لا يراه الكثير
مايكل عادل
"حد يموت قبل اليوم ده يا إمام؟ حد يموت قبل ما يشوف العيال دي يا إمام؟ تعالي غنّيلهم هلّي يا شمس البشاير، تعالي غنّيلهم بهيّة يا إمام"
قالها يوم 11 فبراير 2011 بعد انتهاء بيان تنحّي حسني مبارك عن الحكم بعد 18 يوم من الثورة الشعبية في 25 يناير، ثم بكي العم "نجم" وهو من لم يعتد البكاء سواء بين جدران السجن أو في الحوش ولا في أحلك أوقات الفقر والتعب اللذان كانا ضريبة رأيه و"فاجوميّته" وهجومه الدائم علي السلطة.
في الحقيقة فإن حكايات أحمد فؤاد نجم وقصصه مع السلطة والمعتقل ومنافقي الحكّام وشعره المقاوم، هي قصص معروفة للجميع ولا تحتاج للسرد، بل إن حصره في هذا الإطار إعلامياً كان جزء من مسلسل الظلم الذي تعرض له هذا الرجل طيلة حياته.
فالعم "نجم"، والذي اعتدنا علي مناداته بـ"أبو النجوم"، يمكنه أن يحدّثك في أمورٍ عدّة، يمكنه أن يحدّثك في الحب، في الغَزَل، في الجمال، في الفلسفة، في التاريخ، في المجتمع، عن المرأة، عن الأسرة، عن التربية، عن الحياة، وعن الموت.
و"نجم" الوطني الثوري سليط اللسان هذا، وبقدر قسوته علي الحكّام، يمتلك بنفس القدر حب للجنس البشري وللحياة، وبقدر كتاباته المقاومة هناك كتاباته الرقيقة التي قد لا يعلم عنها الكثيرون. فمن كتب "إنشالله يخربها مداين عبد الجبّار" بعد نكسة 67 ملقياً باللوم علي جمال عبد الناصر، هو من كتب "عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت" في رثاء نفس الرجل، ومن كتب "هات وشّك خدلك تفّه" هو من كتب "إن كان أمل العشّاق القرب، أنا أملي في حبّك هو الحب".
ويبدو أن الرجل كان دائماً في حالة حيرة وصراع بين طاقة حب هائلة، وطاقة رفض ونفور من السلطة وأتباعها، وقد تجلّت هذه الحالة حينما فاض به الكيل وقت القبض عليه من بيته أمام زوجته في يومهم الأول للزواج وكتب قصيدته "بلدي وحبيبتي"، القصيدة التي سارت علي خطّين متوازيين أحدهما سياسي والآخر عاطفي، لتبدأ بـ"الغرام في الدم سارح، والهوي طارح معزّة"، مروراً بـ "النهاردة يا ملاكي جُم زاروني جوز تنابلة ونص دستة من التيران"، نهاية بـ "أصله شاف صورتين جُمال في العيون الطيّبين، مصر في العين الشمال وانتي في العين اليمين". القصيدة التي تحمل من طاقة الحب ما جعلها بداية لقصة حب حين ألقيتها أمام تلك الجميلة التي قابلتها صدفة وأحببتها صدفة علي كلمات هذا الرجل، ومن المؤكد أنها ليست القصة الوحيدة التي بدأت بهذه الطريقة علي هذه الكلمات، فما بيني وبين هذا الرجل ليس فقط صداقة أو تلمذة، فما لا يعرفه هو أنني مدينٌ له بقصة حب رائعة.
قابلت "نجم" للمرّة الأولي قبل قيام الثورة، قابلته في محراب الثقافة والفن الذي أصبح فيما بعد بيت الثورة المصرية، دار "ميريت" للنشر وفي حضرة الأب الروحي لمثقّفي وفنّاني جيلي "محمد هاشم"، تحدثنا عن كل شيء، عن الموسيقي والسياسة والوطن، عن ثورة قادمة، وعن وطن مسروق، عن حلم قرر نجم أن يحيا ليراه، وعن شباب لا يطيق صبراً ليري لحياته معني. ودار بيننا حديث جانبيّ عن المرأة، عن مواطن جمالها، عن لمستها التي تضيف دائماً الجديد والجميل للأشياء.
حدّثني نجم عن المرأة الشرقية التي أسماها "مريم"، قال إن كل مرأة في الشرق تحمل بداخلها "مريم" تلك الفتاة التي فوجئت في عز شبابها بأنها تحمل علي يديها طفلاُ مطارداً من الجميع، فحمته بمنتهي القوّة، وحضنته بمنتهي الحب، وتوجّهت به إلي مصر بمنتهي الذكاء.
قال نجم فيما قال أنه يكاد يري في عين كل امرأة فلسطينية لمعة "مريم" التي تدرك أن الحل في مصر، والأمان في مصر، والخلاص في قلب ابنها يبدأ من مصر.
الكلمات السابقة ربّما هي أكثر كلمات حفظتها وأتذكرها جيداً بنبرة الصوت نفسه ولا أعتقد أنها قابلة للنسيان، ولم يسمعها غيري يومها.
وبعد قيام الثورة ونجاح موجتها الأولي في إزاحة نظام مبارك والحزب الوطني، كتب نجم عدة مقالات وتحدث فيها عن جيل من الشعراء قد تسلّم الراية ومضي نحو الحلم ليستكمل تحقيقه، وقد جاء ذكري في مقالين منهم في إعلان منه عن منحه الحلم لجيل جديد ربما رأي فيه ما يمكّنه من استكمال المسيرة، وكانت هذه جائزتي التي تذكّرتها قبل أن أكتب شهادتي.
في قصيدته بعنوان "الليل ملّاح" يمكنك أن تري نجم الذي لا تعرفه، بعيداً عن الشغب والصخب والسياسة والمقاومة والشد والجذب، يمكنك فيها أن تعلم الكثير عن ما بداخله من ألم وصراع وبهجة وحزن وخوف وتعاطف من خلال مشاهد يعلن من خلالها خلاصة رؤيته لحياته الحافلة حين يقول :
هتقوللي بتشكي أومّال من إيه؟
ولا من أوجاع
ولا شوق لمتاع
ده انا عمري ان ضاع
مش هبكي عليه
أبداً يا طبيب"
هذا هو نجم لمن لا يعرفه، هذا هو "أبو النجوم" الشقي الحالم المشاغب سليط اللسان، وهذا هو ما يفكّر فيه قبل أن يخلد إلي النوم ليصفّي حساباته مع الأيام ومع نفسه.
سفير الفقراء
إبراهيم عبد الفتاح
الفلاح الفصيح شاعر الثورات العربية سفير الفقراء أبو النجوم أحمد فؤاد نجم ذلك الحضور القوي والملهم أكبر من كل الجوائز وأكثر قيمة من هبة أو منحة أو تقدير فقد منحته الشعوب العربية جائزته المفضلة والخالدة حين خزنته في ضمائرها معولاً لهدم مؤسسات القمع والقهر والمصادرة ومعبراً عن الفرح والحنين والمجد ومحفزاً علي مواصلة الحياة مهما اعترضت الأحجار طرقها هو المنشد والشاعر والفيلسوف والحكيم وبوصلة التاريخ بقدرته المتفردة في استلهام السيرة والأسطورة الإنسانية بمختلف ثقافاتها فتشكلت في روحه هذه العجينة الحضارية التي تتماس وتتماهي مع القدرة والإرادة وتجاوز الألم والإخفاق فلم يترك مجالاً إلا وكان رائداً فيه من الأغنية إلي القصيدة إلي المقال وهو الحكاء الساحر الذي يمزج الواقع بالخيال بحسه الساخر وهو جبرتي العصر بما وثقه من تاريخ لن يقوي أحد علي تزيفه
من حوش قدم نغمات طالعة
كان بيته البسيط وجهتنا وكعبتنا وقبلة عشاق الوطن من كل صوب حيث لاباباً لتطرقه فبيته مفتوح مثل قلبه للجميع تقابلك ابتسامته الودودة فتحملك من علي الأرض وتحلق بك في سماء من الدهشة والألفة ونغمات سميه وشقيق روحه تبصرك بمفهوم الوطن وهي تتسلطن فتسلطن الحاضرين بمقام البهجة حين تنتقد وحين تمتدح فكأنك تشاهد التاريخ وهو يكتب للتو بل وتشارك فيه حين تردد مقطعاً وراءه وسرعان مايفاجئك طالباً منك أن تقرأ قصيدة فتفعل وأنت تراقب انفعالاته بما تقول مهما كان بسيطاً فقد دربتك رحابته علي جرأة القول ومن ثم التعبير عن روحك بصدق وشفافية فلم تكن جلسته مجرد تسلية بالوقت بقدر ماكانت مدرسة بل جامعة تخرج منها عشرات الموهبين في شتي المجالات
فأي جائزة تلك التي نبارك له بها والأولي ان نبارك للجائزة إذا أدركته ولعلها إحالة تنسحب علي المتشددين الذين ينظرون لكل مايكتب بالعامية علي أنه دون المستوي وظني أن شعراء كثر يمكنهم الحصول علي أعلي الجوائز العالمية لو أن نصوصهم ترجمت إلي لغات العالم المختلفة لكن علينا أن نكرمهم في وطنهم أولاً بالاهتمام بما يكتبون وتقديره يالشكل المناسب ولا أجد ختاماً لهذه الكلمة الموجزة سوي مقطع من أغنية كتبها أبو النجوم :
آمشير علي نجعنا والريح بتصفر صفر
كل الدروب صفصفت مافي حدا في الكفر
غيرك ياعود الزان
ياطرحة الأحزان
قلبي عليك انشعف
وانا قلبي ده خزان
فيه الرفاقة العزاز بستان وضليلة
ونصل خنجر خيانة غوط في ذات ليلة
وفيه صبايا حلالك ياواحد العيلة
خايفين عليك تنكسر
ونجدد الإحزان
عم نجم شكرا علي الصدفة السعيدة
رامى يحيى
بعد ما تحمست أني أكتب عن عم نجم لقيت نفسي مزنوق أكتب منين، إيه اللي ممكن أكتبه عنه ويبقي مش مجرد إعادة لكلام كتير أنكتب عنه، وفي النهاية قررت أكتب عن علاقة عم نجم ببداياتي المختلفة في الحياة، واللي كان الفاجومي دايمًا ضالع أساسي فيها بشكل مباشر أو غير مباشر.
علاقتي بالشِعر كانت عن طريق المسرح، كنت كل ما أقرا مسرحية لكاتب عالمي أعرف أنه شاعر، وطبعًا علي أيامي لم يكن الله قد خلق الأنترنت، فكان المواطن بيوصل للمعلومة عن طريق الأتوبيس مش "جوجل"، فكان الوقت في المكتبة له تمنه وماينفعشي أضيعه بعيد عن رفوف المسرح.
وفضلت ماعرفشي عن الشعراء غير أساميهم وبعض الأبيات اللي باسمعها أخر السهرة في برنامج تليفزيوني قديم غالبا كان الغرض منه الصد عن طريق الشِعر.
وفي يوم اشتريت ديوان شِعر من علي سور الأزبكية لأسم من الأسماء اللي معروفة جدًا واللي كتبهم بتبيع بغزارة، بس بصراحة ماقدرتش أكمل الكتاب نهائي، وبقيت كل ما أفتحه اسمع في الخلفية موسيقي الاسانسيرات اللي كنت باسمعها في البرنامج أياه.
استمرت علاقتي بالمسرح وتريقتي علي الشِعر كفكرة "عن جهالة"، في ليلة سهران عند صديق بنشتغل علي مسرحية سوا، وقعت في أيدي أجندة بتاعته فقال أن فيها قصايد له، طبعا قعدت أتريق عليه وعلي الشِعر والشعر مستندًا علي موسيقي الأسانسيرات، فما كان منه إلا أنه صارحني بجهلي، وخرج من مكتبته كتابين كبار، واحد الأعمال الكاملة لأحمد فؤاد نجم والتاني الأعمال الكاملة لأمل دنقل، قصيدة من هنا علي قصيدة من هنا فبهت الذي كفر، وبعد ما بُهِت وتيقنت أني أنا اللي كنت باروح عند راس الشِعر وأشمها، بقيت من جمهور الشِعر.
كمان في بداية تعاملي مع الشارع السياسي من بوابة "الاشتراكيين الثوريين" كان الغذاء الأساسي للكادر حديث التجنيد هي أغاني الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسي، ومع أحتكاكي بباقي الفصائل السياسية في مصر لاحظت أن كل الفصائل تقريبًا بتسمع هذا الثنائي الوطني، مع بعض التحفظات عند الزملاء الليبراليين اللي بينتقوا الأغاني الوطنية فقط وبيبتعدوا عن الأغاني اللي بيناصر فيها الفقراء، وطبعًا عمري ما قابلت أي إخوانجي بيسمع أي حاجة
لدرجة شككتني أن ماعندهمشي ودان.
البداية التالتة كانت بداية كتابتي للشِعر، واللي اتطورت معايا لدرجة أني أتجرأت وجمعت ديوان وقدمته لمحمد هاشم، وكانت النتيجة لقاء مباشر مع عم نجم، كنت مخضوض بقي وحاجات من دي وزادت الخضة إلي توتر لما لقيت أني هاقرا له من شغلي، ودي كانت أول مرة أعرف فيها أن الشتيمة بتكون دليل علي الإعجاب مش العكس.
بدايات كتير في حياتي كان عم نجم ركن أساسي فيها، وأهم بداية فيهم بالنسبة ليا هي بداية كسر مفهومي عن الشاعر، من يوم ما أتعرفت علي الشِعر وأنا عارف أن الشاعر هو لسان المثقفين للحديث مع العامة والبسطاء، وكل الشعراء اللي قريت لهم أكدوا لي الفكرة دي أو ماقربوش منها أساسًا.
بس بعد فترة أنتبهت لتفصيلة غايبة عني في شغل عم نجم، وهي أنه لعب الدور العكسي، فقدر يكون لسان البسطاء في وسط مجتمع المثقفين، ودي كانت بداية تغيير نظرتي للشِعر من بابه، شكرًا يا عمنا علي كل البدايات دي.. اللي أنت قصدتها واللي حصلت بالصدفة.
حديث قليل عن أشياء كثيرة
عبد الرحيم طايع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق