الجمعة، 3 يناير 2014

فرانز كافكا.. ترجمة - الدسوقي فهمي


فرانز كافكا

ترجمة - الدسوقي فهمي





الحيوان في المعبد



في معبدنا يعيش حيوان في حجم النمس، وباستطاعة المرء غالباً أن يراه رؤية العين، لأنه يتيح للناس أن يقتربوا منه لمسافة مترين. لونه أزرق مخضر حائل. لم يلمس أحد قطّ فروته حتى الآن، وعلى هذا فلا شيء يمكن أن يُقال عنها، ويمكن للمرء على الأغلب أن يذهب إلى حدّ التأكيد بأن اللون الحقيقي لفرائه غير معروف، وربما كان اللون الذي يراه المرء قد نتج فقط عن التراب والطين اللذين أطفأا لون فروته. وإن اللون حقاً ليشبه لون طلاء المعبد من الداخل، وإن يكن، فقط، أفتح منه قليلاً. وبصرف النظر عن الجبن الذي يتّصف به، فهو حيوان هادئ بصورة غير معتادة وذو عادات مستقرّة؛ فلو لم يتعرَّض للإزعاج الزائد غالباً، فإنه نادراً ما كان ليوجد في هذا المكان على الإطلاق، ذلك أن مأواه المفضَّل هو ذلك الحاجز المتشابك الذي يحجز قسم النساء.

وبمتعة بادية ينشب مخالبه في داخل عيون الشبك المشغول، متمدِّداً ومحدِّقاً بنظرته المطرقة إلى داخل القاعة الرئيسية؛ كان يبدو أن هذا الوضع الجريء يبعث فيه السرور؛ إلاّ أن خادم المعبد كانت قد وُجِّهت إليه التعليمات بألا يتغاضى عن وجود الحيوان عند الحاجز الشبكي، لأنه سوف يعتاد على المكان، ولا يمكن السماح بذلك بسبب النساء الخائفات من الحيوان. أما لماذا هن خائفات، فالسبب ليس واضحاً.

حقاً إنه للوهلة الأولى يبدو مخيفاً، وبصفة خاصة عنقه الطويل، ووجهه المثلث، وصفّ الأسنان العليا التي تبرز إلى الخارج بصورة تكاد تكون أفقية، وفوق الشفة العليا خطّ من الشعيرات الشاحبة الطويلة البادية الخشونة التي تمتدّ إلى أبعد حتى من الأسنان. كل هذا قد يكون مخيفاً، إلاّ أن المرء لا يستغرقه الوقت طويلاً حتى يدرك إلى أي حدّ لا يبدو هذا الرعب الظاهري كلّه مؤذياً. وفوق هذا، فإنه يبقى مبتعداً عن البشر، إنه أكثر فزعاً من حيوان الغابة، ويبدو أنه لا يرتبط فحسب سوى بالمبنى، ولا شكّ أن سوء طالعه الخاص قد تمثّل في كون هذا المبنى هو معبد يهودي، أي أنه مكان يكون ممتلئاً أحياناً بالناس. فلو كان قد أمكن- فحسب- أن يتواصل المرء مع الحيوان، لأمكنه بالطبع، أن يعزِّيه بأن يخبره بأن شعب المعبد في مدينتنا الصغيرة هذه في الجبال يتضاءل عدده عاماً بعد عام، وأنه يواجه بالفعل صعوبة في توفير المال لصيانة المعبد، وأنه ليس من المستحيل إمكان أن يتحوَّل المعبد قبل وقت طويل إلى شونة للغلال، أو إلى شيء من هذا القبيل، وسيحصل عندئذ على السلام الذي يفتقده الآن بمرارة بالغة.

وللتأكيد، فإن النساء وحدهنّ هنّ الخائفات من الحيوان، فقد كفّ الرجال عن الاكتراث بأمره منذ وقت طويل. وهو ما بيّنه جيل للجيل الآخر، فلقد شوهد المرة بعد المرة، وبحلول ذلك الزمن لم يعد أي شخص يبدِّد اهتمامه بإلقاء نظره عليه؛ وحتى الأطفال- وإلى الآن وهم يرونه للمرة الأولى- لا يبدون أية دهشة. لقد أصبح هو ذلك الحيوان الذي ينتمي إلى المعبد؛ فلماذا لا يكون للمعبد حيوان أليف خاص به لا يوجد في أي مكان آخر؟ فلو لم يكن الأمر يتعلَّق بالنساء ما كان المرء ليعي الآن مطلقاً وجود الحيوان بسهولة. لكن حتى النساء لسن خائفات حقاً من الحيوان، فسيكون الأمر بالغ الغرابة بالفعل إن واصل المرء خوفه من مثل ذاك الحيوان يوماً بعد يوم، لسنوات ولعقود من السنين. وعذرهنّ هو أن الحيوان عادة أكثر قرباً منهن عنه من الرجال، وهذا حق. إن الحيوان لا يجرؤ علي أن يهبط إلي حيث يكون الرجال، فهو لم يُرَ بعد حتى الآن فوق الأرضية. فلو كان قد تمّ منعه من بلوغ الحاجز الشبكي لمقصورة النساء. فإنه يريد عندئذ على الأقل أن يكون على الارتفاع نفسه فوق الحائط المقابل. فهناك وفوق إفريز ضيّقٍ للغاية لا يكاد يبلغ البوصتين اتساعاً، ويمتدّ حول ثلاثة من جوانب المعبد اليهودي كان الحيوان معتاداً أحياناً على أن يمرق منطلقاً جيئة وذهاباً، لكن غالباً ما يجلس في هدوء متكوِّراً فوق بقعة معينة في مواجهة النساء. ويكاد يكون من غير المفهوم كيف استطاع بمثل هذه السهولة أن يتحايل لاستخدام هذا المَمّر الضيق، ومما تجدر ملاحظته رؤية الطريقة التي يستدير بها هناك فوق هذا الإفريز المرتفع عندما يبلغ نهايته، ذلك أنه، فوق هذا كله، حيوان عجوز جداً الآن، إلّا أنه لا يحجم عن الإتيان بقفزة بالغة الجرأة في الهواء، ولا هو حتى يفقد موقع قدمه قط، وبعد أن ينقلب في الهواء مستديراً، يجري مرة أخرى مباشرة راجعاً من حيث جاء. بالطبع عندما شاهد المرء هذا مرات عديدة، كان قد اكتفى برؤيته تلك له، ولم يعد ثمة ما يبرِّر أن يواصل المرء تطلُّعه إليه. كما أنه لم يكن الخوف، ولا الفضول هما ما يدفع النساء، إلى التململ؛ فلو كنّ يصرفن انتباههنّ أكثر إلى صلواتهنّ، فربما أمكنهنّ أن ينسين كل ما يتعلَّق بالحيوان؛ إن النساء التقيّات كنّ ليفعلن هذا لا شك، لو أن الأخريات، وهنّ الغالبية العظمى، تركنهن وشأنهن، إلّا أن هؤلاء الأخريات يحببن دائماً جذب الانتباه إلى أنفسهن؛ ويوفر لهنّ الحيوان ذريعة يرحبنّ بها. فلو كن قد استطعن، ولو كن قد جرؤن، لَكُنّ منذ زمن طويل قد أغوين الحيوان بأن يقترب منهن أكثر، عسى أن يرتعدن أكثر من ذي قبل. لكن لم يكن الحيوان في الحقيقة مَشُوقاً قطّ بأن يقربهن، فهو طالما تُرك لحاله، لا يلحظهن سوى ملاحظة قليلة للغاية، بالضبط بقدر ملاحظته للرجال، وربما كان أكثر ما يروق له هو أن يبقى مختبئاً في مكمنه حيث يعيش في الفترات التي تفصل بين أوقات أداء الشعائر، وهو ما قد يبدو، في وضوح، فجوة ما في الجدار لم نعثر بعد على مكانها. وإنه ليظهر فقط عندما يبدأ أداء الصلوات، عندما تفاجئه الأصوات. فهل يريد أن يرى ما الذي حدث! هل يودّ أن يبقى متحفِّزاً؟ هل يريد أن يكون في خارج مكمنه متأهِّباً للربّ؟ إنه ليخرج مرتعباً، وإنه ليقفز قفزاته في رعب، ولا يجرؤ على الانسحاب إلا عندما تشرف الطقوس الدينية على نهايتها. وإنه ليفضل بالطبع أن يكون في مكانه المرتفع لأنه يراه أكثر الأماكن أمناً، ويرى أن أفضل الأماكن التي تتيح له الانطلاق عَدْواً هما الحاجز الشبكي والإفريز، إلا أنه لا يبقى دوماً هنالك، ففي أحيان أيضاً يهبط قدماً نحو الرجال؛ فستارة تابوت العهد تتدلّى من قضيب لامع من النحاس الأصفر، ويبدو أن ذلك كان يلفت انتباه الحيوان، فغالباً ما يزحف نحوها، لكنه عندما يكون عندها هادئاً دوماً، وحتى عندما يكون ملتصقاً تماماً بالتابوت لا يمكن القول بأنه يسبب إزعاجاً ما، إنه يبدو محدِّقاً في حشد المصلين بعينيه اللامعتين اللتين لا تطرفان، واللتين ربما كانتا بلا جفنين، لكنه بالتأكيد لايكون عندئذ متطلّعاً إلى أي شخص، إنه يكون حينئذ فحسب في مواجهة مع الأخطار، تلك الأخطار التي يحسّها تتهدَّده.

وقد بدا في هذا المقام، حتى الآن على الأقل، أنه لا يزيد كثيراً في الذكاء عن نسائنا. فأية أخطار تلك التي قد يخشاها، على أي حال؟ ومن ذا الذي يريد به أيّ ضرر؟ ألم يترك تماماً وشأنه لسنوات طويلة؟.

إن الرجال لا يلقون بالاً لوجوده، وغالبية النساء قد يبتئسنَ لو قُدِّر له أن يختفي. وبما أنه كان هو الحيوان الوحيد في المبنى، فلم يكن له أي عدو من أي نوع. هذا شيء كان عليه حقاً أن يتداركه مع مرور السنوات. ومع أن الطقوس الدينية، بكل أصواتها، قد تكون مخيفة للحيوان للغاية، إلاّ أنها طقوس تُكَرَّر يومياً، على نحو أبسط؛ وعلى نطاق أعظم خلال الأعياد، بانتظام دائماً، وبلا انقطاع قط؛ وهكذا فإن أكثر الحيوانات جزعاً كان يمكنه إلى الآن أن يكون قد اعتاد عليها، وخاصة عندما يرى أن هذه ليست ضوضاء المطاردين له، لكنها بعض الضوضاء التي لا يمكنه أن يفهمها على الإطلاق. إلا أنه يوجد مع ذلك هذا الرعب. فهل هي ذكرى أزمان طويلة ماضية، أم هي النذر لأزمان قادمة؟ هل يعرف هذا الحيوان العجوز ربما أكثر مما تعرف الأجيال الثلاثة لهؤلاء الذين تجمَّعوا معاً في المعبد اليهودي؟

قبل سنوات طويلة مضت، هكذا قيل، كانت ثمة محاولات قد تمّت بالفعل لطرد الحيوان. ومن الممكن بالطبع أن يكون ما قيل قد حدث حقاً، إلاّ أن ما يبدو أكثر احتمالاً هو أن هذه القصص كانت محض اختراعات.

وثمة شاهد بأنه في ذلك الوقت كان قد تمّ بحث مسألة ما إذا كان من الممكن التغاضي عن وجود مثل هذا الحيوان في بيت الربّ، من وجهة نظر قانون الوصايا. وكان قد تمّ استطلاع آراء أحبار عديدين مشهورين، وقد انقسمت الاَراء، وكانت الأغلبية مع طرد الحيوان وإعادة تكريس بيت الربّ. لكن كان من السهل أن تصدر مراسيم من بعيد، أما في الواقع فكان مستحيلاً ببساطة مجرّد الإمساك بالحيوان، ومن ثم كان من المستحيل أيضاً طرده نهائياً إلى الخارج. ذلك أنه لو كان شخص ما قد استطاع فقط الإمساك به، ومن ثم أخذه بعيداً إلى مسافة نائية، فهل كان باستطاعته أن يكون قد حصل على شيء يقارب اليقين بتخلُّصه منه.

وكانت قد تمّت حقاً محاولات قبل سنوات طويلة مضت، هكذا قيل، لطرد الحيوان. ويقول خادم المعبد اليهودي أنه يتذكَّر كيف كان جدّه، الذي هو أيضاً خادم للمعبد، قد أحبّ سرد القصة. كان جدّه عندما كان صبياً صغيراً قد استمع كثيراً من المرات إلى حديث عن استحالة التخلُّص من الحيوان، ولهذا فإنه وهو يتحرّق شوقاً، ولأنه متسلّق ممتاز فقد تسلَّل إلى الداخل ذات صباح مشرق عندما كان المعبد كلّه بكل أركانه وشقوقه معرضاً لضوء الشمس، ومعه حبل ومرجام، وعصا ذات مقبض معقوف....



بروميثيوس



ثمّة أساطير أربع تتعلَّق ببروميثوس؛ فلقد كان تبعاً للأسطورة الأولى موثوقاً إلى صخرة في القوقاز لإفشائه أسرار الاَلهة لبني الإنسان، وأرسلت الآلهة عقباناً تنهش كبده، الذي كان يتجدّد على الدوام. وتبعاً للثانية ضغط بروميثيوس نفسه، بدافع من الألم الذي يسبِّبه نهش المناقير عميقاً عميقاً في داخل الصخرة، حتى أصبح هو والصخرة شيئاً واحداً. وتبعاً للثالثة تمّ نسيان خيانته بمرور الآلاف من السنين. نسي الآلهة، والعقبان نسيت، وهو نفسه نسي. وتبعاً للرابعة سئم كلّ امرئ ذلك الأمر الذي لا معنى له، سئمته الآلهة، وسئمته العقبان، واندمل الجرح في سأم. وبقيت هناك كتلة الصخر الغامضة التي لا تفسير لها – حاولت الأسطورة أن تفسِّر ما لا تفسير له. ولمّا كان ذلك الغموض قد صدر عن إحدى طبقات الحقيقة التحتية، فقد كان عليه، لهذا، أن ينتهي بدوره إلى ما لا تفسير له.



بناء المعبد



خفّ كلّ شيء لمساعدته في أثناء العمل

في البناء. أحضر العمال الأجانب كتل الرخام مصقولة التشكيل، تتوافق كل كتلة في التركيب مع الأخرى، وارتفعت الأحجار، واتخذت مواضعها تبعاً لتحرُّكات القياس التي اتَّخذتها أصابعه. لم يحدث قط أن وُجِد أي مبنى بمثل السهولة التي خرج بها ذلك المعبد إلى الوجود – أو على الأصح، أن هذا المعبد قد خرج إلى حيّز الوجود على النحو الذي ينبغي لمعبد أن يخرج به إلى الوجود. وحتى لا تنصبُّ عليه نقمة ما، أو أن يتدنَّس، أو يتحطّم تماماً، كانت أدوات تتميَّز في وضوح بحدَّتها الفائقة قد تمَّ استخدامها في خدش شخبطات خرقاء على كل حجر – من أي محجر جاءت هذه الأحجار؟ بأيدي أطفال غير واعين، أو الأرجح تدوينات للبرابرة قاطني الجبل، وذلك كي تدوم أبديّة تتجاوز وجود المعبد.



بوزايدون



جلس بوزايدون إلي مكتبه مستغرقاً في حساباته فإدارة كل المياه تلقي على كاهله أعباء لا نهاية لها. وقد كان في مقدوره أن يتَّخذ لنفسه من المساعدين ما شاء أن يتخذ لنفسه منهم، وإن لديه بالفعل منهم الكثيرين، لكنه لمّا كان قد أخذ عمله بغاية الجدية، فقد تعيَّن عليه أن يراجع كل الأرقام وكل التقديرات بنفسه، ولهذا لم يكن لمساعديه سوى القليل من النفع له. ولا يمكننا القول إنه وجد متعة ما في ممارسة عمله هذا، فهو قد قام بأدائه فحسب. لأنه كان قُدِّر له القيام به. وكان، في الحقيقة، قد قدّم بالفعل التماسات عديدة انطوى عليها ملفّه، التمس فيها، على حدّ قوله، عملاً أكثر بهجة. لكن محاولة إسناد عمل آخر إليه، كان يتَّضح في كل مرة أنه لا يناسبه عمل قط، كما يناسبه عمله الحالي. وكان صعباً على أي حال، صعوبة بالغة، إيجاد عمل آخر يمكن أن يسند إليه القيام به، وفوق هذا كله كان من المستحيل بالطبع أن تسند إليه إدارة بحر بعينه، بصرف النظر عن حقيقة أنه حتى في تلك الحالة، فإن النتيجة لن تسفر عن تخفيف للعبء عن كاهله بل عن تقليل لمركزه؛ فبوزايدون العظيم لا يمكنه بحال من الأحوال أن يضطلع بمجرَّد عمل تنفيذي. وعندما قامت ذات مرة فكرة أن يسند إليه عمل بعيد عن البحر؛ أعيته مجرَّد الفكرة في حَدّ ذاتها؛ ذلك أن أنفاسه الإلهية كانت تضطرب وصدره النحاسي كان يشرع في الخفقان. وبالإضافة إلى ذلك لم تكن شكواه تؤخذ قط مأخذ الجد، فعندما يحدث عادة أن يتكدَّر أحد الآلهة كانت تقوم شكليات توحي ببذل الجهد الذي لم يكن منه بدّ لتهدئته، ولقد كانت هذه المحاولات الشكلية تجري مهما بدت الحالة خطيرة وميئوساً منها إلى أبعد الحدود، ذلك أن حركة التنقلات في المناصب فعلياً، كانت أمراً غير وارد بالمرة بالنسبة لبوزايدون، لأنه كان قد نُصِّب إلهاً للبحر منذ البداية، وكان عليه أن يظل كذلك. أمّا أكثر ما كان يثيره - وهو ما كان يبعثه على أن يسخط على وظيفته - فهو سماعه لتلك التصورات التي تكوَّنت عنه؛ وعن الطريقة التي كان يتجوَّل بها دائماً في مركبته خلال حركة المدّ والجَزْر، وهو يمسك بصولجانه ذي الشعَب الثلاث. بينما كان قد جلس طوال الوقت هنا في أعماق محيط العالم يراجع حساباته بلا إزعاج؛ عدا رحلة قصيرة كان يقوم بها بين الحين والآخر متَّجهاً الي جوبيتر؛ حيث كانت هذه الرحلة هي وحدها ما يقطع اتّصال الرتابة – رحلة كان يعود منها، فوق ذلك، في حالة هياج. وعلى هذا فهو لم يكن قد أتيحت له حتى رؤية البحر تقريباً – ذلك أنه كان قد رآه رؤية عابرة في سياق طلعاته المتعجِّلة إلى جبل الأولمب، ولم يكن قد تجوَّل فعلياً قطّ في أنحائه. ولقد كان معتاداً أن يقول أنّ كل ما كان ينتظره، هو انهيار العالم؛ ثم قد تسنح له قبل ذلك ربما؛ لحظة ما من لحظات الهدوء على حافة النهاية؛ وبعد أن يكون قد أتمّ مراجعة خطّ أفكاره الأخيرة، قد يسعه فيها القيام بجولة سريعة قصيرة.

كان بوزايدون قد أصابه بحرُه بالسأم. وكان قد ترك صولجانه ذا الشعب الثلاث يسقط من يده؛ وجلس في صمت على الشاطئ الصخري. وكان أحد طيور النورس، وقد أصيب بالدوخة في حضرته، قد دوَّمَ محلِّقاً في دورات مترنِّحة حول رأسه.



جبل سيناء



يتجوَّل الكثيرون حول جبل سيناء. حديثهم مشوَّش، فهم إما يثرثرون وإما يصيحون، أو يظلّون صامتين. إلاّ أن أحداً منهم لم يحضر مباشرة عبر طريق عريض، ممهَّد حديثاً، طريق أملس يقوم بدوره في جعل خطى المرء واسعة، وأكثر سرعة.



مشكلة قوانينا



قوانيننا عموماً ليست معروفة، فهي قد ظلت سراً من أسرار المجموعة الصغيرة التي تحكمنا من النبلاء، ونحن مقتنعون بأن هذه القوانين القديمة قد تمّ الالتزام بها بدقّة. وعلى الرغم من ذلك، فإنه مما يؤلم إلى أقصى حدّ أن يُحْكَم المرء بواسطة قوانين لا يعرف عنها شيئاً. ولا تشغلني التناقضات المحتملة التي قد تنشأ عند تفسير القوانين، كما أنني لا أفكر في الأضرار المشتبكة التي يتسبَّب فيها السماح لقلّة فقط من الناس، وليس لكل الناس، بأن يكون لهم رأي في تفسيرها. وربما لا تكون لهذه الأضرار أهمّيّة بالغة. ذلك أن القوانين بالغة القدم؛ وكانت تفسيراتها عبئاً اضطلعت به القرون، واكتسبت هي ذاتها- بلا شك- منزلة القانون، ومع أنه ماتزال هناك حرّيّة ممكنة للتفسير، إلا أن هذه الحرية قد أصبحت الآن مقيّدة للغاية. وعلاوة على ذلك فإنه من الواضح أن النبلاء ليس لديهم ما يدفعهم إلى أن يتأثّروا في تفسيراتهم بالاهتمامات الشخصية الضارّة بنا، ذلك أن القوانين كانت قد صُنِعت لمصلحة النبلاء منذ بداية البداية، فهم أنفسهم يقفون فوق القانون، ويبدو أن هذا هو السبب في أن القوانين قد عُهد بها بصفة خاصة إلى أيديهم. ثمة حكمة في ذلك بالطبع. من ذا الذي يرتاب في حكمة القوانين القديمة؟ - لكن ثمة مشقة لنا أيضاً، وربما كانت هذه المشقّة أمراً لا يمكن تجنُّبه. إن وجود هذه القوانين مع ذلك، هو في الأغلب، مسألة افتراض. فثمة تقاليد تقول بأنها موجودة، وبأنها سِرّ قد عُهِد به إلى النبالة، إلا أنها ليست، ولا يمكن أن تكون أكثر من مُجَرَّد تقاليد قد صَدَّق عليها الزمن. لأن جوهر وجود شِفرة سرّية ما، هو أنها يجب أن تبقى خفيَّة.

ولقد تفحَّص البعض منا، من بين الشعب، بانتباه، أفعال النبالة منذ أقدم الأزمان؛ وامتلك سجلّات، سجّلها أسلافنا الأوائل ، وهي سجلّات قد أكملناها نحن بوعي، ويزعم هذا البعض منا أنهم يمكنهم أن يدركوا من بين ما لا حصر له من أعداد الحقائق، اتجاهات أساسية بعينها تسمح بهذه الصياغة التاريخية أو بتلك. لكن عندما نسعى طبقاً لهذه النتائج التي تمّ تفحصها بتدقيق، وتنظيمها منطقياً، إلى أن نوجِّه أنفسنا على نحو ما نحو الحاضر أو المستقبل، يصبح كل شيء مفتقراً إلى اليقين، ويبدو عملنا فقط مُجَرَّد لعبة فكرية؛ ذلك أن هذه القوانين التي نحاول أن نفسِّرها ربما لا تكون موجودة على الإطلاق. وثمة جماعة صغيرة العدد يعتقدون بالفعل بهذا الرأي، ويحاولون أن يظهروا أنه؛ إذا وُجدت أية قوانين، فإنها لن تكون سوى هذا: القانون هو كل ما يروق للنبالة أن تفعل. وترى هذه الجماعة في كل مكان، فقط الأعمال التعسُّفية للنبالة؛ وتنبذ التقاليد الشعبية، التي تملك فقط، في رأيهم، بعض الميزات الطفيفة الطارئة التي لا تقوى غالباً على مواجهة أضرارها الثقيلة، ذلك أنها تمنح الشعب أماناً زائفاً خادعاً، زائد الثقة بالغير في تصدّيها للأحداث الواردة. ولا يمكن أن ينكر هذه الأضرار أحد، إلاّ أن الأغلبية الشاملة لشعبنا تعلّلها بحقيقة أن التقاليد هي بطبيعتها أبعد ما تكون عن الاكتمال، ولا بدّ من أن يتمّ المزيد من التقصّي الزائد في أمرها، ذلك أن المادة المتاحة، على ضخامتها التي تتبدى بها، ما تزال بالغة العقم؛ وأن قروناً عديدة لا بدّ لها أن تمرّ قبل أن يتمّ لهذه المادة الكفاية حقاً. هذه الرؤية التي تبعث إلى هذا الحدّ البالغ على عدم الارتياح في ما يتعلَّق بالحاضر، لا يخفّف منها سوى الاعتقاد بأن الوقت سوف يحلّ في النهاية عندما تبلغ التقاليد وبحوثنا فيها معاً نتائجهما، ويجنيان- كما يقال- هامشاً لالتقاط الأنفاس، عندما يُقَدَّر لكل شيء أن يصبح واضحاً، سوف ينتمي القانون إلى الشعب، وسوف تتلاشى النبالة. ولا يستند هذا على شيء من روح الكراهية للنبالة؛ لاشيء من هذا على الإطلاق، ولا يحسّ أحد شيئاً منه. إننا ميالون أكثر إلى كراهية أنفسنا، لأننا لم نبدِ جدارتنا بأن نُؤتمن على القوانين. وهذا هو السبب الحقيقي في أن الجماعة التي ترى أنه لا يوجد أي قانون قد بقيت جماعة صغيرة العدد إلى هذا الحدّ، على الرغم من أن مذهبها هو من نواحٍ بعينها مذهب بالغ الجاذبية؛ ذلك لأنه يعترف اعترافاً قاطعاً بالنبالة وبحقِّها في مواصلة الوجود.



ويمكن للمرء فعلياً أن يعبّر عن المشكلة فقط في صورة مفارقة من نوع ما: أي جماعة قد تجحد، ليس فقط كل اعتقاد في القوانين، بل تجحد النبالة هي أيضاً، سوف تكسب الشعب كله خلفها؛ إلا أنه لن يتسنّى لمثل هذه الجماعة أن تظهر إلى الوجود؛ ذلك أنّ أحداً لن يجرؤ على أن يجحد النبالة. إننا نعيش فوق حدّ السكّين هذا. وقد لخّص أحد الكتاب الأمر ذات مرة، على هذا النحو: إنّ القانون الوحيد المرئي والذي لا ريب فيه، ذالك المفروض علينا، إنما هو النبالة، فهل لا بدّ لنا نحن أنفسنا أن نحرم من هذا القانون الوحيد؟.

منقول من الدوحة الثقافية