الأحد، 5 أغسطس 2012

بعدما اقتربت الأرض مني كثيراً

My marvelous first thumbnail
لا ينفع ان يقرأ أحد هذه الكتابة. اكتبها فقط لان الوقت ثقيل وعلي ان ابيده بتسلية
لا ينفع ان يقرأ احد هذه الكتابة ولا اية كتابة اخري. الاجدي ان يبحث الناس عن الحياة في مكان آخر، اذا كان لديهم وقت بعد. اما الذين مثلي، في آخر عمرهم، فلا حياة بعد لهم، ولذلك يحاولون اختراع تسلية لكي يمضي ما بقي من وقتهم بوطء اقل.
اني ألعب الان. ألعب مع الكلمات واغشها علي ان اربح شوطا معها هذه التي خسرت معها في الماضي كل الاشواط. ألعب معها واضحك عليها وتضحك عليّ. ما بيني وبينها اليوم هو غير ما كان بالامس. سقط وقارها وفقدت جديتها وصارت مجرد لعبة.

يقال ان البشر سيصيرون جميعهم ألعابا تسير بكبس ازرار. لا اظن اني سأعيش الي ذاك الوقت الذي اصير فيه لعبة كاملة. اني الان لعبة ناقصة، نصف لعبة، ولهذا اخترت ما قد يجعلني لعبة كاملة: الكلمات.
سيصير الناس ألعابا. شيء جميل. يا لمتعة الازرار التي ستحركهم! ورحمة علي… لا ليس رحمة علي المشاعر، فهي جعلتهم دائما بؤساء.
بلا مشاعر، هكذا محصنون، هكذا مغلقون علي الآخر الذي كان يسطو علي احاسيسهم، علي الايدي التي كانت تمتد الي عروقهم وتفسد دمهم، علي الكلمات التي ما كانت تقال الا لتسقط قتلي في روحهم… سيصيرون ألعابا، فيا لروعة الجماد الذي سيصيرون!!
لن اعيش الي ذاك الوقت، لن اعيش تلك الروعة. لا تزال هناك ايد وكلمات تمتد الي عروقي وتُسقط قتلي في روحي. مع ذلك علي ان اخرج من هذه المعركة بأقل دم ممكن. عليّ ان اصافح الأيدي بأية حيلة، وان استدرج الكلمات للعب وهي ترفع خنجرها عليّ. هكذا ربما اجعلها صديقة. هكذا ربما أكسب استراحة. هكذا ربما اخرج من هذه المعركة غير قاتل، ولو خرجت قتيلا.
تعالي يا ألف أريد ان ألعب معك. أيتها العمود الجميل، السلم الرائع الي مجهول رائع. تسلقي عليه واتسلق عليك، علنا، ايتها المبتدأ، نطل علي نهاية جميلة.
فلنلعب. البدء كان لعبة والبادئ كان لاعبا. فلنكمل لعبته برقة لم يكن يملكها، علنا نضفي علي وجهها جمالا.
وتعالي يا باء. يا بهاء ملتفا علي ذاته انا شريكك. ارمِ لي الطابة، انها تحت وسادتك، فنتقاذفها مسرورين. الطابة كنزك، ولا سرور لمالك الكنز ان لم يقذفه بقدميه.
اريد ان ألعب مع الاحرف. هي مثلي وحيدة وتحتاج الي من يسليها.
اريد ان اكون صديق التي أسيء اليها منذ ان تعلم الناس النطق. صديق التي ولدت لتلعب، فجروها الي الجدية والصرامة والمآتم والقتل.
فلنلعب يا كلمات يا قاتلة ناطقيها وسامعيها. يا من ولدت بريئة عودي الي براءتك، مرة واحدة كرمي للمقتولين بك. عودي بريئة يا كلمات والعبي. انا قتيلك وأريد ان ألعب معك. أنا القتيل وأريد ان ألعب. أريد ان ألعب.
من زمان من زمان، حين مررت مرة امام لعبة توقفت وقلت لها كوني لي. لم تكن. حاولت ان يكون قولي لها لعبة. لم يكن. حاولت ان اجعل نسيانها ونسيان كلماتي لعبة، وفشلت ايضا، أليس في الارض ألعاب؟ اعطوني واحدة. ماذا اقول للذي يقال انه هناك ويسأل الاموات ماذا فعلتم في الحياة؟ أأقول له عشت بلا لعبة؟ وان قال خلقتكم ألعابا لماذا لم تلعب؟ بماذا اجيب؟ اعطوني لعبة لدقيقة واحدة، فأنا لدي حجج كثيرة افحمه بها الا واحدة، فاعطوني لعبة.
هوذا الغيم أتي فأهلا يا صديقي. لم يكن مطرك مرة دمع غائبين، كان ذلك كذبا مني. كنت كذوبا جدا. قلت انك لهاث بعيدين، وانك نظرات ضيعها اصحابها وهم يحدّقون في الشفق. تعال الان يا صديقي انك غيم، غيم فقط، وهذا جميل جدا.
اعترف الان بأني اخترعت أكاذيب كثيرة من الكلمات. ما قلته وما كتبته لم يكن سوي كذب. ابن لقيط لمخيلة مجنونة. ما قلته وكتبته كان خيانة لبراءة الكلمات، هذه التي اطالبها بالبراءة وأمارس العهر معها.
لقد ظلمتُ الغيم. وظلمت رئيس الطيور ونشارة الخشب. ظلمت الشجر حين قلت يثمر من النظرات، والجبال اذ ألبستها اقداما. وظلمت الموتي حين اعدت عظامهم الي الحياة، والحياة حين اعدتها الي الموتي.
ظلمت الناس والاشياء والحياة. هؤلاء كانوا شيئا آخر غير ما ظننت وما أملت، وكان عليّ ان اعرف ذلك. كان عليّ ان اعرفهم كما هم، لا كما ارغب، وان احبهم.
تعال ايها الغيم اريد ان ألعب معك. انت بعيد وأنا اعرف الان ان اللعب لا يكون جميلا الا بين بعيدين. الجمال هو البعيد، البعيد فقط. فلنلعب أيها الغيم يا حيلتي الوحيدة الباقية في البعيدة، بعدما اقتربت الارض مني كثيرا.
اقتربت مني الارض فرأيت احشاءها. رأيت دمها وبولها وبرازها. التصقت الارض بي فأغماني العفن.
أيها البعيد يا صديقي. يا صديقي أيها البعيد.
مثل عصفور ينقر نقرة واحدة ويطير، هكذا كنت اريد حياتي.
وكنت موقوف وهم: وهم ارض حسبتها ملكي، ووهم مكان اعتقدت أني مقيم فيه، ووهم كلمات ظننت اني انا قائلها، ووهم افعال تخيلت اني انا فاعلها، ووهم وجود ظننته نفسي.
استطالت الارض فلتعد مستديرة عليّ اتوهم بعد شيئا جميلا في مقلبها لا اراه.
جالس الان وكل شيء مكشوف امامي. أريد شيئا مختبئا، اريد استعادة جمال الغائب.
يا مقلب الارض عد. أريد ان امضي فيك ما بقي من وقتي.
سلام سلام علي الغيم هناك. علي شجر قد يكون موجودا فيه ولا اراه. علي اوراق ربما سقطت منه في ارض بعيدة. علي نقاطه التي نزلت علي نهر وغابت. سلام سلام علي البعيد. علي دفتري المدرسي. علي اللعبة التي لم املكها. علي قلب اللوز الذي سقط من يدي فهرسته الدواليب واختفي… سلام علي الحياة.
امسك يدي وألعب بأصابعها. ألا تزالين يا أصابع صديقة؟
خنصر بنصر سبابة… يا لهول ما تعلمناه! يا لهراء التسميات التي افسدت طفولتنا.
اري الان جمعا من الموتي، هاي، انت هناك، ما اسمك؟ كان علي الارض شبيه بك ألتقيه كل يوم. لم تكلمني مرة مع اننا مشينا كتفا علي كتف وكنت احب ان اسمع صوتك. كان صوتك سيؤنسني وصوتي سيؤنسك في ذاك الشارع الذي كان كل من فيه وحيدا.
وأنتِ، انت الوحيدة في الزاوية هناك، ألست أمي؟ اقسم انك أنت، ولو ان نظراتك باردة وجوفاء كأنك لا تعرفينني. انسيتني يا أمي!
بخار فوق بخار. كأن الكون عاد الي بدئه.
كأن الحياة اكتملت اخيرا.
أنقب في البخار انقب في الموتي اريد ان اري ضلعي. كان لي ضلع، اتذكر، فأين صار؟ كان لي ضلع وأحبه، أريد ان اراه.
يا هذياني الجميل يا الهي، ابق معي. اسهر معي بعد هذه الليلة.
اني أري الموتي. اري الموتي والاحياء في الضمادات، ويشعلون القماش لكي نراهم.
هو هراء، هراء يا كلمات. فهؤلاء حين لا يرون مرآتي أكون لا اراهم، لان الاشياء صارت ورائي لا امامي.
فلنلعب يا حاء يا حرباء يا حياتي. يا حاء يا فاء يا حفيف الضلوع اذ تنحلّ ترابا يا فحيح الافاعي. يا سين يا ميم يا سمي وموتي، هذه هي سروتي، سدرتي، يائي.
لقد اقتربت الارض مني. الارض اقتربت كثيرا.
قلت اختزنك في نظراتي أيها الغيم. قلت اختزن للموت شيئا خفيفا طائرا عله يرفع معه عيني، تلك التي رأت فقتلتها رؤاها.
كانت الرؤية قاتلة ايضا، هل كان ينبغي عليّ ألا اري؟
ليس العمي هو المتاهة بل الرؤية. الرؤية يا بورخيس، الرؤية. النظرات تقودنا من متاهة الي متاهة. وكل نظرة تقتل ما تراه، وتقود الي شيء آخر تقتله نظرة اخري. الاشياء ضحايا النظرات يا بورخيس.
رأيت كثيرا فقتلت كثيرا وقتلت كثيرا. ما بقي حيا كان فقط في المقلب الآخر الذي لا اراه. غير ان الارض انبسطت وصار كل ما فيها قتيلا.
أيها البعيد يا صديقي، يا صديقي أيها البعيد، وأنت ايضا لم يعد فيك شيء غير مرئي لكي يحييني؟ أو انت ايضا يا صديقي؟
طير جاء. جاء طير الان وحط علي شجرة أمامي. الي هنا، الي حديقة صغيرة معزولة صامتة جاء طير، فيا للحياة الجميلة!
جاء طير حط لحظة وطار. لم ينظر الي، اني حي اذن، اني خارج النظر، فيا للحياة الجميلة! لكن حياتي كانت كلها نظرات، فهل كنت ميتا دائما؟
هوذا الغيم أتي فأهلا يا صديقي. لم يكن مطرك دمع عيون، كنت كذوبا. ظننت العين شيئا رائعا واحبك، فاخترعت لك عيونا. انك اعمي واحب الان عماك. انت اعمي ولذلك تحيي. استعيد الان نقاطك التي نزلت علي في الشوارع. نقاط كثيرة وكانت بمنديل تمحي. وذاك المحو، ذاك المحو علي الارجح، كان حياتي.
الاشياء ضحايا النظرات. احببت هذه الجملة ولذلك اكرر كتابتها علي الكلمات التي نحبها ان تبقي دائما في افواهنا وان نعيد كتابتها مرارا علي الورق. علينا ان نكررها دائما لانها تمنحنا شعورا بأن الحياة لا تزال فيها كلمات حبيبة وبأننا لا نزال نستطيع قول شيء نحبه. الكلمات التي نحبها تجعلنا نشعر بالكرامة وبعزة القول. الكلمات التي نحبها تجعلنا نشعر بأننا حقا موجودون.. الاشياء ضحايا النظرات، الاشياء ضحايا النظرات.
اكتب فقط لكي اتسلي. اقول الكلمات لكي اتسلي. ولان هذه الكتابة لعبة زائفة وللرمي في القمامة، يمكنني ان انتصر عليها. يمكنني ان ابدد معانيها وأنا ابدد الوقت بها. يمكنني ان اكتب كل شيء من دون ان اقول اي شيء. ان اكتب سخافاتي بحرية، وان اسلخ جلد الكلمات عن عظمها، وان احرّف القول واربك المعني.. يمكنني اخيرا ان اخرج من هذا السجن المعذب الرهيب الذي يفرض وجود معني لكل شيء، ويحدد هوية الجميع، والذي قضيت فيه وقضي الجميع كل اعمارهم.
الخروج من المعني، هذا بالضبط ما اريده.
اليوم مات صديقي. كان شاسعا، لم تسعه الارض فخرج.
اليوم مات صديقي يا كلاما. مت اليوم يا كلاما يا صديقي.
ما اقوله الان رجع خطاك. اقول ظلك أيها الكلام يا صديقي. اقول غيابك. الغياب لغتي.
صديقي؟ من صديقي؟ هل كان لي حقا اصدقاء؟
كانوا علي الارجح نتاج نظرات، هؤلاء الذين مروا في حياتنا وغادرونا.
كانت دروبنا ايضا، ومقاعدنا، نتاج نظرات.
الرؤية ترمي. العمي يحمينا.
لكن كثيرين ماتوا والكل ميت او سيموت، لم التوقف هنا؟ لي صديق كاتب في استراليا يكتب عن الحمير، عن الاموات منها وعن الاحياء. احببته. فكل الكتاب يكتبون عن البشر وهو يكتب عن الحمير. الذين يكتبون عن البشر يرفسهم البشر، لكني لم اسمع ان حمارا رفس واحدا لانه كتب عنه. ذلك، ببساطة، لان الحمير لا يقرأون، وهذا برهان آخر علي ان العمي، العمي المعرفي، مسالم وغباؤه جميل: لا يرمي ولا يرفس.. لكن الذين لا يقرأون من البشر يرفسون ايضا، والقارئون يفعلون الفعل نفسه. فهل يعني هذا ان الرفس، بسبب وبغير سبب، هو صفة ملازمة للبشر كيفما كانوا وان الدنيا تبقي بألف خير طالما فيها حمير؟
احترت. انا قاعد الان في منزل مستأجر في سيدني ومحتار: هل احب البشر ام احب الحمير؟ هل أبقي احب البشر واتغاضي عن رفساتهم كما كنت دائما ام احول محبتي نحو حيوان علي وشك ان ينقرض، عرفته حين كنت فتيا ولم اعد اراه منذ ذاك الحين؟ لكن لم الحيرة؟ فلطالما اتجهت محبتي نحو الغائبين والمنقرضين، ولطالما كان المنسيون والمنبوذون وحدهم اصدقائي. لم الحيرة والاشياء كلها الان لي سواء: رافسها وعاضها وقاضمها والواقف منتظرا حتي يعض فيعض. لم الحيرة، كل الاشياء تساوت لدي، وها انا لا اريد سوي فقط ان انساها كلها، وامضي.
ولكن امضي الي أين؟ الي العالم الآخر؟ وإنْ هناك عالم آخر، هل فيه حمير؟
يقال فيه ملائكة وشياطين فقط، وناس يتوزعون بين هؤلاء واولئك. لم اسمع احدا يقول ان في العالم الآخر حميرا. الي أين تذهب الحمير اذن؟ ألا يجب ان يبقي الرفاق رفاقا في الحياة والموت معا، ام ان في العالم الآخر عنصرية اشرس مما في عالمنا فلا يستقبل الحمير حتي اذلاء؟
هذه عنصرية والله لا تُحتمل. فأي حمار يرغب ان يكون في عالم كذاك؟
احب ان امضي ولكن ليس الي هناك. احب ان امضي الي حيث يمضي الحمير.
لا احب الملائكة ولا الشياطين. فالملائكة ستستقبلني باعتقاد أنها اكثر طهارة مني، والشياطين ستستقبلني باعتقاد انها اكثر نجاسة مني، وكلاهما مخطئان ومع ذلك سيستأسدان عليّ. لن اذهب الي العالم الآخر. خذوني الي حيث يذهب الحمير.
كان آدم ضجرا، قيل، فجيء بحواء كي يتسلي. وقيل سقطا في اختبار التفاحة فجيء بهما الي الارض.. يا للعقل البشري الخرف!
اريد ان ألتهم التفاحة التهاما فاءتني بها يا عقلا خرفا. عقل بور كهذا أية ارض يمكن ان يزرع؟ وأي زرع هذا المحرم، وما نفعه؟
اسمعوني يا زوار هذه الارض القاحلة، ازرعوا تفاحا كثيرا وكلوه كله. بذلك، ربما، قد تغيرون مبدأ الارض المؤسس علي اليباب، ومبدأ الخلاص المؤسس علي الجوع، ومبدأ الفضيلة المؤسس علي النسك، ومبدأ العالم الآخر الحلمي المؤسس علي الغاء عالم اليقظة.. بذلك، ربما، تخلقون الحياة حقا!
اسمعوني وكلوا، ولا تسمعوا زارع التفاح للزينة والعقاب. هذه ارضكم لا ارضه، ازرعوها وكلوا. ومن يبقي في ارضه بوصة بلا زرع وأكل، يبقي في رأسه فجوة من الدماغ الخرف.
ايتها الارض الجميلة أين كنت؟
حين كنت استطيع ان ازرعك جمالا لماذا استسلمت لدعاة اليباب؟
لماذا تبعت الخرافة وضللت عنك؟
كذبا بكذب كان ذاك كله. وكذب أني الان اتسلي. اني أتألم.
من ذا الذي يمكنــه ان يتسلي؟ هذا هراء. ان لعـــب مع الارض فهي طــــابة كبيرة عليه، وان لعب مع ذاته فهي صغيرة وتنزلق من بين يديه، ولن يمسكها ابدا.
لا العالم يمسك ولا الذات، ولا النظرات التي نرسلها للامساك بشيء في العالم ستعود الينا.
ضالون ومضللون. العالم اوسع مما ينبغي والذات اضيق مما ينبغي. الاول ضلالنا، والثانية ضالتنا.
ضلال بضلال. اهذه ما اسموها حضارة؟ قبلها كان الانسان علي الارجح ملك ذاته والارض ملكه. كانا يتبادلان الملك او يظنان ذلك، وكانا اعميين في التبادل والظن. وذاك العمي، ذاك الغباء، ما كان أجمله!
ابتعدت ابتعدت وها الارض تلتصق بي اخيرا.
تلتصق حتي اني لم اعد اميز بينها وبين جلدي. اخذتْ جلدي ولم تعطني جلدها. التصقت الارض بي وصرت بلا جلد.

2
يجب ان اتكلم. ما قلته وما كتبته في الماضي لم يكن كلاما. ما قلته وما كتبته كان صمتا.
قلت كثيرا وكتبت كثيرا لكنه لم يكن سوي صمت. اشعر الان يجب ان اقول شيئا. يجب ان اتكلم، لا يجوز ان اذهب من دون كلام.
علي، ربما، ان اتحدث مع الغابة. ان اقول للشجر شكرا علي الأقل، لانه اطعمني وأدفأني. يجب ان اقول شيئا للتراب، وللغيم الذي امطر عليه وعليّ، وللسماء، والنظرة. شيئا للاسفلت، للرحلة، للكلب الغريب. يجب ان اقول شيئا لنقطة الماء الاخيرة التي نزلت من دلو أمي علي الحبقة، وللدرجة السفلي التي قعد عليها أبي، وللدمي التي ابتهج بها اطفالي. يجب ان اقول شيئا للرمل، لجزيرة الجرحي، للعظمة التي كانت تنقص العالم كي يمشي. شيئا للجبال العالية، وللشبكة التي رسمتها لانهيار أيامي لكي تصل الي الوادي سليمة.
يجب ان اقول شيئا لاحد. ولكن أين هو؟ وماذا أقول؟
صمت اذن. كان ذاك صمتا، وهذا صمت ايضا.
هناك بقعة بعيدة، بعيدة، احب ان اراها.
عصفور رأيته لاول مرة ودهشت، أريد ان اراه مرة ثانية. قمر ونجوم، والتفاتات ظلال مزهوة، وصوت بعيد ياتي من مصبه.
موتي في قطار، بقايا نظرات، وذبابة تحوم حول ذراعي.
ورقة منسية، زر قميص ضائع، وواحد يقول آه ! هؤلاء هم، هؤلاء من أريد ان اقول لهم شيئا.
والعشب اذ يرتبك.
أريد ان اتحدث مع الارتباك..
واقف في الشارع في منتصف الليل، ونقطة ماء نزلت علي من غيمة.
السماء ترسل اشارة رطبة الي مرضاها.
أم انها نظرة اخري ضائعة في الفضاء، ولجأت الي ظانة أني عينها؟
إنني أعمي، أعمي، يا نقطة. فقدت عيني من زمان، ولا تزال نظراتي الاولي تبحث عنهما ولا تجدهما. ما اظن اني اراه ليس سوي ترسب لمعان قديم في ذاكرتي. فنحن الذين تحت، يا آتية من فوق، لا نري غير ذكري، ولا نسمع غير ذكري، ولا نقول غير ذكري. نحن يا صديقتي لسنا نحن. نحن ذكري انفسنا، اننا فقط ذكري.
ام انها نقطة الماء التي نزلت علي حبقة أمي تبخرت وعادت الي؟
ولماذا تعود؟ فلا حبقة لدي ولا أم. لا عين ولا نظرة. لدي فقط وهمي. وهذا يصنع الخرافات، ويصنع المعجزات. يجعل الفراغ يمطر، واليباب يثمر، وخنجر الاحلام زهرة جميلة في الجرح. وهو علي الارجح صنع الارض، وصنع السماء. انه افق الانسان وعمقه، امتداده وعلوه ورجاؤه وايمانه. فهل يعجز صانع المعجزات هذا عن اسقاط نقطة ماء من غيمة علي رجل واقف في الشارع؟ هل يعجز وهم عن اسقاط ماء وهمي علي رجل وهمي في ليل وهمي؟
لم يعجز، وقد فعل، وسقطت تلك النقطة علي ولا غيمة في السماء ولست في الشارع.
هذا، تماما، مثلما كنت انسي معطفي في المقاهي، ومع ذلك اكون ارتديه وانا عائد الي بيتي.
فما ابهاك ايها الوهم! انت الجمال الوحيد. المنتصر الاوحد علي البشاعة. كاسر المقاييس ومحطم المبادئ. قالب الارض رأسا علي عقب، والسماء رأسا علي عقب. خالق ما لا يخلق ومكون ما لا يكون.. ما ابهاك ايها الوهم، يا إلهي.
كان وهما جميلا، لكنه مات هو ايضا.
امشي الان بلا إله. أمشي بلا وهم. محاط بالحقيقة من كل جانب، فمن يقوي علي تحمل هذا؟!
ربما لذلك شخت. ربما لذلك عجزت، وصرت اتعب من المشي حتي في بيتي. الحقيقة التي تتعب ارواحنا تتعب اجسادنا ايضا، وتجعلنا عاجزين عن الانتقال من غرفة الي غرفة.
يا ميم يا شين يا ياء عودي واتحدي، فلعلي امشي.
بالتحام الاحرف تلتحم ضلوع الناس ايضا. فالضلوع البشرية ليست سوي احرف، تنتظر من يلحمها لكي تصير شخصا يمشي.
زرعت اليوم نبتة في سيدني. ضلوع مفككة ومع ذلك زرعت نبتة. وستصير النبتة شجرة انظر اليها وارحل، لكن الهواء سيبقي، اذ يلمسها، يشم رائحة اصابعي.
فافرح بهذا الخلود يا وديع. الخلود الذي هو ذكري رائحة، خيال يد في التراب. الخلود الذي هو عبور هواء، صمت ورق.
افرح بهذا الوهم الذي هو ايضا ضلوع مفككة، ولكن بالتحام الاحرف تلتحم الضلوع، فجيئوا بالاحرف كي نلحمها. الحموا الوا و الهاء و الميم . الحموا الخاء و اللام و الواو و الدال . الحموا ضلوع الوهم وضلوع الخلود، فيصيران شخصين مثلنا، يزوراننا في الليالي، ونشرب معهما العرق ونلعب الورق.
والحموا الشين و الجيم و الراء و الراء و التاء . السعادة هي أن ننظر الي شجرة زرعناها، ثم نذهب الي النوم.
ألحم الاحرف وأعد المائدة: الوهم والخلود ضيفاي.
في الليالي المقمرة يسعد الموتي. يخرجون ليتقمروا. يستلقون تحت ضوء القمر ويخبرون بعضهم حكايات. يعيدون علي مسامع انفسهم حكاياتهم الاولي هناك، حين كانوا يستلقون تحت ضوء الشمس ليتشمسوا.
لا يخرج الموتي في النهارات من مقابرهم. الضوء الساطع هو ضوء الجن والعفاريت والاشباح المخيفة. عالم الشمس مرعب وقاتل وهم يريدون سلاما وطمأنين..
يخرج الموتي في الليالي ليستعيدوا حكايات لم يعد ينزف قتلاها دما ولا عاد الموت يرعبهم. يستعيدون وجوههم التي سقطت برعب هناك، وتسقط الان في بالهم مطمئنة.
تعرفت الي موتي كثيرين. جالستهم طويلا حين كانوا احياء، وجالستهم طويلا بعدما صاروا موتي. قعدنا وشربنا وأكلنا معا وتحدثنا كثيرا.. لكني سمعت لغة غريبة من الموتي، ولا اعرف لماذا فهمتها اكثر مما فهمت لغة الاحياء.
لن تفهموا لو قلت لكم ما قاله لي الموتي. يجب ان تدخلوا في الموت مثلي، وتجالسوا الموتي، لكي تفهموا.
هل جلستم مرة مع العدم؟ هل تعلمتم لغة العدم وسمعتم ماذا يقول؟
كيف لعدمي اذن ان يوصل الي الممتلئين بالحياة كلاما مفهوما؟ كيف يقنعهم بأن الكلمات مخلوقات اخري غير ما يعتقدون، لها طبائعها وامزجتها ومفاهيمها التي لن تخطر لهم علي بال. مخلوقات شبحية متقلبة خبيثة ومفترسة. تكون تمضغهم في الوقت الذي يعتقدون انهم ينطقونها. وتكون تضلهم في الوقت الذي يعتقدون انها الطريق. وتقتلهم حين يظنون انهم يحيون بها، ويحيون اذ يمحونها.
كيف لميت ان يفهم الاحياء لغة الموتي؟ كيف يقنعهم مثلا بأن الواو اداة قطع ونقص لا اداة وصل واضافة؟ فهل ينقطع شيء ان لم يكن موصولا؟
واذ يكون بلا وصل ألا يكون مكتملا بذاته فيأتي تطلب الوصل لكي يجعله ناقصا؟
وهل يقتنع الاحياء بأن الكاف التي قيل لهم انها للتشبه انما هي لمحو الشبيه؟ اذ كيف لا يمحي وجه ان شبه بآخر؟ كيف تكون له خصوصية ملامح ان كانت شبيهة سواها؟ كيف يكون هو، ان كان آخر؟ الكاف حرف مفترس ايضا، فالتشبيه افتراس للشبيه لا احياء في شبه.
لن يفهم الاحياء معاني الكلمات التي اعتادوا نطقها. لن يفهموها الا اذا اكتسبوا طبائع الموتي. فالذين صاروا هناك فهموا اللغة كلها، ولن يفهمها الذين هنا الا اذا نسفوها كلها وادركوا انها لغة موتي لا لغة احياء.
انني ادرك تماما عجز الناطقين وعجز السامعين. فأنا كنت مثلهم، الي ان ادركت ان لغة حياتي هي لغة موتي.
افهم عجز الجميع، لان الجميع يريد ان يكون حرف وصل وأداة تشبيه. افهم عجز الجميع لان الجميع يريد ان يكون الجميع. فالوصل عجز والقطع قدرة، والتشبه اضمحلال والفرادة وجود. ولذلك لا وجود، ولا قدرة، الا لناسفي هذه اللغة. لا وجود ولا قدرة الا لجحافل المتمردين.
وهؤلاء هم، هؤلاء هم القتلي، الذين لغة حياتهم هي لغة موتهم.
اقترب أيها الغيم يا لهاثنا. يريد الموتي ان يضعوا فيك كائنات جديدة.
يريد الموتي ان يصنعوا عالما آخر، فاقترب أيها الغيم.
بانخطاف الدخول في الهواء والاندماج في الندي، يولدون. تتكون النطفة من شفافين. من خفيفين لا مرئيين. لا يقسوان لئلا يُلمسا فيضيعان في يد اخري. ولا يريان لئلا يذوبا في نظر.
اقترب يا غيم، هناك ملاك مهاجر.
ملاك مهاجر يا غيم يبحث عن مكان، فاقترب. ألا مكان في الفضاء ايضا لملاك مهاجر؟!
قال لي أبي: تعلّم من الشجر، فأنت سنديانة مقيمة.. أريد الهواء يا أبي أريد هبوب الريح. ألمس الشجر وأبتعد، ألمس الشجر وأبتعد، ألمس الوجوه واختفي!
اقامتي الفضاء الشاسع، اقامتي اللامكان. شارد لا رفاق لي. الشجر مسلي وليس رفيقي. بين قفز وقفز ألاعب اوراقه، ليس رفيقي ولا سلفي ولا نسلي.
والوجوه ليست محفظتي. ليس لي محفظة يا أبي. لا احتفظ بشيء، لا الوجوه ولا غيرها. فأنا هارب وليس ورائي سوي غبار.
لا، لا، ليست الحياة الجميلة شجرة زرعناها ننظر اليها ثم نذهب الي النوم.
الحياة الجميلة هي الهواء الذي يلمس الشجر، ويمضي.
وأنا في سيدني تلقيت نبأ من بيروت أني ميت. لم أن اعرف اني ميت حتي تلقيت نبأ موتي فعرفت. اتصلوا بي وسألوني: هل انت ميت حقا كما قيل لنا؟ فوجئت واحترت.. ثم اجبت: نعم.
لا يعرف الواحد انه ميت حتي يخبره سواه. الموت خبر، ويصير حالة بالمعرفة. كنت حيا او اظن، وحين عرفت مت.
وصل الي نبأ موتي في الرابعة فجرا. لم يكن ليلا ولا نهارا. كان وقتا خارج العتمة وخارج الضوء. لم يكن وقتا كان هيولي وقت. وكان هيولي مكان وهيولي حالة.
نظرت من النافذة ورأيت روعة ما لا يري. رأيت جمال اللامرئي.
وفي تحسس غيابي، أيقنت جمال لمس الفراغ.
كم هو رائع هذا اللامرئي كم هو رائع! لا يخدش نظرا ولا يطلب رؤية. لا يسعي الي عين ولا العين تحتاج الي سعي لكي تراه. لا تحتاج الرؤية الي عين لكي تمتلئ بروعته.
نظرت من النافذة. لا غيم لا شجر. أين أنت أيها الغيم اريد ان اودع فيك آخر انفاسي.
نفس ربما يصير ماء ذات يوم وينزل علي شجرة. ربما يصير عينا تلتقي بنظرتها. ربما يصير عصفورا، ينقر نقرة ويطير، كما كنت اريد حياتي.
تعال يا غيم اريد ان اودع فيك آخر اسراري:
انا الغراب الذي أرسله نوح ولم يعد. الغراب الذي صار الجهة الخامسة، ويبحثون عنها ولا يجدونها.
تعلم من الشجر، قال أبي. أين الشجر يا أبي أين الاقامة؟ السماء اذ تنجلي تأخذ ملامحها معها. نقاؤها فراغها النقاء هو الفراغ يا أبي، الاقامة امتلاء.
أريد غيما محيرا متقلبا، غيما عصي الملامح، أريد ارباك الفراغ.
اريد اختراق الفراغ وارباكه. جعله حائرا قلقا كالامتلاء. اريد مساواة الامتلاء بالفراغ والوجود بالعدم.
هكذا، علي الاقل، يجلس الحاضرون والغائبون معا، ويتسامرون طوال الوقت، الي الابد.
هكذا لا يرغب الحاضرون في امتلاء، فيخفون كريش. ولا يرغب الغائبون في حضور، فيبقون هواء.
هكذا تلتقي الخفقة بنفسها، ويولد كون جميل.
راكض لاهث ضائع، ليس لي ريش ولست هواء. كيف اجمع حضوري بغيابي وألد منهما كوني؟
الحياة التي نزفت دما كثيرا أثقلها دمها وغرقت فيه. الفم الذي قال كلاما كثيرا سحقه حطام كلامه. الرئة التي لهثت كثيرا اختنقت تحت ركام لهاثها.
كيف اجعل من الغرق والحطام والاختناق كونا؟
في البعيد خشبة، هذا أمل الغرقي. في البعيد غيم، هذا أملي.
عدتم؟ اهلا بكم أيها الموتي. هل اصطدتم شيئا في هذه الرحلة؟ اوقدوا النار اذن، أريد ان اشارك في الوليمة. هل كان نائما، مختبئا، ام جافلا هذا الاله الذي اصطدتموه؟ وقولوا، صفوا لي ملامح وجهه وهو ينتظر الرصاصة. هل خاف؟ هل بان الرعب عليه؟ وهل كان رعبه شبيها برعبكم امام رصاصة؟
اوقدوا النار اريد ان آكل وأشرب وأسكر معكم. اريد ان اشرب نخبكم يا صيادي الالهة في مجاهل العدم، في رحلة الانقلاب العظيم، حيث يحيا القتيل ويموت القاتل، وينحني السيد ويشمخ العبد، وتصير الرعية الله والله الرعية.
خذوا كلوا.. هذا هو الجسد الذي جعلكم جائعين.
سينفجر البركان قريبا. وصلت النار الي الحد وسينفجر. ستكون للارض مائدة عامرة من اجساد مشوية. ستطهي الملائكة والقديسون والآلهة، وتطبخ العفاريت والشياطين والجن، ويجد المشردون في الارض والجائعون اطباقا وضعت فجأة امامهم.
سيكون احتفال كبير للمنسيين علي الارض. فالبركان اقترب انفجاره، وسيشبع الجوعي من فحم الارض اخيرا.
راكض لاهث لا درب لي ولا وجهة. هارب من فم الارض. الارض اقتربت مني كثيرا وأريد ان ابتعد. ظلمت ريش الطيور كيف اطير؟ ظلمت الموتي كيف يستقبلونني؟
والغيم ان أتي بماذا ألعب معه؟ والوهم ان تخيلته كيف اقيم فيه؟
راكض لاهث كيف تؤويني الكلمات؟ والاشياء اذا نظرت اليها كيف تعرفني؟
وماذا اقول للارتباك ان تحدثت اليه؟ وكيف اربكك الارتباك وهو مربكي؟ وان، بالوهم، اخترقت الفراغ وأربكته، فهل يمكن حقا ان اساويه بالامتلاء؟
لقد اقتربت الارض.
اقتربت الأرض مني كثيرا.
الأرض اقتربت من الفراغ.
°°°°°

وديع سعادة: شاعر من لبنان يقيم في استراليا

منقول من موقع فوبيا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق