ترجمة : محمد عبد النبى
|
|
تُعد كُتب الكوميك ظاهرة
عالمية مرتبطة بفترة المراهقة. ويبدو أنها تُوجد في جميع اللغات
والثقافات من الشرق إلي الغرب. ومن ناحية موضوعاتها فهي تتنوع في طيفٍ
واسع ما بين الملهم والخيالي والعاطفي والساذج؛ وجميعها مع ذلك من السهل
قراءته، وتداوله، وتخزينه والتخلي عنه كذلك. الكثير من كتب الكوميك،
علي غرار آستريكس وتان تان، هي سلسلة مغامرات لا تنقطع بالنسبة للنشء
الذي يقرأها في إخلاص شهراً بعد شهر؛ وهذه المغامرات المسلسلة، مثل
الاثنتين اللتين ذكرتُهما، تكتسب بمرور الزمن حياةً خاصة بها،
بشخصياتها المتواترة، وأوضاع الحبكة الخاصة بها، وعباراتها المميزة،
مما يجعل من قرائها، سواءً في مصر أو الهند أو كندا، نوعاً من
النادي الخاص يعرفُ كل عضو من أعضائه مجموعة كاملة من الأسماء
والافتراضات ويمكنه الاستشهاد بها. أظن أن أغلب البالغين يربطون كتب
الكوميك بما هو طائش وسريع الزوال، وهناك افتراض يقول بأنه مع تقدمنا في
العمر ننصرف عنها إلي نشاطات أكثر جدية، فيما عدا بعض الحالات النادرة
(كما في حالة رواية Maus لمبدع كتب الكوميك آرت سبيجلمان) عندما
يعالج فنان كوميك جاد موضوعاً جاداً وكئيباً إلي حد أنه يُفضّل
السكوت عنه. ولكن كما سنري سريعاً، تعد تلك حالات نادرة للغاية في
الحقيقة، لأن المطلوب عندئذٍ قبل أي شيء هو موهبة من الطراز الأول.
لا أذكر متي قرأتُ أول كتاب كوميك في
حياتي، ولكني أذكر تماماً إلي أي حد شعرتُ بالتحرر والتمرد نتيجة
قراءتي له. كل مزايا الكتاب المغوي بصوره الملونة، وعلي الأخص تصميمه
الفوضوي غير المهندم، والبذخ الصاخب والمفعم بالألوان لصوره،
والانتقال الطليق ما بين ما تفكر به الشخصيات وما تقوله، والشخصيات
العجائبية ومغامراتها المدهشة مكتوبةً ومرسومة: كل هذا معاً يكافئ
إثارة هائلة الروعة، مغايرة تماماً لكل ما عرفته أو خبرته حتي تلك
اللحظة. في أسرتي العربية البروتسنتية بما في هذا من تنافر، وكذلك في
نظام التعليم في الشرق الأوسط الكولونيالي خلال فترة ما بعد الحرب
العالمية الثانية كان الاعتماد الأساسي علي قراءة الكتب والاجتهاد
الأكاديمي. فقد كان كل شيء تحت الهيمنة المتواصلة للرصانة والحزم.
وبالطبع لم تكن تلك أيام التليفزيون أو وسائل التسلية العديدة المتاحة
بسهولة. كان الراديو هو صلتنا بالعالم الخارجي، وبما أن أفلام هوليود
كانت لا مهرب منها، وبطريقةٍ ما خطره أخلاقياً فقد خضعنا لنظام
الفيلم الواحد كل أسبوع، بعد أن يمر برقابة والديّ، حيث يتم الحكم عليه
بمعايير غير معلنة (لنا) باعتباره مقبولاً وبالتالي ليس سيئاً
بالنسبة للأطفال.
قبل أن أتم الثالثة عشر
تماماً، التحقت بالمدرسة الثانوية بعد سقوط فلسطين في 1948. ومثل
جميع أعضاء أسرتي، ذكوراً وإناثاً، ألحقتُ بالمدارس البريطانية،
والتي يبدو أنها كانت تقتدي بنموذج نظيراتها من المدارس في رواية أيام
تلمذة توم براون (كتبها البريطاني توماس هيوز عام 1857 عن معاناة
طالب مدرسة داخلية) وكذلك ما قرأته من شهادات وأخبار عن مدارس مثل إيتون
وهارو وراجبي، التي التقطها من بين قراءاتي التي لا تتعفف عن التهام كل
ما تجد من كتب إنجليزية فقط تقريباً. في هذا المحيط من الامبريالية
المتأخرة لعالم متصارعٍ بشدة وبين طلابٍ أغلبهم من العرب والشرقيين،
ومعلمين بريطانيين، في بلاد ذات أغلبية مسلمة هي نفسها تخضع لتغيّر
عنيف، وحيث المناهج الدراسية معتمدة علي شهادة مدرسة أوكسفورد أو
كامبريدج (أو كما كانت يسمي في تلك الأيام دبلوم الثانوية الإنجليزية
المعيارية)، وسط كل هذا بزغ الاقتحامُ المفاجئ لكتب الكوميك
الأمريكية مثل إعصار صغير، وعلي الفور منعها كلٌ من الأهل ومسئولي
المدرسة. وفي ظرف ساعات وجدتني أطفو ــ بطريقةٍ غير شرعية - مع
طوفان من مغامرات سوبرمان وطرزان وكابتن مارفل والمرأة العجيبة، مغامرات
أجفلت عقلي وحولته بالطبع عن الأشياء الأكثر خشونةً وكآبة التي كان ينبغي
أن أنكبّ عليها.
حين حاولتُ أن أفهم
السر وراء الحظر المفروض علي هذا العالم الجديد الممتع والذي بدا مدعوماً
بقوة في البيت لم أصل إلي أي شيء بالمرة مع والدي العنيدين فيما عدا أن
كتب الكوميكس تتعارض مع العمل الدراسي للمرء. قضيتُ سنوات في محاولة
إعادة تركيب المنطق وراء هذا الحظر وتوصلتُ مع الوقت أن الحظر قد أدرك
إدراكاً دقيقاً (وبالطبع أكثر مما أدركتُ أنا حينذاك) ما تقوم به
كتب الكوميك علي خير وجه وبأسلوبٍ فريد. قبل كل شيء كان هناك أشياء من
قبيل اللغة الدارجة والعنف اللذين يشوّشان الهدوء المزعوم للعملية
التعليمية. وثانياً، وربما الأمر الأهم رغم عدم التصريح به، انطلاق
صباي البكر المكبوت جنسياً علي أيدي شخصيات فاضحة (بعضها مثل شينا
الأدغال، التي ترتدي ثياباً ضيّقة ومثيرة) تلك الشخصيات التي تفعل
وتقول أشياءً لا يقبلها العقل ولا الإمكانية لا المنطق، أو لأنها،
وربما هذه النقطة أكثر حسماً، تتعدي علي القواعد التقليدية للأمور
قواعد السلوك، والتفكير، وكذلك القواعد الاجتماعية المقبولة. تتلاعب
كتب الكوميك بمنطق أ+ب+ج+د وهي بلا شك تشجع المرء علي ألّا يفكر كما
يتوقع منه المعلم أو كما تُلزمه مادة كالتاريخ مثلاً. أتذكر بكل وضوح
إحساسي بالنشوة العارمة بينما أهرّب خفية نسخة من الكابتن مارفل في
حقيبتي المدرسية وأقرأها اختلاساً في الباص أو تحت الأغطية بالفراش أو في
الطرف البعيد من الفصل. علاوةً علي ذلك، تقدم كتب الكوميك للمرء
مقاربة واضحة ومباشرة (المزج ما بين الكلمات والصور علي نحوٍ جذاب
ومُضخّم بالمعني الحرفي) مقاربة بدت صادقة صدقاً منيعاً من ناحية،
ومن ناحية أخري قريبة وحميمة بقدر مدهش، ومقتحمة ومؤثرة كذلك. لازلتُ
بطريقةٍ أو بأخري مفتوناً بمحاولة فك هذه الشفرة، بدت كتب الكوميك
في تميزها العنيد عن الفنون الأخري بدرجات بعيدة ــ لنقل مثلاً أفلام
الكارتون أو رسوم الكاريكاتير، اللذين ما لم أهتم بأيٍ منهما ذ بدت ما
لا يمكن أن يقال بأسلوبٍ آخر، وربما ما لم يكن مسموحاً بقوله أو
تخيله، بحيث تتحدي العمليات المعتادة للتفكير، تلك التي تخضع لانضباط
وتشكيل وإعادة تشكيل جميع أنواع الضغوط التربوية إلي جانب الإيديولوجية.
لم أكن أعلم شيئاً من هذا كله حينذاك ولكنني شعرتُ أن كتب الكوميك
حررتني بحيث أفكر وأتخيل وأري بطريقة مختلفة تماماً.
> > >
لننتقل
الآن إلي العقد الأخير من القرن العشرين. بصفتي أمريكياً من أصل
فلسطيني، وجدتُ نفسي متورطاً بالضرورة في معركة حق تقرير المصير
الفلسطيني وحقوق الإنسان. ورغم معوقات المسافة والمرض والمنفي، صار
دوري هو الدفاع عن هذه القضية الأشد صعوبة، وكذلك الدفاع عن أبعادها
المخفية عمداً ورسم صورة لهذه الأبعاد كتابةً وتحدثاً أمام
الجمهور، ومحاولاً طوال الوقت أن أتابع استكشاف تاريخنا كشعب في أماكن
مثل عمّان وبيروت، ثم أخيراً علي الحقيقة في الضفة الغربية وغزة، حين
صار بمقدوري أن أعود إلي فلسطين في عام 1992 للمرة الأولي منذ أن
غادرت أسرتي القدس في 1947.
حين بدأت
جهودي هذه بعد حرب يونيو 1967 كانت حتي كلمة »فلسطين« يكاد يكون من
المستحيل استخدامها في الخطاب العام. أذكر رؤية لافتات مرفوعة أمام
قاعات النقاش والمحاضرات حول فلسطين تصرخ:»ليس هناك فلسطين« وفي
1969 أطلقت جولدا مائير تصريحها الشهير قائلةً إن فلسطين لا وجود
لها. القسم الكبير من عملي ككاتب ومحاضر انشغل بدحض كل ما نال تاريخنا من
تحريف ومسخ ونزع الصبغة الإنسانية عنه، محاولاً في الوقت نفسه أن أعطي
الحكاية الفلسطينية حضوراً وشكلاً إنسانياً، تلك الحكاية التي محاها
بكل كفاءة الإعلام وجحافل المجادلين الخصوم.
بدون
أي تحذير أو استعداد مسبق، وقبل عشر سنوات أحضر ابني الصغير إلي البيت
كتاب الكوميك الأول لجو ساكو عن فلسطين. ولما كنتُ منقطع الصلة عن عالم
القراءة الحيوية لكتب الكوميكس، وعن شرائها ومقايضتها، فلم تكن لديّ
أي فكرة عن وجود جو ساكو وعالمه الخلاب. استعدتُ مباشرةً صلتي بعالم
الانتفاضة الأولي العظيمة (1987 ــ 1992)، كما عدتُ بتأثر
أعظم شأناً إلي عالم الحيوي والمنعش للكوميكس التي كنتُ أقرأها قبل زمن
بعيد. كانت صدمة الاستعادة مزدوجة، فقد صدر من كتب ساكو عن فلسطين
حوالي العشرة كتب، جُمعت الآن كلها في مجلد واحد وهو ما أتمني أن يجعلها
متاحة علي نطاقٍ واسع ليس فقط للقارئ الأمريكي ولكن علي نطاق العالم
كله، وكنت كلما مضيت مسلوب الإرادة في قراءتها زاد اقتناعي أن أمامي هنا
عملاً سياسياً وجمالياً يتمتع بأصالة نادر المثال، لا نظير له في
السجالات
الملتوية التواءً لا شفاء منه ذات البلاغة الطنانة والتي تورط فيها
الفلسطينيون والإسرائيليون وأنصار كلٍ من الجانبين.
وبما أننا
نعيشُ أيضاً في عالم غارق في الميديا حيث يتحكم في الغالبية الهائلة
من صور الأخبار العالمية وينشرها حفنة قليلة من الرجال المستقرين في أماكن
مثل لندن ونيويورك، فها هو ترياق رائع تزودنا به سلسلة من كتب صور وكلمات
الكوميكس، مرسومة بخطوط واثقة، وأحياناً مؤكّدة علي طريقة فن
الجروتسك ومُضخّمة لكي تناسب المواقف المتطرفة التي تصوّرها. في عالم جو
ساكو لا وجود للمذيعين والمحاورين معسولي اللسان، لا وجود للحكايات
المداهنة عن الانتصارات الإسرائيلية، والديمقراطية، والإنجازات، ولا
وجود للصور المفترضة والمؤكدة المرة بعد الأخري للفلسطينيين بوصفهم رماة
حجارة، وممانعين (رافضين للسلام والتطبيع)، وبوصفهم أشراراً
أصوليين هدفهم الأساسي هو تصعيب الأمور علي الإسرائيليين المضطهدين محبي
السلام. ما نراه هنا بالمقابل من خلال عيني وشخصية رجل شاب أمريكي متواضع
المظهر بشعر قصير يحب السفر إلي كل مكان، يظهر أن جولاته تقوده إلي
عالم غير مألوف وعدواني، عالمٍ من الاحتلال العسكري والاعتقال
العشوائي، والخبرات الخانقة من هدم منازل ومصادرة أراضي وتعذي (ضغوط
بدنية معتدلة) ونظام ذو قوة غاشمة يستخدمها بقسوة وسخاء وبوتيرةٍ
يومية إن لم يكن كل بضعة ساعات ضد الفلسطينيين الذين يعيشون تحت رحمته
(مثلاً: جندي إسرائيلي يرفض السماح للناس بالمرور من أحد حواجز الطرق
المؤدية إلي الضفة الغربية بسبب، كما يقول كاشفاً عن أسنان هائلة
ومُهددة، هذه، أي بندقيته الإم-16 التي يلوّح بها).
ليس هناك
عمود فقري واضح، لا خط طريق يمكن تمييزه في اللقاءات الساخرة لجو
ساكو بالفلسطينيين تحت الاحتلال، ولا محاولة للتخفيف من وطأة وجود هو في
الجزء الأغلب منه وجود هش ومتوتر يقوم علي انعدم اليقين، والبؤس
الجماعي، والحرمان، وخصوصاً في الأجزاء الخاصة بغزة، حياة التجول
علي غير هدي في نطاق حدود المكان غير مريحٍ أو مُرحّب، التجوال ومن
قبله ومن بعده الانتظار، والانتظار، والانتظار. باستثناء واحد أو
اثنين من الروائيين والشعراء، لم يستطع أحد أن يقدم الحالة الرهيبة
للأمور خيراً من جو ساكو. ولا شك في أن صوره نابضة بالحياة أكثر من أي
شيء يمكنك قراءته أو رؤيته علي شاشة التليفزيون. بصحبة صديقه المصور
الصحافي الياباني سابورو (الذي يبدو كأنه ضاع تماماً عند نقطةٍ
ما)، جو هو حضورٌ يقظ ينصت ويراقب، متشكك أحياناً، وضجر وملول
أحياناً، ولكنه أغلب الوقت متعاطف ومرح، كما حين يلاحظ أن كوب الشاي
الفلسطيني غالباً ما يكون غارقاً في السكّر، أو كيف يجتمع
الفلسطينيون عن طيب خاطر لتبادل حكايات الهول والمعاناة، كمما يقارن
صيادو السمك بين حجم صيدهم أو كما يقارن صيادو البرية بين براعة وتسلل
فرائسهم.
> > >
نطاق الشخصيات المعروضة في الحكايات
العديدة المجموعة هنا يتسم بتنوع رائع، بمقدرة رائعة لرسّام كوميك علي
التقاط التفاصيل الموحية، شارب منحوت هنا، أسنان أكبر من اللازم،
وبدلة رثة هناك، ينجح ساكو في مواصلة هذا كله ببراعة فنية يعوزها الحرص
تقريباً. كما أن الإيقاع المتمهل وغياب الهدف لجولاته يؤكدان علي أنه
ليس صحافياً يبحث عن موضوع ولا دارس يحاول أن يثبّت الحقائق في مواضعها
من أجل إنتاج بحث سياسي. ذهب جو إلي هناك ليكون في فلسطين ــ وذلك فقط
لأنه لا يستطيع إلا أن يقضي الوقت المتاح له هناك، وإلّا فالهدف النهائي
أن يعيش حياة الفلسطينيين التي كُتب عليهم أن يعيشوها. ومع الوضع في
الاعتبار حقائق السلطة وتماهي ساكو مع الطرف المستضعف، فإن الإسرائيليين
في كتابه مرسومين بصبغة تشككية ساخرة لا تخطئها العين، إن لم يكن بإساءة
ظن علي الدوام. فغالباً هم رموز لقوة غاشمة وسلطة مشبوهة. لا أشير
هنا فقط إلي الشخصيات المنفرة بوضوح مقل العديد من الجنود والمستوطنين
الذين يواصلون الظهور المفاجئ لإقلاق عيشة الفلسطينيين وتحويلها عمداً
إلي عبء غير محتمل، ولكن ــ خصوصاً في إحدي الحكايات - حتي هؤلاء
من يسمون دعاة السلام ممن يناصرون حقوق الفلسطينيين يظهرون مراوغين،
ومترددين للغاية، وأخيراً غير فاعلين بما يكفي ليكونوا أيضاً
أهدافاً للسخرية المتسمة بخيبة الرجاء.
ذهب جو إلي هناك ليكتشف ما
سبب كون الأشياء علي ما هي عليه ولماذا بدا الطريق مسدوداً طوال كل ذلك
الوقت. إنه ينجذب إلي المكان جزئياً بسبب خلفية أسرته في مالطا خلال
الحرب العالمية الثانية (نعلم هذا من كتاب كوميك سابق له عجيب بدرجة
استثنائية وهو War Junkie ، وجزئياً لأن العالم ما بعد الحداثي سهل
المتناول بالنسبة للشاب الأمريكي ذو الفضول، وجزئياً لأن مثل مارلو
شخصية جوزيف كونراد منجذب إلي الأماكن المنسية والأشخاص المنسيين من
العالم، هؤلاء الذين لا يظهرون علي شاشات تليفزيوناتنا، وإذا وجدوا
سبيلهم إليه يتم تصويرهم عادةً كهامش لا أهمية له، أو حتي جدير
بالإهمال بما أنه يبدو مستحيلاً التخلص التام من قيمهم المزعجة، شأن
الفلسطينيين. ودون أن يفقد هذا الكتاب مقدرة الكوميك الفريدة علي نقل
عالم سوريالي فهو حيوي وبالقدر نفسه عنيف عنفاً آسراً بطريقته الخاصة
كرؤيا شاعر للأشياء، فإن جو ساكو يستطيع أيضاً ودون مباهاة أن ينقل
قدراً عظيماً من المعلومات، ومن السياق الإنساني والأحداث التاريخية
التي قلّصت الفلسطينيين إلي المعني الراهن لهم وهو العجز الراكد، علي
الرغم من عملية السلام وعلي الرغم من البريق اللزج الذي يضفيه علي الأمور
أساساً كلٌ من الزعماء المنافقين، وصانعي السياسات وخبراء
الإعلام.
في أي موضع من الكتاب، لم يقترب ساكو إلي هذا الحد من
الواقع المعيش الحي للفلسطيني العادي كما فعل في تصوير الحياة في غز،
الجحيم الوطني. فراغ الوقت، بلادة إن لم نقل دناءة الحياة اليومية
في مخيمات اللاجئين، وشبكة العاملين في الإغاثة، والأمهات الثكالي،
والشباب العاطلين عن العمل، والمعلمون، والشرطة، والطفيليون،
وحلقات احتساء الشاي والقهوة المتواصلة في كل موضع، معني الحبس، الوحل
الدائم والقبح الذي يرسمه مشهد مخيم اللاجئين والذي أضحي أيقونة دالة علي
التجربة الفلسطينية بكاملها: كل ذلك مُقدّم بدقة مفزعة وللمفارقة برقةٍ
وهوادة في الحين نفسه. وجو الشخصية موجود هناك متعاطفاً لكي يفهم ولكي
يحاول أن يختبر بنفسه لماذا تمثّل غزة مكاناً من أشد الأماكن
ازدحاماً لدرجة ميؤوس منها ومع ذلك تمثل فضاء بلا جذور للفلسطينيين الذين
انتزعت بيوتهم وأراضيهم، ليس هذا وحسب بل أيضاً لكي يؤكد أنها موجودة
هناك، ولا بدّ من التعامل معها بصيغة إنسانية، في تتابع الحكايات
التي يمكن لأي قارئ أن يتماهي معها.
وهكذا فإذا انتبهتَ سوف تلاحظ
العرض المدقق للأجيال، كيف يتحدد الأطفال والبالغون خياراتهم ويعيشون
حياتهم الهزيلة، البعض يتحدث والبعض يبقي صامتاً، وكيف يرتدون الكنزات
الصوفية الرثة، والسترات مختلفة الأشكال، والكوفيات الفلسطينية
»الحطة« الدافئة لحياة مرتجلة، علي هامش وطنهم الذي صاروا بداخله هم
المخلوقات الأشد حزناً وعجزاً وإثارة للتناقض، غرباءً غير مرحب
بهم. يمكنك أن تري هذا كله بمعني ما من خلال عيني جو بينما يتحرك بينهم
ويتلكأ هنا وهناك، منتهباً، ودوداً، مراعياً، ساخراً، وهكذا فإن
شهادته البصرية تصير هو نفسه، هو مقدماً من خلال الكوميكس، من خلال
أعمق أفعال الدعم والتعاضد. وقبل هذا كله، فإن سلسلته الخاصة بغزة تُحي
وتؤكد ثلاث شهادات بارزة أخري أتت من قبله، لثلاث كاتبات كتبن عن الأمر
بصورة لا يمكن نسيانها (إحداهن إسرائيلية، والثانية أمريكية ـ يهودية،
والثالثة أمريكية لم يكن لها أي صلة سابقة بالشرق الأوسط): أميرة هاس،
المراسلة الشجاعة لصحيفة هآرتس والتي عاشت في غزة وكتبت عنها علي مدي
أربعة أعوام، وسارة روي، التي كتبت دراسة شديدة الوضوح والحسم حول
تراجع وانهيار تنمية الاقتصاد في غزة، وجلوريا إيمرسن، الروائية
والصحافية صاحبة الجوائز التي وهبت عاماً من عمرها لتعيش بين أهل غزة.
> > >
لكن في نهاية الأمر ما يميّز جو ساكو كمصوّر
للحياة في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو أنه اهتمامه الحقيقي ينصب علي
ضحايا التاريخ. فلتتذكر أغلب كتب الكوميكس التي نقرأها وكيف تنتهي كلها
تقريباً بانتصار شخص ما، انتصار الخير علي الشر، أو كيف يمحو العدلُ
الظلم، أو حتي بزواج العاشقين. يتم التخلص من الأشرار علي يد
السوبرمان ولا نعود نراهم أو نسمع عنهم. يحبط طرزان مخططات الرجال البيض
الأشرار ويشحنهم خارج إفريقيا مُذلين. لكن فلسطين ساكو لا تمضي علي هذا
النمط بالمرة. فإن الناس الذين يعيش بينهم هم خاسري التاريخ، مبعدين
إلي الهوامش حيث يبدون كأنهم يضيّعون الوقت في يأس، بدون كثير من الأمل
أو التنظيم، عدا رغبتهم في البقاء التي لا تتزحزح، رغبتهم المضمرة
غالباً في المواصلة، واستعدادهم للتشبث بحكايتهم وإعادة حكيها مراراً
وتكراراً، ومقاومة مخططات التخلص التام منهم. بذكاء وفطنة، يبدو
ساكو شكّاكاً حيال القتال، وخصوصاً ذلك النوع الجماعي الذي ينفجر
بالشعارات والتلويح بالرايات اللفظية. كما أنه لا يحاول أن يقدم حلولاً
من النوع المثير للسخرية لعملية سلام أوسلو. غير أن الكوميكس الخاصة به
تزود قرائه بإقامة طويلة بما فيه الكفاية بين شعب تم إهمال معاناته
ومصيره غير العادل لوقتٍ أطول من اللازم وبقدر أقل من اللازم من
الاهتمام السياسي والإنساني. إن فن جو ساكو لديه القدرة علي أسرنا،
وإبعادنا عن الشرود بنفاد صبر بحثاً عن عبارة لافتة أو حكاية متوقعة
بصورة تعيسة عن الانتصار والتحقق. ولعلّ هذا أعظم إنجازاته.
نص المقدمة التي كتبها إدوارد سعيد لرواية »فلسطين« المصورة لجو ساكو..
والتي تصدر ترجمتها قريبا
عن »دار التنوير« في مصر وبيروت.
منقول من موقع أخبار الأدب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق