الاثنين، 13 أغسطس 2012

سبعة دراويش ... نديم‮ ‬غورسيل

ترجمة : أحمد عثمان

هنا فصول من كتاب للكاتب التركي الشهير المقيم بباريس نديم جورسيل‮ " ‬سبع دراويش‮"‬،‮ ‬نص طويل تأملي استكشافي‮  ‬حول الطرق الصوفيّة في‮ ‬بلاد الأناضول تتبع فيه تسلسلها،‮ ‬وشيوخها،‮ ‬والفروقات فيما بينها‮. ‬كل ذلك فعله بعين المراقب المحايد المندهشة،‮ ‬وبعقل الباحث الملتذّ‮ ‬بما‮ ‬يتكشف له‮.‬

النص الذي‮ ‬يصدر قريبا عن دار أزمنة الأردنية‮ ‬يتميز بخصوصيّة وجِدة وتاريخية الموضوع قيد المعالجة،‮ ‬

وقد كتب جورسيل المولود‮ ‬1951‮ ‬مقدمة خاصة للطبعة العربية اعتبر فيها التصوف بمثابة رحلة‮: "‬يمثّل هذا الاكتشاف للعالم الصوفي‮ ‬والشعري،‮ ‬الذي‮ ‬يمكننا التعرف عليه عبر نصّي‮ ‬الذي‮ ‬يتبدّي كرحلة ذات مرجعية وثائقية متماسكة ومتنوعة،‮ ‬نوعاً‮ ‬من الرؤية‮. ‬وهكذا،‮ ‬وبتحرير انطباعاتي‮ ‬وددتُ‮ ‬أن أتقاسم مع القارئ شيئاً‮ ‬من الحساسية دون أن أهمل الأبحاث التي‮ ‬عرفَت نجاحاً‮ ‬كبيراً‮ ‬في‮ ‬تركيا،‮ ‬وبالتحديد لدي قطاع‮ ‬كبير مَعنيٌّ‮ ‬بالنقاش الذي‮ ‬يجري‮ ‬حالياً‮ ‬حول التوفيقية العَلَويّة ـ البكتاشيّة‮."‬

ليلة في بورصة


‮   "‬غاب النور عن وجهك،‮ ‬تعال،‮ ‬سأقودك الي أمير سلطان‮"‬،‮ ‬قال‮. ‬كانت الساعة تجاوزت الثانية عشرة ليلا‮. ‬وكان اقترب مني‮ ‬في‮ ‬عتمة المدينة القديمة ببورصة،‮ ‬في‮ ‬بادئ الأمر طلب مني‮ ‬بعض المال،‮ ‬ثم شيئا من المخدرات،‮ ‬وعندما لم‮ ‬يحصل علي هذا أو ذاك،‮ ‬تطلع الي‮ ‬للحظة ومط شفتيه اشمئزازا كأنه‮ ‬ينتظر شيئا مني‮. ‬لا‮ ‬يستطيع الوقوف ثابتا‮. ‬كأنه شرب كثيرا‮. ‬هل كان تحت تأثير الكحول أو المخدرات ؟‮ "‬نوري‮ ‬في‮ ‬دواخلي،‮ ‬يا صغيري،‮ ‬أجابني،‮ ‬أنا ممتلئ بالحب‮. ‬لا تثق في‮ ‬نور الوجوه،‮ ‬أنه خداع‮". ‬هذه الكلمات ليست كلماتي،‮ ‬وانما مستلة من قصة لسعيد فايق‮ (‬1‮) ‬الذي‮ ‬درس في‮ ‬ثانوية بورصة‮. ‬بيد أن الشاب لم‮ ‬يجبني‮ "‬حقا‮" ‬؟،‮ ‬كان مندهشا،‮ ‬كما في‮ ‬قصة‮ "‬عاشق اليهودية‮"‬،‮ ‬ولم أحك له أنني‮ ‬كنت عاشقا‮ ‬يائسا‮. ‬مثل المعلم سعيد فايق،‮ ‬أعرف جيدا أنه من الصعب الكشف عن جانب مثل السقوط ولكن عن التحية في‮ ‬الارتقاء‮. ‬والشاب،‮ ‬نفسه،‮ ‬واحد من الذين‮ ‬ينفر الارتقاء منهم‮. ‬

‮  ‬أمضيت‮ ‬يومي‮ ‬أتسكع في‮ ‬الضواحي‮ ‬غير الخضراء كليا لبورصة الخضراء،‮ ‬متوقفا أمام قبور الأولياء،‮ ‬بادئا بقبر سومونغو بابا‮("‬أب أرغفة الخبز‮")‬،‮ ‬في‮ ‬غرف النساك الضيقة التي‮ ‬تطل علي الشوارع المقفرة،‮ ‬وراقدا في‮ ‬ظل أشجار الحور العتيقة‮. ‬هل وجدت السلام أو الصفاء ؟ لا أعتقد‮. ‬بالنسبة لي،‮ ‬كلمة‮ "‬صفاء‮" ‬لا تعني‮ ‬شيئا‮. ‬في‮ ‬حياتي،‮ ‬لا مكان له‮. ‬يجده البعض في‮ ‬الخبز الذي‮ ‬يخبزه سومونجو بابا في‮ ‬أفران مطلية بالصلصال،‮ ‬خبز ساخن،‮ ‬ناعم كما القطن،‮ ‬وفي‮ ‬لقاء الدراويش ذوي‮ ‬القلوب الكبيرة الذين اكتفوا‮ "‬بلقمة ومزقة قماش‮"‬،‮ ‬بينما راح آخرون‮ ‬يبحثون عنه في‮ ‬الشراب‮. ‬أنا،‮ ‬طفت كثيرا،‮ ‬ولكني‮ ‬لم أشمئز من الحياة‮. ‬أري الي أن الحياة جميلة،‮ ‬ذوقي‮ ‬وجلدي‮ ‬يطلبان المزيد باستمرار،‮ ‬وان كان سوط اللذة‮ ‬يتغير شكله،‮ ‬أريد دوما المزيد،‮ ‬دوما أكثر،‮ ‬وهذا سوف‮ ‬يدوم حتي‮ ... ‬لا أحب هذه الكلمة،‮ ‬ولكن نعم،‮ ‬هذا سوف‮ ‬يدوم حتي الموت‮. ‬أو لنقل بالأحري حتي الشبع،‮ ‬كأنه من الممكن أن أشبع‮.‬

‮   ‬لم‮ ‬يأت سومونغو بابا الي العالم كي‮ ‬يشبع،‮ ‬وانما لكي‮ ‬يطعم الآخرين‮. ‬كان‮ ‬يريد أن‮ ‬يكون هذا العالم،‮ ‬عالم الشدائد،‮ ‬هذه الحياة القصيرة،‮ ‬مرسي السلام،‮ ‬ساحة هادئة في‮ ‬ظلال أشجار الحور العتيقة‮. ‬اسمه الحقيقي‮ ‬شيخ حميد ولي،‮  ‬وقبل أن‮ ‬يصبح‮ "‬خبازا‮"‬،‮ ‬غادر قيصرية،‮ ‬بلد مولده،‮ ‬كي‮ ‬يتجه الي منحدرات آرغييس،‮ ‬ثم دمشق وتبريز‮. ‬وانتهي الي القدوم الي أردبيل حيث لاقي كوجا علاء الدين،‮ ‬حفيد الشيخ صفي‮ ‬الدين اسحق.هناك،‮ ‬كان بين‮ ‬يدين طيبتين،‮ ‬تم عجنه بعناية،‮ ‬كما العجينة،‮ ‬وتطهيره حتي أصبح مريدا صالحا‮. ‬حينما تم تكوينه،‮ ‬وأخذ الاذن من شيخه،‮ ‬جاب الطرق واجتاز الآناضول من الشرق الي الغرب‮. ‬ولما بلغ‮ ‬بورصة واستقر في‮ ‬الحي‮ ‬الذي‮ ‬يحمل اسمه اليوم،‮ ‬بدون أن‮ ‬يكشف عن شخصيته،‮ ‬بدأ‮ ‬يوزع هذا الخبز الشهي‮ ‬علي الفقراء والذين أطلقوا عليه اكمكشي‮ ‬كوجا‮ (‬رجل الخبز‮) ‬وسومونغو بابا‮. ‬لم‮ ‬يقم بالتدريس في‮ ‬المدرسة مثل بعض الورعين المعروفين بصورة سيئة،‮ ‬وانما ظل بعيدا عن السراي‮ ‬والرجال النافذين وأمضي وقته في‮ ‬الصلاة والتأمل‮. ‬ظل مستترا،‮ ‬لا‮ ‬يلتمس أية مساعدة من النافذين و‮- ‬بينما كان‮ ‬يعد معلما عظيما وعلامة حقيقيا‮- ‬اكتفي بتوزيع خبزه علي الناس‮. ‬حتي جاء‮ ‬يوم طلب منه أمير سلطان أن‮ ‬يلقي‮ ‬خطبة في‮ ‬افتتاح أولو جامي‮ (‬المسجد الكبير‮). ‬علي مدي الحفل،‮ ‬الذي‮ ‬دار في‮ ‬حضور بايزيد الصاعقة،‮ ‬تحت الأنظار المذهولة للحشد المجتمع،‮ ‬حلل سومونجو سبعة أسرار في‮ ‬الفاتحة،‮ ‬ثم أدي صلاته،‮ ‬وتوجه للمرة الأخيرة الي الله تحت شجرة الحور الكبيرة المسماة‮ "‬شجرة حور الصلاة‮"‬،‮ ‬وقد بان سره،‮ ‬غادر بورصة ولم‮ ‬يرجع اليها قط‮. ‬تابع حياته كزاهد في‮ ‬السهوب،‮ ‬في‮ ‬تكية قريبة من آق سراي‮. ‬درويش عجوز ذو لحية بيضاء،‮ ‬بعد ارتحالاته،‮ ‬عاش هناك حتي سن التسعين‮.‬


‮   ‬دوما أحياء،‮ ‬لا نموت

‮   ‬لا نبقي في‮ ‬العتمة

‮   ‬لا نتعفن في‮ ‬الأرض

‮   ‬جاهلين الليالي‮ ‬والنهارات


‮   ‬قالها في‮ ‬رباعية،‮ ‬واعظا الفانين من التمتع بثمرات الأرض قبل أن‮ ‬يتعفنوا في‮ ‬داخلها‮. ‬

‮   ‬بمعني ما جاءني‮ ‬أن أخلط بين النهار والليل،‮ ‬وانما لأسباب أخري‮. ‬كنت الي حد ما أشبه طالب الثانوي‮ ‬في‮ ‬احدي قصص سعيد فايق الذي‮ ‬لم‮ ‬يستطع أن‮ ‬يهبط من أعالي‮ ‬ستباشي‮. ‬تسلقت منحدرات أولوباغ،‮ ‬ولكنه سمح لي‮ ‬برؤية المشهد الذي‮ ‬يمتد أسفل قدمي‮ ‬بصورة جيدة‮. ‬اذا توجهت ببصري‮ ‬ناحيته،‮ ‬لن أراه،‮ ‬واذا رأيته،‮ ‬سوف أشعر أنني‮ ‬عنصر من عناصر المشهد وسوف أسقط في‮ ‬الفراغ‮.‬

‮   ‬لم أكف عن التفكير فيما قاله سعيد فايق،‮ ‬في‮ (‬قصته‮) " ‬قصة كهذه‮"‬،‮ ‬بصدد ما جري وقتما كان طالبا بليسيه بورصة‮. "‬لا تفعل هكذا‮ ‬يا بني‮. ‬من السهل الهبوط‮. ‬أي‮ ‬شخص سيتكفل بك‮. ‬ولكن بعد ذاك،‮ ‬لن تجد مخرجا‮"‬،‮ ‬هذه الجملة ترن كصافرة انذار لدي من‮ ‬يضلون،‮ ‬من‮ ‬يلجأون الي الشراب أو المخدرات ويبحثون في‮ ‬الجنة المصطنعة عن وسيلة للهرب من الواقع‮.‬

‮   ‬في‮ ‬هذه الليلة،‮ ‬قبل أن أقابل هذا الشاب الذي‮ ‬سألني‮ ‬ان كان معي‮ ‬ثقاب ثم استجدي مني‮ ‬بعض المال والمخدرات،‮ ‬ولجت الفندق بعد سهرة أمضيتها في‮ ‬الشراب،‮ ‬غير أنني‮ ‬لم أستطع النوم،‮ ‬ولذا خرجت ثانية أتسكع في‮ ‬الشوارع الأثرية الملتوية لبورصة العتيقة‮. ‬أ ليست الحياة شارعا طويلا مائلا للانحدار ؟ شارع‮ ‬يرتفع دوما‮. ‬نعم،‮ ‬كما الحب،‮ ‬الحياة متاهة من الشوارع المنحدرة نضيع فيها‮. ‬يتبدي لي‮ ‬أنني‮ ‬لم أملك شيئا لكي‮ ‬أمنحه الي هذا الشاب‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬كان معي‮ ‬ثقاب،‮ ‬غير أنه لي‮. ‬بهذا الثقاب لن أستطيع أن أشعل سيجارته،‮ ‬واذا استطعت،‮ ‬لن‮ ‬يتحصل علي أية نشوة‮. ‬المخدر الوحيد الذي‮ ‬أعرفه،‮ ‬ويحقق فضولي‮ ‬وأبحث عنه كما الحب بلا أمل،‮ ‬المخدر الذي‮ ‬أثار نشوتي‮ ‬هو الأولياء‮. ‬الأحجية التي‮ ‬بررها الله‮. ‬كما‮ ‬يقال في‮ ‬المخطوطات القديمة ذات الصفحات التي‮ ‬استهلمها الزمن‮. ‬قرأت في‮ ‬المكتبات،‮ ‬جالسا في‮ ‬ركن منها‮. ‬تصفحت بشراهة الكتب التي‮ ‬تبدأ بهذه الكلمات‮ : "‬يرجو الشيخ من الله أن‮ ‬يحفظ سره‮"‬،‮ ‬كتيبات،‮ ‬سير،‮ ‬حيث الصفحات المغبرة تكشف بما تبقي منها عن مفاخر رجال الله،‮ ‬وأنسي أين أنا،‮ ‬حتي أنني‮ ‬أنسي الوقت نفسه‮. ‬الزمن والفضاء اللذان‮ ‬يأتيان متزامنين،‮ ‬كنشوة عاشقة موزعة‮. ‬في‮ ‬هذا المجال،‮ ‬علي أي‮ ‬حال،‮ ‬لم تثبط بورصة همتي‮. ‬طوال اليوم،‮ ‬زرت أضرحة الأولياء،‮ ‬الأماكن المنعزلة التي‮ ‬انسابت حياة النساك في‮ ‬جوف أشجار الحور العملاقة المتصبة في‮ ‬أرجائها،‮ ‬وكنت أشعر أنني‮ ‬علي علاقة بهم‮. ‬تأخر الليل عن الهبوط،‮ ‬النهار طويل،‮ ‬الحياة طويلة،‮ ‬الطريق طويلة‮. ‬فقط اللذة قصيرة،‮ ‬تنحرق بومضة،‮ ‬كنار القش،‮ ‬وتنطفئ سريعا‮.‬

‮   ‬لم‮ ‬يكن هذا سر سومونغو بابا،‮ ‬من اللازم أن أعترف،‮ ‬الذي‮ ‬قادني‮ ‬الي أمير سلطان،‮ ‬وليس أكثر من قطتين جائلتين قرب الفرن لا تستعملان مجرفة الخباز‮. ‬أنه الشاب الذي‮ ‬لاقيته في‮ ‬الشارع،‮ ‬والذي‮ ‬أصبح فيما بعد صديقي،‮ ‬الذي‮ ‬صحبني‮ ‬اليه‮. ‬وبالأحري،‮ ‬كنت أنا من صحبه اليه‮. ‬كما قلت،‮ ‬لا‮ ‬يستطع الوقوف ثابتا‮. ‬بحثا عن سيارة أجرة،‮ ‬هبط معي‮ ‬نحو مرادية‮. ‬تعلق بذراعي‮. ‬في‮ ‬البداية،‮ ‬أزعجتني‮ ‬الي حد ما هذه التلقائية‮. ‬غير أنني‮ ‬اعتدت علي هذه المشية المترنحة وشعرت بمودة نحوه‮. ‬بينما ننتظر سيارة الأجرة،‮ ‬متأبطين،‮ ‬كانت أنوار المدينة تلمع تحت أقدامنا‮. ‬أنوار البيوت مطفأة،‮ ‬والناس نائمون‮. ‬بيد أنني‮ ‬تمكنت من رؤية مأذنتي‮ ‬المسجد الكبير منيرتين،‮ ‬القباب المتكورة في‮ ‬مكانها بين أسوار كوزاخان الحجرية و،‮ ‬من بعيد،‮ ‬ينبثق‮ (‬ضريح‮) ‬أمير سلطان قبالة التربة الخضراء‮ (‬2‮) ‬كمياه مائلة الي الزرقة تجري‮ ‬بين أشجار السرو‮.‬


‮   ‬في‮ ‬هذه الساعة الليلية،‮ ‬كان الضريح مغلقا‮. ‬والمسجد أيضا‮. ‬هبطنا الدرج ومارين بين عمودين،‮ ‬ولجنا الساحة الرحبة‮. ‬جلست قرب النبع علي كتل من المرمر الذي‮ ‬يحيط بالحوض‮. ‬لا نتبادل الكلام‮. ‬غطست‮ ‬يدي‮ ‬في‮ ‬المياه وشعرت ببرودة لطيفة،‮ ‬فرح لا‮ ‬يوصف،‮ ‬راحة عذبة،‮ ‬تملكتني‮ ‬الرغبة في‮ ‬النوم‮. ‬في‮ ‬المقبرة،‮ ‬أشجار السرو تندي،‮ ‬المآذن الحجرية المشذبة لا تنغرز في‮ ‬جلدي،‮ ‬لا تجرحني‮. ‬وهكذا نسيت وجود الشاب،‮ ‬الحب الشهواني‮ ‬والمسخ الذي‮ ‬يسكنني‮ ‬ويلتمس بشراهة وبدون انقطاع المتع الجديدة‮. ‬في‮ ‬الساحة المحاطة بالقاعات المفتوحة،‮ ‬انتظرت حفل أشجار جوديه‮. ‬في‮ ‬مطلع النهار،‮ ‬حينما تتفتح أزهار هذه الأشجار،‮ ‬سيتوافد دراويش أمير سلطان نحوها‮. ‬مرتدين ملابسا من الصوف،‮ ‬مع قشرة الجوز التي‮ ‬تتدلي من أعناقهم،‮ ‬ينتشرون في‮ ‬الساحة كحبات المسبحة ويجثون‮. ‬قبل أن‮ ‬يشرعوا في‮ ‬ذكر أسماء الله،‮ ‬ربما سينفخون في‮ ‬ناياتهم،‮ ‬ويصطفون في‮ ‬دائرة،‮ ‬يصيحون أو‮ ‬يسبحون‮. ‬ربما انتهي بعضهم من قضاء الأربعين‮ ‬يوما من أيام الاعتكاف،‮ ‬آخرون،‮ ‬مثل‮ ‬يونس امره،‮ ‬يذكرون ليلا ونهارا فضل الله‮. ‬اعتقدت أنني‮ ‬سأسمع هذه الأبيات الشهيرة ليونس عن بورصة،‮ ‬التي‮ ‬تحتفي‮ ‬بقدوم الربيع وفرحة الدراويش بيقظة الطبيعة‮ :‬


‮   ‬دراويش أمير سلكان

‮   ‬يمدحون الله

‮   ‬أنهم عصافير البهجة

‮   ‬في‮ ‬ضريح أمير سلطان


‮   ‬غير أن الدراويش لم‮ ‬يكونوا،‮ ‬هم فقط،‮ ‬من‮ ‬يترددون علي ضريح أمير سلطان‮. ‬نهارات السوق،‮ ‬جمع قادم من القري المجاورة‮ ‬يملأ الشوارع،‮ ‬ينتشر علي المنحدرات ويجتاح المقبرة‮. ‬رهبان مسيحيون هبطوا من أديرة أولوداغ،‮ ‬خارجين من مغاراتهم أو من أشجارهم الجوفاء‮. ‬الأرض التي‮ ‬أنشأت تلتهب،‮ ‬المياه المتدفقة،‮ ‬الأشجار الزاهية والأزهار ذات الألوان العديدة،‮ ‬الأزرق،‮ ‬الأحمر،‮ ‬الوردي،‮ ‬أشجار جوديه،‮ ‬التي‮ ‬تزهر قبل الأوراق،‮ ‬كانت في‮ ‬حالة من النشوة‮. ‬ظهر أمير سلطان‮. ‬كان‮ ‬يعتمر عمامة خضراء من اثنتي عشرة لفة،‮ ‬يرتدي‮ ‬معطفا أسود طويلا ويحمل عصا من خشب الورد‮. ‬جبته من صوف الآنغورا،‮ ‬الناعم واللامع،‮ ‬جديرة بمكانته‮. ‬الزنار الذي‮ ‬تقلده في‮ ‬ذكري قمبر،‮ ‬الوفي‮ ‬لعلي،‮ ‬يتدلي من وسطه،‮ ‬حجر الخضوع المعلق في‮ ‬رقبته‮ ‬يتأرجح مع كل خطوة‮ . ‬يعبر عن معاناة نسيمي،‮ ‬منصور الحلاج،‮ ‬اللذين لم‮ ‬يرجعا عن طريقهما الحقيقي،‮ ‬وعن رحلة كافة‮ ‬الصوفيين المنزوين في‮ ‬صوامع الذين عقدوا أجسادهم في‮ ‬حبهم لله الواحد‮. ‬يري علي وجهه الجميل النور الذي‮ ‬يتلألأ علي ذرية النبي‮ ‬وفي‮ ‬نظرته سلام من أدركوا هدفهم‮. ‬اذ أنه،‮ ‬بدون موافقة السلطان،‮ ‬تزوج خوندي‮ ‬خاتون وأصبح صهر بايزيد‮. ‬أنه من منح حماه لقب‮ "‬الصاعقة‮" ‬وأنه من قلده السيف قبل رحيله الي الريف‮. ‬وقد رآه البعض أيضا،‮ ‬رفقه دراويشه،‮ ‬تحت أسوار القسطنطينية،‮ ‬مسلحا بسيف خشبي‮. ‬بفضل معجزاته،‮ ‬نجح بايزيد من دحر الجيوش الصليبية في‮ ‬نيغبولو‮. ‬الآن،‮ ‬أنه واثق من نفسه،‮ ‬ويعرف بمدي حب السلطان له وتمتعه بتقديره السامي،‮ ‬غير أنه ظل بعيدا عن مكائد السراي‮ ‬وسباق السلطة‮. ‬قبل البدء في‮ ‬ذكر أسماء الله لأجل حفل أشجار جوديه،‮ ‬يمشي‮ ‬مائة خطوة في‮ ‬ساحة الضريح‮. ‬يري بخاري حيث ولد وكبر،‮ ‬النزل البسيطة في‮ ‬المدينة التي‮ ‬أقام فيها لما زار قبر النبي،‮ ‬الأركان التي‮ ‬تكور فيها كي‮ ‬ينام حينما احتاج الي المال،‮ ‬الشوارع المغبرة اللا نهائية،‮ ‬الأشجار المنزوية وسط السهوب،‮ ‬الشمس المتأججة في‮ ‬سماء الصحراء،‮ ‬النجوم المعلقة أعلي الفراغ‮ ‬في‮ ‬الليالي‮ ‬الباردة‮. ‬حتي اللحظة التي‮ ‬بلغ‮ ‬فيها بورصة،‮ ‬انزوي كي‮ ‬يحيا في‮ ‬بينارباشي،‮ ‬كان دوما معتزا بنفسه،‮ ‬بدون مساعدة ولا نصيحة‮.‬

‮   ‬وددت أن أقول له،‮ ‬بكلمات‮ ‬يونس‮ : "‬أمير سلطان،‮ ‬يا من ارتديت الأخضر،‮ ‬السلام عليك‮!". ‬ظلت‮ ‬يدي‮ ‬في‮ ‬مياه النبع حيث رحت أشعر بالطلاوة تنتشر في‮ ‬أوردتي‮. ‬كنت كمن تطهر من الكحول الذي‮ ‬احتسيته بكميات متلاحقة مع الوجبة‮. ‬كانت روحي‮ ‬متفتحة،‮ ‬بالاضافة الي تخيل حفل أشجار جوديه،‮ ‬تصورت الاحتفالات الربيعية التي‮ ‬كانت تدور عصر أمير سلطان‮. ‬وفجأة فهمت لماذا كان رفيقي‮ ‬عند المنبع أراد أن‮ ‬يقودني‮ ‬الي أمير سلطان‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬فكر،‮ ‬هو أيضا،‮ ‬في‮ ‬معجزة حققها الولي‮ ‬الذي‮ ‬ارتدي الأخضر في‮ ‬روح الهلال الأخضر‮.‬

‮   ‬وعد بايزيد الصاعقة أن‮ ‬يبني‮ ‬عشرين مسجدا اذا انتصر في‮ ‬معركة نيغبولو‮. ‬في‮ ‬غد‮ ‬يوم انتصاره،‮ ‬وبالعودة الي بورصة،‮ ‬بدأ العمل‮. ‬اعترض أمير سلطان علي هذا القرار‮. ‬اقترح علي سلطانه أن‮ ‬يبني‮ ‬مسجدا واحدا ذا عشرين قبة بدلا من قبة واحدة‮.  ‬وهكذا شيد بايزيد أولو‮ ‬غامي،‮ ‬المسجد الكبير‮. ‬وحينما انتهي العمل في‮ ‬البناء،‮ ‬سأل السلطان أمير سلطان،‮ ‬ان كان هناك شئ ما ناقص،‮ ‬أجابه‮ :‬

‮   - ‬كل شئ جميل وكل شئ في‮ ‬موضعه،‮ ‬يا سيدي‮. ‬لا‮ ‬يتبقي سوي النزل‮.‬

‮   ‬تخيلوا ذهول السلطان‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬لم‮ ‬يكن فاقد الحس قبالة النقد الذي‮ ‬وجهه الي صهره‮.‬

‮   - ‬ماذا تريد أن تقوله ؟ لسنا في‮ ‬بيت لحم‮ ! ‬ما فائدة نزل في‮ ‬بيت الله ؟

‮   - ‬أنه نتاج خلق الله‮. ‬أنهم عمالك،‮ ‬حرفيوك ومعماريوك الذين أنشأوا هذا المسجد الكبير‮. ‬مثلما خلقك الله،‮ ‬جسدك نتاج‮ ‬يديه‮. ‬اذا لم تكن تخشي،‮ ‬منكبا علي الشراب،‮ ‬أن تحول هذا البيت لحم،‮ ‬والذي‮ ‬هو جسدك،‮ ‬الي نزل،‮ ‬لماذا أنت خائف من ادخال الشراب الي هذا المسجد ؟

‮   ‬بعد هذه الموعظة،‮ ‬كما قيل،‮ ‬تاب بايزيد ولم‮ ‬يقترب أبدا من الشراب‮. ‬لا أعرف ان كانت هذه الحكاية صحيحة‮. ‬أفسر،‮ ‬بطريقتي،‮ ‬المصادر القديمة‮.‬

2006،‮ ‬بورصة


هوامش الفصل السادس‮ :‬

‮( ‬1‮ ) ‬سعيد فايق‮ )‬1906‮-‬1954‮ (‬،‮ ‬قاص وشاعر تركي‮ ‬شهير‮.(‬المترجم‮)‬

‮( ‬2‮ ) ‬التربة الخضراء،‮ ‬ضريح السلطان العثماني‮ ‬محمد الأول في‮ ‬بورصة،‮ ‬وسميت كذلك لأنها مغطاة بقطع الخزف الخضراء‮.‬


رؤية قونية


‮   ‬في‮ ‬اليوم التالي‮ ‬من وصولي‮ ‬قونية،‮ ‬كان من المتوقع حدوث خسوف القمر‮ - ‬كان الأول واضحا في‮ ‬كل مكان منذ ألفي‮ ‬عام،‮ ‬حسب الصحف‮. ‬وسيظهر ظل كوكبنا مرتميا علي القمر في‮ ‬السماء الصافية والشفافة لسهولنا‮. ‬بلا أي‮ ‬زخرف في‮ ‬وضوح القمر،‮ ‬ولا أصغر سحابة،‮ ‬ولا أدني نجمة،‮ ‬كانت السماء نقية،‮ ‬كثيفة بصورة مذهلة‮.‬

‮   ‬فجأة،‮ ‬بدأ القمر‮ ‬يتعتم‮. ‬حينئذ،‮ ‬سمعت،‮ ‬من بعيد،‮ ‬فرقعات،‮ ‬قعقعات الصفائح والأواني،‮ ‬صافرات السيارات وصيحات النساء‮. ‬هكذا،‮ ‬في‮ ‬قونية،‮ ‬كما في‮ ‬كافة مدن الآناضول،‮ ‬تمت تحية الخسوف بالصخب‮. ‬من اللازم القول أن قونية احدي أكبر المدن المزدهرة في‮ ‬تركيا‮. ‬لا‮ ‬يري المرء فيها الا الشوارع المغطاة بالأسفلت،‮ ‬المناطق الصناعية،‮ ‬البنايات الجماعية،‮ ‬وحتي ناطحات السماء‮. ‬يرفع المرور المنظم رأس البلدية،‮ ‬وقد أهدت بلدية كولونيا المدينة مركبات ترام من ثلاث دواوين‮. ‬هذه المركبات تربط جبل علاء الدين بالضواحي،‮ ‬غير أن المدينة لا تمتلك مطارا‮. ‬سأكذب اذا قلت أنني‮ ‬نسيت أن أتكلم عن المدرج الذي‮ ‬ينبسط في‮ ‬وضوح القمر حينما هبطت طائرة شركتنا الوطنية التي‮ ‬حملتنا علي أرض القاعدة العسكرية،‮ ‬مرآب الطائرات وحاملو الحقائب‮ ‬يهرولون وسط الحراس المدججين بالسلاح‮. ‬وبعد ذاك،‮ ‬في‮ ‬اللحظة التي‮ ‬اتجهنا فيها الي باصات البلدية التي‮ ‬تنتظرنا كي‮ ‬تحملنا الي المدينة،‮ ‬خسف القمر‮. ‬كيف أنسي قطع الخزف الخضراء للقباب والامتداد المخروطي‮ ‬للمنارات التي‮ ‬تنتصب نحو السماء ؟ لنستشهد بأكبر متصوفينا وأكبر شعراءنا المتأججين،‮ ‬جلال الدين الرومي،‮ ‬بقول آخر مولانا‮ :‬


‮   ‬شمس،‮ ‬كالهلال والبدر،

‮ ‬‮  ‬تعالي،‮ ‬بلا جناحين ولا ذراعين،

‮       ‬وعاودي‮ ‬مسيرتك الكونية‮.‬

لم أنم طوال الليل‮. ‬خرجت من الفندق،‮ ‬المبني‮ ‬بالضبط قبالة ضريح مولانا،‮ ‬كي‮ ‬أتسكع في‮ ‬الشوارع الخالية‮. ‬مررت أمام المسجد وارتكنت علي باب ضريح الشيخ المقام حسبما أمر سليم الثاني،‮ ‬ابن القانوني،‮ ‬سليمان العظيم،‮ ‬بينما كان وريثا للعرش‮. (‬في‮ ‬حلقة تلفازية،‮ ‬أطلقت علي هذا السلطان‮ "‬سليم السكير‮"‬،‮ ‬مما أثار حفيظة بعض المشاهدين،‮ ‬بيد أنه من الواجب عدم نسيان أن سليم،‮ ‬المصور علي منمنة وفي‮ ‬يده كأسا من الخمر،‮ ‬مات في‮ ‬الحمام،‮ ‬بسبب نزيف مخي،‮ ‬في‮ ‬ليلة سكر‮ !). ‬تخلص القمر من ظل كوكبنا ولمع من جديد‮. ‬من النافذة ذات القضبان الحديدية المفتوحة في‮ ‬الحائط الحجري،‮ ‬رأيت الساحة‮. ‬مياه الحوض تسيل في‮ ‬جداول الينابيع المرمرية‮. ‬في‮ ‬الماضي،‮ ‬كانت هذه المياه تنبجس من أفواه أسود حجرية وكانوا‮ ‬يقيمون احتفالاتهم الليلية حول هذا الحوض‮.‬

‮   ‬أحاول أن أصور الدراويش‮ ‬يدخلون،‮ ‬الواحد بعد الآخر،‮ ‬الي الساحة كي‮ ‬يرقصون رقصتهم الطقسية،‮ ‬السيما‮  (‬1‮) ‬بقلنسواتهم الكستنائية اللون،‮ ‬وأجسادهم المثنية في‮ ‬معاطف بيضاء،‮ ‬كأنهم قادمين من عالم آخر‮. ‬كان الشيخ،‮ ‬ذو القلنسوة التي‮ ‬لف عمامة بيضاء عليها،‮ ‬يمشي‮ ‬خلف الآخرين‮. ‬أخذ الراقصون أماكنهم في‮ ‬ساحة الصومعة‮. ‬الصمت‮ ‬يلف المكان‮. ‬لا‮ ‬يسمع أحد حتي همهمة النجوم التي‮ ‬تذوب في‮ ‬وضوح القمر‮. ‬تربع الشيخ،‮ ‬باسطا جلد خروف تحت القباب الرصاصية،‮ ‬والدراويش‮ ‬يحيطونه وهم‮ ‬يتلون الأدعية‮. ‬وهكذا بدأ لحن مرتجل علي الناي‮ ‬الذي‮ ‬يثير رجفة الليل‮. ‬النغم،‮ ‬العتيق جدا،‮ ‬القادم من بعيد،‮ ‬ينسال عبر السنوات والقرون ويغسلكم،‮ ‬يطهركم كما المياه النقية‮.‬

‮   ‬رددت في‮ ‬نفسي‮ ‬البيتين الأولين من المثنوي،‮ ‬البيتين الأولين من ستة وثلاثين التي‮ ‬نسخها مولانا وأعطاها لحسام الدين جلبي‮ ( ‬2‮) ‬ذات ليلة،‮ ‬ربما كان قمرها‮ ‬ينير كما هذه الليلة هذه الساحة الحجرية والمياه تملأ الجداول المرمرية‮ :‬


‮   ‬أسمع شكوي الناي‮ ‬الطويلة

‮   ‬دوما‮ ‬ينتحب علي الهجران‮.‬


‮   ‬انتزع الناي‮ ‬من قصب،‮ ‬ولهذا‮ ‬ينوح،‮ ‬مثلما‮ ‬ينوح انسان انتزع من رحمة الله‮. ‬يحترقان رغبة ويؤوبان الي جذورهما،‮ ‬يلاقياها،‮ ‬يذوبان فيها،‮ ‬ينسخان فيها،‮ ‬يتلاشيان في‮ ‬الذات الحقيقية‮.‬


‮ ‬‮  ‬من،‮ ‬اذا،‮ ‬فصل روحك عن الحقيقة ؟

‮   ‬تنتظر لحظة الاتحاد‮.‬


مثل موتي بعثوا من نغم الناي،‮ ‬خلع الدراويش معاطفهم وأنشأوا‮ ‬يرقصون،‮ ‬ملابسهم ذات الأكمام الطويلة بلا رقبة ومقورة علي الصدر وقمصانهم الفضفاضة تشبه الكفن،‮ ‬يدورون بسرعة علي أنغام الناي،‮ ‬الطبلة والربابة،‮ ‬ويتفتحون في‮ ‬ساحة الضريح كزهور النيلوفر البيضاء‮. ‬يتوسط الشيخ دائرتهم،‮ ‬علي جلد الخروف،‮ ‬مستغرقا في‮ ‬حلم بعيد،‮ ‬غاطسا في‮ ‬أعماق‮ "‬عالم الادراك‮". ‬كأنه‮ ‬غادر هذا العالم،‮ ‬وانمحي عن الواقع‮. ‬راحلا الي رحلة تأملية طويلة،‮ ‬يطير بين الملائكة‮. ‬حجب عينيه‮ ‬يتساقط الواحد منها بعد الآخر‮. ‬الدراويش‮ ‬يدورون حول أنفسهم كما الكواكب حول الشمس‮. ‬حسب قائد الرقصة،‮ ‬الرؤوس مائلة الي ناحية،‮ ‬الأيدي‮ ‬اليسري نحو الأرض،‮ ‬الأيدي‮ ‬اليمني نحو السماء،‮ ‬يذكرون،‮ ‬في‮ ‬همسة،‮ ‬أحد أسماء الله في‮ ‬كل مرة‮ ‬يضربون الأرض بكعوبهم‮. ‬اسماء الله لا تعد ولا تحصي،‮ ‬أكثر من عدد نجوم السماء ونمل الأرض‮. ‬الحياة قصيرة للغاية حتي نتعلمها،‮ ‬نحفظها ونعلنها‮. ‬ولكن ليس الدراويش من‮ ‬يدورون هكذا مثل الدوامات تحت قباب الضريح،‮ ‬لا‮ ! ‬أنهم مؤسسو طائفة المولوية،‮ ‬سلطان ولد،‮ ‬باعث الرقصة الطقسية،‮ ‬افلاقي‮ (‬3‮)‬،‮ ‬مؤلف الحكايات الأسطورية والكتابات العظيمة في‮ ‬مديح الله،‮ ‬حسام الدين جلبي،‮ ‬الذي‮ ‬دون المثنوي‮ ‬من فم مولانا‮. ‬منتزعين عن الأرض،‮ ‬عراة من معاطفهم السوداء،‮ ‬يلاقون الالهي‮. ‬يدورون،‮ ‬بلا دنس،‮ ‬نشوانين،‮ ‬غارقين في‮ ‬الجذب‮. ‬في‮ ‬باريس،‮ ‬رأيت دراويشا‮ ‬يدورون،‮ ‬علي خشبة أصغر من هذه الساحة،‮ ‬وفي‮ ‬اسطنبول،‮ ‬تحت ثريات من البلور في‮ ‬المولوية،‮ ‬بحي‮ ‬غالاتا‮. ‬ولكن شئ آخر أن أراهم‮ ‬يرقصون في‮ ‬قونية،‮ ‬قرب ضريح مولانا الذي‮ ‬يغمره نور القمر‮. ‬اذ أن أول رقصة طقسية،‮ ‬حققها مولانا نفسه هنا،‮ ‬ليس تحت هذه القبة،‮ ‬وانما الي البعيد نوعا ما،‮ ‬في‮ ‬صمت سوق الصاغة،‮ "‬الأعمي والأبكم‮" ‬في‮ ‬العتمة‮.‬

‮    ‬في‮ ‬ذا الوقت،‮ ‬لم‮ ‬يكن بازار قونية‮ ‬يشبه،‮ ‬كما اليوم،‮ ‬سوق السلع القديمة‮. ‬ولا هذه البنايات الأسمنتية،‮ ‬التي‮ ‬لا‮ ‬يضاهيها شئ في‮ ‬البشاعة،‮ ‬موجودة،‮ ‬وكذا هذه الحوانيت التي‮ ‬تبيع الأبسطة للسائحين‮. ‬والبضاعة المزورة‮ ‬غير مختلطة بالتجارة الكبيرة‮. ‬حتي أن آذان الصلاة لم‮ ‬يكن‮ ‬يتعالي من أعلي محال مسجد العزيزية المزخرفة بصورة ثقيلة،‮ ‬ولكن من أعلي المآذن القصيرة لمسجد صانعي‮ ‬الحبال حيث الجدران اللبنية ترتفع علي قوائم أفيال واقفة علي ظهور محال السوق حيث‮ ‬يهيمن النظام التعاوني‮ ‬وأخلاق الفتوات‮. ‬كل طائفة مهنية تجتمع في‮ ‬فضاءها الرسمي‮ ‬وتتمتع بالتقدير العام‮. ‬طائفة الخياطين ترجع الي النبي‮ ‬ادريس،‮ ‬طائفة الدباغين الي آخي‮ ‬افرن،‮ ‬طائفة الخبازين الي عمر البربري،‮ ‬طائفة الصياغ‮ ‬الي ناصر بن عبد الله،‮ ‬طائفة السقائين الي سلمان الكوفي،‮ ‬وكانوا‮ ‬يتمنطقون بزنار صوفي‮. ‬لم تكن الشوارع،‮ ‬كما اليوم،‮ ‬مزدحمة بالجموع حيث‮ ‬يختلط السكان بالسائحين،‮ ‬خلال الصيف‮. ‬في‮ ‬عاصمة السلاجقة،‮ ‬كان المسلمون والمسيحيون،‮ ‬اليهود والوثنيين‮ ‬يعيشون في‮ ‬وئام،‮ ‬وكان الجورجيون والقرامنليون،‮ ‬العرب والتتار،‮ ‬التركمان واليونانيون،‮ ‬يتسوقون من نفس الحوانيت ويترددون علي نفس الأنزال‮.‬

‮   ‬في‮ ‬ذا الوقت حيث كان البازار‮ ‬يحمل اسمه،‮ ‬كان مولانا‮ ‬يخرج في‮ ‬المساء كي‮ ‬يفصح عن حزنه‮. ‬يداه الطاهرتان تجريان بشرود علي كمي‮ ‬جبته،‮ ‬يفكر في‮ ‬شمس تبريزي،‮ ‬صديق روحه الراحل،‮ ‬ويبذل قصاري جهده في‮ ‬رد سلام التجار الواقفين أمام حوانيتهم‮. ‬ينحني‮ ‬المعلمون والأصدقاء والصبية باحترام،‮ ‬وبأدب طائفتهم،‮ ‬أمام هذا العالم الكبير،‮ ‬وكانوا‮ ‬يتشاجرون علي شرف دعوة هذا العلامة الذي‮ ‬يجمع بين الشيخ والمعلم الي حوانيتهم‮. ‬غير أن الشيخ الولي‮ ‬كان حزينا،‮ ‬يمشي‮ ‬بلا تبصر ولا‮ ‬يحلم سوي برؤية شمس تبريزي،‮ ‬هذا الولي‮ ‬الذي‮ ‬قلب حياته رأسا علي عقب،‮ ‬هذا الرجل السامي‮ ‬الذي،‮ ‬منذ اللقاء الأول،‮ ‬غطسه في‮ ‬الجذب‮. ‬بعد قرون،‮ ‬غني منشد ضرير،‮ ‬من نفس الروح،‮ ‬هذه الحالة الروحية،‮ ‬هذا السلوك الساهي‮ :‬


‮   ‬علي طريق طويلة وضيق

‮   ‬أمشي‮ ‬ليلا ونهارا

‮   ‬أجهل حالتي

‮   ‬وأمشي‮ ‬ليلا ونهارا‮.‬


‮   ‬علي حين‮ ‬غرة،‮ ‬توقف مولانا وأصاخ سمعه الي صوت قادم من الطرف الآخر للسوق‮. ‬فعل الحرفيون مثله‮. ‬منفاخ الحداد لا‮ ‬يلهث،‮ ‬الأفران لا تسخن والحديد لا‮ ‬يزهر‮. ‬لم‮ ‬يسمعوا سوي هذا الصوت الذي‮ ‬يشبه مطرقة تدق الذهب علي السندان‮. ‬قال مولانا في‮ ‬نفسه أن الرقائق الذهبية أصبحت رفيعة للغاية‮. ‬حينما تكون دقيقة أيضا مثل الورقة،‮ ‬ستساعد،‮ ‬في‮ ‬ورشة عامل التذهيب،‮ ‬علي تزيين مخطوطات الكتب العلمية،‮ ‬لقراءتها،‮ ‬التي‮ ‬نذز شبابه لها،‮ ‬وحتي تعمر طويلا‮. ‬كأسماك تعكس لمعانها في‮ ‬المياه وموزاييك متعدد الألوان‮. ‬فجأة،‮ ‬شعر مولانا بالفرح‮. ‬وفي‮ ‬أعماق قلبه،‮ ‬غمرت النوستالجيا قلبه ازاء شمس الذي‮ ‬غرزه في‮ ‬كتبه كي‮ ‬يدفعه الي محيط العشق‮. ‬لم‮ ‬يزل الألم‮ ‬غضا،‮ ‬وبقدر ما مرت أعوام وأعوام الا أن الجرح ظل مفتوحا‮. ‬واضعا‮ ‬يده علي‮ ‬ياقة جبته،‮ ‬أغلق عينيه،‮ ‬شعر بنفسه وحيدا،‮ ‬ضائعا،‮ ‬وقد تخلي عنه الجميع،‮ ‬كدرويش جوال‮ ‬يغمره برد السهوب القارس‮. ‬ثم استسلم للشوق الذي‮ ‬يسكنه‮. ‬سقطت رأسه علي كتفه الأيمن وأنشأ‮ ‬يدور حول نفسه في‮ ‬بطء،‮ ‬ثم تدريجيا بسرعة،‮ ‬علي ايقاع دقات المطرقة القادم من ورشة الصائغ‮. ‬بينما كان‮ ‬يدور حول نفسه،‮ ‬خفت النوستالجيا التي‮ ‬تستوحي‮ ‬شمس وانفتح قلبه‮. ‬تتسارع ضربات المطرقة ورقائق الذهب تترقق علي السندان‮. ‬وهو‮ ‬يراه‮ ‬يدور حول نفسه،‮ ‬أمر صلاح الدين،‮ ‬المعلم الصائغ،‮ ‬المشهور بورعه،‮ ‬صبيانه بأن‮ ‬يدقوا أسرع فأسرع‮. ‬قفز من حانوته ودار حول نفسه،‮ ‬هو الآخر‮. ‬مولانا،‮ ‬الحزين عشقا،‮ ‬والصائغ،‮ ‬راحا‮ ‬يدوروان حول نفسيهما‮. ‬سحقت الضربات رقائق الذهب،‮ ‬غير أن الصائغ‮ ‬صاح في‮ ‬صبيانه طالبا أن‮ ‬يسرعوا الايقاع‮. ‬من‮ ‬يعرف ان كان مولانا كان‮ ‬يتمتم في‮ ‬نفسه بكلمات الدرويش‮ ‬يونس،‮ ‬ناشر مذهب معلمه طابطوك،‮ ‬الذي‮ ‬قال لمولانا،‮ ‬في‮ ‬لقاء‮ : "‬كتابك المثنوي‮ ‬طويل‮. ‬لو كنت محلك،‮ ‬لكتبت فقط‮: "‬خلقت من لحم وعظام حتي أظهر أينما كنت‮" ‬؟ اذ أن مولانا‮ ‬

‮   ‬وجدت الصديق الأصيل

‮   ‬حتي سلبت روحي

‮   ‬عرفت الخسارة والمنفعة

‮   ‬حتي نهب حانوتي‮.‬


‮   ‬وبينما تطير رقائق الذهب في‮ ‬عظمة وقد عاثت الفوضي جوانب الحانوت،‮ ‬استسلم الصائغ‮ ‬للهيجان‮. ‬يدور رفقة مولانا،‮ ‬رغم عمره المتقدم،‮ ‬تاركا خلفه رتابة البازار المألوفة،‮ ‬نبت له جناحان،‮ ‬وحلق بين النجوم‮. ‬بعد هذا اللقاء،‮ ‬أصبح الصائغ‮ ‬صلاح الدين واحدا من مريدي‮ ‬مولانا،‮ ‬لم‮ ‬يتركه للحظة حتي ساعة الوفاة‮. ‬ومنذ ذاك،‮ ‬عرف باسم زرقوب،‮ ‬وأصبح بصورة ما مرآة قلب مولانا‮. ‬في‮ ‬هذا اللمعان،‮ ‬تتبدي صورته جميلة،‮ ‬أكثر واقعية وأكثر حميمية‮. ‬لم‮ ‬يكتف بأنه عمل علي نسيانه شمس،‮ ‬وانما ساعد مولانا علي استلهام‮ "‬مثنويه‮".‬



‮   ‬في‮ ‬عام‮ ‬1249،‮ ‬خلال الاحتلال المغولي الذي‮ ‬قلقل أركان الدولة السلجوقية،‮ ‬نشأت السيما،‮ ‬الرقصة الطقسية،‮ ‬أمام ورشة الصائغ‮. ‬لا تزال موجودة حتي اليوم‮. ‬وفي‮ ‬كل دورة‮ ‬يبتعد الدراويش رويدا رويدا عن هذه الأرض مقتربين من‮ "‬الواحد‮". ‬بينما تحترق الشموع في‮ ‬الشمعدان الكبير،‮ ‬يذوبون ويسيلون في‮ ‬حالة من الجذب الجميل‮. ‬باستعارة كلمات مولانا‮ :‬


‮   ‬أنهم في‮ ‬الشوك،‮ ‬لكنهم الوردة

‮   ‬أنهم محبوسون،‮ ‬لكنهم الخمر

‮   ‬أنهم في‮ ‬الوحل،‮ ‬لكنهم القلب

‮   ‬أنهم في‮ ‬الليل،‮ ‬ولكنهم الصباح‮.‬


‮    ‬مع نداء الشيخ،‮ ‬تنتهي‮ ‬الرقصة‮. ‬يغادر الدراويش الساحة،‮ ‬مثلما أتوا‮. ‬يدخلون الي‮ ‬غرفهم أو الي مزرعة الورد المجاورة‮. ‬بعد ساعة الجذب تلك،‮ ‬ليس لديهم الرغبة في‮ ‬ولوج المطبخ‮ ! ‬من الرائع أن نراهم‮ ‬يختفون هكذا رفقة شيخهم‮. ‬أ لم‮ ‬يغب شمس،‮ " ‬السر الالهي‮"‬،‮ ‬في‮ ‬ليلة منيرة كتلك،‮ ‬مثلما تغيب الشمس بدون أن تترك أثرا خلفها ؟

‮   ‬مكثت متجمدا أمام الصومعة‮. ‬لم تكن لدي‮ ‬الرغبة في‮ ‬العودة الي الفندق‮. ‬في‮ ‬البعيد،‮ ‬كانت الكلاب تعوي‮. ‬ومن الناحية الأخري للشارع،‮ ‬سمعت نعيب بومة،‮ ‬قادما من ساحة الثلاثة‮. ‬في‮ ‬نفس الوقت‮ ‬يتوقف خرير المياه وتغرق الساحة في‮ ‬صمت‮ ‬غريب‮. ‬فقدت تصور الزمن‮. ‬لاصقا وجهي‮ ‬في‮ ‬النافذة ذات القضبان الحديدية،‮ ‬ظللت ساكنا‮. ‬تدريجيا،‮ ‬تزداد النداوة الليلية للسهوب وتهبط العتمة علي القباب‮. ‬تبدي لي‮ ‬أن القمر اختفي خلف سحابة‮. ‬في‮ ‬المكان الذي‮ ‬كنت موجودا بين أرجاءه،‮ ‬لم أستطع رؤية الضريح‮. ‬ولكن،‮ ‬حسب اعتقاد المولوية،‮ ‬من الممكن أن‮ ‬يظهر شمس في‮ ‬كل لحظة من فتحة الباب الذي‮ ‬ينفتح علي مكة،‮ ‬بوجهه النضر تحت تاجه،‮ ‬قلنسوته المخروطية المصنوعة من اللبد الأبيض،‮ ‬ونظراته المتأججة،‮ ‬وكما جذب مولانا،‮ ‬جذبني‮ ‬أيضا الي عالمه،‮ ‬في‮ ‬أعماق محيطه‮. ‬لا،‮ ‬لست خائفا‮. ‬علي العكس،‮ ‬ومثل مولانا،‮ ‬احترقت في‮ ‬ملاحقته عبر السهوب والصحاري،‮ ‬حتي دمشق وحتي تبريز أيضا،‮ ‬وفي‮ ‬اختراق سره‮. ‬ولكن،‮ ‬كما المفتون،‮ ‬ظللت ملتصقا بالقضبان الحديدية للنافذة،‮ ‬لا أستطيع أن أنهض ولا أن أتحرك‮. ‬وحيدا،‮ ‬مستغرقا في‮ ‬أحلامي،‮ ‬أستطيع فقط أن أتخيل هذا الزمن البعيد،‮ ‬علي ضوء القمر‮... ‬أتخيل الشيخ‮ ‬يخرج من مخبأه،‮ ‬يتجه نحوي،‮ ‬يقترب من خلفي‮ ‬ويضع‮ ‬يده الطاهرة علي كتفي‮. ‬حينما استدرت،‮ ‬لم أر أحدا‮ ! ‬ربما‮ ‬ من‮ ‬يعرف ؟‮ - ‬هل‮ ‬يبعث الي‮ ‬بعلامة من العالم المحجوب ؟ فجأة،‮ ‬غمر النور الساحة كلها،‮ ‬اعتقدت أن نور القمر‮ ‬يتضخم،‮ ‬وانخطف بصري‮. ‬تخيلت أنني‮ ‬أري درويشا ذا لحية بيضاء‮ ‬يقترب من القضبان الحديدية‮. ‬وجهه‮ ‬يشع نورا،‮ ‬يثير العمي كما الشمس‮. ‬اقتضي الأمر أن أغلق عيني‮ ‬لثوان‮. ‬حينما فتحتهما،‮ ‬لم‮ ‬يكن هناك أحد‮. ‬الساحة،‮ ‬في‮ ‬نور القمر،‮ ‬خالية‮. ‬فقط أمامي،‮ ‬كان قميص أحد الدراويش الفضفاض منشورا علي حجر‮. ‬ارتجفت لما رأيته ملوثا بالدم‮. ‬ثم اختفي بدوره‮.‬

‮   ‬ولكن من هو هذا الشمس ؟ اسمه ممتزج بكثير من الأساطير،‮ ‬كيف أن هذا الدرويش الغامض،‮ ‬الذي‮ ‬يحكي‮ ‬عنه الكثير من الأساطير كما الكثير من الأكاذيب،‮ ‬اختبر مثل هذا التأثير علي مولانا وألهمه أجمل قصائد‮ "‬الديوان الكبير‮ (‬4‮)‬؟

‮   ‬حسب المراجع القديمة،‮ ‬ولد شمس في‮ ‬تبريز وأصبح شاعرا جوالا متقشا،‮ ‬وعلي مدي رحلاته كان‮ ‬يقطن خان القوافل،‮ ‬مما جعله‮ ‬يستحق الاسم الذي‮ ‬أطلق عليه‮ (‬شمس الطائر‮). ‬اذا اعتقدنا في‮ "‬المقالات‮"‬،‮ ‬الكتاب الوحيد الذي‮ ‬بقي‮ ‬لنا منه،‮ ‬حقق بعض المعجزات وكان شيخا ميالا للجذب الفجائي‮. ‬نعرف القليل عن حياته،‮ ‬التي‮ ‬تحفظ أسراره‮. ‬يقول،‮ ‬مثلا،‮ ‬في‮ ‬المقالات‮ :‬


‮   ‬كان لدي‮ ‬شيخ في‮ ‬تبريز‮ ‬يدعي أبا بكر‮. ‬يحيا علي جدل السلال‮. ‬بفضله،‮ ‬اختبرت تأثيري‮ ‬علي الكثير من الأقاليم‮. ‬بيد أن بي‮ ‬شيئا لا‮ ‬يراه شيخي‮. ‬من جهة أخري،‮ ‬لم‮ ‬يره أحد‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬رآه مولانا،‮ ‬سيدي‮.‬


‮   ‬عاش شمس في‮ ‬قونية خلال السنوات التي‮ ‬فصلت بين كارثتين في‮ ‬التاريخ السلجوقي‮. ‬بين موت علاء الدين كيكوباد،‮ ‬أعظم سلاطين هذه الأسرة‮ (‬7321‮) ‬،‮ ‬وهزيمة كوزداغ‮  ‬3421‮)‬،‮ ‬التي‮ ‬فتحت الباب للسيطرة المغولية‮. "‬ليتمم الله نعمته،‮ ‬وصل شمس تبريزي‮ ‬ذات صباح من صباحات اليوم السادس والعشرين من قمر جمادي‮ ‬الآخر من عام‮ ‬642‮ ‬هجري‮"‬،كما ذكر مولانا‮. ‬منذ وصوله،‮ ‬اقترح علي مولانا،‮ ‬الذي‮ ‬كسب تقدير ومحبة الناس وهو‮ ‬ينشر تعاليمه،‮ ‬أن‮ ‬يعتكف في‮ ‬غرفته وأن‮ ‬يدرك الحقيقة،‮ ‬ليس عبر المعرفة،‮ ‬وانما عبر العشق‮. ‬حكي افلاقي‮ ‬لقاء هذين المحيطين‮ :‬


‮   ‬وزع درسه في‮ ‬مدرسة كرتاي،‮ ‬التي‮ ‬كانت تعتبر آنذاك أحد أكبر دور الثقافة‮. ‬سأل أحد التلاميذ معلمه عن وجود النقطة المركزية‮. ‬قال مولانا إن النقطة المركزية توجد في‮ ‬طرف الرواق وأن نقطة العشاق المركزية تقبع في‮ ‬قلب المعشوق‮ ‬،‮ ‬ثم هبط من كرسيه،‮ ‬مضي أمام الوزراء وكبار الموظفين الذين‮ ‬يسمعونه والجالسين في‮ ‬الصف الأول الي جانب شمس تبريز،‮ ‬الجالس في‮ ‬الصف الأخير بين أفراد الشعب العاديين‮. ‬ولم‮ ‬يفترق العاشقان‮. ‬ولكن الاغتياب زاد وتحت ضغط المريدين الذين أصبحوا لا‮ ‬يرون مولانا كثيرا وحرموا من نقاشاته،‮ ‬انتهي شمس الي مغادرة قونية‮. ‬أمر مولانا حسام الدين جلبي‮ ‬أن‮ ‬يكتب هذه الكلمات‮ :‬

‮   " ‬جوهر الأرواح،‮ ‬سر المكان حيث نضع الشمعدان،‮ ‬سر الزجاج والشمعدان،‮ ‬نور الله فيمن جاؤوا من قبل ومن سيأتون من بعد،‮ ‬أن‮ ‬يمنحه الله عمرا مديدا ويشمله بعطفه،‮ ‬رحل‮ ‬يوم الخميس‮ ‬21‮ ‬من قمر شوال‮ ‬643‭.‬‮"‬

‮   ‬في‮ ‬التقاليد البكتاشية،‮ ‬هناك الكثير من الأساطير التي‮ ‬تحيط بشمس‮. ‬تروي‮ ‬ولايتنامة لقاءه الأول بمولانا بطريقة مجازية وأكثر امتاعا عن شهادة افلاقي‮. ‬حسب هذا النص،‮ ‬كان شيخ تبريز وليا كبيرا‮. ‬وكان الحاج بكتاش الذي،‮ ‬بناء علي طلب مولانا،‮ ‬أرسله الي قونية‮. ‬ومنذ قدومه،‮ ‬عالج سلطان ولد،‮ ‬الضرير،‮ ‬الأكتع والمقعد‮. ‬ولكن‮ ‬يذكر كثير من الأسباب التي‮ ‬أكدت علي عظمة معشوق مولانا‮. ‬ذات‮ ‬يوم،‮ ‬في‮ ‬مدرسة كرتاي،‮ ‬بينما كان مولانا‮ ‬ينشر تعاليمه،‮ ‬حقق معجزة معروفة علي نطاق واسع كاشفا عن أن العشق مهم أيضا كالمعرفة،‮ ‬علي السطح الحميمي‮ ‬كما في‮ ‬العالم الخارجي‮. ‬في‮ ‬الواقع،‮ ‬كانت هناك سنوات عدة تفصل بين تأسيس مدرسة كرتاي‮ ‬وقدوم شمس الي قونية،‮ ‬ولكنها ذات أهمية لا تذكر‮. ‬تدعونا روح الأسطورة،‮ ‬شعره،‮ ‬الي تخيل مولانا‮ ‬يدرس في‮ ‬هذه المدرسة،‮ ‬الي عرض اللقاء الأول بين هذين‮ "‬المحيطين‮" ‬تحت قبة هذه المدرسة‮. ‬لأن كرتاي‮ ‬احدي الأبنية التي‮ ‬شيدها أحد المعماريين السلاجقة والتي‮ ‬لم تزل قائمة حتي اليوم‮. ‬الآجر المزخرف بالمينا،‮ ‬تركيب القطع الخزفية والأحجار المخرمة،‮ ‬الأبواب الرخامية الثقيلة،‮ ‬خطوط مع شرفات مقوسة ومثلثات كروية الشكل مبنية بين الأقواس التي‮ ‬تقام عليها القبة،‮ ‬قطع الخزف الزرقاء-الخضراء وكرزية اللون لم تقاوم،‮ ‬للأسف‮ ‬،‮ ‬غضب الزمن وتفتت،‮ ‬بيد أنها لم تزل تثير الانبهار‮. "‬لما ندخل،‮ ‬نلاحظ القبة السماوية المصغرة،‮ ‬الزرقاء،‮ ‬بالنجوم،‮ ‬المجرة وقوس قزح‮"‬،‮ ‬كتب ابراهيم خاكي‮ ‬قونيالي‮  (‬5‮)‬

‮   ‬تخيلوا التلاميذ المبتدئين وهم‮ ‬ينصتون الي مولانا،‮ ‬متجمعين حول الحوض‮. ‬الشيخ،‮ ‬متأملا القرآن الموضوع علي حامل خشبي‮ ‬أمامه،‮ ‬يشرح المعني العميق لاحدي الآيات‮. ‬فجأة،‮ ‬يدخل درويش أشعث،‮ ‬في‮ ‬أسمال،‮ ‬قدماه ملطختان بالوحل،‮ ‬الي الساحة،‮ ‬يقترب من مولانا ويقعي أمام الحامل الخشبي‮. " ‬عندما وصل شمس تبريزي‮ ‬إلي‮ ‬قونية كان مولانا‮ ‬يجلس بالقرب من نافورة وقد وضع كتبه بجانبه‮. ‬أشار إليها شمس وسأل‮: ‬ما هذه؟ وأجاب مولانا‮ : ‬هذه كلمات‮. ‬لماذا أنت مهتم بها؟‮ !‬وسحب شمس الكتب في‮ ‬حركة مفاجئة وألقي‮ ‬بها في‮ ‬مياه النافورة‮. ‬وسأله مولانا ربما بجذع‮ : ‬ماذا فعلت؟ في‮ ‬بعض من هذه الكتب كان ثمة مخطوطات مهمة ورثتها عن والدي‮ ‬ولايمكن أن توجد في‮ ‬موضع آخر‮... ‬وللمرة الثانية‮ ‬يفاجيء شمس‮... ‬مولانا،‮ ‬حيث مد‮ ‬يده إلي‮ ‬الماء وأخرج الكتب واحدا واحدا دون أن‮ ‬يصاب أحدها بالبلل‮.‬

‮ ‬و"المحيطان‮"‬،‮ ‬كأس خمر في‮ ‬يد كل منهما،‮ ‬يقومان بالرقصة الطقسية،‮ ‬مرتكنين علي أصوات الخانندة والساز‮. ‬تدور القبة علي ايقاعهما وضي‮ ‬النجوم،‮ ‬المنعكسة علي قطع الخزف،‮ ‬والهابطة من السماء في‮ ‬الحوض‮.‬

‮   ‬شمس،‮ ‬كما نعرف،‮ ‬فصيح‮. ‬روحاني‮ ‬ومتمرد في‮ ‬آن معا‮. ‬يعمل علي تعميق معرفته‮ ‬الايمانية،‮ ‬كما هو مفهوم‮- ‬بالجذب‮. ‬أجاب شيخا‮ ‬يقول أنه‮ ‬ينظر الي النجوم عبر الحوض،‮ ‬كي‮ ‬يري جمال الله‮ : "‬هل ؟ أنت مصاب بدمل في‮ ‬الرقبة ؟ من الأفضل أن ترفع الرأس وتنظر الي صفحة السماء‮ !". ‬لا‮ ‬يدين بأي‮ ‬فضل للمدرسة ولا للتكايا‮. ‬كان خان القوافل،‮ ‬حيث‮ ‬يتوقف عنده المسافرون الأبديون،‮ ‬مأواه الحقيقي‮. ‬سلطان ولد،‮ ‬في‮ "‬الكتاب الأخير‮"‬،‮ ‬وفي‮ ‬قصيدته الأخيرة،‮ ‬يسرد أن مولانا الذي‮ ‬كان،‮ ‬قبل أن‮ ‬يلقي شمس،‮ ‬يقرأ حتي الفجر علي نور شمعة،‮ ‬وقع في‮ ‬جاذبيته وتغير كليا بعد قدومه‮ :‬


‮ ‬ذات‮ ‬يوم جميل قدم رجل القلب،‮ ‬أمير حقيقي،‮ ‬ذات كاملة‮. ‬كان الناس‮ ‬يسمونه شمس تبريز‮. ‬ولكنه كان لدي المستبصرين نور الأنوار،‮ ‬السر الالهي‮... ‬معشوق العالم،‮ ‬الولي‮ ‬الذي‮ ‬يحبه الله‮. ‬حينما قابل مولانا شغف كل منهما بالآخر‮. ‬أعجب مولانا بوجهه،‮ ‬جماله،‮ ‬خضوعه لله،‮ ‬عينيه المتوقدتين،‮ ‬نقاوته الطبيعية،‮ ‬طباعه البشوشة،‮ ‬فمه الشبيه بجوهرة محملة بالأسرار التي‮ ‬توزع كلمات السلام علي الذوات الحرة‮. ‬الله،‮ ‬وقد أراده له،‮ ‬أخفاه عن أعين الناس لئلا‮ ‬يراه أحد منهم‮. ‬هام مولانا به حبا كمجنون،‮ ‬كما في‮ ‬الحكاية،‮ ‬يحترق بليلي‮. ‬بعيدا عنه،‮ ‬كان حائرا‮. ‬اذا لم‮ ‬يستطع رؤيته،‮ ‬تأمل وجهه،‮ ‬يخور‮. ‬لا‮ ‬ينفصلان كما الليل والنهار،‮ ‬لا‮ ‬يحتمل أيهما‮ ‬غياب الآخر‮. ‬كان مولانا سمكة تحيا في‮ ‬مياهه،‮ ‬روحا وقلبا،‮ ‬كان كعبده‮.‬

‮  ‬هكذا ذكر عبد الباقي‮ ‬غولبيناري،‮ ‬الذي‮ ‬عرفنا الكثير عن مولانا وشمس في‮ ‬آن واحد،‮ ‬بأسلوبه الفذ العلاقة بين هذين الوليين اللذين‮ ‬يرقدان اليوم في‮ ‬قونية في‮ ‬ضريحين‮ ‬يبعد كل منهما عن الآخر‮ (‬6‮) :‬


‮ ‬أنه،‮ ‬شمس مضطرمة،‮ ‬حارقة،‮ ‬تحجبها سحابة‮. ‬محترقا،‮ ‬مفنيا،‮ ‬ناشرا نوره،‮ ‬يبين مولانا للعالم‮. ‬أنه بحر ثائر،‮ ‬كبير ومتعذر سبر أغواره،‮ ‬ذو أمواج مزبدة‮. ‬هائجا،‮ ‬ثائرا،‮ ‬منح مولانا،‮ ‬هذه الجوهرة النفيسة،‮ ‬لهذه الضفة‮.‬


‮   ‬في‮ " ‬خمس مدن‮"‬،‮ ‬لم‮ ‬يمنع أحمد حمدي‮ ‬تانبينار،‮ ‬مؤلف أحد النصوص المبتكرة والتي‮ ‬لم‮ ‬يكتب مثلها من قبل عن قونية،‮ ‬من أن‮ ‬يذكر شخصية شمس الغامضة‮ :‬


‮   ‬بلا مراء،‮ ‬تجذب شخصيته كما العاشق‮. ‬في‮ ‬نقاشاته،‮ ‬وجها لوجه،‮ ‬مع مولانا،‮ ‬كانت له ملاحظات،‮ ‬مختلفة عما ذكرته السير‮. ‬ربما لم‮ ‬يقل شيئا‮. ‬يكفي‮ ‬وجوده،‮ ‬نظراته وصمته أن‮ ‬يملأ الفراغ‮. ‬بدءا من اسمه شمس‮ - ‬اذ أن هذا الاسم،‮ ‬كان موافقا لذوق العصر،‮ ‬كان محل نزاع‮ - ‬،‮ ‬كل ما‮ ‬يلمسه،‮ ‬ومن ضمنه موته،‮ ‬غامض وملغز‮.‬


‮   ‬حينما‮ ‬غادر شمس قونية،‮ ‬لم‮ ‬يحتمل مولانا‮ ‬غيابه‮. ‬ذاكرا آلام الفراق،‮ ‬كتب لأجله قصائده الصادقة‮. ‬تبعه،‮ ‬علي الدوام،‮ ‬بفكره‮. ‬انتهي بأن أرسل ابنه سلطان ولد‮ ‬ حسب الأسطورة،‮ ‬وخضع هو الآخر أيضا له‮ ‬ وتوفق الي أن‮ ‬يعود به الي قونية‮ :‬


‮   ‬شمسي،‮ ‬قمري‮ ‬عادا

‮   ‬عيني،‮ ‬أذني،‮ ‬عادا

‮   ‬جسدي‮ ‬الفضي‮ ‬عاد

‮   ‬معدني،‮ ‬ذهبي‮ ‬عادا

‮   ‬نشوة رأسي‮ ‬عادت

‮   ‬نور عيني‮ ‬عاد‮ (...)‬

‮   ‬ندائي‮ ‬في‮ ‬الرحلة عاد

‮   ‬جسدي‮ ‬الفضي‮ ‬الجميل‮ ‬

‮   ‬دخل فجأة من بابي‮ (...)‬

‮   ‬يجب أن أشرب الخمر،‮ ‬الخمر

‮   ‬يجب أن تلقي‮ ‬رأسي‮ ‬بوميضها،

‮   ‬اذ أن اللحظة أزفت‮.‬

‮   ‬أريد أن أكون طائرا وأطير

‮   ‬ذراعي،‮ ‬جناحي‮ ‬عادا

‮   ‬العالم تزين بالأنوار

‮   ‬العالم كما الأصباح

‮   ‬أزف الوقت كي‮ ‬يصيح

‮   ‬أزف الوقت كي‮ ‬يزأر

‮   ‬أسدي‮ ‬الجسور عاد‮.‬

   

‮   ‬وأنشأ الأسدان‮ ‬يزأران في‮ ‬ألفة‮. ‬غادرا اعتكافهما،‮ ‬غطسا في‮ ‬بحر العشق وفي‮ ‬جذب الرقصة المقدسة،‮ ‬واضعين نهاية لتوبة مريدي‮ ‬مولانا‮. ‬كان شمس هدف مؤامرة‮ ‬يحيكها علاء الدين جلبي،‮ ‬ابن مولانا،‮ ‬وسقط في‮ ‬شرك‮ ‬ينتظره بساحة الصومعة‮. ‬وقتذاك،‮ ‬لم‮ ‬يكن هذا الحوض الذي‮ ‬أراه قبالتي،‮ ‬ولا هذه المياه التي‮ ‬تنساب في‮ ‬نور القمر موجودين هنا‮. ‬وكما هو معروف،‮ ‬ولا حتي هذه القبة المزينة بقطع الخزف الزرقاء التي‮ ‬أميزها بالكاد في‮ ‬العتمة‮. ‬كان مولانا لم‮ ‬يزل في‮ ‬صحة جيدة‮. ‬غير أن والده،‮ ‬بهاء الدين ولد،‮ "‬سلطان العلماء‮"‬،‮ ‬وعائلته تركا مدينة بلخ،‮ ‬من أعمال خراسان،‮ ‬للاقامة في‮ ‬قونية،‮ ‬والضريح والصومعة أقيما في‮ ‬مزرعة ورد منحها له علاء الدين كيكوباد‮. ‬وهكذا كان شمس‮ ‬يتناقش مع مولانا في‮ ‬غرفة من‮ ‬غرف هذه الصومعة لما رجاه علاء الدين جلبي‮ ‬بالخروج‮. ‬ربما كان عاشقا لكيميا خاتون،‮ ‬زوج الشيخ والابنة المتبناة من قبل مولانا،‮ ‬علي الأقل لم‮ ‬يرد الانتقام من هذا المتطفل الذي‮ ‬أفقد والده الصواب‮. ‬قال الشيخ لمولانا‮ : "‬يناديني‮ ‬لموتي‮". ‬سادت لحظة صمت‮. ‬أتخيل أن الصديقين‮ ‬يتبادلان النظرات‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬كانا متقابلين،‮ ‬ولكن منذ ذاك كانا‮ ‬ينظران الي الكون بأعين روحيهما،‮ ‬واعتادا الانصات الي صخب الطبيعة بآذان روحيهما‮. ‬اغتيابات قبيحة تمتزج بهذه الأصوات المتناغمة‮ :‬


‮   ‬يقول العدو أشياء عبثية

‮   ‬تسمعها أذن روحي

‮   ‬أشياء قبيحة تحاك في‮ ‬النواحي

‮   ‬تراها عين روحي

‮   ‬يدفع كلبه نحوي‮ ‬

‮   ‬يعضني‮ ‬الكلب في‮ ‬ساقي

‮   ‬أتألم،‮ ‬أتألم بقوة

‮   ‬لست كلبا،‮ ‬لن أعضه أبدا

‮   ‬سأعض شفتي‮.‬


‮   ‬هكذا تشكي مولانا في‮ ‬قصيدة له‮. ‬ساد صمت مخيف أرجاء الصومعة‮. ‬في‮ ‬الخارج،‮ ‬علي وجه الأرجح،‮ ‬كانت أشجار السرو تدمدم بمشقة،‮ ‬أو ربما كانت تبكي‮ ‬وكانا‮ ‬يسمعان صوت قطراتها‮. ‬نعم،‮ ‬هو ذاك،‮ ‬المطر‮ ‬يتساقط بطيئا،‮ "‬بالكاد مسموع،‮ ‬كصوت المتآمر،‮ ‬كقدم المارق العارية التي‮ ‬تركض في‮ ‬الليل علي الأرض الرطبة‮".‬

‮   ‬سمعت أذن الشيخ هذه الخطوات في‮ ‬الساحة‮. ‬بعد وقفة طويلة،‮ ‬همس مولانا بهذا الآية القرآنية‮ : "‬ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين‮" ‬الأعراف‮ ‬54‮ ‬خرج شمس‮. ‬الظلال،‮ ‬في‮ ‬العتمة،‮ ‬تضربه بقبضاتها وتلقي‮ ‬بجثته الي البئر‮.‬

‮   ‬انتظر مولانا شمسا بلا جدوي لكي‮ ‬يستعيد النقاش المبتور معه‮. ‬مضت دقائق،‮ ‬ساعات،‮ ‬شهور،‮ ‬سنوات‮. ‬مر صيف،‮ ‬فخريف،‮ ‬ولحقهما الشتاء فالربيع،‮ ‬ولم‮ ‬يعد‮. ‬أخفوا موته طويلا‮. ‬لم‮ ‬يزل مولانا‮ ‬يأمل عودة رفيقه الأثير في‮ ‬يوم من الأيام ولا‮ ‬يتركه‮ ‬ينتظر‮. ‬بحث عن سلوته في‮ ‬الشعر،‮ ‬الموسيقي والرقص‮. ‬ربما،‮ ‬كما بينت احدي هذه القصائد،‮ ‬تخيل ما جري،‮ ‬غير أنه رفض تصديقه‮.‬


‮   ‬أعرني‮ ‬أذنك،‮ ‬اسمعني

‮   ‬هو ذا‮ ‬يقوله قائد الحرس‮ :‬

‮   ‬رجل القلب اختفي في‮ ‬هذه

‮             ‬الضاحية

‮   ‬وجدنا أثره علي الطريق

‮   ‬هناك،‮ ‬كما قال،‮ ‬أثار واضحة

‮   ‬وقميص ملطخ بالدم‮ (...)‬

‮   ‬دم العشاق‮ ‬يبقي طويلا هكذا

‮   ‬دوما نديا،‮ ‬دوما فاترا

‮             (...)‬

‮   ‬أنت أيضا،‮ ‬في‮ ‬يوم من الأيام،‮ ‬سيقتلونك كذلك

‮   ‬ستدخل الي الحياة الأبدية

‮   ‬وتكون لك روح الشهيد أيضا

‮   ‬السلام عليك،‮ ‬يا تبريز‮ !‬


‮   ‬وفي‮ ‬قصيدة أخري‮ :‬


‮   ‬اذا رأيت الناس مجتمعين،‮ ‬أيها المنادي،

‮   ‬صح بلا توقف

‮   ‬أيها الناس الطيبون هل جعلتم رجلا‮ ‬يفر‮ (...) ‬؟

‮   ‬يجب أن‮ ‬يعرفوه،‮ ‬احمل الي‮ ‬شيئا من

‮   ‬أخباره،‮ ‬أيها المنادي

‮   ‬أن‮ ‬يأتي‮ ‬أحد الي‮ ‬يعلمني‮ ‬

‮   ‬ما جري له

‮   ‬أسلمت روحي،‮ ‬أيها المنادي،‮ ‬أنها

‮   ‬متجهة نحوه

‮   ‬منحت روحي‮ ‬وسوف تلقاه‮.‬


‮   ‬هكذا صاح‮. ‬حتي لقاءه بالصائغ‮ ‬صلاح الدين،‮ ‬كان‮ ‬يلقي الناس الذين‮ ‬يأتونه بأخبار عن شمس ببشاشة‮. ‬حينما‮ ‬يقال له أنها كاذبة،‮ ‬يجيبهم‮ : "‬منحت عمامتي‮ ‬وملابسي‮ ‬لأجل خبر زائف،‮ ‬ولأجل خبر صادق،‮ ‬أمنح روحي‮".‬


‮   ‬في‮ ‬الغد،‮ ‬اخترقت ساحة الصومعة رفقة جمع‮ ‬غفير من السياح‮. ‬حلت الشمس المحرقة محل نور القمر وأنهت رؤاي‮ ‬الليلية‮. ‬زرت أولا‮ ‬غرف الدراويش‮. ‬اعتقدنا أننا في‮ ‬محل بقالة‮. ‬مشجعين،‮ ‬بلا ريب،‮ ‬من قبل البلدية المزدهرة،‮ ‬يأخذ الباعة الجوالون نقودا من هؤلاء القادمين من أركان العالم الأربعة مقابل بضاعة زهيدة‮ : ‬نشرات تشرح عقيدة المولوية،‮ ‬قصعات،‮ ‬آنية من الخزف وأسقاط أخري‮. ‬وددت أن أفعل كما المسيح،‮ ‬أن أطرد هؤلاء التجار من المعبد‮. ‬كان لمولانا الحق لما قال‮ : "‬تطعم قونية عقربا علي اناء ذهبي‮". ‬هذه الصومعة ليست متحفا،‮ ‬أنها،‮ ‬فعلا،‮ ‬سوق‮. ‬أمضيت ساعات أمام الواجهات التي‮ ‬تعرض الأشياء التي‮ ‬تنتمس الي الدراويش،‮ ‬محاولا أن أتجنب هذه التجارة‮. ‬اذ‮ ‬

أن في‮ ‬هذه الواجهات‮ ‬يشعر المرء أن روح هذه التكايا لم تزل تخفق وأن هذه الطوائف،‮ ‬طوائف الدراويش التي،‮ ‬بعد أن زالت،‮ ‬أهملت وأغلقت من قبل الجمهورية‮. ‬هي‮ ‬ذي‮ ‬أول مرة أذهب فيها الي قونية،‮ ‬وكنت مفتونا‮. ‬أردت أن أفهم الموضوعات الرمزية لنظام المولوية الذي‮ ‬يعبر ربما عن مظهر مؤثر من مظاهر ثقافتنا القديمة،‮ ‬حاولت أن أبين لنفسي‮ ‬نمط الحياة‮.‬

‮   ‬لكي‮ ‬أتغلغل الي عالم هذه الموضوعات،‮ ‬لا‮ ‬يكفي‮ ‬أبدا أن أعرف النسيج الاجتماعي‮ ‬للآناضول خلال العصور الوسطي،‮ ‬الأحداث التاريخية،‮ ‬الاحتلال المغولي‮ ‬وأيام مجاعته والخراب الذي‮ ‬رافق الثورات الأولي التي‮ ‬أفضت الي الانتقام النهائي‮. ‬من اللازم أيضا فهم لماذا‮ ‬غادر رجال هذا العصر تدريجيا الواقع اليومي‮ ‬كي‮ ‬يتجهوا نحو الصوفية،‮ ‬كيف،‮ ‬بدلا من البحث عن السعادة علي هذه الأرض التي‮ ‬رآها مولانا‮ "‬عالم الفجور‮"‬،‮ ‬انجذبوا الي الاتحاد بالخالق ؟ من اللازم الاهتمام بدور الأولياء القادمين من خراسان الذين استقروا في‮ ‬هذه البقاع،‮ ‬مثل الحاج بكتاش المتحول الي حمامة،‮ ‬معرفة حياتهم الاستثنائية التي‮ ‬حكتها السير لنا‮. ‬علي ضوء هذه الاعتبارات اختبرت الفؤوس التي‮ ‬تحمل اسم علي‮ ‬بالحروف العربية،‮ ‬التي‮ ‬كان الدراويش الجوالون‮ ‬يحملونها دفاعا عن أنفسهم ضد الحيوانات البرية،‮ ‬القصابات المصنوعة من قرون الآيائل أو قرون الحملان،‮ ‬الوريقات التي‮ ‬كانوا‮ ‬يضعونها في‮ ‬مكانها المخصص قبل أن‮ ‬يعلنون توبتهم،‮ ‬القصعات التي‮ ‬كانوا‮ ‬يعلقونها في‮ ‬رقابهم قبل أن‮ ‬يذهبوا‮ ‬يتسولون في‮ ‬الأسواق،‮ ‬كي‮ ‬ينتصروا علي عجرفتهم ويؤدوا دور الذليل‮. ‬قرب السراي،‮ ‬ولدت المولوية،‮ ‬كما البكتاشية،‮ ‬لدي فلاحي‮ ‬الآناضول،‮ ‬تعلي‮ ‬من شأن التواضع،‮ ‬الصداقة،‮ ‬الأخوة والاحسان،‮ ‬وبحثت في‮ ‬هذه الفضائل عن طريق الوصول الي الحقيقة‮. ‬كأننا نسمع هذه الرباعية التي‮ ‬تنسب الي مولانا،‮ ‬علي الرغم من أنه لم‮ ‬ينظمها علي الأرجح،‮ ‬كانت التكايا تؤسس ملاذا للشعب،‮ ‬مكانا للتسامح بلا معادل خلال هذا العصر‮ :‬


‮   ‬تعال،‮ ‬تعال،‮ ‬أ‮ ‬يا كنت

‮   ‬كافر،‮ ‬وثني‮ ‬أو مجوسي

‮   ‬صومعتنا ملاذ الأمل

‮   ‬تعال،‮ ‬وان كنت صيادا قاسي‮ ‬القلب‮.‬


‮   ‬هذه الأبيات منقوشة علي الضريح‮. ‬كما دونها ابراهيم خاكي‮ ‬قونيالي‮ ‬في‮ "‬تاريخ قونية‮"‬،‮ ‬هناك اثنان وثلاثون تابوتا حجريا،‮ ‬بالضبط،‮ ‬متراصة في‮ ‬الداخل،‮ ‬بدون نظام محدد‮. ‬في‮ ‬الواقع،‮ ‬يشبه الضريح الي حد ما متحفا عن مدفن عائلي‮. ‬كان تابوتا مولانا وابنه سلطان ولد،‮ ‬المصنوعان من خشب الجوز منحوتين علي الطراز السلجوقي،‮ ‬يتصدران محل الشرف،‮ ‬عند الرأس،‮ ‬عمامتان،‮ ‬ويحملان نقوشا ومكسوان بشالين خضراوين‮ ‬غامقين من لاهور‮. ‬مذهولا،‮ ‬وقفت أمام نص أطرته السلطات العليا أمام التابوتين‮. ‬في‮ ‬الواقع،‮ ‬الموتي‮ ‬ينفصلون عن الأحياء‮. ‬في‮ ‬ذي‮ ‬الليلة،‮ ‬في‮ ‬حلمي،‮ ‬وبدون شك متأثرا بشمس،‮ ‬خلطت بين العالمين‮. ‬

‮   ‬قال امره‮ : "‬من‮ ‬يترك العالم الكاذب‮ / ‬لا‮ ‬يملك شيئا‮ ‬يقوله ولا‮ ‬يحمل جديدا‮". ‬غير أنني‮ ‬وددت سماع صوت مولانا‮ ‬يرن تحت القبة‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬يتكلم اللغة الفارسية وهذه اللغة تتبدي لي‮ ‬أيضا واضحة ورائعة كالتركية،‮ ‬ومع ذلك،‮ ‬الصوت كالمياه الرقراقة،‮ ‬يحملني‮ ‬علي موجه‮. ‬لنسمع‮ :‬


‮   ‬نحن،‮ ‬نحن رحلنا،

‮   ‬حظ سعيد لمن بقوا

‮   ‬كل من‮ ‬يولد‮ ‬يفني‮ ‬

‮   ‬من في‮ ‬السماء‮ ‬يعرفونه

‮   ‬كل حجر ملقي من سقف‮ ‬يسقط

‮   ‬اذا كنا أشرارا تركنا هنا

‮      ‬خبثنا

‮   ‬اذا كنا أخيارا،‮ ‬احفظوا لنا ذكري

‮       ‬طيبة

‮   ‬ان اعتقدت أنك الابن الوحيد للزمن‮   ‬يوما ما سترحل مثل كل من

‮       ‬رحلوا‮.‬


‮   ‬لم‮ ‬يكتف مولانا بالقول،‮ ‬كما‮ ‬يونس امره،‮ ‬الدرويش الجوال القادم الي قونية‮ : "‬حظ سعيد لمن بقوا‮ !". ‬أكد أننا اذا‮ ‬غادرنا العالم،‮ ‬تستمر الحياة‮ :‬


‮   ‬أنظر الي هذا الشلال من الرمال

‮   ‬لا‮ ‬يعرف وقفة ولا راحة

‮   ‬أنظر كأن عالم‮ ‬يتهشم فجأة

‮   ‬وهو‮ ‬يلقي‮ ‬بأسس عالم جديد‮.‬


‮   ‬بعد ربع قرن من وفاته بالكاد،‮ ‬انهارت الامبراطورية السلجوقية الكبيرة‮. ‬بينما عالم آخر‮ ‬يحتل مكانها،‮ ‬القصائد الغنائية للمنتصرين القدامي تبقي محفورة علي أطلال قصورهم‮. ‬لنشكر هؤلاء الرجال الذين أعادوا بناء هذه النقوش،‮ ‬وفكوا رموزها بجهد عظيم وأوصولنا اليها‮.‬


قونية‮ ‬ باريس‮ ‬1997

‮           ‬


الهوامش‮ :‬


‮ ( ‬1‮ ) ‬رقصة السيما،‮ ‬الرقصة التي‮ ‬يقوم بها الدراويش وهذه الرقصة مستلهمة من التاريخ التركي‮ ‬والعادات والاعتقادات التركية‮. ‬تمثل رقصة السيما رياضة روحية ورحلة للوصول الي الكمال بطريقة الالتفاف حول الحقيقة الخالصة المجردة وبعد الانتهاء من هذه الرحلة‮ ‬يجد نفسه من‮ ‬يقوم بها انه وصل لمرحلة من الكمال الروحي‮. ‬يتمثل ذلك في‮ ‬النضج وتقدير الحب والمساواة بين البشر،‮ ‬بغض النظر عن الطبقية والاعراق والأجناس ويحتفل الأتراك الصوفيون بهذه الرقصة و‮ ‬يقومون بها بذكري ميلاد مولانا جلال الدين الرومي‮ ‬الفيلسوف المتصوف‮. (‬المترجم‮)‬

‮( ‬2‮ ) ‬حسام الدين جلبي،‮ ‬صديق ومريد جلال الدين الرومي،‮ ‬حفظ تراثه الروحي‮.‬

‮( ‬3‮ ) ‬شمس الدين أحمد افلاقي‮ ‬،‮ ‬أحد أول كتاب سيرة مولانا جلال الدين الرومي،‮ ‬من كتبه‮ :"‬مناقب العارفين‮".‬

‮ ( ‬4‮ ) ‬الديوان الكبير،‮ ‬أو ديوان شمس تبريزي‮ ‬الذي‮ ‬كتبه في‮ ‬موت صاحبه الأثير وملهمه في‮ ‬طريق التصوف والشعر‮. (‬المترجم‮)‬

‮( ‬5‮ ) ‬ابراهيم خاكي‮ ‬قونيالي‮ )‬1894‮ ‬ 1984 (،‮ ‬مؤلف كتاب‮ "‬تاريخ قونية‮".‬

‮( ‬6‮ ) ‬لشمس تبريز شيخ مولانا جلال الدين الرومي‮ ‬ثلاثة أضرحة،‮ ‬واحد في‮ ‬خوي‮ ‬بأذربيجان و له ضريح في‮ ‬مدينة ملتان و كذلك في‮ ‬قونية،‮ ‬حيث وجد مؤخرا البئر التي‮ ‬أخفي علاء الدين جلبي‮ ‬فيها جثة شمس تبريز‮.  (‬المترجم‮)‬



‮(*)  ‬ترجمة الفصلين الأخيرين‮ ‬ بموافقة خطية من المؤلف‮ - ‬من كتاب‮ "‬سبعة دراويش‮" ‬لنديم‮ ‬غورسيل،‮ ‬والكتاب تحت الطبع‮ :‬

Nedim Gürsel ،‮  ‬Sept Derviches ،‮  ‬Seuil ،‮  ‬2010‮ .‬

منقول من أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق