الاثنين، 12 ديسمبر 2011

توجيه الثقافة دستور الأحزاب الدينية لأستمرار شرعيتها ... القاص محمد علام

 
في عام 1919 كان المصريون جميعاً على قلب رجل واحد يهتفون للثورة ضد المحتل الانجليزي وكان شيوخ الأزهر مع رجال الكنيسة من أهم الدعاة للثورة والمحرضين عليها . بإستثناء رجل واحد لم يكن لحسن الحظ مشهوراً وقتها ولم يكن لحسن الحظ يملك من النفوذ والتأثير أثناء حياته بنفس التأثير بعد وفاته
هذا الرجل هو الشيخ " محمد حامد الفقي " كان عالماً شاباً من الأزهر خالف زملاءه في ميولهم الوسطية والوطنية واعتنق المذهب السلفي واسس مع اثنين من زملاءه هما " عبد الرازق عفيفي " و " محمد علي عبد الرحيم " وآخرون جماعة السنة المحمدية والتي كانت أول كيان تنظيمي للسلفيين في مصر وقد أصدرت مجلة " الهدى النبوي " وكانت الأفكار التي اعتنقها الشيخ هي دافعه لأن يواجه الثورة بالعداء واطلاقه على النساء المصريات لمشاركتهن لأول مرة عبر التاريخ في ثورة جماعية جنب إلى جنب الرجال بعد ما خلعت البرقع التركي واكتفت بالحجاب فقال الرجل : " إن خروج الإحتلال لا يكون بالمظاهرات التي تخرج فيها النساء متبرجات
وهكذا كان سيادة الشيخ العبقري تاركاً لكل أسباب الثورة وأهدافها وهذا الحدث العظيم الذي بهر العالم ضارباً به عرض الحائط اعتراضاً فقط على مشاركة النساء وليس ذلك فقط بل اعتراضه أيضاً على مشاركة المسلمين إلى جوار المسيحين مستنكراً على الثورة أن يكون شعارها الرئيسي " الدين لله والوطن للجميع!
وهكذا منذ بداية تاريخ الأحزاب الدينية في مصر والتي تسعى دائما لتوجيه نظرة المجتمع للأحداث بنظرة عنصرية تستمدها من شرعية القرآن والسنة ، ومثلما حدث في ثورة 19 حدث في ثورة يناير حينما رفض السلفيون الخروج على الحاكم ثم اتجاههم لتشكيل حزب سياسي بعد الثورة " حزب النور " والتطلع للمشاركة في الحياة البرلمانية والسياسية كان بالكافي أن يفسر ذلك حقيقة نظرتهم للثورة وقيمتها بالنسبة لهم
وكعادة الشعب المصري قليل من الوعي كثير من التعاطف خاصة مع رجال يستمدون أوامرهم من القرآن والسنة ويعملون تحت لواء الإسلام أكمل الديانات وأطهرها وكذلك الإخوان المسلمون منذ بدايتهم على يد حسن البنا والجدل الذي ساد فترة بأنها جماعة دعوية دينية أم حزبية سياسية ؟ وأعتقد أن التاريخ قد حسم هذه المسألة على مر السنين ويمكننا أن ندراكه بوضوح اليوم
وبالتأكيد إن الأحزاب الدينية ( إخوان وسلفيون ) يدركون تماماً أهمية بقائهم تحت لواء الدين الذي يعطيهم الشرعية لدى الناس . فهم يدركون تماماً طبيعة العقول المصرية وعجزها عن المعارضة المنطقية السليمة لنقع فخاً للفزاعة ( أنا أعترض أنا كافر إذاً أنا في النار ) . ولعل هذه القوة هي علاقة ارتباط للداخل بالخارج ، الباطن بالظاهر داخل وعي المتلقي أو المواطن ، في برهة هي العناصر المكونة للموضوع فكل من هذه العناصر لها وجودها المستقل في وعي المواطن ولكن القوة هي التي تتخذ من تلاشي العناصر المكونة للموضوع من أجل اندثارها أو بالأصح [ نفيها ] ، وحين نبقي الوحدة المباشرة على هاتين البرهتين في داخلهما لايمكن التمييز بينهما إلا في التفكير ، ولنأتي لهذه القوة ذاتها التي تنجح في أن تكون هي الوسط الكلي لبقاء عناصر الموضوع غير متمايزة للحفاظ على وحدة الموضوع وهنا تفقد العناصر استقلاليتها فتنتفي أو تلتغي . وبالتالي فإن هذه الغيرية الأخروية هي مايلغي التعبير الخارجي للقوة أي أنها قوة ارتدت إلى نفسها فالنفي فقط من أجل التمظهر
فالدين بأركانه من قرآن وسنة وصحابة هي البرهات الكلية التي لايجوز الإقتراب منها في عقل المواطن لأنه تلقاها وحدة كاملة وهذا ما تفعله الاحزاب الدينية لاتسمح لأحد بأن يفند عناصر هذه الوحدة حتى لا يمكن استيعابها أونقدها أو توسيع مفهومها وحتى تظل بشرعيتها الدينية
لأن كسر وحدة البرهات الكلية هذه تكسر الوحدة الدينية التي تلقاها العقل وتبدأ في تجاوبه مع مؤثرات فكرية وتطلعات تسمح له بالفصل بين الدين والسياسة والفن والأخلاق ومعيار الصلاح والحرية المكفولة للجميع . وهذا ماتدركه الأحزاب الدينية جيداً ، وتعلم أنه لن يحدث ذلك إلا بثقافة موسعة تشمل كتب الفلسفة والمنطق وعلم النفس والإبداعات العربية والغربية والانفتاح على الثقافات السياسية والاجتماعية والانخراط فيها ومنها بالمثيلوجيا الإغريقية الرومانية والهندية والخ .. ولذلك فطبقا لدستور هذه الأحزاب : كله حرام لأنها كتب للكفر والزندقة
ربما أنني لست من متابعي السيد/ حازم صلاح جيداً ولكن من الواضح من حواراته وكل ممثلي التيار الإسلامي أن النظرة الشاملة للمجتمع في نظرهم هي أن الإنسان ليس سوى مسلم أو مسيحي فقط ؟ .. وتقسيم كل الحقوق والواجبات على هذا النحو [ الهوية دينية فقط ] ، دون نفي شرعية الدين الممولة لذلك ، ولعل هذه النظرة الدونية للقائمين على الدين هي الممهد الحقيقي لفتنة بين الطوائف الدينية في مصر وتأكيد نزعة عنصرية تشكل وعي الأجيال القادمة
السيد/ حازم صلاح قال بأننا نحترم الإخوة الأقباط . أو نسي سيادة المتطلع لرئاسة الجمهورية أن القبطي تعني مصري وتشمل مسيحي مع مسلم ؟ .. وإن كان يقصد سيادته الإخوة المسيحين .. فهل نسي بأن في مصر يهود ؟ ونسي أنه في مصر هندوس وبوذيين وبهائيين وملحدين ؟ هل احترام الانسان الذي بثه الرسول منذ فجر الدعوة الإسلامية وفكرة الحرية التي دعمها القرآن ووسعها على أعلى مستوى كانت تحاكم الفرد بناءاً على اتجاهاته العقائدية
إحترام الإنسانية هي السمة الأسمى والتي تميز بها الغرب عنا منذ مئات السنين ونحن لانزال نعاني من العنصرية والقبلية والفاشيستية الدينية ، ونزن معيار فساد الشخص بشربه للخمر أو كونه شاذا جنسياً ؟ أو نسوا أن عباقرة العالم وعلمائه كانوا شاربي للخمر ؟ أو نسوا أن دافنشي الذي ابهر العالم وتربع على عرش الفن التشكيلي كان شاذا جنسيا ؟ والأمثلة تتعدد ولانحصيها
المشروعات الإصلاحية في نظر السيد/ حازم صلاح لم تتعدى فكرة النظرة الدونية لعمل المرأة وفرض الحجاب والنقاب وإغلاق شواطئ العراة بإعتبار المرأة هي الأم والقدوة ؟ أيظن أن معيار صلاح الأبناء في رداء المرأة أو مايسميه حشمتها ؟ وله من الأمثلة كثيرة ما تتنافى مع هذه النظرية عن أمهات غير محبات وخرجوا أجيالاً لمصر والعالم!
وربما هذا ما يفسر إكتساح الإخوان لبرلمان الثورة تأكيداً على وعي الشعب الذي لم ينزل لينتخب حزباً سياسياً لأنهم بطبيعة الحال لا يملكون ( الحرية والعدالة وحزب النور ) حتى الآن خططا سياسية واقتصادية وثقافية ، الشعب الذي لم يهتم بقراءة إسم المرشح ومعرفة تاريخه بقدر ما آمن أنه في معركة لإنتخاب الدين ذاته وليس انتخاب رمز سياسي!
الدين الذي بيده صلاح الفساد في البلاد ، ذلك الإصلاح العبقري الذي يتمثل في إغلاق الكباريهات والخمارات وشواطئ العراة وفرض الحجاب بالقوة ومنع كتابات محفوظ والسباعي وعبد القدوس وسيد القمني لأنها كفر وجنس وإلحاد.
عاشت مصر متقدمة .. عاشت مصر متدينة!

الاثنين، 10 أكتوبر 2011

من أخذ النظرة التي تركتُها أمام الباب؟ ... آخر ديوان للشاعر وديع سعادة

من أخذ النظرة التي تركتُها أمام الباب؟
 
2011 
وديع سعادة
 
 
 
 
 
ماء
ماءٌ كثير
يدفق في شراييني
ولا مركب.
 
في قلبي بحر
وجمهور من الغرقى.
 
  
بقليل من الحطب
بقليل من الدخان
 
بقليل من الحطب
أُحْيي الآن ذكرى الشجر
ذكرى غابات كثيرة نبتت في ذاك الماضي في رأسي
وكنتُ طيورها
وحطَّابها
والمشتعلين في مواقدها.
شجرٌ أحاول الآن بقليل من الحطب إحياء ذكراه
ذكرى طير ملوَّن حطَّ على غصن أمامي وطار
ذكرى سُحْلية على صخرة ليتني استلقيتُ قربها قليلاً
ذكرى ثمار حسبتُها أفئدةً
وأفئدةٍ  حسبتُها ثماراً وقطفتُها
وإلى الآن لا أعرف ماذا أفعل
بدم تلك الغصون.
 
بقليل من الحطب المتبقّي في قلبي
أُشعل سيجارة
وأرى في دخانها رفاقي
الذين ماتوا سكارى على الطرقات
الذين عبروا النهر بلحظة واقتادوا اليباس في تجوالهم كي يكون لهم رفيق
الذين نخزوا في عروقهم أخيلةً علَّ الدم الضجر في شرايينهم لا يبقى وحيداً في الليل الطويل
رفاقي
الذين في عيونهم طرقات
وقطارات
لا تتوقف في محطَّة
الذين تركوا المفاتيح في الداخل وصفقوا الباب ومشوا
وفي بحار نظراتهم وُلدت أسماك غريبة
وصنَّارات
رموها
واصطادوا عيونهم.
 
من الحطب المتبقّي من غابات ماضٍ بعيد
أُشعل سيجارة
وأُحاول أن أختبئ تحت دخانها
وأُخبّئ معي موتى لا يُحْصون
تحت دخان سيجارة أُخبّئ موتى وأُخبّئ أحياءً كي لا يموتوا
أُحاول أن أطرد الموت
بدخان.
 
بالحطب المتبقّي
بالدخان المتبقّي
أُحْيي ذكرى شجر وناس
تعانقوا
وصاروا دخاناً.
 
 
رأيتُ أيضاً
 
 
أيضاً رأيتُ شجراً تضربه الرياح ويسقط
شجراً في العروق
شجراً في الدم.
رأيتُ أصابع تحاول أن تصير غصوناً
وتهوي
وعيوناً تريد أن تصير ثماراً
للعابرين وللطيور
 
ورأيت ورقة
تنام
في الزاوية.
 
 
 
تلك المسافة
 
 
هل تتذكرون
تلك المسافة الطويلة التي مشيناها
كي نقعد على حجر؟
المسافة الطويلة كي نطرد
الذئابَ التي تأكل الخراف في قلوبنا وكي
نبقى أبرياء من دم الأرض
ودم المسافة؟
 
هل تتذكرون العصافير
التي أردنا ذات يوم أن تكون بيننا وبينها قربى
فزقزقنا
وانهمر الرصاص علينا؟
 
تلك المسافة
تلك المسافة الطويلة نحو خروف
نحو عصفور
نحو حجر.
 
 
 
لا تأخذِ الخيل إليه ولا الخَيَال
 
 
أَعدِ الماء إلى النبع ولا تُزعج الغيم
ولا تُصلِّ، لا تُقلق الموتى
دعْهم في ترابهم يستريحون
وإنْ انهمر مطر فخفِّف من لهاثك
لهاثُك يصعد غيماً إلى الفضاء ويمطر
والمطر يوحل التراب
ويزعج الموتى.
 
أَعدِ الماء إلى النبع ولا تأخذ الخيل إليه ولا التخيُّل ولا الخَيَال
النبع جرَّة مكسورة
لا ماء فيها
فاذهبْ بلا ماء ولا خيل ولا خَيَال.
 
 
الحكاية
 
 
الحكاية أَن لا حكاية
تلك التي قالها القبطان كانت خرافة
كي يسلِّي المسافرين في المحيط المديد
والحكايةُ الأخرى كانت خرافة أيضاً
كي يسلِّي الذين يغرقون.
 
الحكاية أنْ لا أحد في البستان
ولا أحد في الخيمة
ومن كان ينام ويزرع كان خيالاً
لا خيمة ولا بستان لكنْ قيل ذلك
كي يظنَّ الشجر أنَّ له ظلاً
ويظنّ التراب
أنَّه أُمّ.
 
الحكاية أَنْ لا أُمَّ
ولا قبطان ولا مركب ولا ظِلَّ
ولا حكاية.
 
رفيقان
 
 
رأى وجهه في النهر وظنَّ نفسه ماءً
وجرى
وجرت معه ورقة يابسة.
 
رفيقان
واحدٌ يسافر في النظرة
وواحد يسافر في العمى ويسألان
هل الماء لحمٌ؟ هل الماء شجرة؟
 
رفيقان
وجهٌ ذائبٌ وورقة يابسة
يعلوان معاً ويهبطان معاً ويرتطمان
بصخور تظنُّ الورقةُ أنها شجر
ويظنُّ هو أنها عظامه.
 
يا جاك كيرواك
 
 
كثير من الأخطاء في الإشارات والأسماء على الطريق يا جاك كيرواك
الأسهم المشيرة إلى أمكنة
توصل إلى أمكنة أخرى
واليافطات المكتوب عليها ينابيع
صحارى.
 
ماذا جرى يا جاك كي أرى السهل حوتاً يريد أن يبتلعني
والفراشةَ جداراً؟
وهل السنونوة التي سقطت ميتةً أمامي
كانت تعبر كي ترسم الطريق أم كي
تمحو العبور؟
 
يا جاك، يا جاك، إنزعِ اليافطات عن الطريق
إلغِ الينابيع والغابات والأمكنة
دلَّني فقط إلى الممرِّ الذي بلا إشارات ولا أسماء
أريد أن أعبر.
 
 
كي تشرب الذبابة
 
 
وضعَ نقطة ماء في صحن
كي تشرب الذبابة
وسلَّم نفسه للريح كي تأخذه الفراشات.
 
سلَّم نفسه للريح
فالتقطته الذبابة
وعاد إلى المكان الذي طار منه.
 
 
كي يقول
 
 
مئات الصفحات كي يقول العشبةُ ماتت
كي يقول القمرُ نام،
مئات الصفحات كي يقول خُذِ الشمعة
إنها في الزاوية هناك، مطفأة
أشعِلْها بأنفاسك إنْ شئتَ أو أَبقِها مطفأة وإنْ شئت
ارْمِها،
مئات الصفحات كي يقول عود ثقاب
كي يقول اشتعلْ
كي يُخفض الدرجة قليلاً كي يستطيع
أن ينزل،
مئات الصفحات كي يقول رأى نملة
كي يقول رأى خشبة
وكي يوهم نفسه أنه أنقذ الغريق،
مئات الصفحات كي يقول
غرقتُ ولا أرى شيئاً
كي يتسامر مع طحلب، مع فراغ
كي يرى السفن وهي تهوي
والغرقى يصرخون
وكي يلفَّ سيجارة وهو ينظر إلى الأمواج،
مئات الصفحات كي يعتذر من صرصار
وطأه ذات يوم بقدمه
كي يقول للعريشة أمام بابه شكراً
وشكراً للكلب الذي كان
يلوّح له بذنبه.
 
مئات الصفحات
مئات الصفحات
كي يقول كلمة
ولا يقولها.
 
 
لوِّحوا بالحطبة
 
 
هذه الحقول المحروقة كانت حقولكم
انظروا
وانبشوا في الرماد
قد تعثرون على وجوه كانت لكم.
 
الحطبة هناك
يدُ مزارعٍ مكسورة
والفحمة
حدقة عين
انظروا بالفحمة لوِّحوا بالحطبة
واجعلوا الورقة اليابسة لساناً ونادوا
فربَّما شبحٌ عابرٌ هناك
يرى في رماد سيجارته مزارعي تبغ
ويطفئها.
 
 
الشوارع تعرفه من حذائه
 
 
بين الإسفلت وبينه
عمرٌ من المشي
لديه أسمال
وحذاء
قديمٌ لكنَّه صار أليفاً مع قدميه
والشوارع لا تعرفه
إلاَّ به.
 
 
 
لديَّ حلم
 
 
لديَّ حلمٌ يا مارتن لوثر كينغ
حلمٌ صغير
أنْ أُعيد إلى الأرملة فلسها
وحلم
أنْ أقعد مع الكسيح
وأنْ يمرَّ هواء لطيف
بين قدميه المشلولتين والبلاطة التي يقعد عليها.
كان جميلاً
 
 
كان جميلاً منكم أن تحيُّوهم وهم يشدُّون الحبال
كي يربطوا شرايينهم بالشجر
أن تنظروا إليهم على الأقل
كي تروا عروق التعب
وتعرفوا كيف
تأتي الثمار إلى موائدكم.
 
كان جميلاً أن يكون بينكم وبينهم نظرة
كي تروا، على الأقل، الدمعَ من بعيد
كي تعرفوا
ماذا يفعل الدمع في التراب
ماذا يفعل الدمع في الأرض.
 
نملٌ على الجدار
 
 
حجرٌ آخر في الجدار؟
بل أحجار
أيُّها "الطوفان الزهريّ"
 
لكن لا يزال نملٌ
يتسلَّق عليها.
 
 
المروحة لا تدور
 
 
المروحة لا تدور يا ألن غينسبرغ
كان ذاك هواءً يدور في رأسي
حلْمَ هواء
لا يحرِّك المروحة.
 
  
إلى سركون بولص وبسَّام حجَّار
 
 
اعطني رداءك يا سركون
بردتُ
أَدفئني قليلاً بترابك
وأَنعشْ هذا التراب يا بسَّام
ادلقْ عليه
كأسك.
 
على المحطَّة قطارٌ بعد، اصعدا قبل أن يمضي
نذهب معاً في نزهة
نرى الغابات، نرى البطَّ في البحيرات، نرى البيوت وكيف
تطويها المسافات
وتطوي الساكنين فيها
لا يزال قطارٌ بعد
وبعده تقفل المحطَّة
اصعدا
فإنْ مضى هذا القطار
أين نقضي هذه الليلة؟
 
إنَّه القطار الأخير، اصعدا
قد نذهب في نزهة
قد نرى ذاك النبع الذي حلمنا به طويلاً
ينبثق من المياه الجوفيَّة لأحلامنا
اصعدْ يا سركون
قد يمرُّ هذا القطار في مدينتك
اصعدْ يا بسَّام
قد نرى مروة.
 
 
 
دُلَّ النقطةَ إلى الطريق
 
 
خُذْها
خُذْها رجاءً وارمِها في النهر
هذه النقطة التي ضيَّعت طريقها
وحطَّتْ على كتفي.
خُذها
سيفتقدها النهر
سيكون البحر ناقصاً من دونها
خُذها
الشجر أَولى بها منّي
العشب أَولى
وقد يكون هناك عصفور
يبحث الآن
عن نقطة ماء.
 
 
الإشارة
 
 
بشبهِ يدٍ لوَّحَ
لإشارة تلوّح له من بعيد
ومضى
صافقاً وراءه حياته
كبابٍ مخلوع.
 
ترك الأهل والأصدقاء ومشى
ترك الحديقة، النعناع، الحبقة
النبتةَ الصغيرة التي كانت
حين تسمع وقع خطاه تبتسم.
 
ترك الباب مخلوعاً
ومشى
نحو الإشارة
الأخيرة
للدخان.
 
عرفتُ كيف يحنُّ الغصن
 
 
عرفتُ كيف الشجرة تحنُّ
إلى غصنها المتخشّب
لكن عرفتُ أيضاً
كيف يحنُّ الغصنُ
إلى الخشبة.
 
 
الذي عبَرَ اسمَهُ
 
 
كتبَ اسمَهُ على الحائط كي يتذكّر العابرون أنه مرَّ من هنا
كتبَ اسمَهُ وذهب
وحين عاد
حاول عبثاً أن يتذكَّر
من هو هذا الاسم المكتوب على الحائط.
 
 
مكان الورقة
 
 
قعد طويلاً هناك
تحت الشجرة
وكان يظنُّ نفسه غابة.
حطَّت عصافير كثيرة
وطيور غريبة
على غصونه
وعلى ترابه مشت سحليات، ومشى نمل، واستلقى ناس، وغفا عشب.
 
قعد تحت الشجرة وظنَّ نفسه غابة
في الربيع يُزهر وفي الشتاء يرتجف
وفي الخريف
سقطت ورقة
وقعدت مكانه.
 
 
غياب
 
 
ظنَّ أنًّه هو ذاك الماشي في الشارع
وقفَ وناداه : هاي، أريد أن أقول شيئاً
لكنه لم يلتفت
وغاب.
 
ظنَّ نفسه هو ذاك الجالس في الحديقة
وقفَ ومشى إليه
ومشى الجالس في الحديقة
وغاب.
 
ظنَّ أنَّ المارَّة كلَّهم هو
وصاح بهم : هاي، أريد أن أقول شيئاً
لكنَّهم غابوا كلُّهم
وغاب هو
ولم يقلْ أيَّ شيء.
 
يدٌ على الحافَّة
 
 
يدٌ على الحافَّة
ويدٌ في الفضاء
ويغنّي
راسماً بلهاثه القبر الذي يحبُّ أن ينام فيه.
 
يغنّي للهواء الذي رافقه على الطرقات
للبجعة الجائعة التي نظرت إليه ورمى لها لقمة
وللبحيرة
في ذاك المساء
والأسماك التي تسبح فيها.
 
يضع يداً على الحافَّة ويداً في الفضاء ويغنّي
لرمل
دفنتْ فيه الحياةُ كلَّ موتاها
يغنّي لمِعْول
حفر طويلاً في ذاك الرمل علَّه
يجد موتى لا يزالون يتنفسُّون
يغنّي لصحراء
يغنّي لموتى.
 
يدٌ على الحافَّة ويدٌ في الفضاء وغناء
وقبرٌ من لهاث
تبدّده الريح.
 
يمشي يمشي
 
 
يمشي باحثاً عن بحر
يرقص موجُه مع السمك
عن صحراء
يغنّي رملُها مع الريح
باحثاً عن البحر الأوَّل والصحراء الأولى
وعن حقول
أوراق أشجارها عيون مزارعين
وعيون فلاَّحيها أوراق شجر
وعن عين
هي عيون الجميع.
يمشي يمشي ولا يرى بحراً
لا يسمع غناء
لا يرى رقصاً
لا حقولاً ولا مزارعين
يمشي
يمشي
بلا عين
ولا قدم
ولا مكان.
 
 
بالكاد تتسع لعين شخص ولهاثه
 
 
الهواء من رئتيه
والماء من عينيه
ما حاجته إلى الخارج؟
من لهاثه يأتي الهواء ومن دمعه الماء
وإن أراد طعاماً
في حديقة باله خضار وثمار.
 
أقفل الباب وقعد
مشيحاً بوجهه عن خيالات ناس
تعبر أمام بيته
عن خيالات عصافير
تدقُّ على نافذته
ماذا سيطعم العصافير وإلى أين سيدعو الناس؟
إن أراد عصفور قمحاً من أين يأتي به؟
وإن دخل ناس
أين يجلسون؟
 
غرفة صغيرة ومقفلة
بالكاد تتسع لعين شخص
ولهاثه.
 
في مكانه
 
 
رصف حجراً فوق حجر تاركاً فراغاً
كي تتنفَّس الأحجار
في الحجر روحٌ، قال
وقد تكون بين حجر وحجر
عشبة تريد أن تنبت.
 
نظر إلى الشجرة وقال
قد تكون روحٌ في المسافة بينه وبين الشجرة
والنظرة قد تعيقها
فأغمض عينيه.
 
مشى
عائداً
وقال
في الإسفلت روحٌ أيضاً
رفع قدمه عن الإسفلت
وبقي في مكانه.
 
 
 
 
 
الجهة تُحنيه، الجهات ترفعه
 
 
ضربته الريح من اليمين
فانحنى يساراً
ضربته الريح من اليسار
فانحنى يميناً
ضربته من الوراء فانحنى إلى الأمام
ضربته من الأمام فانحنى إلى الوراء
وحين ضربته من كل الجهات
ارتفع.
 
 
الطريق إلى البيت
 
 
هذه هي الدرب التي توصل إلى بيتي، قال
ومشى
يتبيَّن خطواته من قمر بعيد
يتبيَّن دربه من ذكرى
وأحياناً يشمُّ رائحة زهور
كانت على جانبي الطريق إلى بيته.
 
قال هذه هي الدرب ومشى
حين يظهر القمر يخطو خطوة
وحين يحجبه الغيم يضيع،
لكن هذه هي الدرب، قال
ورائحة الزهور التي في ذاكرتي ستدلُّني
ومشى
ومشى
ومشى.
 
 
حقول في الرأس
 
 
لديه تبغ وخمر لهذه الليلة
فيا للسلام في قلبه!
 
صبَّ كأساً ولفَّ سيجارة وراح
إلى الحقول
يزرع تبغاً ويقطّر عنباً
ويوزّع لضيوف
يدقّون على بابه.
 
لديه تبغ وخمر ولا يحتاج إلى أكثر
كي يشعر بسلام
ويخترع حقولاً
ويُحضر ضيوفاً.
 
 
يده
 
 
يده تذرّيها الريح إن عَلَت
وإن انخفضت يخفيها التراب
 
يد عالقة في جسد
عليه أن يلحق بها
ولا يعرف إلى أين تذهب.
 
 
للريح أطفال أيضاً
 
 
للريح أطفال أيضاً
تشرذمهم على امتداد عبورها
وتتركهم وحيدين.
 
للريح أطفال على الطرقات
هلاميّون، عراة ويتامى
يلوّحون للمارَّة كي يروهم
علَّ نظرات العابرين تكسو هباءَهم
فتصير لهم أجساد
ويُرَوْن.
 
 
أخفضِ الصوت
 
 
أخفضِ الصوتَ أرجوك
أريد أن أسمع السكون ماذا يقول
ربما يقول: تعالَ
وأريد أن أتبعه.
 
 
هل رأيتَ السنونوة؟
 
 
هل رأيتَ السنونوة ؟
أظنُّها ستعبر من هنا
على جسدي نَبَتَ ريش يشبهها
نبتتْ سنونوات تريد رفيقاً
ولا تحطُّ على غصن حين تطير.
 
 
من أخذ النظرة؟
 
 
من أخذ النظرة التي تركتُها أمام الباب قبل أن أنام؟
النظرة التي
طوال الليل
حاولتُ أن أخلق لها عيناً.
 
نظرة بلا عين أتت
ووقفتْ على بابي
في قلبي أحداق كثيرة لعيون
نبشتُها حدقة حدقة
ولم أجد عيناً لهذه النظرة.
 
نظرة غريبة أتت في الليل
ونامت أمام الباب
وفي الفجر
حين فتحتُ عينيَّ
غابت.
 
 
ذكرى ماء
 
بين الماء وبينه ذكرى نهر
ذكرى وديان كثيرة
وبحرٍ شاسع.
 
بين الماء وبينه ذكرى حقول
ذكرى شجر وعشب وتراب
وفلاَّحين
ترتطم معاولهم
في قلبه.
 
بينه وبين الماء سطوح من تراب
وقرويُّون يحدلون السطوح
بينه وبين الماء
سطوح بيوت بعيدة.
 
بين الماء وبينه سماء
هطلتْ فجأةً
وتركتْ في قلبه بحاراً
تركتْ سفناً، أسماكاً في شِباك صيَّادين
تركتْ أسماكاً صغيرة ميّتة
تعود إلى الشاطىء.
لا ترمِ شيئاً في القمامة
 
 
ليست ثمرة يابسة هذه التي رميتَها في القمامة يا وديع
بل هي قلب
قلب كان معلَّقاً في شجرة
تأتي العصافير وتنقد منه
يأتي النحل ويمتصُّ رحيقه
يسرح عليه النمل
حتى يبس
وسقط على التراب.
 
لا ترمِ شيئاً في القمامة يا وديع
قد يكون ما ترميه رفيقاً يريد أن يبقى معك
قد يكون فماً يريد التحدُّث إليك
لا ترمِ شيئاً
قد يكون ما ترميه
قلبك.
 
 
ضجيج
 
 
في قلبه ضجيج
كأنَّ مسافرين يحتفلون في حافلة
في قلبه
ولا يعرف حافلة ولا مسافرين
ولا يدري
أنَّ في قلبه طريقاً.
 
ضجيجٌ ضجيج
كأنَّ شاحنة تتسلَّق جبالاً
في قلبه.
 
 
خطوة واحدة
 
 
خطوة واحدة بعد، قال
لأرى ماذا وراء هذا الجبل
خطوة واحدة تكفي
لأنني تقريباً وصلتُ
تقريباً سأرى.
 
خطوة واحدة، قال
كي أنتهي من مشي سنوات
من رغبة سنوات
في رؤية ماذا وراء جبل.
 
خطوة واحدة
واحدة فقط
كان عليه أن يمشيها بعد
كي يرى.
 
 
للدم شتاء أيضاً
 
 
للدم شتاء أيضاً
وإلاَّ من أين كلُّ هذا النهر؟
للدم غيوم ملبَّدة ومطر
وجُرْف
جُرْف كاسح في العروق
وعلى الأرض.
 
ضفافٌ كانت هنا
ومقاعد على الضفاف
وعلى الشجرة عصفور كان يغنّي
وعجوز على مقعد
كان يصغي إليه.
 
 
غرق
 
 
دَلَقَ ماءً
ماءً كثيراً
وغرق في الماء.
 
ظنَّ روحه قماشة
وأراد أن يغسلها.
 
 
مرةً قال
 
 
مرةً قال: ليس للمساء إخوة
ومشى كثيراً
في الشوارع، في الدروب المقفرة، في الغابات
كي يجلب أخاً للمساء.
 
قال المساءُ بلا أخ ومشى
محدِّقاً في المارَّة
محدِّقاً في الشجر
محدِّقاً في التراب
محدِّقاً في المساء الذي
نام وحيداً.
 
 
حجر
 
 
لا يعرف كيف رُصفت كلُّ هذه البلدان في قلبه
وليس لديه غير بيت صغير
وحجر.
 
من بلد إلى بلد
من ريح إلى ريح
ولا يعرف كيف في هذا الهبوب
لا تزال عيناه تحملان
حجراً.
 
 
أريد لحظة بعد
 
 
سمعتُه
نعم سمعتُه هذا الجرس يدقُّ في رأسي فأَوقفْه
أريد أن أنام.
 
أَوقف الجرس أرجوك
أريد لحظة بعد
كي أودّع الذي زارني في الحلم
وكي أشكر لحافي.
 
 
يافطات
 
 
يافطات كثيرة على الطرقات
يافطات تدلُّ إلى مدن
يافطات تدلُّ إلى شوارع
يافطات تدلُّ إلى مصانع، إلى مؤسسات، إلى دكاكين، إلى بيوت...
يافطات كثيرة ملأى بأسماء
ويمشي
باحثاً عن يافطة
فارغة.


منقول من موقع الشاعر وديع سعادة