روبرت بينسكي في مقاله عن مسئولية الشاعر. هو يربط كلمة "المسئولية" لأصلها "استجابة" ثم إلي مرادفها الأنجلوساكسوني "رد". يقول بينسكي أنه طالما شعرت أنك بحاجة للاستجابة فأنت مسئول، لأنه علي أساس إستجابة المرء تقع مسئولية الشاعر. كيف تعبر عن الاستجابة هو مسألة أخري بالطبع. هناك طَبع متضمن، وهناك مسألة مهمة متعلقة بالقدرة الفنية، عن إن كنت مؤهلا فنيا للتعامل مع مسألة متعلقة بالتمرد السياسي.ألم تناقش في إحدي مقالاتك مستخدما مثال المسيح وهو يكتب علي الرمل ـ أن الشعر يملك القوة لإيقاف العنف؟ شرحت أنه ليس المهم هو ما كتبه يسوع علي الرمل، ولكنها كانت إيماءة غير متوقعة حوّلت الانتباه من رجم الزانية، وأوقفت الكتابة علي الرمل عملية الرجم أو علّقتها؟ نعم، النقاش في الحقيقة لا يغير الأشياء، إنه يلوثك بشكل أكبر. ولكن إن تكلمت أو أعدت فتح موضوع بطريقة جديدة، ومن زاوية مختلفة، إذن سيكون هناك أمل. في أيرلندا الشمالية علي سبيل المثال، مجاز جديد للموقف الموجودين فيه أو لغة جديدة سيخلق إمكانية جديدة. أنا مقتنع بذلك. لذلك عندما أعجب بكتابة يسوع علي الرمل، فهذا لأنه مثال لنوع من إثارة الجديد. هو قام بشيء حوّل الانتباه من هوس اللحظة، وكأنه نوع من الرقصة السحرية.هذه إمكانية عجيبة للكتابة.يحدق الناس فجأة في شيء آخر ويتوقفون للحظة. وفي فترة تحديقهم وتوقفهم، يكونون متأملين لكلية معرفتهم أو جهلهم. هذا شيء يمكن للشعر أن يقوم به، يستطيع أن يفتنك للحظة عن تيار وعيك وإمكانياتك. ماذا كان رد فعلك عندما حصلت علي جائزة نوبل؟وكأني دخلت في حالة انهيار لطيف. أنت تشعر بالرعب بالطبع عندما تفكر في الكتاب الذين حصلوا عليها، وتشعر بالرعب عندما تفكر فيمن لم يحصلوا عليها. لو حصرت نفسك في أيرلندا، ستجد ييتس وشو وبيكيت في المجموعة الأولي وجيمس جويس في الثانية. لذلك تدرك أنه من الأفضل ألا تفكر في المسألة برمتها. لا شيء يمكنه أن يهيئك لها. يرعد زيوس من حولك وكذلك العالم ولكنك تقوم علي قدميك مرة أخري لتواصل حياتك. مقاطع من حوار مطول مع الشاعر نشر في باريس بوك ريفيو خريف 7991 .شاعر في المنتصف
هنرى كول
ليس من قبيل الصدفة أن أعمال شيموس هيني المختارة كانت بعنوان "الأرض المفتوحة" طالما أن كتابة الشعر بالنسبة لصبي الحقل المميز هذا كانت نوعا من الحفر: "بين سبابتي وإبهامي، يقف قلمي الصغير، مهيأ كبندقية"وليس من قبيل الصدفة أن هذه المختارات لأفضل القصائد لثلاثة عقود بدأت بكلمة "بين"، لأن هيني كان شاعر "الما-بين" (كما قالت صديقته هيلين فيندلر)، هو الذي يكتب في مساحة بين الشمال والجنوب، بين الكاثوليكية والبروتستانتية، بين أيرلندا وإنجلترا وأمريكا، بين الشعر الموزون والحر، بين العام والخاص، بين الواقعية والرمزية، بين الكلام الواضح والمُحَمَّل "كل شق داخله معدن"، بينما يوازن أيضا جدية موضوعاته بمرح وتعالي اللغة الشعرية. كما قال هيني: "الفكرة هي أن تُحَلِّق تحت وفوق وفيما وراء نُظُم الرادار".يجب أن يظل الشاعر "منفتحا" بأي ثمن، يختبر بقدر الإمكان جانبي أي جدال ــ سواء كان جانب الحكومة، أو جانب الحبيب، أو جانب الذات. وبالتالي ليس مفاجئا أن كتاب "الأرض المفتوحة" ينتهي بكلمة "منفتح" لأن هذا هو الشرط الضروري لأي شاعر عظيم وأصيل. ولكن "كيف تكون مسئول اجتماعيا وحر إبداعيا، بينما تظل صادقا بالنسبة للبراهين السلبية للتاريخ؟" هذا هو السؤال الذي كان هيني يحاول دوما أن يجيب عليه بينما يكتب أشعارا ذات جمال استطيقي ويحوّل خشونة التجارب الإنسانية إلي هارمونيات معقدة.ولكن يا له من يوم حزين لأن هيني هرب منا وهو الآن ينتمي للأدب. عنوان كتابه "الأرض المفتوحة" يجعلنا نشعر بحزن خاص.كما قالت ماريان مور: "القوي التي ظهرت في شعره هي العاطفة غير المكبوتة، الفرح، الحزن، اليأس، الانتصار". موضوعات هيني كانت: ما هو الوفاء؟ ما هو المنفي؟ ما هو الصواب؟ ما هو الحب؟ وكيف يمكننا إدارة مشاعرنا؟ هذه موضوعات تشغلنا جميعا. وعلي الرغم من أنه عاش في أيرلندا المنقسمة مع الدبابات والجنود وغير ذلك من أشكال التفسخ، إلا أنني لم أسمعه قط وهو يزعم أنه يعيش حالة الضحية.أعتقد أن هيني شاعر أخلاقي، لأنه مهتم جدا بالخصائص التحولية للشعر الذي يعزي ويعلم ويدعم، هو كان يؤمن بأنه بإمكان الكتابة أن تغير الأشياء، كما حدث في قصة بالعهد الجديد حيث كتب يسوع علي الرمل وحول نظر الحشد من رجم امرأة قبض عليها وهي تزني. إنها كتابة يسوع علي الأرض بإصبعه هي ما حولت نظر الحشد الغاضب، وكما قال هيني: "إنها لفتت الانتباه عن هوس اللحظة". كان يعتقد أن الشعر يمكنه أن يحقق هذا.كرجل، كان هيني شاعرا ذو كرامة كبيرة. أقول هذا كزميله السباق وكشاعر من جيل أصغر، يبحث عن طرق ليجد مكانا في العالم الأدبي. عندما رأيته بعد حصوله علي نوبل بوقت قصير، رفض تماما أن يستخدم الكلمة التي تبدأ بحرف "ن" (نوبل) كما كان يطلق عليها، عندما كان يحكي لي قصة وجوده في اليونان في رحلة بالسيارة مع زوجته راجت أخبار إعلان الجائزة التي تبدأ بحرف الـ "ن". لم تصل إليه الكلمة حتي اتصل بابنه الاتصال الروتيني وصاح فيه الابن: "انا فخور جدا بك يا أبي". عندما كان هيني طالبا بجامعة كوين، كان اسمه المستعار انكيرتوس التي تعني باللاتينية "المتشكك" وبقدر ما أستطيع القول لقد جعلته جائزة نوبل أكثر تواضعا.بالنسبة لي عنوان كتاب هيني "الأرض المفتوحة" يشير أيضا لشيء فيه بحث واستخراج، وكأنه متعلق بقبر. إنه يكشف رجل يرفض أن يكون عاطفيا وهو يحفر ويستخرج الحقائق من روحه ومن العالم. عندما أقرأ قصيدة لهيني أتذكر "المقدمة" لووردسوورث عندما كان يبحث من جانب القارب علي مياه ساكنة، يعزي نفسه وهو يري بريق صورته مختلط بالحصي والجذور والصخور والسماء. الزمن، والتاريخ، والفكر، والذات مختلطين بطريقة جذابة ذ بالضبط كما هو الحال في أفضل أشعار هيني، الذي بعدما قام بالحفر قام بالإنبات والإثمار .
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق