الخميس، 25 أكتوبر 2012

محمد في الفكر الغربي الحديث.. الكاتب : إدريس الكنبوري: المغرب



 إن المتأمل لما كتب عبر محطات التاريخ الإنساني عن شخصية نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم يدرك أنه لم تحظَ شخصية في التاريخ البشري العريض بمثل ما حظيت به شخصية النبي الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام من الاهتمام والإشادة والتمجيد من كافة الأعراق والشعوب والطوائف والملل، وفي شتى اللغات.  وبالرغم من وجود من حاولوا الطعن في نبوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم, والتشكيك في رسالته بسبب الحقد على الإسلام وإطباق الجهل بالإسلام على أصحابها والبعد عن الموضوعية العلمية في البحث والتدقيق؛ فإن التيار العام ظل يسير في ناحية التقدير الحقيقي لشخصية محمد صلى الله عليه وسلم في تاريخ البشرية، وفضل رسالته على الإنسانية، بشكل يتوخى الإنصاف والموضوعية بعيداً عن أحقاد القرون الوسطى.
وباطلاعنا على ما قيل في النبي صلى الله عليه وسلم من طرف المفكرين والمستشرقين والفلاسفة الغربيين المنصفين نجد أن هؤلاء يمثلون كبار مفكري الغرب وأعمدة الفكر والفلسفة فيه، وقد حاولوا الوقوف على عظمة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، منبهرين بشخصيته العظيمة ونبل أخلاقه وطهارة حياته وخلوها من كل ما يثلم أخلاقه القرآنية، والبعض منهم اكتفى بوضع شخصية نبي الإسلام في إطارها الحقيقي الذي يعرفه المسلمون أجمع، دون أن يلمس الإسلام ودعوته شغاف قلوبهم، والبعض الآخر ممن ظلوا بعيدين عن الإسلام تعرضوا للشخصية العامة للنبي كواحد من الأبطال والعباقرة الذين أثروا في مسيرة التاريخ، لكن فئة من هؤلاء كان اطلاعهم على خصائص شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وفضائلها مدخلاً إلى البحث في الإسلام، ومن ثم إلى إعلان إسلامهم علناً على الملأ. 
عظمة النبي في عيون الغربيين
فهذا المؤرخ الأوروبي (جيمس ميتشنر) يقول في مقال تحت عنوان (الشخصية الخارقة) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «... وقد أحدث محمد عليه السلام بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في الجزيرة العربية، وفي الشرق كله، فقد حطم الأصنام بيده، وأقام ديناً خالداً يدعو إلى الإيمان بالله وحده». 
ويقول الفيلسوف الفرنسي (كارديفو): «إن محمداً كان هو النبي الملهم والمؤمن، ولم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العالية التي كان عليها، إن شعور المساواة والإخاء الذي أسسه محمد بين أعضاء الكتلة الإسلامية كان يطبق عملياً حتى على النبي نفسه». 
أما الروائي الروسي والفيلسوف الكبير تولستوي الذي أعجب بالإسلام وتعاليمه في الزهد والأخلاق والتصوف، فقد انبهر بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم, وظهر ذلك واضحاً على أعماله، فيقول في مقالة له بعنوان (من هو محمد؟): «إن محمداً هو مؤسس ورسول، كان من عظماء الرجال الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح إلى السكينة والسلام، وتؤثر عيشة الزهد, ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية. وهو عمل عظيم لا يقدم عليه إلا شخص أوتي قوة، ورجل مثله جدير بالاحترام والإجلال». 
كارلايل يرد على النصارى والملحدين
ومن هؤلاء الفيلسوف الإنجليزي الشهير توماس كارلايل (1795-1881م)، فقد خصص في كتابه (الأبطال وعبادة البطولة) فصلاً لنبي الإسلام بعنوان (البطل في صورة رسول: محمد-الإسلام)، عد فيه النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من العظماء السبعة الذين أنجبهم التاريخ. وقد رد كارلايل مزاعم المتعصبين حول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يزعم المتعصبون من النصارى والملحدين أن محمداً لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان.. كلا وايم الله!، لقد كانت في فؤاد ذلك الرجل الكبير, ابن القفار والفلوات، المتورد المقلتين، العظيم النفس, المملوء رحمة وخيراً وحناناً وبراً وحكمة وحِجى وإربة ونُهى؛ أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه. كيف لا وتلك نفس صامتة ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين».  وبعد أن يتعرض بالتحليل والتفسير لعظمة نبي الإسلام ونبوته وتعاليمه السامية، يقول: «وإني لأحب محمداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع». 
النبي المحرر
ولقد وقف الكثير من المفكرين والمستشرقين والفلاسفة الغربيين عند جوهر رسالة الإسلام الخالدة التي جاءت لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وتحرير البشرية جمعاء من الشرك والفوضى والعنف والتوحش الذي كان سائداً قبل مجيء الإسلام، ومن ثم نظروا إلى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كرسالة للبشرية بأسرها، لأنها رسالة للتحرر والانعتاق وتكسير قيود الظلم والهوان. من هؤلاء المستشرق الأمريكي إدوارد رمسي الذي قال: «جاء محمد للعالم برسالة الواحد القهار، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فبزغ فجر جديد كان يرى في الأفق، وفي اليوم الذي أعادت فيه يد المصلح العظيم محمد ما فقد من العدل والحرية أتى الوحي من عند الله إلى رسول كريم، ففتحت حججه العقلية السديدة أعين أمة جاهلة، فانتبه العرب، وتحققوا أنهم كانوا نائمين في أحضان العبودية». 
ويقول الفيلسوف والشاعر الفرنسي لامارتين: «إن ثبات محمد وبقاءه ثلاثة عشر عاماً يدعو دعوته في وسط أعدائه في قلب مكة ونواحيها، ومجامع أهلها، وإن شهامته وجرأته وصبره فيما لقيه من عبدة الأوثان، وإن حميته في نشر رسالته، وإن حروبه التي كان جيشه فيها أقل من جيش عدوه، وإن تطلعه في إعلاء الكلمة، وتأسيس العقيدة الصحيحة لا إلى فتح الدول وإنشاء الإمبراطورية؛ كل ذلك أدلة على أن محمداً كان وراءه يقين في قلبه وعقيدة صادقة تحرر الإنسانية من الظلم والهوان، وإن هذا اليقين الذي ملأ روحه هو الذي وهبه القوة على أن يرد إلى الحياة فكرة عظيمة وحجة قائمة حطمت آلهة كاذبة، ونكست معبودات باطلة، وفتحت طريقاً جديداً للفكر في أحوال الناس، ومهدت سبيلاً للنظر في شؤونهم. فهو فاتح أقطار الفكر، ورائد الإنسان إلى العقل، وناشر العقائد المحررة للإنسان ومؤسس دين لا وثنية فيه». 
وقضية الفتوحات
لقد شاع في الفكر الغربي ولدى المتأثرين بتعاليم الكنيسة النصرانية ورواسب الأفكار الشعبية المنحرفة التي روجتها أوروبا عن الإسلام ونبيه وعن المسلمين إبان وبعد الحروب الصليبية؛ أن الفتوحات الإسلامية قامت على السيف والقهر والتسلط والقسر، ولم تقم على الكلمة الطيبة والدعوة الرفيقة والعقيدة الواضحة، لكن فئة عادلة من مفكري الغرب لم يقتنعوا بهذه الشائعات ورحلوا يتأملون في تلك القدرة العجيبة للمسلمين على نشر دينهم بتلك السرعة المدهشة، وذلك الزحف للدخول الكبير للناس أفواجاً في دين الله، فعادوا إلى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ليجدوا أنها تقوم على الدعوة اللينة لا على القسر الخشن. 
فالمفكر (لورد هدلي) يقف مندهشاً عند معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأسرى من المشركين في معركة بدر الكبرى، ملاحظاً فيها ذروة الأخلاق السمحة والمعاملة الطيبة الكريمة، ثم يتساءل: «أفلا يدل هذا على أن محمداً لم يكن متصفاً بالقسوة ولا متعطشاً للدماء؟ كما يقول خصومه، بل كان دائماً يعمل على حقن الدماء جهد المستطاع، وقد خضعت له جزيرة العرب من أقصاها، وجاءه وفد نجران اليمنيون بقيادة البطريق، ولم يحاول قط أن يكرههم على اعتناق الإسلام، فلا إكراه في الدين، بل أمنهم على أموالهم وأرواحهم، وأمر بألا يتعرض لهم أحد في معتقداتهم وطقوسهم الدينية». 
ويقول الفيلسوف الفرنسي (وولتر): «إن السنن التي أتى بها النبي محمد كانت كلها قاهرة للنفس ومهذبة لها، وجمالها جلب للدين المحمدي غاية الإعجاب ومنتهى الإجلال، ولهذا أسلمت شعوب عديدة من أمم الأرض، حتى زنوج أواسط إفريقيا، وسكان جزر المحيط الهندي». 
أما العالم الأمريكي مايكل هارت فهو يردّ نجاح النبي صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته، وسرعة انتشار الإسلام في الأرض؛ إلى سماحة هذا الدين وعظمة أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام. وقد اختاره هارت على رأس مئة شخصية من الشخصيات التي تركت بصماتها بارزة في تاريخ البشرية. ويقول: «إن محمداً هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح مطلقاً في المجالين الديني والدنيوي، وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً». 
الفضل على الإنسانية والعالم
من الحقائق المسلم بها أن الإسلام جاء ديناً للعالمين، لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور ومن الباطل إلى الحق ومن الجور إلى العدل ومن الفجور إلى التقوى، وكان له الفضل الكبير على الفلسفات والأفكار والقوانين والشرائع الأرضية التي استمدت منه روح العدل والمساواة والتسامح والاعتدال والحرية والأخوة الإنسانية. 
وقد أقر العديد من فلاسفة الغرب بهذه الحقيقة في وقت مارى فيها آخرون وأشاعوا ترهات غير منطقية وغير موضوعية عن الإسلام، ونسبوا ما جاء به من تعاليم وتشريعات إلى نواميس سابقة عليه، وإلى القانون الوضعي الروماني، وهي ترهات كفى الغربيون المنصفون المسلمين مهمة الرد عليها بأسس علمية.  كما أثبت الباحثون المسلمون عوارها وتساقطها وإغراضها. يقول الفيلسوف والكاتب الإنجليزي المعروف برناند شو: «إن أوروبا الآن ابتدأت تحس بحكمة محمد، وبدأت تعيش دينه، كما أنها ستبرئ العقيدة الإسلامية مما اتهمها بها من أراجيف رجال أوروبا في العصور الوسطى»، ويضيف قائلاً: «ولذلك يمكنني أن أؤكد نبوءتي فأقول: إن بوادر العصر الإسلامي الأوروبي قريبة لا محالة، وإني أعتقد أن رجلاً كمحمد لو تسلم زمام الحكم المطلق في العالم بأجمعه اليوم، لتم له النجاح في حكمه، ولقاد العالم إلى الخير، وحل مشاكله على وجه يحقق للعالم كله السلام والسعادة المنشودة». 
ويفند المؤرخ الأوروبي روبرت بريغال مزاعم الغربيين عن تأثر الإسلام بالتشريعات اليونانية الرومانية، فيقول: «إن النور الذي أشعلت منه الحضارة في عالمنا الغربي لم تشرق جذوته من الثقافة اليونانية الرومانية التي استخفت بين خرائب أوروبا، ولا من البحر الميت على البوسفور (يعني بيزنطة)، وإنما بزغ من المسلمين، ولم تكن إيطاليا مهد الحياة في أوروبا الجديدة، بل الأندلس الإسلامية»، إلى أن يقول: «إن هذه الحقيقة التاريخية لا يمكن للغرب إنكارها مهما أوغل في التعصب، واستخف به العناد.  إن دَين أوروبا لمحمد رسول الإسلام غريب ألا يجد محل الصدارة في نسق التاريخ المسيحي». 
أما وليام موير المؤرخ الإنجليزي فيقول في كتابه (حياة محمد): «لقد امتاز محمد عليه السلام بوضوح كلامه، ويسر دينه، وقد أتم من الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل نبي الإسلام محمد». 
هذه مقتطفات من مواقف فلاسفة ومستشرقين أوروبيين وغربيين في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم النبي الخاتم، أردنا منها إثبات أن أبناء الحضارة الغربية يقرون بدور الإسلام في بنائها وتشييد صروحها، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته الحميدة وفضله المتصل إلى يوم القيامة على البشرية في جميع أقطار المعمور، ذلك أن التعصب الأوروبي المسيحي لم يكن خطاً صاعداً باستمرار، وإنما وجد هناك منصفون أكدوا الحقيقة بلا لف أو دوران. ولكن الثقافة الغربية السائدة والمتشبعة بقيم التعصب والعناد والتمركز الحضاري حول الذات سعت إلى حجب هذه الحقائق وإخفاء هذه الأصوات حتى لا يتمكن الشخص الأوروبي العادي من الاطلاع على ما أثبته أبناء جلده من الكبار في حق الإسلام ونبيه ورسالته العالمية الخالدة، وذلك كله بهدف تحقيق غرضين، الأول إبعاد الأوروبيين المسيحيين عن الإسلام الذي دلل على قدرته على التغلغل في النفوس وملامسة صوت الفطرة في الإنسان، فهو يخيف الغرب المتوجس من تراجع عدد معتنقي المسيحية في العالم، رغم ما ينفقه من الأموال والوقت لتنصير الشعوب، والغرض الثاني ضمان استمرار الصراع بين الغرب والإسلام والقطيعة بينهما لمصلحة الصهيونية والماسونية التي تعتبر نفسها المتضرر الأول والرئيس من أي تقارب أو حوار بين الإسلام والغرب. وصدق الله العظيم إذ يقول: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد. ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم، ألا إنه بكل شيء محيط).  (فصلت:52-53).

منقول من موقع مجلة المجلة

الأحد، 21 أكتوبر 2012

في ذكراه الاولي .. اليوم انيس منصور فيلسوف الصحافة وصحفي الفلاسفة.. مجدي عفيفي




النهاية‮..‬

بينما كان الصبح يتنفس‮ ‬لشروق يوم جديد‮ ‬21‮ ‬أكتوبر‮ ‬2011‮ ‬كان أنيس منصور يرسل أنفاسه الأخيرة لغروب عمر امتد‮ ‬87‮ ‬عاماً،‮ ‬ليضع النقطة‮  ‬الخاتمة في آخر سطر من كتاب حياته،‮ ‬في التاسعة صباح يوم الجمعة،‮ ‬وهو التوقيت اليومي الذي كان يتوهج فيه قلماً‮ ‬وألماً‮ ‬وأملاً،‮ ‬لكنه هذه المرة فارق التوهج علي إيقاع آيات من الذكر الحكيم،‮ ‬ففاضت روحه وكأنما أراد أن يكون آخر وأجّل وأجمل ما ينصت إليه في الدنيا،‮ ‬والنفس المطمئنة تتهيأ لترجع إلي ربها راضية مرضية‮.‬

وما كان أنيس منصور أبا أحد،‮ ‬ولكن رسول الكلمة،‮ ‬وخاتم جيل من المفكرين والكتّاب الموسوعيين من أصحاب النظرة الكونية والرؤية الفلسفية التي تخترق الزمان والمكان والإنسان‮.‬

تسعة عقود من الزمن الحي،‮ ‬عاش فيها وعاشت فيه،‮ ‬ورأي فيها ما رأي،‮ ‬وشهد وشاهد،‮ ‬وكتب وقرأ،‮ ‬وملأ الدنيا،‮ ‬وشغل الناس وشاغلهم،‮ ‬بالصحافة والفلسفة والثقافة والفكر،‮ ‬والأسئلة والتساؤلات،‮ ‬والتأمل والتحديق،‮ ‬والدهشة والمعرفة‮.‬

استقطر أنيس منصور من نفسه مائتي قنينة،‮ ‬شكلَّها في باقة من المؤلفات،‮ ‬ترصع جبين المكتبة العربية والإنسانية،‮ ‬ليتجاور مع كبار كتّاب العالم،‮ ‬وليتحاور مع الفكر والقلب الإنساني بسحره وسرده،‮ ‬ولغته ونغمه،‮ ‬ومفرداته ومعزوفاته‮.‬

ولقد مضي عام علي‮ (‬فراق‮) ‬أنيس منصور،‮ ‬أقول‮ (‬فراق‮) ‬و(مادي‮) ‬فقط،‮ ‬لأني‮- ‬كتلميذ له‮- ‬لا أزال أتدثر بمعطفه الصحفي والفكري والفلسفي،‮ ‬ولا أزال أمكث في عباءته ولا أريد الخروج،‮ ‬فهو معي وأنا أيضاً‮.‬

أتنقل بين حدائقه المكتوبة،‮ ‬وأتلذذ بنور حرائقه المشتعلة،‮ ‬واستحضر أرواحه وأشباحه،‮ ‬واستمتع بلذة النص والقص والشخص والاسم والرسم والسمت والصمت،‮ ‬وعنفوان الشيخوخة التي لم يكن يعترف بها يوماً‮ ‬رغم وهن العظم منه واشتعال الرأس شيباً،‮ ‬وفوران المذكرات،‮ ‬والذكريات صدي السنين الحاكي‮.‬

‮ ‬البوح‮ ...‬

في المائتي يوم الأخيرة من حياة أنيس منصور‮.. ‬كان يحدثني عن كثير من الأسئلة المسكوت عنها،‮ ‬سواء علي المستوي الذاتي في مناطق وعرة من جغرافية حياته وفكره أم علي المستوي الموضوعي في رؤيته لكثير من القضايا والهموم المحظور اقتحامها.أفاض عليَّ‮ ‬بأسرار ومذكرات،‮ ‬وفتح لي‮ (‬صندوقه الأسود‮) ‬من مراجعات سياسية،‮ ‬واعترافات شخصية،‮ ‬ومناوشات فكرية،‮ ‬وارتعاشات دينية،‮ ‬وخفقات علوية،‮ ‬وتنهدات وجدانية،‮ ‬ونبوءات واقعية،‮ ‬وتحديقات مستقبلية‮.‬

كانت كثافة هذا البوح فائقة الحساسية وكان عليّ‮ ‬استيعابها رصداً‮ ‬وفرزاً،‮ ‬وتأصيلاً،‮ ‬وتجذيراً،‮ ‬طوال عام مضي،‮ ‬كان حظي عذباً‮ ‬وكان خطه معذباً،‮ ‬كأنه طلاسم،‮ ‬لكن فكها لم يكن مستحيلاً،‮ ‬فالمواد رائعة والمحتوي مروع،‮ ‬والتحيير مع أنيس منصور عذاب وعذوبة،‮ ‬وفي هذا عزائي‮.. ‬فالانفراد هو الثمن‮.‬

من أجل ذلك‮.. ‬أبدو وقد تأخرت،‮ ‬أو قل تلكأت،‮  ‬في إصدار‮» ‬الـ‮ ‬200‮ ‬يوم الأخيرة في حياة أنيس منصور‮« ‬لكن تثمين الأشياء يحتاج ميزاناً‮ ‬أدق من ميزان الذهب،‮ ‬والوزن الفكري لأنيس منصور ثقيل،‮ ‬ومن ثقلت موازينه فهو في عيشة متجددة‮.. ‬أبداً‮!‬

ثمة‮ ‬غابة من المعلومات الكثيفة تحتويها مؤلفات أنيس منصور في فروع المعرفة الإنسانية كافة،‮ ‬تجعله متمايزاً‮ ‬ومتميزاً،‮ ‬وأعظم سماتها هو ذلك التنوع النوعي الذي تفيض به،‮ ‬والأعظم هو قدرته علي استثمارها كتابياً‮ ‬وثقافياً‮ ‬في سباقاتها لتمثل طاقة هائلة من المتعة والفائدة.ولقد أخبرني الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل بضرورة دراسة مصادر فكر أنيس منصور المتنوعة والمتعددة،‮ ‬خاصة أنه كان يجيد سبع لغات حية من لغات العالم،‮ ‬فكان يجدد مداد قلمه وفكره باستمرار،‮ ‬حتي آخر لحظة،‮ ‬فكنت أجد دوريات علمية أجنبية،‮ ‬ودراسات فكرية حديثة،‮ ‬ومراجع فلسفية ودينية،‮ ‬تحيط بفراش مرضه،‮ ‬ويتزامن مع ذلك مشاهدته التليفزيونية لكثير من الفضائيات والمحطات الأجنبية لاسيما العلمية والتاريخية،‮ ‬لذلك لابد أن تطبق قاعدة‮ (‬تقاطع المعلومات‮) ‬إذا أردت الإحاطة بفكر هذا المفكر الموسوعي واستقطار أدبياته،‮ ‬واستخراج ملامحه،‮ ‬وتحديد معالمه‮.‬

‮  ‬الشخصية‮...‬

احتواء أنيس منصور،‮ ‬الشخص والشخصية،‮ ‬يعني احتواء مائة عام من الثقافة والسياسة والصحافة والمجتمع والناس والانعطافات والإنكسارات والانتصارات والهزائم والغنائم والتحولات الداخلية والإقليمية والإنسانية والكونية‮.‬

والارتحال والدوران حول عالم أنيس منصور هو ارتحال ودوران في فلك التنوير والاستنارة‮ ‬،‮ ‬رغم أضواء مصابيح الظلام في الأجواء كثنائية حياتية طبيعية،‮ ‬وقد‮ ‬غالبها بأنوار مائتي كتاب عبر سبعة وثمانين عاما مشحونة بالمتقابلات ومسكونة بالتناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية‮.‬

واختزال أنيس منصور‮ ‬،‮ ‬قلما وأملا وألما،‮ ‬في سطور وصفحات،‮ ‬هو مثل ولوج الجمل في سم الخياط،‮ ‬عملية مستحيلة،‮ ‬إلا أن يكون هذا الاختزال مجرد استقطار لحديقة مفكر وكاتب موسوعي،‮ ‬في قنينة مكثقة العبير،‮ ‬وقد رحل صاحبها ليظل ابداعه ينشر شذاه بين الأجيال بكل أطيافها وطبقاتها وشرائحها وظلالها وعذاباتها وأشواقها‮.‬

أن تقرأ أنيس منصور معناه أنك تقرأ ألوفا من الكتب،‮ ‬في الفكر والفلسفة والدين والعلم والأدب والفن والفلك والإنسان والزمان والمكان،‮ ‬وافتح‮  ‬كتب أنيس منصور‮: ‬تمتعك،‮ ‬تتعبك،‮ ‬ترهقك،‮ ‬تؤنسك،‮ ‬تزلزلك،‮ ‬تفترسك،‮ ‬تهديك،‮ ‬تهدئك،‮ ‬تهدك،‮ ‬تصعد بك وتهبط،‮ ‬تطير وتحط،‮ ‬تسبح بك وتسبّـح‮ ‬،‮ ‬وتسعدك،‮ ‬وتحزنك،‮ ‬تتسع بك وتضيق،‮ ‬تضع العالم عند أطراف أصابعك وعيونك التي في طرفها شوق للتلقي والمعرفة وامتصاص الرحيق واستئناس الحريق،‮ ‬فكتبه مثل الخرائط تهديك إلي‮ ‬غيرها،‮ ‬ومثل الأوراق المالية مضمونة الفائدة،‮ ‬ومثل البنوك فيها كل أنواع المعاملات والتحويلات‮.‬

أن تجلس إلي أنيس منصور فأنت تتقابل مع مئات الشخصيات والأشخاص في العالم،‮ ‬من بسطاء ومشاهير وقيادات وجماهير،‮ ‬وأزمنة وأمكنة،‮ ‬وواقع وما وراء الواقع،‮ ‬وأنفس وآفاق،‮ ‬وأرواح وأشباح،‮ ‬وعلماء وفنانين،‮ ‬وفلاحين ومثقفين،‮ ‬وكتاتيب وجامعات،‮ ‬وفنادق وصحاري،‮ ‬وأطراف وأطياف،‮ ‬وجبال وأودية،‮ ‬وقري وقارات،‮ ‬و‮.. ‬دنيا.توجد شخصيات تملأ العين والقلب ويظل الانسان يقترب منها حتي تستولي عليه،‮ ‬ويري الدنيا من خلالها‮ ‬،‮ ‬فتصبح هذه الشخصيات عدسات لاصقة تلهب العين وتوجعها،‮ ‬وفي النهاية لا مفر من نزعها،لا استطيع ترك مجالي البصري رهنا لهذه العدسات المكبرة علي الدوام

أن تستمع إلي أنيس منصور لا بد أن تصغي إليه وتنصت،‮ ‬ليس علي شاكلة‮ «‬رب مستمع والقلب في صمم‮»  ‬فهو يوقظ فيك‮  ‬حواسك ومشاعرك ووجدانك وفكرك،‮ ‬فتعيش حالة من‮  ‬من الجدل الإيجابي،‮ ‬وهالة من القوة الإنسانية والضعف أيضا،‮ ‬إنه المحدث الساحر بقدرته علي السرد والحكي،‮ ‬هو سارد يدرك نوعية المسرود له‮.‬

الأنا‮ ...‬

‮»‬الأنا‮«.. ‬هي نقطة الارتكاز لتحقق الإنجاز،‮ ‬يكتب كما يتحدث كما يتنفس‮« ‬أعوذ بالله من يوم لا أقول فيه‮: ‬أنا وأنا،‮ ‬وأنا قرأت أنا فكرت،‮ ‬أنا تأملت،‮ ‬أنا صليت،‮ ‬أنا شكرت الله علي ما أعطاني،‮ ‬أنا استغفرت،‮ ‬أنا أذنبت،‮ ‬فكيف لا أقول أنا‮ ‬،‮ ‬والأدب والفن كله ليس إلا كلمة أنا،‮ ‬أنا رأيت،‮ ‬أنا انفعلت،‮ ‬أنا‮ ‬غضبت،‮ ‬أنا سعدت،‮ ‬ولكن أحب الذي يقول‮: ‬أنا مختلف،‮ ‬أو سوف أكون مختلفا،‮ ‬لست نسخة لأحد،‮ ‬أو ظلا لأحد،‮ ‬أو في عباءة أحد،‮ ‬أنا كما أنا‮».‬

ذاته وحياته ومؤلفاته‮.. ‬ثلاثية تشكل وحدة‮  ‬نصية كلية،‮ ‬هي منظومة أنيس منصور،‮ ‬قاسمها المشترك هو‮ «‬الأنا‮» ‬والأنا هي النواة التي تدور في مجرتها المليون الصفحة التي كتبها أنيس منصور طوال عمره وفكره‮ «‬من أراد أن ينظر إليّ،‮ ‬فلينظر إليّ‮ ‬بعيني إلي عيني،‮ ‬يحاسبني بقولي علي قولي،‮ ‬ويستخدم موازيني في وزني،‮ ‬ومقاييسي في قياسي،‮ ‬فأنا شاهد علي نفسي،‮ ‬فأقفز إلي مقعدي‮  ‬وأدخل في ملابسي لتقول الذي أقول‮...».  ‬

‮ ‬سألت أنيس منصور‮: ‬هل عرفت من أنت؟

قال‮: ‬آه‮.. ‬لو كانت أفكاري وعواطفي ملفوفة‮.. ‬كلها علي هيئة بكرة خيط‮.. ‬لها أول ولها آخر‮.. ‬ولها اللون الذي يعجبني‮.. ‬آه‮.. ‬لو كنت أستطيع أن أرتب هذه الخيوط بالشكل الذي يعجبني‮..‬آه‮.. ‬لو كنت أعرف ما يدور في عقلي‮.. ‬وفي قلبي‮.. ‬وفي معدتي‮.. ‬إنني كثيرا أتلخبط في مشاعري فأحس بالصداع في معدتي‮.. ‬وأحس بالمغص في عقلي‮.. ‬وبالقرب من قلبي‮.. ‬إنني لا أعرف أين يوجد الحب ولا أين توجد الكراهية‮.. ‬ولا أين يوجد الجوع والعطش،‮ ‬إنني أعرف أن الطريق إلي العقل يمر بالمعدة وبالقلب ولكن أنا لا أعرف أول هذا الطريق ولا نهايته‮.. ‬فنحن نأكل،‮ ‬ولكن عملية الأكل هذه عملية عقلية‮.. ‬والشعور باللذة‮.. ‬مسألة عقلية‮.. ‬والشعور بالارتياح للذين نجلس إليهم عند الأكل مسألة عاطفية‮.. ‬مسألة قلبية‮.. ‬فبأي شيء نأكل‮.. ‬بالقلب؟ بالعقل؟ لا أعرف‮!‬

‮ ‬الأشواق‮...‬

ما بين أول طلعة منه،‮ ‬وآخر طلة مني عليه،‮ ‬ثلاثة وثلاثون عاما هي عمر علاقتي بالكاتب الكبير أنيس منصور،‮ ‬صحفيا وثقافيا وسياسيا وفكريا وأدبيا وشخصيا،‮ ‬حوارا وجوارا وجدارا لم ينقض،‮ ‬فقد توهج عنفوان هذه العلاقة حتي في سنوات الغربة،‮ ‬كانت الموجات تتري من النيل إلي الخليج،‮ ‬محملة بنسائم الفكر والشوق واللقاء،‮ ‬ودفء المشاعر التي لم تعرف الا التوهج،‮ ‬ولا تعترف إلا بضياء الأستاذية وأشواق التلمذة،‮ ‬فليست صفحاتي عنه هذه‮..‬مجروحة،‮ ‬ولن تكون ولا ينبغي،‮ ‬وأنَّـي ذلك وعبير الأستاذية ممتد وممدود‮: ‬ألقا وقلقا ووهجا‮.‬

عشت المائتي يوم الأخيرة معه،‮ ‬معايشة حميمية،‮ ‬واقتربت منه اقترابا كاشفا،‮ ‬فكنت أسلك منه،‮ ‬عبر ثقافة الأسئلة،‮ ‬إجابات عن المسكوت عنه،‮ ‬فأنيس منصور هو آخر رموز جيل أعطي بسخاء،‮ ‬في كافة فروع المعرفة،‮ ‬بلا حدود‮.‬

ولقد ارتبطت بكل هؤلاء العظماء والعمالقة ارتباطا فكريا وصحفيا وذاتيا،‮ ‬وعن كثب،‮ ‬منذ أن كنت أجري سلسلة من الحوارات المصورة‮ «‬24‮ ‬ساعة في حياة كاتب‮» ‬في صفحة‮ «‬أخبار الأدب‮» ‬بجريدة الأخبار طوال عام‮ ‬1980عايشتهم فكرا وسلوكا واستبطانا وألفة،‮ ‬واقتطفت منهم كثيرا من أحلي وأعظم ما لديهم،‮ ‬وتركوا بصماتهم في حياتي بشكل أو بآخر،‮ ‬وهم وإن رحلوا‮ «‬أشخاصا‮» ‬فقد بقوا‮ «‬شخصيات‮» ‬ومصابيح مضيئة في فضاء الثقافة،‮ ‬إبداعا وإنتاجا،‮ ‬وصياغة وصناعة،‮ ‬وها هو أحدثهم وآخرهم أنيس منصور‮ :‬12‮ ‬أكتوبر‮ ‬2011‮ .‬

‮ ‬الرسالة‮...‬

كان أنيس منصور يتساءل في دهشة،‮ ‬ويشاركني‮ ‬اقتسام السؤال،‮ ‬والسؤال نصف الجواب‮: ‬لماذا تركني الله تعالي الي هذه السن؟‮. ‬ولماذا وحدي؟.لماذا ناداهم كلهم إلا أنا؟‮.‬

وكنت أقول:إن رسالتك لم تكتمل،‮ ‬ربما‮. ‬وكان يزم شفتيه ويرفع حاجب الدهشة،‮ ‬ولا يخفضه إلا قليلا،‮ ‬ألم تقل‮:«‬أنا عندي إحساس دائم بأن الذي كتبته من الممكن ان يكون أفضل وأطول،‮ ‬فالمعاني مثل ينبوع واحد،‮ ‬أو نهر واحد،‮ ‬تتفرع منه عشرات القنوات والفنان مثل البلبل‮: ‬له أنشودة واحدة،‮ ‬وأنا‮  ‬وكل كاتب نشبه الذي يقف أمام القاضي ويقسم‮ :‬أن أقول الحق‮ ‬،‮ ‬ولا شئ إلا الحق،‮ ‬وكل الحق‮! ‬أما أنه يقول الحق فصحيح،‮ ‬ولا شئ إلا الحق فصحيح أيضا،‮ ‬أما‮ «‬كل الحق‮» ‬فليس صحيحا،‮ ‬فلا أحد يعرف‮ «‬كل‮ » ‬ولا أحد قال«كل‮» ‬شئ‮ ‬،‮ ‬وإنما بعض الشئ،‮ ‬بعض الوقت،‮ ‬أي الحقيقة‮.. ‬إلا قليلا‮!.‬

و«الحقيقة‮» ‬هي أمل ورجاء أنيس منصور،‮ ‬معبودته التي كان ينحني لها في كل ما يكتب،‮ ‬ظل يبحث عنها علي مدي مائتي كتاب ويدعو الناس أيضا،‮ ‬لكن‮  ‬العلم طويل والعمر قصير،‮ ‬كما يقول المثل اللاتيني القديم،‮ ‬ومن ثم كان يؤرقه في الأيام الأخيرة علامة استفهام محملة بشئ من الحسرة‮: ‬من يحمل أمانة الحفاظ علي هذه الثروة والدعوة في مؤلفاتي؟‮  ‬ليس لي ورثة‮. ‬إذن لا بد أن أوصي بما أملك لأحد من الناس فما هي هذه الثروة التي سوف أتركها عندما أموت‮. ‬أنا أقول لك‮: ‬مكتبتي وبها خمسون ستون ألفا من الكتب‮. ‬إيه يعني وقد تركت من المؤلفات‮ ‬200‮ ‬كتاب وإيه يعني مرة أخري‮. ‬فعائد هذه الكتب ضئيل جدا،‮ ‬ولم يستطع كاتب مصري أن يعيش علي كتبه‮: ‬لا توفيق الحكيم ولا العقاد ولا طه حسين ولا نجيب محفوظ،‮ ‬ولولا أن روايات نجيب محفوظ تحولت إلي مسرحيات وأفلام لوجدت أول شحاذ يدق بابك هو نجيب محفوظ،‮ ‬إذن هذا الذي سوف أتركه لكلبي يكفيه‮ ‬غداء وعشاء،‮ ‬وكلبي يتغذي علي العظم واللحم الذي لا آكله،‮ ‬ويتغذي علي الخبز والجبن المالح،‮ ‬وأنا لا آكل الملح في الطعام أو خارجه،‮ ‬وسمعت من يقول في أذني بصوت مرتفع‮: ‬يا أخي اسكت‮. ‬إيه اللي حشرك بين هؤلاء الأغنياء‮! ‬وتلفت حولي لأعرف من هذا الخبير بكل شؤوني والفاضح لأمري‮. ‬فلم أجد أحدا سواي‮.. ‬وسكت‮! ‬

‮ ‬النغم‮...‬

سألت أنيس منصور في شهوره الأخيرة وكان‮ ‬يراجع كتابه‮ »‬أعجبني هؤلاء‮«  : ‬هل قلت كل ما تريده؟

قال‮ :‬عندي إحساس دائم بأنني لم أقل بالضبط ما أريد ولكنني أحاول ثم أكرر المحاولة وتكررالمعاني ولذلك استخدم في التوضيح كأنما ولعل أي كأن المعني كذا وكذا وأشعر بأنني لم أقل بما فيه الكفاية فأعود وأنا أعود إلي الكثير من المعاني‮.‬

‮  ‬يتوافق الكاتب أنيس منصور مع صديقه الكاتب الإيطالي البرتومورافيا،‮ ‬في رؤيتهما أن الفنان الحقيقي هو الذي يكرر نفسه‮! ‬وأنت ايضا تؤكد ذلك القول بأن لديك لحنا واحدا تعزف انغامه بطرق مختلفة؟ كل كاتب مثل كل طائر مغرد له لحن واحد يميزه عن بقية الطيور الأخري المغردة،‮ ‬فالكاتب صاحب الرؤية له رأي واحد،‮ ‬أو نظرية واحدة،‮ ‬أوصيغة فكرية واحدة يحاول ان يلف حولها ويعرضها بأشكال مختلفة‮  ‬فالفنان صاحب النغمة الواحدة او صاحب اللحن الواحد يتناوله من جوانب أو زوايا شتي وينادي بالفكرة الواحدة أو الصيغة الواحدة فيأتيها من زاوية فيكبرها ويصغرها ويكونها ويشخصها ليري بوضوح‮.‬

‮ ‬

العصا‮ ...‬

كان القلم في يد أنيس منصور مثل عصا‮ ‬موسي‮.. ‬يهش به علي‮ ‬غنمه من الكلمات،‮ ‬يسوقها إلي المعاني،‮ ‬أو يسوق إليها المعاني‮ ‬،‮ ‬أحيانا‮ ‬،‮ ‬تمشي وراءه‮  ‬وينفخ في عصاه كأنها أرغون،‮ ‬ويغني ولا يلتفت إلي الأغنام وراءه وحوله وأمامه‮ ‬،‮ ‬هو يقول‮ :‬أحيانا أري عصاي تلتهم الكلمات وتلتهم الأفكار،‮ ‬ولا أعرف ما جدوي أن تكون لي عصا،‮ ‬وأحيانا أري عصاي مثل عصا المايسترو أقود بها ما لدي من أفكار،‮ ‬وأهش بها علي ما لدي من كلمات،وأقوم بالتنسيق بينهما جميعا ويسعدني ذلك.وأحيانا أري عصاي مثل عصا توفيق الحكيم‮..‬

سألته‮: ‬ولماذا العصا يا أستاذ؟ فقال‮: ‬حتي الآن لا فائدة منها،‮ ‬ولكن عندي أملاً‮ ‬أن يجئ وقت أنهال بها علي دماغي ندما علي أنني أضعت عمري في الكلام الفارغ،‮ ‬فلا أضفت جديدا،‮ ‬ولاأصلحت وضعا،‮ ‬ولا كان لي حواران‮.‬

قلت‮ : ‬بل أضفت يا أستاذ وأقنعت وأسعدت،‮ ‬وفتحت رؤوسا مغلقة،‮ ‬وأضأت طرقا مظلمة في القصة والرواية والمسرحية،‮ ‬وكانت لك نظرية فلسفية،‮ ‬وإن لم يكن لها أثر هذه الأيام فسوف يكون‮ ‬غدا أو بعد‮ ‬غد‮. ‬فضحك توفيق الحكيم وقال‮: ‬الآن عرفت لهذه العصا فائدة مؤكدة‮ ‬،‮ ‬وهي أن أنزل بها علي رأسك،‮ ‬فأنت شديد التفاؤل،‮ ‬بينما أنت في طبيعتك شديد التشاؤم‮.‬

ولما سئل الأستاذ العقاد وقد لاحظنا أنه أصبح ثقيل الخطو،‮ ‬ولماذا لا تستخدم عصا يا أستاذ؟ فأجاب إنني أحتاج إلي كثير من‮  ‬هذه العصا،‮ ‬واحدة أسند بها رأسي،‮ ‬وواحدة أسند بها قلبي،‮ ‬وواحدة لكي أقوّم هذا المجتمع الآعوج،‮ ‬وعصا أضرب بها حكامنا الكذابين،‮ ‬ومؤرخينا الأكذب،‮ ‬فإن كان عندك هذا النوع من العصا فهات منها مائة وألفا‮..‬ورضيت بأن أستعير عصا موسي فهي أسهل‮!.‬

‮ ‬الاعتراف‮ ... ‬

‮  ‬الفن ليس إلا نوعا من الاعتراف،‮ ‬أي نوعا‮ ‬من إزالة الحائط الرابع بين الفنان وبين الناس،‮ ‬فيحدثهم عن نفسه،‮ ‬بلا تحفظ،‮ ‬بلا حواجز،‮ ‬سواء نشر الفنان اعترافاته وهو حي،‮ ‬أو نشرها بعد وفاته،‮ ‬فإذا نشر الفنان اعترافاته وهو حي،‮ ‬كان معني ذلك أنه لا يخشي أن يصارح الناس،‮ ‬فإذا نظر إليه الناس،‮ ‬نظر إليهم أيضا،‮ ‬وإذا رآه الناس عاريا،‮ ‬واجههم‮   ‬فهو قد استعد لهذه اللحظة‮   ‬لهذه المواجهة،‮ ‬وإذا نشر اعترافاته بعد وفاته،‮ ‬فمعني ذلك أنه لم يقو علي مواجهة الناس‮   ‬لم يقو علي نظرات الناس،‮ ‬إنه فضل أن يفقئ عينيه حتي لا يراهم،‮ ‬أن يموت‮   ‬ومعني موت الفنان قبل أن ينشر اعترافاته،‮ ‬أنه قرر أن يحرم الناس من متعة إلصاق العار به أنه فوت علي الناس تعذيبه،‮ ‬فنشر اعترافاته بعد موته‮ ‬،‮ ‬والفيلسوف سارتر نشر كتابه‮ »‬كلمات‮« ‬وهي اعترافات‮   ‬أو ترجمة حياته‮   ‬ونشرت‮ »‬سيمون دي بوفوار‮« ‬اعترافاتها في‮ »‬مذكرات فتاة متنزة‮« ‬وفي‮ »‬قوة الاشياء‮« ‬وفي‮ »‬قوة العمر‮« ‬وفي‮ «‬وفاة هادئة جداً‮»  ‬وطه حسين نشر‮ »‬الأيام‮«  ‬والعقاد نشر‮ »‬في بيتي‮« ‬والمازني نشر‮ »‬قصة حياة‮« ‬وسومرست موم نشر‮ »‬الخلاصة‮«   ‬

سجل‮  ‬أنيس منصور مرحلة القلق في حياته وحياة أبناء جيله في معظم كتبه:وداعا أيها الملل،‮ ‬من أول نظرة،‮ ‬في صالون العقاد كانت لنا أيام،‮ ‬عاشوا في حياتي،‮ ‬مذكرات شاب‮ ‬غاضب‮ . ‬مذكرات شابة‮ ‬غاضبة،‮ ‬البقية في حياتي،‮ ‬،‮ ‬وقبل ذلك كانت رحلاته‮: ‬حول العالم في‮ ‬200‮ ‬يوم،‮ ‬بلاد الله خلق الله،‮ ‬أعجب الرحلات في التاريخ،‮ ‬غريب في بلاد‮ ‬غريبة،‮ ‬أنت في اليابان وبلاد أخري.وسجل قلقه النفسي في‮ : ‬يسقط الحائط الرابع،‮ ‬الوجودية،‮ ‬اوراق علي شجر،‮ ‬شباب شباب،‮ ‬اثنين اثنين،‮ ‬جسمك لا يكذب،‮ ‬وسجل سنوات البكر في‮ »‬البقية في حياتي‮ « ‬و»إلا قليلا‮« ‬و»صندوقي الأسود‮«:‬

وفي هذه الكتب ومائة‮ ‬غيرها يقول‮:« ‬تسلطت علي نفسي أدرس وأتعمق وأحلل وأكتب بلا رحمة وأحيانا بلا تحفظ،‮ ‬فأن أتحدث الي نفسي علي مسمع من الناس وعلي مرأي أيضا،‮ ‬وحين أتحدث الي نفسي أرفع الكلفة،‮ ‬وأزيل الحواجز،‮ ‬وأجدني عاري الجسد والنفس أمام المرآة،‮ ‬وأنسي أن هذا يقال وهذا لا يقال،‮ ‬ولكن عذري أنني أريد أن أعرف نفسي بما في نفسي،‮ ‬وفي نفوس الناس،‮ ‬فنحن جميعا تحت الجلد سواء،‮ ‬الجلد يفصل بيننا من ناحية الشكل،‮ ‬ولكن تحت الجلد دماً‮ ‬من نوع واحد،‮ ‬كرات بيضاء وحمراء وتدخل القلب ويضخها الي بقية الأعضاء والغدد وإلي المخ‮».‬عندما أتذكرأمثلة من شبابي ومن طفولتي فإنني لا أندهش لها،‮ ‬وإنما أذهب إلي أبعد‮  ‬وأعمق وأقرب،‮ ‬لعلي أعرف ماذا حدث وكيف حدث،‮ ‬وهل كان من الممكن أن يحدث‮ ‬غير ذلك‮... ‬طبعاً‮ ‬مستحيل،‮ ‬ولو عدت إلي تلك الأيام ما فعلت‮ ‬غير الذي فعلت‮!.‬

المذكرات‮ ...‬

‮ ‬لماذا يعترف الناس بعيوبهم؟‮! ‬لماذا يكتب الناس‮ ‬مذكراتهم أو اعترافاتهم أو ما لا يعرفه الناس؟‮! ‬لماذا يتعري الناس أمام الناس؟‮!‬

هناك إجابات كثيرة لدي أنيس منصور‮: ‬رأي يقول إنما يكتب الأدباء مذكراتهم لأنهم يريدون أن يكشفوا عن حياتهم‮.. ‬أو إخفاء بعض المعلومات.أول من كتب هذه المذكرات في الغرب القديس أوغسطين‮. ‬وصارت هذه الاعترافات نموذجا لما يجب أن تكون عليه المذكرات‮.. ‬واعترافات‮ (‬جان جاك روسو‮) ‬قال فيها ما يقال وما لا يقال وما لا يقال أكثر‮. ‬فمثلا ذكر أن عنده شذوذا‮. ‬وسبب الشذوذ أن لديه انحرافا جنسيا‮.. ‬ولذلك،‮ ‬أوصي جان جاك بأن تنشر مذكراته بعد وفاته‮.‬

وكانت اعترافات العقاد اسمها‮ (‬أنا‮)‬،‮ ‬وقال فيها ما يحب‮ (‬أنا‮) ‬وما يكره‮ (‬أنا‮) ‬ود‮. ‬لويس عوض اعترف بأنه لا ينجب لا هو ولا أخوه،‮ ‬وأن أخته ماتت عذراء في السبعين من عمرها في أحد المستشفيات‮. ‬واعترف موسي صبري بأنه أسلم وارتد ثم أسلم‮.. ‬وبأنه ترك لأولاده أن يختاروا الدين الذي يريدونه.وأنا كتبت مذكراتي أربع مرات‮.. ‬وبلغت فيها زمنا طويلا.وأعود إليها وبعد أن أمضي فيها طويلا أتوقف‮. ‬والذي حيرني أن هناك فترة من عمري كلما حاولت التعبير عنها لا أحبذ الاستمرار في ذلك‮. ‬وقلت لا بد أن أذهب إلي محلل نفساني‮. ‬أحكي له ويستدرجني ويحلل أعماقي‮.. ‬ووجدت أنني أستطيع ذلك‮. ‬وجلست وتأملت طويلا‮. ‬ووجدت السبب أنه حدث في ذلك الوقت أن صفعني المدرس‮.. ‬وكسر تمثالا لي كنت أراه في الطفولة‮. ‬وقد حاولت في كل المناسبات ألا أتعرض له وأن أتستر عليه‮. ‬فأنا كرهت الخوف وكرهت الإشارة إليه‮. ‬ولما كشفت ما أخفيه عشرات السنين انكشفت حياتي الصغيرة أمامي ووجدت ردودا علي ما ارتكبه المدرس.ومن هنا كانت‮  ‬محاولتي الخامسة في كتابي‮ «‬صندوقي الأسود‮»‬‮.‬وأنت وكثير من الناس أيضا يسألني‮: ‬يا أخي لماذا تفضح نفسك هكذا؟ واندهش كيف أنني فضحت نفسي،‮ ‬إنني لم أفضح نفسي،‮ ‬ولا أحداً،‮ ‬إنما أردت أن أعرف،‮ ‬أن أكشف،‮ ‬أن أنكشف،‮ ‬أن أكتشف،‮ ‬أن أكاشف،‮ ‬هذا كل ما هناك،‮ ‬عملا بنصيحة أستاذنا العظيم سقراط‮:«‬اعرف نفسك بنفسك‮». ‬بعض الناس عندما يقرأ ما كتبت عن نفسي وعن نفوس الآخرين يشعر بالخجل‮.. ‬لماذا؟ لأنه كان يخفي شيئا،‮ ‬فكشفته‮ ‬أنا‮.‬

‮ ‬الحياة‮ ...‬

هندسة العلاقات الانسانية‮.. ‬تشكل أهم‮ ‬المرتكزات الفكرية في كتابات أنيس منصور،‮ ‬وهي كنز ضخم‮  ‬ينهل منه الآن كل الفكر الانساني،‮ ‬ومن هنا تتكشف رؤية أنيس منصور الإنسانية،‮ ‬بمجموعة من الثوابت،‮ ‬وأخري من المتغيرات،‮ ‬تنضوي تحت القيم الثلاث الكبري التي يجمع قادة الفكر الانساني علي أنها هي التي تضبط حياة الإنسان الفكرية والعملية علي حد سواء،‮ ‬وهي قيم الحق والخير والجمال،‮ ‬في هذه المنظومة الفكرية،‮ ‬يتبدي بجلاء أن القيم لا تتجزأ،‮ ‬لأن فكر صاحبها ليس فكرا علي فكر،‮ ‬إنما هو فكر نابع من واقع الحياة،‮ ‬فكر علي مشكلات حية،‮ ‬وهذا هو شأن الفكر العظيم‮.‬

سألته‮ : ‬الحياة في منظورك؟

أنا شديد الحرارة والحماسة‮.. ‬أري الدنيا كلها أقرب مما هي الآن‮.. ‬فأنا استطيع أن أقول كل ما أريد‮.. ‬وأستطيع أن أحكم علي كل الناس وفي كل القضايا‮.. ‬لا خوف‮.. ‬لا احتراس‮.. ‬هذا رأيي وفي ذلك الكفاية وأنا المسؤول عن كل ما أقول‮.. ‬وقد‮ ‬غضب مني الكثيرون‮.. ‬ولكن هذا الغضب طبيعي‮.. ‬أي من الطبيعي أن يغضب الناس مما أقول وأن ينزعجوا أيضا‮. ‬ووجدت في ذلك الوقت أنه لا حرائق بلا نار‮.. ‬ولا نار بلا دخان ولا انفجار بلا دوي‮! ‬والشباب انفجار‮.. ‬والانفجار نار وألوان ودخان وصراخ وضوضاء ورعب‮. ‬ولم أكن في ذلك الوقت إلا صورة أو انعكاسا لمئات الصور من الشباب في مثل سني‮. ‬واندهشت جدا كيف أن عددا من القضايا العاطفية والاجتماعية كانت تشغلني أكثر من أي شيء‮.. ‬وكيف أنني كنت أضع أصابعي في النار بلا خوف،‮ ‬فلم يكن الخوف هو الذي يسيطر علي أصابعي‮.. ‬ولكن المهم عندي هو أن أمسك شيئا‮.. ‬أن أنظر إليه عن قرب وأن أزفه وأن أصفه وأن أقدمه مهما كان الثمن‮.. ‬ولم أكن في ذلك متسرعا ولا مستخفا ولا مستهينا بشيء واحد أو بأحد.وقد تغيرت الدنيا في يدي وعيني‮.. ‬وأجدني متمسكا بكثير من آرائي في الحياة والناس‮.. ‬وفي الحاضر والمستقبل وفي هموم الشباب‮. ‬ويدهشني أنني تنبهت إلي ذلك في سن مبكرة‮.‬

‮ ‬الكهف‮ ...‬

‮ ‬ذات يوم ذكرت الأستاذ أنيس منصور بأنه‮ ‬يشير كثيرا إلي إحدي الأساطير الألمانية‮ - ‬والأساطير رموز حية قادرة‮  ‬علي العطاء الفكري بما‮  ‬يسكنها من تأويلات مصاحبة للفكر الإنساني مع الحياة منذ بدء الخليقة‮ - ‬تقول هذه الأسطورة إن هناك كهفا اسمه العبقرية،‮ ‬ومن حق كل انسان أن يفكر في الذهاب إليه وفي دخوله،‮  ‬بشرط أن يدفع الثمن وكل واحد يدفع ثمنا مختلفا‮.. ‬لماذا؟ لايحق لإنسان أن يسأل،‮ ‬لأن أحدا لا يعرف من الذي‮  ‬وضع قائمة أسعار العبقرية‮ ‬،‮ ‬ولكن عندما‮  ‬يدخل الانسان،‮ ‬يجد أنه دون أن يشعر قد دفع الثمن‮:  ‬جسمه أو صحته أو نومه‮  ‬أو سعادته‮  ‬أو نصف عمره‮  ‬أو أكثر من النصف،‮  ‬هذا هو الشرط،‮ ‬فالعبقرية لها ثمن يدفعه العبقري،‮ ‬ويدفعه الناس من حوله أيضا‮.  ‬

ولما سألته‮: ‬وأنت؟

وإذا كان كل إنسان‮  ‬في‮  ‬يديه القدرة علي الإختيار في أن يكون ناجحا أو فاشلا،‮ ‬رغم الظروف،‮ ‬أو بسبب الظروف فليس في يده أن يكون موهوبا،‮ ‬ولا في يده ولا الظروف ولا كل قوي الكون أن تصيره عبقريا،‮ ‬فالنجاح من صنع الإنسان‮  ‬والعبقرية من صنع الله تعالي‮.‬

الموت‮ ...‬


كانت مفردة الموت،‮ ‬بكل تجلياتها وتداعياتها هي القاسم المشترك في أحاديث أنيس منصور،‮ ‬لاسيما بعد عودته من رحلة العلاج بباريس،‮ ‬وأشار إلي أنه ينتظر‮  ‬لحظة التنوير الأخيرة،‮ ‬وهي الحقيقة المؤكدة بعيدا عن كل الاحتملات،‮ ‬أسمعه‮  ‬هامسا‮: ‬الحديث النبوي الشريف يقول‮: ‬الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا‮. ‬أي عرفوا قبل الموت ما لم يكن يعرفونه‮.. ‬رأوا الدنيا‮.. ‬رأوا الناس‮.. ‬رأوا الحقيقة‮.. ‬عرفوا أن كل شيء له نهاية‮.. ‬وأن النهاية‮: ‬جسد انتهي وروح خرجت‮.. ‬ولا يبقي إلا وجه الله‮. ‬وجاءت للموتي علي فراشهم عبارات عجيبة‮.. ‬ورأي الناس علي وجوههم راحة الذي صفي حسابه،‮ ‬ووضع النقطة الأخيرة في سطور حياته،‮ ‬وأغلق دفاتره واتجه إلي حيث لا يعرف،‮ ‬ولم يكن يعرف،‮ ‬أو كان يعرف ولكنه حاول دائما أن ينسي،‮ ‬والآن جاء دوره لكي يتذكر ولآخر مرة‮.‬

القبر‮ ...‬

سألته:ما الذي خرجت به من هذه الدنيا؟‮!‬

‮ ‬كأنه انتبه فقال‮ :‬صحيح ما الذي يمكن أن يخرج به الإنسان من هذه الدنيا‮.. ‬والجواب‮: ‬لا شيء‮.. ‬لأنك إذا قلت انك‮ (‬خرجت‮) ‬من هذه الدنيا بشيء فأنت لا تعرف ماذا تقول‮.. ‬لأنه لا أحد يخرج منها بشئ‮.. ‬فالذي يموت لا يترك شيئا لأحد‮.. ‬لأنه بعد وفاة الانسان لا أحد فكل الناس بعده لا شيء أيضا‮.. ‬وانما الذي يحدث هو الانسان كما دخل الدنيا سوف‮ (‬يخرج منها كان وزنه ستة أرطال وسوف يخرج منها ووزنه ستون رطلا‮.. ‬دخلها سليما وخرج منها مريضا‮..‬

أو تقول لنفسك‮: ‬كل هذا التعب والعذاب في الدنيا والنتيجة ماذا ؟ لا شيء‮. ‬فأنت قاتلت وحاربت وصارعت وناقشت ومرضت وسهرت وأكلت وشربت وكسبت وخسرت وكفرت وآمنت ودق قلبك طالعا نازلا ثم ضاق صدرك والتوت أمعاؤك واحترقت معدتك وزاغت عينك وانشطر رأسك وحارت قدماك في كل أرض وامتدت يدك الي كل الكتب والعقاقير‮.. ‬والنتيجة ماذا ؟ لا شيء‮.. ‬فما الذي يمكن أن يخرج به الانسان من دنياه؟‮!‬

ومن كلماته الأخيرة‮: ‬اذا قررت وضع لافتة علي قبري فلن أكتب الا هذه العبارة عاش كذا سنة ولم ينم الا ليلة واحدة


الله‮ ...‬

آخر سؤال سألته لأنيس منصور‮: ‬ماذا تقول‮ ‬لربك‮ ‬غدا إذا لقيته؟

قال بلغة الأعماق البعيدة التي كان يتهامس بها في كل حواراته معي‮ :  ‬سأقول له تعالي بكل قلبي ونفسي وكياني‮: ‬أنت الله‮ ‬،‮ ‬لا شريك لك،‮ ‬ما أعظمك‮!.‬

وظل يبكي‮ ‬،‮ ‬كما كان يبكي في مراجعات كونية كثيرة،‮ ‬ونصت إليه وقد بهت صوته وشحب كثيرا‮:  ‬إنهم يبكون من قرب الحبيب،‮ ‬ويبكون من بعد الحبيب‮.. ‬يبكون في حضرة الحبيب‮.. ‬والحبيب عندهم هو‮ ‬الله،‮ ‬وأنا يارب أبكي كثيرا أمام الشمس وأمام القمر وأمام البحر،‮ ‬وأغمض عيني فأبكي‮ .. ‬يارب أنا مش فاهم‮ .. ‬يارب عظمي أرهق،‮ ‬وقلبي أرهق،‮ ‬وعقلي أرهق،‮ ‬وأنا ضحية الإثنين،‮ ‬فكيف لا أبكي‮.


شخصياً‮: ‬هو شقيق زوجة أنيس منصور،‮ ‬وهو الصديق الصدوق له،‮ ‬وكاتم أسراره،‮ ‬والعارف ببواطنه،‮ ‬ورفيقه في مشوار حياته،‮ ‬وأنيسه في كل أحواله خاصة محنة المرض كان الطبيب والحبيب والأخ الحنون له‮.. ‬حتي إنه كان الوحيد الذي كاشفه بسر مرضه بسرطان الكلي،‮ ‬وهو السر الذي أخفاه عن زوجته‮.‬

وموضوعياً‮ ‬هو أحد أبطال حرب أكتوبر‮ ‬1973‮ ‬وبالتحديد في قيادة سلاح المدفعية،‮ ‬وهذا يكفيه‮.. ‬ومن قبلها كان قائد القوات المصرية التي شاركت في حرب اليمن‮ ‬1963،‮ ‬وهذه كانت السبب في بداية تشكيل العلاقة الحميمة بين أنيس منصور وفريد حجاج‮.. ‬ورب ضارة نافعة‮!‬

يقول اللواء فريد حجاج‮: ‬كانت البداية في قلب البحر علي سطح المركب العائد من اليمن إلي مصر في ليلة من ليالي أغسطس عام‮ ‬1963‮ ‬قادماً‮ ‬من‮ (‬ميناء الحُديدة‮) ‬بعد قتال عنيف استمر أحد عشر شهراً‮ ‬عدت بعدها أنا وسريتي وكنت أيامها قائد سرية المدفعية وهي أول وحدات المدفعية التي ذهبت إلي اليمن لمساعدة الثورة اليمنية‮ ‬26‮ ‬سبتمبر‮ ‬1962‭.‬

في تلك الليلة جاءني ضابط من المركب ليخبرني أن وفد الأدباء المصريين العائدين من زيارة اليمن‮ (‬يوسف السباعي وأنيس منصور ونجيب محفوظ وصالح جودت ومحمود حسن اسماعيل‮) ‬يدعوننا لتناول العشاء علي سطح المركب،‮ ‬وجدنا عشاء فاخراً‮ ‬لم نذق قطعة منه طوال فترة القتال،‮ ‬سألوني عما فعلناه لثورة اليمن‮.. ‬تكلمت بكل صراحة ووضوح وأظهرت لهم الوجه الحقيقي المرعب لمعاناة الجيش المصري هناك،‮ ‬وجدت منهم آذاناً‮ ‬صاغية،‮ ‬ولاحظت أنهم بهتوا مما شرحته وعرضته،‮ ‬وتأكدوا أنها ليست ثورة،‮ ‬وأن ما حدث هو مستنقع للقوات المسلحة المصرية،‮ ‬وأن مصر خسرت كثيراً‮ ‬جداً‮ ‬هناك،‮ ‬وعلي ضوء ذلك قرر الأدباء والكتّاب أنهم لن يكتبوا كلمة واحدة‮.‬

في تلك الأثناء وجدت أنيس منصور يقترب مني،‮ ‬وفي اليوم التالي قال لي‮: ‬بعد أن تكلمت أمس لم أنم طوال الليل،‮ ‬لأن فكرتنا عن حرب اليمن تغيرت كلية‮.‬

ومن هنا بدأت العلاقة بيني وبين أنيس تأخذ شكل الصداقة الحميمة،‮ ‬وزاد من حميميتها تلك المصادفة التي تزامنت مع نشوء الصداقة،‮ ‬إذ تقدم‮  ‬إلي خالي زكريا توفيق‮- ‬أحد رجال المخابرات العامة آنذاك‮- ‬لخطبة شقيقتي رجاء عن طريق الأستاذ محمد حسنين هيكل،‮ ‬بدون أن يعرف أنها أختي،‮ ‬وكان قد تعرف عليها في نادي التوفيقية كسيدة ناشطة اجتماعيا،وكانت مفاجأة له ولي‮  ‬وتم عقد القران،‮ ‬وتوطدت العلاقة بيننا أكثر‮.‬

وعن مواقفه التي لا ينساها اللواء فريد حجاج لأنيس منصور ذلك الموقع الرائع في حرب أكتوبر‮ ‬1973‮ ‬إذ كنت قائداً‮ ‬في الجيش الثالث الميداني،‮ ‬وكنا محاصرين،‮ ‬وجاء أنيس منصور بنفسه ليسأل عني،‮ ‬وفوجئت بزيارته وأريته الساتر الترابي وعيون موسي،‮ ‬والطائرات الإسرائيلية المدمرة،‮ ‬وكانت فرصة لأنيس أن يكتب سلسلة من الأحاديث والتحقيقات الصحفية‮.‬

كان أنيس منصور يُكن عظيم الاحترام للعسكرية المصرية،‮ ‬وكان كله ثقة في قدرات رجالها وتشكيلاتها،‮ ‬وكان يري أن القوات المسلحة ظُلمت كثيراً‮ ‬في حرب‮ ‬1967‭.‬

كان الاقتراب بينه وبين الرئيس الراحل محمد أنور السادات مفيداً‮ ‬جداً‮ ‬لمصر،‮ ‬خاصة بعد مبادرة السلام،‮ ‬وقد لعب أنيس دوراً‮ ‬كبيراً‮ ‬ومشهوداً‮ ‬له،‮ ‬تبدي ذلك في محور مصر وإسرائيل،‮ ‬ومحور العلاقات بين مصر والسعودية في ذلك الوقت وسجل هذا الدور في كتابه‮ (‬مشواري السري‮) ‬الذي لم يتمكن من نشره في حياته‮.‬

وعندما اغتيل الرئيس السادات كان حزن أنيس عليه عميقاً‮ ‬جداً،‮ ‬فقد كان يصفه بأنه صاحب رؤية،‮ ‬وكان يري أن مصر‮ (‬علي قده‮) ‬وليس مثل عبدالناصر الذي كان يري أن مصر‮ (‬أصغر منه‮).. ‬أما علاقته بالرئيس مبارك فكان يتباعد عنه لأنه رآه كثيرا في مواقف ضعف،‮ ‬فآثر الانسحاب تدريجيا،‮ ‬خاصة أن القرب من الرئاسة شديد الخطورة والحساسية‮.‬

ويضيف اللواء فريد حجاج‮: ‬لقد عاصرت تحولات أنيس منصور خاصة عندما أسس مجلة أكتوبر عام‮ ‬1976‮ ‬وأثري بها الحياة الصحفية والسياسية‮.‬

ويتذكر اللواء حجاج أن أنيس كان يحرضه علي الكتابة في بداية الثمانينيات،‮ ‬فكتبت‮ (‬جنرالات هتلر‮) ‬و(مذكرات الزعيم أحمد عرابي‮) ‬و(حرب‮ ‬67‮ ‬لماذا؟‮) ‬و(صفحات من تاريخ الصومال‮) ‬و(من مذكرات ديفيد اليعازر‮).‬

ويتذكر اللواء فريد حجاج‮: ‬ومرت الأيام وتوالت حتي كانت المحنة الصعبة حين داهمته‮ (‬الجلطة‮) ‬في قدمه،‮ ‬ورافقته إلي باريس عام‮ ‬1997،‮ ‬وفي هذا السياق لا أنسي أبداً‮ ‬موقفه الإنساني النبيل حين أصيبت زوجته‮ (‬رجاء‮) ‬بجلطة في المخ فظهرت عبقريته الإنسانية‮.. ‬فكان نعم الأب والزوج والأخ‮.. ‬وأشهد أنه رعاها حق رعايتها‮.‬

لكن المحنة الأكبر لأنيس كانت عام‮ ‬2005وهنا يكشف اللواء فريد حجاج سراً‮ ‬لأول مرة إذ اكتشف الطبيب الفرنسي أن أنيس مصاب بسرطان الكلي،‮ ‬وتم استئصاله،‮ ‬وحرص كل الحرص علي ألا تعرف زوجته هذا الخبر الكارثي،‮ ‬وظل طي الكتمان‮. ‬لم يجزع أنيس‮ ‬،‮ ‬كان إيمانه بالله قويا فتحمل الألم سرا‮.‬

وفي عام‮ ‬2008‮ ‬انتشر المرض في العمود الفقري‮ ‬،‮ ‬وكانت حتمية العلاج في باريس،وكنت رفيقه ساعة بساعة،‮ ‬في كل زيارة،‮ ‬ولو وصفت لك الآلام العنيفة لاحتاج صفحات وصفحات،‮ ‬ورغم عنف الألم إلا أنه كان يكتب‮  ‬ويتحمل،‮ ‬ولم يتوقف يوما واحدا‮.‬

الذي لا أنساه وكان مثار تعجب وإعجاب أن أنيس كان يعالج علي نفقته الشخصية،‮ ‬وكان ير يأن هناك من هو أولي منه بهذه الأموال،‮ ‬وكان يقول‮: ‬إذا كان الله تعالي قد أقدرني علي دفع العلاج فلماذا لا أعمل لله شكرا‮.‬

في مايو عام‮ ‬2011‮ - ‬وأنت كنت معنا‮ -‬انتشر المرض بصورة مفاجئة،‮ ‬رفض الطعام والشراب،‮ ‬ونقص وزنه،‮ ‬وعافت نفسه كل شيء،‮ ‬فكانت آخر زيارة لنا الي باريس‮ ‬،‮ ‬وهناك سأل الطبيب المعالج‮: ‬

‮» ‬فاضل من عمري قد إيه«؟

قال له الطبيب‮:‬

شهور معدودة إذا ظللت ترفض الطعام‮.. ‬وسنوات إذا أقبلت علي الأكل‮.‬

لكن أنيس كان قد وصل إلي حالة من الاحباط عندما كان ينظر حوله،‮ ‬في المشهد السياسي والاجتماعي،‮ ‬واصل رفضه لتناول أي شيء،‮ ‬الي أن انتقل الي‮ ‬غرفة الانعاش في اكتوبر عام‮ ‬2011‮ ‬وكانت رحمة الله واسعة حين أكرمه بنهاية الألم والحياة،‮ ‬وكنا أنا‮ .. ‬وزوجته‮..  ‬وأنت‮.. ‬في المشهد الأخير،‮ ‬ونظرات عينيه التي لا يمكن أن أنساها ما حييت‮.‬

‮> > > ‬

أما الإشارة إلي مذكراته‮ »‬عزيزي فريد‮ .. ‬حكيت وبكيت‮« ‬فيقول عنها اللواء فريد حجاج‮:‬

تحمل المذكرات شرائح من وجدان أنيس وتصور عواطفه في مرحلة حيوية من حياته،‮ ‬يمتزج فيها الحب بالألم،‮ ‬والفكر بالفلسفة،‮ ‬وأدب الرحلات بالقلم الخيالي،‮ ‬بحكمة الأيام والتحولات،‮ ‬ورؤية الآخر وموقفه‮.‬

‮ ‬وهذه المذكرات الخاصة جدا،‮ ‬فيها البوح علي الورق بلا قيود،‮ ‬يخاطبني فيها بعبارة‮ »‬عزيزي فريد‮..« ‬وهي عبارة فيها ألفة ومحبة ودفء،‮ ‬كان يعتبرني الصدر المفتوح الذي يستوعب فضفضته‮. ‬كما كان لي الملجأ الأخوي طوال عشرة العمر التي لا لا تهون‮ .. ‬ولن تهون،‮ ‬ولا ينبغي‮  ‬أبدا‮.. ‬أبدا‮ !.‬

‮> > > ‬

واليكم باقة من هذه الدموع والآهات والتأملات‮:‬


عزيزي فريد‮..‬

أظن أن الفيلسوف الألماني‮ «‬نيتشه‮» ‬هو الذي قال‮: ‬ليس صحيحا أن المذكرات اعترافات مريحة،‮ ‬ومريحة ليست هي الكلمة المناسبة،‮ ‬ان كتابة المذكرات مؤلمة،‮ ‬ومثيرة للألم،‮ ‬وليس صحيحا أنها تريح‮.. ‬عندما أتذكر أحول السحاب الي قطرات مطر‮.. ‬الي دموع‮.. ‬تعبت في كتابة هذه الرسائل،‮ ‬وقد حققت لي حلما لم أكن أدري أنها في حالة تأهب‮.. ‬كان القلم قد فقد لون المذكرات‮.. ‬لكنها راحت تفيض نقطة نقطة‮..  ‬وصرخات تسونامي‮.. ‬تمنيت ألا يحدث ذلك،‮ ‬فقد دفنت ذكرياتي داخلي،‮ ‬أرغمتها،‮ ‬أكرهتها علي أن تشجعني لا شعوريا علي أن أنساها‮.. ‬لم أكن سعيدا‮ (‬وكنت سعيدا ثم أصبحت تعيسا،‮ ‬وازددت تعاسة‮!).... ‬والله يا فريد في كل مرة أكتب لك خطايا أقسم بيني وبين نفسي أن يكون هذا هو الأخير‮.. ‬ولكن أعود اليك والي الماضي والي الناس‮.. ‬وقد أهلكتني الذكريات والمذكرات‮..‬

عزيزي فريد‮...‬

من قال إن النسيان نعمة؟ من قال إن الماضي أقوي من الحاضر؟ إن الماضي كان عدما ثم كان حاضرا،‮ ‬ثم ذهب‮.. ‬مضي‮.. ‬إذن هذه التسمية ليست صحيحة،‮ ‬نحن نستدعي الماضي فيكون حاضرا،‮ ‬ثم يكون مستقبلا‮.‬

قال الشاعر الألماني نوفالس لـ‮ «‬جيته صوفيا‮» ‬ذات مرة‮: ‬دعينا نتفق علي أن تكون حياتنا مستقبلا لا ماضي له ولا حاضر،‮ ‬ولنقسم علي ذلك‮.. ‬وأقسما وقال شوقي أمير الشعراء‮:‬

قد يهون العمر إلا ساعة

وتهون الأرض إلا موضعا

إن شوقي أراد أن يحصر الزمن في ساعة هي الماضي والحاضر والمستقبل،‮ ‬أراد أن يكثف الزمن وأن يكثف المكان،‮ ‬أو الزمكان‮ - ‬كما قال‮ «‬أينشتين‮« ‬الذي لا قلب له،‮ ‬وإنما له عقلان‮.‬


عزيزي فريد‮...‬

في حمام سباحة لا تظهر إلا رأس‮! ‬غريق‮! ‬ليس‮ ‬غرقانا‮. ‬كأنني والماء الذي حولي لا طعم له،‮ ‬لا هو لذيذ،‮ ‬ولا هو مريح،‮ ‬وإنما ألقي فيه‮ ‬غريق،‮ ‬لا أتحرك،‮ ‬لا أخرج،‮ ‬لا أتمرن،‮ ‬وهذا الماء هو بنج سائل‮.. ‬تحذيري‮!‬

إنني أنسي الأيام والساعات،‮ ‬طول الوقت أسأل‮: ‬كم الساعة؟ أي يوم هذا؟ وأي يوم من الشهر؟ الأيام كلها متشابهة،‮ ‬ألفاظها مسكنات،‮ ‬لا علاج للألم،‮ ‬ولكن اسكات له،‮ ‬ولي أيضا،‮ ‬وأحيانا أضيف مسكنات قاتلات للألم،‮ ‬إنها تخرس الألم،‮ ‬وتخرسني أنا أيضا‮.. ‬أريد أن أكتب‮.. ‬أديني عقلك‮.. ‬ما الذي يكتبه إنسان إذا كان حبيس العقل والحس‮.. ‬إذا كان يلقي‮  ‬في حمام ليس عميقا‮.. ‬لا يغرق،‮ ‬ولكن يجب ألا أبرحه لأي سبب‮.‬

وقد حاولت‮.. ‬فلابد من قوة تمكنني من ذلك‮.. ‬لا أستطيع‮.. ‬وأمام هذا العجز فإنني لا أريد‮.. ‬وإذا أردت لا أستطيع‮.. ‬وإذا استطعت لا أريد‮.‬

يا عزيزي فريد‮...‬

صدقني أنا لا أعرف من الذي يكتب إليك‮.. ‬أنا لست أنا‮.. ‬ولكن أحرك أصابعي‮.. ‬والقلم في يدي‮.. ‬ولكن لست أنا‮.. ‬إن هذه العقاقير التي أتناولها صباح مساء ألغت دوري،‮ ‬طردتني من حياتي‮.. ‬لست مطلوبا‮.. ‬ليس لي مكان‮.. ‬أي أحد يستطيع أن يحل محلي‮.. ‬كأنني ذهبت إلي أحد المسارح،‮ ‬وفي يدي نص مسرحي،‮ ‬أرسلوه لي وقالوا‮: ‬احفظ دورك وتعال‮..‬

ذهبنا‮.. ‬وضاع مني النص‮.. ‬أضعت النص‮.. ‬ذهبت‮.. ‬وليس في يدي شيء‮.. ‬كل الأيدي ارتفعت في وجهي‮: ‬أن ليس لك دور‮.. ‬من الذي أعطاك هذا النص‮.. ‬لا أعرف‮.. ‬هل أنا اخترته هل أن اخترعته‮.. ‬وأحزنني هؤلاء الممثلين والمسرح والمسرحية‮.. ‬صدقني لا أعرف‮..!‬

عزيزي فريد‮..‬

دوخة كدوخة المساطيل والحشاشين ولكن لا توجد نشوة‮.. ‬لا رغبة‮.. ‬في سماع النكت أو اختراعها‮.. ‬انها دوخة سخيفة،‮ ‬ثقيلة بليدة،‮ ‬جعلت كل شيء بليدا‮.‬

يدق التليفون‮.. ‬لا أرد‮.. ‬لأنني لا أريد أي كلام‮.. ‬ولا أريد أن يكتشف أحد أنني مسطور‮.. ‬أتلعثم‮.. ‬وأتلخبط في الكلام‮.. ‬أتلخبط في التفكير‮.. ‬ملول‮.. ‬لا أحب أن أتكلم طويلا‮.. ‬ولا أحب أحدا يكلمني طويلا‮..‬

أنظر إلي الأرقام والأسماء علي شاشة التليفون‮.. ‬أتحدث‮.. ‬ولكني لا أريد‮.. ‬لا أستطيع‮.. ‬لا أريد أن يعرف أحد حالتي النفسية‮.. ‬فلا يهم أن يعرف أحد‮.. ‬حتي أنت‮..!.‬

عزيزي فريد‮...‬

بدا لي أن أكتب لك هذا الخطاب بالايطالية لتعرف مدي خبرتي باللغة الايطالية‮.. ‬أنت تعرف السبب‮..‬

آه تلك السنوات الذهبية من عمري‮.. ‬آه‮.. ‬لا أريد أن أتذكر‮.. ‬بصراحة تذكرت من أيام وبكيت طويلا‮.. ‬وأنت تعرف لماذا‮.. ‬ولكن الماضي يعود ويعود قويا كأنه حاضر مؤلم،‮ ‬كأنه الآن وفي هذه اللحظة‮.. ‬ولكنني لم أعد أحتمل البكاء‮..‬

آه من تلك الأيام،‮ ‬كان كل شيء قريبا‮.. ‬نتذكر ونحن في روما‮.. ‬وسفرنا إلي برلين بالقطار انه مشوار طويل وأنت تعرف كيف كنا نجعل النهار قصيرا والليل أقصر‮.. ‬ونحرك الليل والنهار والساعات‮.. ‬آه علي تلك القوة وآه من تلك الليالي في القطار‮.. ‬وبعد أيام نذهب إلي البندقية‮.. ‬والقطار مؤلم‮.. ‬ولكن الساعات تهون وتتلاشي تحت عجلات القطار من أجل العيون الجميلة‮.. ‬وفي البندقية نعرف أين أصدقاؤنا وأين ليالينا وحياتنا‮.. ‬وهناك أسمع لأول مرة كلمة الموت‮.. ‬لا أستطيع أن أكمل هذه المأساة‮.. ‬لا أستطيع‮.. ‬أنا‮ ‬غرقان‮.. ‬اعذرني‮.. ‬لا أغرق لماذا تذكرت كل ذلك‮.. ‬أستأذنك في أن أتركك بعض الوقت‮..‬

لماذا لم أقف معها‮.. ‬فالحياة لا كانت قبلها،‮ ‬ولا هي بعدها،‮ ‬لقد أخذت حياتي معها،‮ ‬وتركت بقاياي تبكي علي بقاياي‮.. ‬أعذرني يا فريد‮.. ‬سوف أكتب إليك متي وجدت ما أقوله،‮ ‬أو ما أستطيع أن أقوله‮.. ‬ولك تحياتي‮.‬

عزيزي فريد‮..‬

أنت المسئول عن كل ما أصابني‮.. ‬أنا‮ ‬غائب عن الحاضر‮.. ‬غارق في الماضي،‮ ‬وليس في الماضي كله إلا هي‮.. ‬التصقت صورتها‮.. ‬انطبع صوتها،‮ ‬لا أسمع سوي لها،‮ ‬لا أريد‮ ‬غيرها،‮ ‬ولا أريد بديلا عنها‮.. ‬حاولت‮.. ‬ثم حاولت‮.. ‬واستطعت‮.‬

أنت تعرف كم امرأة عرفت‮.. ‬كثيرات هنا وفي أوروبا‮.. ‬كثيرات في كل لغة‮.. ‬وأكذب لو قلت لك أنني لم أكن سعيدا‮.. ‬واكتشفت‮..‬

أنا كذبت عليهن‮.. ‬إنني كنت أنشغل بهن لأبعد عنها‮.. ‬فقد استولت تماما علي كل حياتي وأريد الهرب منها‮.. ‬انها بعيدة جدا‮.. ‬قريبة جدا وتعبت يا فريد‮.. ‬وعدت إلي ايطاليا‮.. ‬تماما كالحاج إلي الأماكن المقدسة‮.. ‬مشيت في نفس الطريق‮.. ‬وجلست في نفس المكان‮.. ‬وبكيت في كل مكان‮..‬

في نفس الساعة من كل يوم‮.. ‬تماما مثل يوم قابلتها‮.. ‬نفس الساعة‮.. ‬نفس الطريق‮.. ‬ونظرت ورائي‮.. ‬وعبرت الشارع‮.. ‬وجلست علي المقهي فوجئت واحدة تجلس علي نفس المقعد،‮ ‬فظللت واقفا‮.. ‬لا أعرف كم من الوقت‮.. ‬أن هذه السيدة أكلت وشربت ودخنت‮.. ‬وجلست تقرأ الصحف‮.. ‬ثم نهضت بسرعة‮.. ‬جلست في مقعدها‮.. ‬مع أن المقاعد كلها خالية‮.. ‬وأبدت دهشتها‮.. ‬ولكني لا أسمعها ولا أراها‮..‬

آه يا فريد‮.. ‬محترق أنا‮.. ‬لمست المقعد بأصابعي‮.. ‬قبل أن أجلس عليه‮.. ‬كأنني أقيله بأصابعي‮.. ‬وجلست‮.. ‬لا أعرف كم من الوقت‮.. ‬ونهضت‮.. ‬وفي نفس الطريق عدت‮.. ‬ووقفت أمام بيتها‮..‬

أستأذنك يا فريد بعض الوقت،‮ ‬فلا أريد أن تسقط دموعي علي الورق‮.. ‬أعذرني‮.. ‬لا تؤاخذني،‮ ‬فأنا لا أعرف كم من الوقت سأبقي‮.. ‬وكم من الوقت أحتاج لكي أستعيد قدرتي علي أن أتحدث إليك‮.. ‬سامحني‮..‬

عزيزي فريد‮..‬

كنت سعيدا بقراءة كتب فلسفية‮.. ‬قرأت لمارتن هيدجر‮.. ‬وقلبت في كتاب عنوانه‮ (‬أولاد هيدجر‮) ‬شيء‮ ‬غريب‮.. ‬يتهمونه بأنه نازي،‮ ‬وكل تلامذته من الفلاسفة اليهود‮.. ‬وهم يعلمون كراهيته لليهود‮.. ‬وتعلقوا به،‮ ‬وتحلقوا حوله،‮ ‬ويشرفهم أن يقولوا إنهم تلامذته‮..‬

كم هو شاق‮.. ‬صعب‮.. ‬هذا الفيلسوف،‮ ‬إنه بيرث في صخر أبيض،‮ ‬لا تعرف من أين استورده‮.. ‬إنه فيلسوف عظيم،‮ ‬ومهندس أعظم،‮ ‬وساحر فذ،‮  ‬كيف يستخرج المعاني بعضها من بعض‮.. ‬طبيعي أنه تلميذ سقراط‮.. ‬أستاذ الجميع‮.‬

وعلي الرغم من أنني مرهق نفسيا وعقليا،‮ ‬فإنني ألجأ إليه،‮ ‬لأنه يجعلني أكد رأسي واعتصرها لكي أفهم ثم أفهم،‮ ‬وهذا يحتاج إلي تركيز شديد،‮ ‬يبعدني تماما عن ذكرياتي الأليمة‮..‬

تعرف يا فريد‮.. ‬عندما تكلمت عن الموت كانت في‮ ‬غاية الصافية والنضارة والسعادة أيضا‮.. ‬تأملتها‮.. ‬ولا اختلفت معها‮.. ‬ولا رأيت شخصا‮ ‬غيرها‮.. ‬ولا أعرف كيف تقترب هي إلي لساني وأنا أحدثك عن الفلسفة عند هيدجر وهو أبو الوجودية الألمانية والفرنسية والايطالية والاسبانية وأبو د.عبدالرحمن بدوي‮..‬

شيء‮ ‬غريب‮.. ‬وأنا أقرأ نصوصا لابن سينا نشرها أخيرا‮.. ‬وحدث أن د.بدوي اهتدي إلي تعبيرات فلسفية متبكرة‮.. ‬هذه المصطلحات تصلح تماما لمعاني الفلسفة الوجودية المعاصرة لقد سبقنا ابن سينا ووجدها قبل أن يجدها هيدجر وسارتر‮.‬

الفيلسوف مارتن لوير قال كلاما جميلا عن العلاقات بين الناس،‮ ‬هناك أنا،‮ ‬وهناك أنت،‮ ‬فالعلاقة بيني وبينك‮ ‬غير التي بيني وبين القلم أو الكرسي الذي أجلس عليه،‮ ‬فالعلاقة بيني وبينك اسمها،‮ ‬علاقة،‮ ‬والتي بيني وبين الكتب والقلم والورق اسمها‮: ‬صلة،‮ ‬ويمكن أن تصبح هذه الصلة علاقة،‮ ‬أو كأن لها معني خاص عندك‮.‬

أوضح لك‮.. ‬المنديل الذي في جيبك‮.. ‬العلاقة بينكما هي صلة،‮ ‬إلا إذا كان هذا المنديل له ذكري عندك‮.. ‬إذا كان منديلها‮.. ‬فليست هذه صلة‮.. ‬إنها علاقة‮.. ‬إنك لا تستطيع أن تترك المنديل لأي أحد‮.. ‬بل أنت تحرص عليه لأن له معني آخر‮.. ‬لأنه أقوي من المناديل،‮ ‬وأقوي من علاقتي بك‮.. ‬إنها علاقة أقوي من أية علاقة أخري‮.. ‬فما بالك إذا كان الذي حولك كله قد جاء منها‮.. ‬فكيف يكون كل ما حولك علاقات كأنها إنسانية‮.. ‬بل هي أقوي وأبقي‮..‬

قل لي‮: ‬أعمل إيه؟ إذا كان هذا قلمها‮.. ‬وهذا ورقها‮.. ‬وهذا عطرها‮.. ‬وهذه صورتها‮.. ‬وهذه هديتها‮.. ‬حتي القطرة التي أضعها في عيني قطرتها‮.. ‬كأنني أضع دموعها في عيني‮.. ‬أطبق عليها ولا أتركها تنزل إلا في منديلها‮..‬

لا تؤاخذني‮.. ‬ابتعدت عن الموضوع الذي أردت أن أكلمك فيه‮.. ‬وكما تري هي أقوي من كل حاضر‮..‬أيا كان هذا الحاضر‮.. ‬في الأرض أو في السماء‮..‬

تذكر يا فريد‮.. ‬يوم طلبت مني أن تذهب إلي البابا يوحنا الثالث والعشرين،‮ ‬لأنه أحد أقاربها،‮ ‬وقالت‮: ‬نذهب معا ليباركنا‮.. ‬تصور أنني صدقت ذلك‮.. ‬مع أنني كما تعرف أبعد كثيرا عن مثل هذه المعاني‮.. ‬وذهبت معها‮.. ‬ورأيتها أجمل من البابا‮.. ‬ورأيتها ترجع وتقبل الخاتم في اصبعه،‮ ‬ثم سمح لها أن تقبل يده‮.. ‬وصافحت البابا واقفا‮.. ‬فهو يعرف أنني من‮ ‬غير دينه‮.. ‬ولا أستطيع أن أفعل ما فعلته‮..‬

واقترب مني البابا‮.. ‬ووضع يده علي رأسي‮.. ‬ولا أعرف ماذا قال،‮ ‬وفعل نفس الشيء معها‮.. ‬وكانت سعيدة مضيئة‮.. ‬والله مضيئة‮.. ‬وهي أحق أن تكون البابا‮.. ‬وأن يتوقع الناس البركات منها‮.. ‬في تلك الليلة قلت لها أنت البابا وسوف أفعل بالضبط ما فعلته مع قداسته‮.‬

ما الذي جعلني أعود إلي ذلك؟ لم تكن عندي رغبة في أن أقول‮.. ‬وإلي لقاء قريب‮.‬

عزيزي فريد‮..‬

شيء‮ ‬غريب‮.. ‬كل معشوقات الفلاسفة دميمات‮.. ‬أو لسن جميلات‮.. ‬ابتداء من أستاذ الجميع سقراط‮.. ‬وأرسطو‮- ‬حتي سالومي التي أحبها وانهار أمام جمالها وذكائها الفيلسوف نيتشة،‮ ‬وعالم النفس فرويد،‮ ‬والشاعر ريلكه‮.. ‬كانت جذابة ولم تكن جميلة‮.. ‬والتي أحبها كيركور الفيلسوف الدانمركي،‮ ‬ليست جميلة ولا ذكية،‮ ‬هربت منه لأنه أجرب‮.. ‬وزوجة مارتين هيدجر‮ ‬غبية‮.. ‬والفيلسوف سارتر عشيقته سيمون دي بوفوار‮..‬

ليس عندهم وقت للتفكير‮.. ‬وفي لحظات الضعف يهيمون بهذا النوع من النساء‮.. ‬شديدة الذكاء‮.‬

عزيزي فريد‮..‬

حكيت قبل ذلك ونحن جالسان عند نافورة‮ (‬الطرق الثلاثة‮) ‬في روما‮.. ‬عن ذلك المقهي الصغير‮.. ‬حكيت لك‮.. ‬ورحت أعيد وأزيد‮.. ‬وكنت أتصور أنني أوقظك بشدة‮.. ‬والحقيقة أنني لم أكن أوقـظك،‮ ‬وإنما أوقظ نفسي لكي أعيد وأزيد‮..‬

ولابد أن تكون أعمي وأطرش‮.. ‬إذا لم تلاحظ سعادتي‮.. ‬لايهم ان كنت سعيداً‮ ‬وأنا أحكي هذه الذكريات الأليمة‮.‬

أمام النافورة أقسمنا،‮ ‬وظهورنا للنافورة ونلقي فيها عملات ثلاث مرات‮.. ‬أقسمنا علي الحب حتي الموت‮.. ‬ووفيت بالوعد حتي موتها‮..‬

آه يافريد‮.. ‬يكفي اليوم أنني‮ ‬غير قادر علي أن أمضي إلي أبعد من هذا‮..‬

وإلي لقاء قريب‮...‬

عزيزي فريد‮..‬

سألتني في التليفون‮.. ‬ولماذا هذه المدينة بالذات علي الريفيرا الايطالية؟ والآن فهمت فأنا لم أحدثك عما كان هناك في مدينة‮ (‬بورتوفينو‮).‬

يارب ساعدني علي أن أقول‮..‬

يارب ساعدني علي أن الذي أقوله يخفف من آلامي وأحزاني‮..‬

يارب خفف الأحزان‮.. ‬فلولاها ما كتبت وما توجوت‮.. ‬وما بكيت‮.‬

وجلست أسأل نفسي‮: ‬لماذا لم أحدثك ولو مرة واحدة علي مدينة‮ (‬بورتوفينو‮) ‬ولا علي رابالوا المجاورة لها‮.‬

دموع‮...‬

‮> > > ‬

عزيزي فريد‮..‬

أنا أحاول أن أجعل خطي واضحاً‮.. ‬وهذا يلخبطني‮.. ‬فأنا عادة اكتب بسرعة‮.. ‬ويقوم سكرتيري بفك طلاسم هذه الألغاز‮.. ‬ولكني سأحاول أن تكون كلماتي في وضوح المعاني‮.. ‬سوف أحاول‮.. ‬وغدا ألقاك‮.‬

عزيزي فريد‮..‬

في برنامج إذاعي،‮ ‬كان الموضوع عن الجمال‮.. ‬وسألوني‮: ‬عن المرأة الجميلة في نظرك؟

وقلت أوصافاً‮ ‬لا أحبها،‮ ‬خشيت أن يكتشف الناس من هي‮.. ‬تصور‮!‬

عزيزي فريد‮..‬

والله لولا أمي وخوفي عليها لسافرت إلي ايطاليا‮.. ‬وتركت مصر‮ - ‬ولكن أن تعرف أمي ومدي حبي لها‮.. ‬وحبها لي‮.. ‬لم يمنعني إلا أمي‮.‬

وداعا فريد‮.. ‬أنا عائد إلي ايطاليا‮.. ‬ولا تشغل بالك وتفكر‮.. ‬فأنت تعرف لماذا‮.. ‬جنون‮!‬

عزيزي فريد‮..‬

أنت تسألني عن الصحة‮.. ‬وما كان في نيتي أن أحادثك بأسخف كلمة في اللهجة العربية وأقول لك‮: "‬كله ماشي‮"!‬

ماشي‮.. ‬مع ان لاشيء يمشي‮.. ‬السفرجي يقول لك‮: ‬ماشي،‮ ‬وعامل الاسانسير الذي لايتحرك وتقول له‮: ‬أين المهندس؟ فيقول لك أي شيء‮.. ‬يعني إيه؟ تعطي أي أحد بقشيش ويقول لك‮: ‬ماشي؟‮!‬

عزيزي فريد‮..‬

كان عندي تفسير سياسي لما حدث هنا وهناك أيضا‮.. ‬ولكن لا أخفي عليك،‮ ‬لا أجد همة ونشاطا في الكتابة السياسية‮.. ‬وأنا بعيد جدا حتي لا أري‮.. ‬ليس لي اعتراض علي شيء‮.. ‬ولكن دوري الآن أن أقترح‮.. ‬وقد لا أفعل‮.. ‬وأفضل قراءة في الفلسفة،‮ ‬فلا أجمل ولا أمتع ولا مائدة مثلها‮..!‬

عزيزي فريد‮..‬

أي يوم‮..‬

ليس عندي كلام أقوله‮.. ‬الشريط خلص‮.. ‬أو الشريط لم ينته‮.. ‬ولكن البطاريات خلصت‮.. ‬أو البطاريات لم تخلص،‮ ‬والشريط لسه فيه كلام‮.. ‬ولكن عطل أصاب جهاز التسجيل‮.. ‬وكله تمام‮.. ‬أنا موش تمام‮..‬

أمارس الكذب الصغير‮.. ‬تصدق بالله؟

أنا لم أكذب في حياتي كذبة كبيرة‮.. ‬لم أقل لواحدة‮: ‬أحبك‮. ‬مهما طالت العلاقة‮.. ‬لم أعد واحدة بالزواج‮.. ‬وأنت تعرف‮...‬


عزيزي فريد‮..‬

آه لو كان عندي وقت،‮ ‬فأنا ما أزال في أول حياتي الصحفية،‮ ‬وأحاول ولن أمل،‮ ‬ولكن ما الذي أفعله بقلمي،‮ ‬بعقلي،‮ ‬بوجودي كله؟ إنني أعذر شعراء التربادور الاسبان،‮ ‬وكانوا يقفون تحت شباك المحبوبة ليلاً‮ ‬ونهارا،‮ ‬إذ لا ليل عندهم ولانهار،‮ ‬ويتعذبون وقد تطل عليهم المحبوبة،‮ ‬وقد لاتطل،‮ ‬إنهم يحبونها رغم معارضة الاهل وكل الناس،‮ ‬المهم هو الحب من طرف واحد،‮ ‬فما بالك إذا كان من طرفين،‮ ‬حيث الحب يصل الليل بالنهار والشوق والحنين والأنين،‮ ‬لقد كنت في حبي مثل أولئك الشعراء وسوف أترجم ما كتبته بالايطالية في تلك التجربة إلي العربية،‮ ‬أحيانا كنت أحس أن الأرض صارت كوكب آخر يدور بنا حول الشمس وحدنا،‮ ‬لم أكن أريد أن أخرج من هذه التجربة،‮ ‬فأنا ولدت لأعيش‮.‬

عزيزي فريد‮..‬

أنا لا أعرف متي أكمل هذه المذكرات،‮ ‬أنت تقرأها،‮ ‬وأنا لا أقرأها ولا أجد سببا لذلك،‮ ‬وكان بودي أن أعود إليها لأوضح الحروف،‮ ‬فأنا أحاول أن أكتب علي مهل،‮ ‬وحريص علي أن تكون هذه الرسائل بين يديك واضحة،‮ ‬ولكن يجب أن تعذرني عندما أكتب عنها‮ - ‬بعد موتها‮ - ‬وأتذكر ما جري لي،‮ ‬لا أجدني قادراً‮ ‬علي الكلام،‮ ‬لا أعرف كيف أنا‮.. ‬كيف تماسكت‮.. ‬كيف عشت،‮ ‬لن أكتب كلمة واحدة عن زيارتي لأهلها لتقديم العزاء،‮ ‬لا أحد يعرفني،‮ ‬ولكني أعرف الجميع من كلامها عنهم،‮ ‬كان يوماً‮ ‬أسود عندما ذهبت إلي قبرها‮..‬

عزيزي فريد‮..‬

عندما عدت إلي مصر لزمت الفراش،‮ ‬الأم تسأل وأقول لها المشوار طويل،‮ ‬وتصدقني،‮ ‬وان كانت لاتعرف ماذا تفعل،‮ ‬غير أن تصنع‮ ‬غذاء شهياً‮ ‬وكثيراً،‮ ‬كأنها وليمة،‮ ‬انها تحتفي بابنها الغائب عنها شهوراً‮ ‬طويلة،‮ ‬هي تقول سنوات وتستحلفني ألا أفعل ذلك‮.. ‬وأقسمت‮.. ‬وسافرت في رحلتي الشهيرة التي كان من المفروض أن تكون أسبوعاً‮ ‬فاستغرقت سنة إلا قليلاً‮.. ‬وأنت تعرف أن الصديق كمال الملاخ هو الذي كان يكتب لها في كل يوم خطاباً‮ ‬ثم يذهب إليها ليقرأ الخطاب ولذلك عاشت آمنة مطمئنة علي صحتي‮.. ‬إلي آخر الأكذوبة‮.‬

عاوز أقول لك ماذا حدث في ذلك اليوم الذي لا أطول منه،‮ ‬ولا أوجع،‮ ‬ولكني لا أستطيع ولا أريد،‮ ‬وإنما أحكم نفسي علي نفسي علي سري المكنون في دمي‮. ‬لا حياة،‮ ‬لاطعم،‮ ‬لالون،‮ ‬لا يوم،‮ ‬لاغد،‮ ‬لا أمس،‮ ‬ولذلك توقف‮.. ‬تجمد‮.. ‬مات‮!‬

إنني أريد أن أبكي يا فريد،‮ ‬ولذلك أتحدث عنها،‮ ‬انني لم أبك بما فيه الكفاية،‮ ‬لا تجف الدموع،‮ ‬لا أعرف من أين تجيء،‮ ‬ولماذا تطاوعني؟ ولماذا أطاوعها‮.. ‬الآ تستطيع ان تقول انني مجنون،‮ ‬فالجنون هو أن تتسلط عليك حالة واحدة،‮ ‬وأنا في هذه الحالة لا أحاول أن أقدم تفسيراً‮ ‬أو تعليلاً‮.. ‬حاولت أنت،‮ ‬أما أنا فقد تعبت اليوم أكثر من الأمس‮.‬

إن الفيلسوف‮ "‬باسكال‮" ‬هو الذي قال ان للحقب أحكاماً‮ ‬يستأنفها العقل،‮ ‬ولكن يبقي حكم الحس هو الحكم الذي لايقبل الاستئناف‮.‬

عدت إلي رسائلها‮ (‬87‮ ‬خطابا‮) ‬اقرأها،‮ ‬وأقبلها،‮ ‬وأشم راحتها،‮ ‬لماذا كان خطك جميلا،‮ ‬ولماذا كانت رسائلك معطرة؟ أوجعت قلبي إلي الأبد،‮ ‬فرأت خطاباتها مائة مرة،‮ ‬لا أريد أن‮  ‬أفرغ‮ ‬منها‮.. ‬لا أريد ان ينتهي أي شيء يا فريد‮....‬

عزيزي فريد‮..‬

يامن علي البعد ينسانا ونذكره

لسوف تذكرنا يوما وننساك

ان الكلام الذي يجلوك ياقمر

له صبح متي تدركه أضناك

ان الشاعر الكبير مصطفي صادق الرافعي ينتظر الصباح الذي يخفي هذه المحبوبة‮.. ‬ياتري هل أبدع هذه الأبيات إلي الآنسة‮ "‬مي زيادة‮" ‬التي يحبها،‮ ‬والتي تمثل حوارات بديعة بينهما،‮ ‬وقد أنكرت‮ "‬مي‮" ‬هذا الحب،‮ ‬لا من طرفها ولا من طرفه ولكنه ظل يحبها وغيره كثيرون‮: ‬العقاد،‮ ‬وسلامة موسي وشعراء مصريون ولبنانيون،‮ ‬وعرفت فيما بعد من الذي أحبت،‮ ‬ومن الذي أدخلها مستشفي الأمراض العقلية‮.. ‬ليس مصطفي صادق الرافعي‮.‬

ولكن هذا الحب الرومانسي من طرف واحد هو الذي جعله يبدع‮: ‬السحاب الاحمر،‮ ‬وأوراق الورد،‮ ‬ورسائل الأحزان،‮ ‬وحكايات وتعبيرات بديعة أخري،‮ ‬

لقد‮ ‬غاب قمري‮.. ‬أحياناً‮ ‬أتمني أن يطلع عليه النهار،‮ ‬وأحياناً‮ ‬اشتاق إليه‮.. ‬ويشتاق لي‮.‬

عزيزي فريد‮..‬

لم يطل ليلي ولكن لم أنم

ما أطول الليل علي من لم ينم

وطال صمتي،‮ ‬ولكن لم أسكت،‮ ‬ما أطول الصمت،‮ ‬علي من لايجد أحدا يقول له‮.. ‬ولم أجد‮.. ‬فأنا الذي اخترت هذه الوحدة‮.‬

وأغلب الظن أن أكتب لك بعد ذلك،‮ ‬صدقني لو قلت لك إنني لا أعرف لماذا كتبت،‮ ‬ولا ماذا أكتب‮.. ‬ولماذا لن أكتب لك بعد اليوم‮..!‬

‮  ‬وإلي اللقاء عزيزي فريد‮..‬

كل شئ لا يزال حيا في بيت أنيس منصور،‮ ‬أشياؤه الصغري وأشياؤه الكبري‮.‬

مكتبه الأنيق الذي شهد ميلاد أفكاره ومؤلفاته ومقالاته وإبداعاته،‮ ‬وأنواره لا تزال مضاءة‮.‬

مكتبته ذات الخمسين ألف كتاب من لغات العالم الحية،‮ ‬لم تعد موزعة بين الجيزة والهرم،‮ ‬احتوتها بين يديها لتضعها في مكان مناسب يتناغم مع قامة وقيمة صاحبها‮.‬

أصداء وجوده لا تزال تعبق في جنبات البيت الجميل والأنيق،‮  ‬قلمه لم يجف مداده،‮ ‬ولن يجف،‮ ‬أوراقه كأنها تنتظر إبداعا جديدة،‮ ‬مقتنياته تتألق في كل ركن،‮ ‬حقيبته المسافرة تشي بأنه ذهب في رحلة جديدة حول العالم،‮ ‬لكن بلا أيام معدودة هذه المرة‮. ‬

كل هذه المفردات تحتضنها السيدة رجاء حجاج حرم الكاتب الكبير التي عاشت معه وعاش معها‮ ‬50‮ ‬عاما من الحب والمودة والرحمة والفكر والسند والعون والمؤانسة والاتكاء المتبادل في مواجهة الأيام وتحولاتها التي لم تنل من هذه العلاقة المتجذرة في أرضية مشتركة من الولاء والوفاء

وقد وصفها بقوله‮: ‬هي طفلتي وابنتي وامي‮  ‬وزوجتي واختي ومصدر الحياة والحيوية والامل والشجاعة والنور في حياتي

لا يؤنس السيدة رجاء حجاج حرم الكاتب الراحل،‮ ‬شئ‮  ‬مثلما يؤنسها الـ‮ ‬200‮ ‬ولد الذين هم كتبه،‮ ‬وآخر بسمة في ساعاته الأخيرة من عينيها،‮ ‬وآخر قبلة علي وجنتيه ويديه،‮ ‬وآخر طلعة من محياها الذي كان يحبه حبا جما‮. ‬

تتذكر ما قاله أنيس منصور عنها:كانت زوجتي أبسط إيمانا وأعمق إحساسا بكل الحقائق المعقدة التي عجزت عن الإيمان بها،‮ ‬وكان القليل من المعرفة الدينية يريحها،‮ ‬فهي اختارت الإيمان،‮ ‬لأنها اختارت الدين،‮ ‬أو اختارت الدين وأكملته بالإيمان به،‮ ‬ولا أعرف حقيقة من أين أتاها هذا الصفاء الروحي والشفافية الدينية؟ إنها تعتمد علي وجدانها،‮ ‬علي ما تحسه مباشرة علي صلتها الله،‮ ‬ووجوده الدائم معها ولها كيف؟ لا أعرف،‮ ‬ولكنها مؤمنة بذلك مستريحة الي ذلك،‮ ‬وطالت مناقشاتها وحيرتي‮. ‬

رسم أنيس منصور الزوج صورة للسيدة حرمه‮:»‬كان لزوجتي دور في‮  ‬ثورة‮  ‬يوليو1952‮ ‬هي نفسها لا تعرفه،‮ ‬اخوال زوجي،‮ ‬زكريا توفيق وتوفيق عبدالفتاح،‮ ‬من الضباط الاحرار،‮  ‬وكانوا بحاجة للتخفي،‮  ‬فكانوا يملونها المنشورات لتكتبها هي بخط‮  ‬يدها،‮  ‬ولهي‮  ‬لا تدري‮  ‬ماذا تفعل،‮ ‬فقد كانت تلميذة صغيرة،‮ ‬لا هي‮  ‬ثورية ولا عندها فكرة انما كانوا‮  ‬يتخفون من خلالها‮«.  ‬ويقول أيضا:أنا وزوجتي مختلفان في أشياء كثيرة،‮ ‬هي مليئة بالحيوية،‮ ‬ولكن طاقتها ضعيفة،‮ ‬أنا قليل الحيوية،‮ ‬ولكن طاقتي كبيرة،‮ ‬فأنا من الممكن ان أجلس إلي مكتبي عشر ساعات،‮ ‬ولا أتحرك إلا قليلا،‮ ‬أضع كتابا،‮ ‬وأحضر قلما وأكتب،‮ ‬ولكن زوجتي تتحرك وتخرج وتذهب إلي الجمعية النسائية التي ترأس مجلس إدارتها،‮ ‬وتعمل خارج البيت عشر ساعات،‮ ‬ولكنها بعد ذلك ترقد من شدة التعب،‮ ‬أو من شدة الحيوية،‮ ‬وزوجتي اجتماعية،‮ ‬ولست كذلك،‮ ‬ومن الممكن أن اجلس وحدي أياما في البيت لا أري ولا أكلم أحدا‮  ‬ولا أشعر بالوحدة،‮ ‬ولكن زوجتي اجتماعية تقابل وتستقبل‮. ‬وأنا أتجاهل الواجبات الاجتماعية،‮ ‬وهي اجتماعية جدا،‮ ‬هي صح وأنا‮ ‬غلط،‮ ‬ولكن تعودت أن أجامل في الافراح والمآتم وأن أبعث البرقيات،‮ ‬وأن احمل الهدايا،‮ ‬وأن اشتري للأصدقاء ما يطلبون من الخارج،‮ ‬وكل ذلك لم أكن أعرفه،‮ ‬فالحياة الاجتماعية عندي هي التي عرفتها قبل الزواج،‮ ‬وأمي لم تكن اجتماعية،‮ ‬وتري في الحياة الاجتماعية مضيعة للوقت وانتقاصا للحرية،‮ ‬ثم إن أمي خائفة بتكوينها وسيئة الظن بالناس وبالدنيا،‮ ‬وكانت كل مخاوفها تنصب علي وحدي،‮ ‬وتري أنني مختلف عن إخواتي،‮ ‬وأن لديها شعورا قويا بأنني ولم أسال أمي يوما عن معني هذا الشعور،‮ ‬ومن أين جاء لها وكيف تري أنني الإبن الوحيد أو كأنني الابن الوحيد،‮ ‬ومن هذا الخوف رفضت أن يكون لي أولاد اتعذب بهم كما تعذب أبي وأمي بكل إخوتي،‮ ‬بعض هذه المخاوف قد تورات في الحياة الزوجية،‮ ‬ولكن ليست كل المخاوف،‮ ‬لكن بقي سوء الظن،‮ ‬ولا أزال أفضل الوحدة عن أي نشاط اجتماعي‮. ‬

منقول من أخبار الأدب

السبت، 20 أكتوبر 2012

مختارات من أشعار رياض صالح الحسين


للمرَّة الألف أرجوكِ لا تذهبي
للمرَّة الألف آخذكِ بيديَّ
و أركض في حقول الألغام
في حقول الدم
في حقول الحنطة
و أرجوكِ لا تذهبي
لا تذهبي و في عينيكِ غزالة مذبوحة
لا تذهبي و تحت جلدك يصفّر الموتى بشفاههم المعطَّلة
لا تذهبي يا عزيزتي لا تذهبي
تعالي و قبِّليني قبل أن تذبح شفتيكِ المرتعشتين
سكاكينهم الطويلة
تعالي لنثرثر بسهولة و ألم
تعالي لنتحدَّث مثلاً:
عن الديدان التي تغزو السنابل
عن المعادن التي تقزقز أصابع العمَّال بطريقة عجيبة
حدِّثيني عن السهول ذات الخضرة الضارية
عن الوعول التي تقفز بسعادة بالغة
و هي تقضم عشب الفرح بحريَّة لا تشبه إلاَّ قلبي
حين يخفق بأعلامه السوداء
فوق ثكنات المحاربين الذين يحلمون فقط
- بثلاثة أمتار من الراحة
- بدوش ماء بارد
- بامرأة تغنِّي بصوت حزين
و طفلة تقول لكل رجل تصادفه: أريد بابا
حدِّثيني عن الدنيا و قارَّاتها الخمس
و حدِّثيني فيما بعد عن الزمن
و حدِّثيني عن العصور جميعًا
إبتداءً من العصر الحجري القاتل
و انتهاءً بعصرنا السفَّاح
حدِّثيني عن السفَّاحين المنتشرين في:
السفارات، الأزقَّة، دور السينما، المطابخ، علب الكبريت، زجاجات مياه بقين، أحذية باتا، ولاَّعات رونسون، شركة ميكروفيلم، جوارب أوغاريت...
حدِّثيني لأحبَّكِ
حدِّثيني لأحبَّكِ
"أحبُّكِ"
هذا ما يقوله السنديان للمطرقة.
"أحبُّكِ"
لي نهار في المعصية
و لي أزهار في الطرقات
"أحبُّكِ"
هذا ما أقوله أنا
هذا ما يقوله الرجل الذي من خلفه النوافذ تهوي
و من تحته الأرض تئنُّ
"أحبُّكِ"
لي ثلوج في جميع المدافئ
و لي وحل في جميع الشتاءات
لي الحائط الكتيم
الأصفاد الثقيلة
الزمن البطيء
و لي الزهر الذي يتدفَّق من رئتيكِ
تنفَّسي يا حبيبتي تنفَّسي
فهوذا الهواء ينبح في الأزقَّة بصوته البليد
هوذا الدم يسيل فوق لحم الشرفات
و أنا ملتفٌّ بقلبي
و قلبي يقرع أجراس الأجساد الرثَّة
أيَّتُها الأجساد الرثَّة المغسولة بالحبّ و عصير البرتقال
أيَّتُها الأشجار الصاخبة
المغلَّفة بالأيقونات و صور القدِّيسين
أيَّتُها الأحجار، المقابض، الأسطحة، الأحذية، الأعلام، القواميس، الرجال، النساء، القطط، الفؤوس، الهراوات، الشياطين...
تعالوا و استمعوا إلى خرير الإرهاب في الشوارع
تعالوا إليَّ جميعًا
تعالوا إليَّ بدون استثناء
- أيَّتُها المرأة تعالي لأضمَّكِ
- أيُّها الطفل تعال لأقصَّ عليك حكاية الذئب و الأرنب
- أيُّها العاري تعال لأكسوك بالقبلات
- أيَّتُها الحقول الجافَّة تعالي لأهبكِ خضرة دمي
- أيَّتُها الشمس لماذا ترتعشين من البرد
و حطب قلبي مهيّأ للاشتعال؟
و يا أيَّتُها الأسئلة
يا أيَّتُها الأسئلة
تعالي لنكسر معًا زجاج النوافذ
التي تحجب عنَّا نضارة الصراخ
سأسأل الصبايا:
لماذا أنتنَّ مكتئبات
و موسيقى ديميس روسوس معبَّأة في زجاجات الكازوز
سأسأل الجائعين:
لماذا لا تأكلون أطنان التفَّاح
التي يهدرها الإمبرياليّون في البحر يوميًّا؟
سأسأل أشجار الزيتون في ضواحي دمشق:
من اختلس أوراقك في الليل
و جعل منها وسادةً للسفَّاحين؟
سأسأل السفَّاحين عن الأشجار
الأشجار عن الشوارع
الشوارع عن الاضطهاد
الاضطهاد عن حبيبتي
و أقول لحبيبتي
أقول لحبيبتي التي تبيع الجنارك و المانجة في باب توما:
إنَّني مرهق كثعبان ابتلع بيضة
و أقول لحبيبتي
و أنا أصغي إلى زقزقة الموتى في التوابيت
إلى هديل الحرب في البلاد:
تعالي لنمشي و نتذكَّر كيف كان الملوك ينتحرون
لأنَّ عينين حافيتين انطفأتا
لأنَّ قلبًا وسيمًا أضاء
تعالي لنتفاءل بذات يوم فوق سرير شاسع
ذات يوم فوق سرير شاسع، حيث:
- العصافير تقصف الطائرات
- الشهداء يضعون القتلة على الكراسي الكهربائيَّة
- الزهور تسنُّ للرصاص شفرات المقاصل
و الحريَّة
تغتصب
السجون
ذات يوم فوق سرير شاسع
...
أفتح ثغرة في لحمك الذي يحترق أيَّتُها الأرض
و أقذف إليك بدماري.

من ديوان أساطير يوميّة *
مطابع وزارة الثقافة - دمشق 1980


منقول من موقع ألف

الاثنين، 15 أكتوبر 2012

الفصل الاول من رواية‮ »‬الذرة الرفيعة الحمراء‮« لمويان ترجمة حسنين فهمي

مو‮ ‬يان‮ .. ‬نوبل‮ 2102
مرفت عمارة
الأديب الصيني مو‮ ‬يان

أعلنت الأكاديمية السويدية المنظمة لجائزة نوبل فوز الأديب الصيني مو‮ ‬يان بجائزة نوبل للأدب العام الحالي‮ ‬2012،‮ ‬وهو من أكثر الأدباء الصينيين شهرة في بلاده،‮ ‬ومعروف في الغرب بروايتين تحولا إلي فيلمين هما‮ »‬الذرة الرفيعة الحمراء‮« ‬سنة‮ ‬1987،‮ ‬و‮ »‬أوقات سعيدة‮« ‬سنة‮ ‬2000،‮ ‬ويصفه البعض بـ»النسخة الصينية من كافكا‮« ‬حيث ورد في حيثيات منحه للجائزة‮: »‬أنه‮ ‬يتميز في رواياته بإدماج الحكايات الشعبية مع الواقعية،‮ ‬و التاريخ بالحداثة‮«. ‬

ولد مو‮ ‬يان في‮ ‬17‮ ‬فبراير سنة‮ ‬1955،‮ ‬ويعني اسمه بالصينية‮ »‬لا تتحدث‮« ‬وهو اسم مستعار،‮ ‬بينما اسمه الحقيقي‮ »‬جوان موي‮« ‬وكان قد صرح في خطاب القاه بالجامعة المفتوحة في هونج كونج أنه اختار ذلك الاسم عند كتابة روايته الأولي لأنه أراد الكتابة بصراحة ومصداقية،‮ ‬وهو ما لم‮ ‬يكن مرحبا به في الصين في ذلك الوقت،‮ ‬واختار الاسم لتذكير نفسه بعدم الكلام كثيراً‮.‬

‮»‬ترك‮ ‬يان‮« ‬دراسته خلال الثورة الثقافية ليعمل في الحقول،‮ ‬وفي مصنع لإنتاج البترول،‮ ‬وفي سنة‮ ‬1976‮ ‬انضم إلي جيش التحرير الشعبي،‮ ‬و بدأ الكتابة حين كان لا‮ ‬يزال في الجندية سنة‮ ‬1981‮ ‬وكانت أولي رواياته بعنوان‮ »‬هبوط المطر في ليلة ربيع‮« ‬كما عمل مدرسا في قسم الأدب بأكاديمية الجيش الثقافية‮.‬

‮ ‬من بين أعماله‮ »‬الذرة الرفيعة الحمراء‮« ‬سنة‮ ‬1987،‮ ‬و»جمهورية النبيذ‮« ‬1992،‮ ‬و»الحياة والموت‮ ‬يستهلكاني‮« ‬ترجم العديد منها إلي اللغة الإنجليزية،‮ ‬علي‮ ‬يد جولديلات هوارد أستاذ اللغات الشرقية و الآداب الآسيوية بجامعة نوتردام‮.‬

حصل علي العديد من الجوائز منها‮: »‬نيوشتاد‮« ‬الدولية سنة‮ ‬1998،‮ ‬وفوكوكا الآسيوية سنة‮ ‬2005،‮ ‬و»مان‮« ‬الآسيوية سنة‮ ‬2007‮ ‬و‮ ‬غيرها‮.‬

وقد ثارت انتقادات عديدة ضده بسبب رفضه الإعتراف بمنح جائزة نوبل للسلام سنة‮ ‬2010‮ ‬للسجين الصيني‮ »‬ليو شياو بو‮«‬،‮ ‬كذلك انتقاده‮  ‬الأدباء الصينيين ممن‮ ‬يمدحون السياسات الثقافية التي أطلقها ماوتسي تونج في منتصف الأربعينات من القرن الماضي،‮ ‬و التي استخدمت لاحقا في تطهير عدد من المثقفين‮.‬



                             لأول مرة :أخبار الأدب تنفرد بنشر    

‮ ‬الفصل الاول من رواية‮ »‬الذرة الرفيعة الحمراء‮«

ترجمها عن الصينية‮: حسنين فهمي‬


1


في اليوم التاسع من الشهر الثامن حسب التقويم القديم عام‮ ‬1939،‮ ‬كان أبي‮- ‬أحد أفراد عصابة قطاع الطرق‮- ‬قد تجاوز الرابعة عشر من عمره.وكان قد رافق القائد‮ ‬يو جان آو ذلك البطل الأسطوري الذي ذاع صيته فيما بعد،‮ ‬رافقه إلي الفريق الذي كان‮ ‬ينصب كميناً‮ ‬للعدو علي الطريق العام عند جياو بينغ‮.‬وقد خرجت جدتي تودعهم وهي ملتحفة بعباءتها.فقال القائد‮ ‬يو‮ : »‬فلترجعي‮!« ‬فوقفت جدتي في مكانها ولم تواصل التقدم لوداعهم.وقالت جدتي لأبي ناصحة إياه‮ : »‬دوو قوان‮ ‬،‮ ‬استمع جيداً‮ ‬إلي كلام والدك‮ !« ‬فأنصت أبي إليها ولم‮ ‬ينبس ببنت شفة‮ ‬،‮ ‬وراح‮ ‬يمعن النظر في قامتها العالية ويشم الرائحة المنبعثة من خلال عباءتها‮ ‬،‮ ‬ثم شعر ببرودة شديدة‮ ‬،‮ ‬وراح‮ ‬يرتجف حتي بدأ القائد‮ ‬يو‮ ‬يمسح علي رأسه قائلاً‮ : »‬فلنمضي‮ ‬يا صغيري‮ !«‬

وهكذا بدأ وقع أقدام أفراد العصابة‮ ‬يبتعد عن المكان شيئاً‮ ‬فشيئا.وبدأ الضباب الكثيف‮ ‬يحجب الرؤية أمام أبي،‮ ‬فكان في ذلك الحين لا‮ ‬يري أمامه بوضوح‮ ‬،‮ ‬كان فقط‮ ‬يسمع وقع أقدام أفراد العصابة ولا‮ ‬يراهم.ومضي أبي‮ ‬يمسك بطرف ثياب والده القائد‮ ‬يو وهو‮ ‬يهرول وراءه.وأدرك أبي أن جدتي مضت تبتعد عنه كثيراً،‮ ‬والضباب‮ ‬يبدو كثيفاً‮ ‬كأمواج البحرالهائج‮ ‬،وهو‮ ‬يمسك بطرف ثياب القائد‮ ‬يو وكأنه طوق النجاة الوحيد من هذا الموج الهائج‮ .‬

وبدأ أبي‮ ‬يقفز نحو قبره الحجري الذي سيكون فيما بعد هنا وسط حقول الذرة‮. ‬وكان ذلك القبر محاطا بالأعشاب الكثيفة‮ ‬،‮ ‬وقد جاء إلي ذلك القبر صبي‮ ‬يجر ماعزة‮ ‬،‮ ‬وكانت الماعزة تأكل من تلك الأعشاب والصبي‮ ‬يتبول علي حافة القبر وهو‮ ‬يتغني قائلاً‮ : ‬لقد أحمرت الذرة‮ ‬،‮ ‬وجاء اليابانيون‮ ‬،‮ ‬فيا أيها الأشقاء‮ !‬استعدوا لإطلاق الأعيرة النارية والمدافع‮ .‬

وقال البعض إن ذلك الصبي هو أنا‮. ‬ولكنني لا أعرف إن كنت هو أم لا.وقد كنت أعشق كثيراً‮ ‬ريف دونغ‮ ‬بيي بمدينة قاو مي‮ ‬،‮ ‬وكذلك كنت أحقد علي ذلك المكان.وبعد أن كبرت واجتهدت في دراسة الماركسية‮ ‬،‮ ‬أدركت مؤخراً‮ ‬أن ريف دونغ‮ ‬بيي بمدينة قاو مي هو أجمل وأقبح مكان علي سطح الأرض،‮ ‬وأهله هم أشجع الشجعان وأحقر الناس،‮ ‬وأنهم أكثر الناس قدرة علي شراب النبيذ وعلي الحب.فلقد عاش آبائي وأجدادي هنا وتغذوا علي الذرة وكانوا‮ ‬يزرعونها سنوياً‮ ‬بكميات كبيرة.وفي أغسطس من كل عام‮ ‬،‮ ‬كانت الحقول تبدو كبحور من الدماء وسط زراعات الذرة الرفيعة‮. ‬وكان أهل قاو مي‮ ‬ينشغلون بهذا العرس في كل عام‮ . ‬كما أنهم كثير ما قاموا بالقتل والنهب وأخلصوا دفاعاً‮ ‬عن وطنهم‮ ‬،‮ ‬وقد قدموا صورة مسرحية بطولية حزينة‮ ‬،‮ ‬حتي جعلتنا نحن الأحفاد‮ ‬غير البارين نشعر أمام كل تلك الإنجازات بتراجع النوع الإنساني في مدينة قاو مي‮.‬وبعد أن خرج فريق العصابة من القرية‮ ‬،‮ ‬ساروا في طريق ترابي ضيق.واختلط الضباب الكثيف بكميات التراب المنبعثة من تحت أقدامهم وهم‮ ‬يسيرون في ذلك الطريق الترابي‮ ‬،‮ ‬وكانت قطرات المياه تبدو علي وجه أبي وكأنها قطع بلورية.وكان أبي قد تعود علي رائحة النعناع الذكية والروائح الأخري المنبعثة من وسط زراعات الذرة‮ .‬وفي تلك المرة حيث اختلطت الرائحة بالضباب الكثيف‮ ‬،‮ ‬فقد أحس أبي بأنه‮ ‬يشم رائحة جديدة أيقظت في نفسه ذكريات بعيدة.وبعد مضي خمسة عشر‮ ‬يوماً،وفي الخامس عشر من شهر أغسطس الذي‮ ‬يوافق عيد منتصف الخريف،‮ ‬كان البدر‮ ‬يملأ السماء وينير حقول الذرة‮ ‬،‮ ‬وكانت حبات الذرة تبدو وكأنها حبات فضية.وراح أبي‮ ‬يشم رائحة ذكية تفوق أضعاف رائحة الذرة في العصر الحالي‮. ‬وفي ذلك الحين كان القائد‮ ‬يو‮ ‬يجره وراءه،‮ ‬وخلفهم تظهر بركة من دماء ما‮ ‬يزيد علي ثلاثمائة من أهل القرية والتي جعلت الأرض السوداء تبدو مخضبة بالدماء.وقد جعلت الرائحة بعضهم‮ ‬يشعر بالاختناق‮. ‬وكانت مجموعة من الكلاب التي جاءت لتأكل من لحم القتلي تقبع هناك وتنظرإلي أبي والقائد‮ ‬يو‮. ‬فأطلق القائد‮ ‬يو رصاصة من مسدسه فاختفي‮ ‬كلبان‮ ‬،‮ ‬ثم أطلق رصاصة ثانية اختفي علي دويها كلبان آخران.فتفرقت جماعة الكلاب ووقفت بعيداً‮ ‬تنظر إلي الجثث الملقاة علي الأرض.وبدأت تلك الرائحة تزداد شيئاً‮ ‬فشيئا.وراح القائد‮ ‬يو‮ ‬يصيح في الكلاب‮ :»‬أيتها الكلاب اليابانية،‮ ‬اللعنة علي اليابانيين‮!« ‬ثم صوب مسدسه تجاهها حتي اختفت تماماً‮. ‬وقال لأبي‮ : »‬هيا بنا‮ ‬يا بني‮ !« ‬ودخل الأب وابنه وسط زراعات الذرة‮ . ‬وتسربت تلك الرائحة إلي أعماق أبي حتي إنها أصبحت ترافقه طيلة حياته‮.‬

وكانت سيقان الذرة‮  ‬تصدر عند اصطدامها ببعضها أصواتاً‮ ‬مسموعة،‮ ‬أحياناً‮ ‬قوية وأحياناً‮ ‬أخري ضعيفة‮. ‬ولكي‮ ‬يلاحق أبي الركب‮ ‬،‮ ‬فقد كان‮ ‬يهرول وسط الذرة وهو‮ ‬يصطدم بسيقانها.وفي ذلك الحين كانت تصدر أصوات أخري نتيجة اصطدام مسدس أحد أفراد العصابة بمسدس رفيقه‮ ‬،أو نتيجة اصطدام أحدهم برأس جثة من تلك الجثث الملقاة وسط الذرة.وسمع أبي‮  ‬صوت سعال ذلك الرجل الذي كان‮ ‬يسير أمامه‮ ‬،‮ ‬وقد عرف من صوت السعال صاحب الصوت وانغ‮ ‬وين إي المعروف بأذنيه الكبيرتين اللتين ما أن تهتز حتي تنزف.وقد كانت أذني وانغ‮ ‬وين إي هي أكثر أعضاء جسمه دلالة عليه.وكان الرجل‮ ‬يتميز بأنه قصير القامة ذو رأس كبير.وجاهد أبي في السير حتي تحقق من وانغ‮ ‬ونظر إليه نظرة فاحصة.وتذكر حكاية وانغ‮ ‬عندما كان في ساحة التدريب وصاح فيهم نائب القائد أن استديروا صوب اليمين‮ ‬،‮ ‬ولكنه لم‮ ‬يسمع جيداً‮ ‬ولم‮ ‬يعرف الوجهة التي نادي بها القائد‮ ‬،‮ ‬فما كان من نائب القائد إلا أن ضربه بالسوط فراح وانغ‮ ‬يصيح‮ : ‬يا أمي‮ ! ‬وتغير لون وجهه من شدة الضربة‮ ‬،‮ ‬حتي سمع الجميع صوت ضحك الأطفال الذين كانوا‮ ‬يتابعون التدريب من خارج السور‮. ‬

وضرب القائد‮ ‬يو وانغ‮ ‬وين إي علي مؤخرته‮ ‬،ثم سأله‮.‬

‮»‬لماذا تسعل؟‮«‬

أيها القائد‮.. »‬تحامل وانغ‮ ‬وين إي وكتم سعاله‮« ‬وقال‮ »‬أشعر بألم في حنجرتي‮..«‬

‮»‬لا تسعل مهما كان السبب!وأعلم أنني سأقطع رأسك إذا أُكتشف أمرنا‮!«‬

‮»‬سمعاً‮ ‬وطاعة أيها القائد‮« .‬أجاب وانغ‮ ‬ثم صدرعنه صوت سعال لم‮ ‬يستطع أن‮ ‬يكتمه‮.‬

وهنا أحس أبي بأن‮ ‬يد القائد‮ ‬يو تنزل من خلف رأس وانغ‮ ‬وين إي‮ ‬،‮ ‬وأحس أيضاً‮ ‬أن هناك قطرات كحبات العنب تسيل من رقبة وانغ‮ ‬،‮ ‬ورأي عينيّ‮ ‬وانغ‮ ‬تبدوان في‮ ‬غاية الإمتنان والشفقة‮.‬

وبعد وقت قصير،‮ ‬غابت العصابة وسط زراعات الذرة.وأحس أبي أن العصابة تسير صوب الجنوب الشرقي‮. ‬وأن الطريق الترابي الذي سلكته العصابه هو الطريق الوحيد المؤدي إلي حافة نهر موا شوي،‮ ‬ويبدو الطريق الضيق أبيضاً‮ ‬مائل إلي الزرقة في وضح النهار‮. ‬وقد كان الطريق مكونا من الطمي الأسود‮ ‬،‮ ‬غير أنه الآن‮ ‬غني بالكثير من فضلات الأبقار والبغال والحمير‮. ‬وقد سار أبي في ذلك الطريق أكثر من مرة‮ ‬،‮ ‬حتي إنه كان‮ ‬يذكره أثناء فترة العذاب التي قضاها في اليابان.ولا‮ ‬يعرف أبي كم من الأحزان والأفراح التي عاشتها جدتي علي ذلك الطريق‮ ‬،‮ ‬ولكنني أعرف‮. ‬وكذلك لا‮ ‬يعرف أبي أن جثة جدتي كانت قد ألقيت علي ذلك الطريق الترابي الأسود الذي تظلله زراعات الذرة،‮ ‬ولكنني أعرف‮ .‬

وكان أبي قد لعب في صغره في مياه نهر موا شوي‮ ‬،‮ ‬وكأن حب اللعب في المياه كانت موهبة طبيعية أتصف بها في طفولته وصباه‮. ‬حيث تذكر جدتي أن لهفته إلي المياه كانت أشد من لهفته إلي أمه‮. ‬وكان أبي وهو في الخامسة من عمره‮ ‬يسبح في المياه مثل البط الصغير‮. ‬وكان أبي‮ ‬يعرف تماماً‮ ‬طين قاع نهر موا شوي‮ ‬،‮ ‬وكان‮ ‬ينمو علي ضفاف النهر أعشاب وأزهار كثيرة وتسبح علي الشاطئ بعض من كائنات النهر‮. ‬وفي الخريف عندما كانت تهب الرياح الخريفية وتزداد برودة الجو،‮ ‬كانت تفر إلي الجنوب جماعات من الأوز الصيني‮. ‬وعندما استمع أبي إلي صوت صرير مياه النهر‮ ‬،‮ ‬تذكر الجد ليو لوو خان الذي كان قد خدم في منزل العائلة عشرات السنين وكان مسئولا عن صناعة النبيذ التي كانت تديرها عائلتي،وكان أبي‮ ‬يحبه كثيراً‮ ‬مثل جده الحقيقي تماماً‮ ‬

وكان أبي كثيراً‮ ‬ما‮ ‬يرافق الجد ليو في الخروج إلي النهر للعب مع سرطان البحرعلي ضفتي نهر موا شوي.ويمضي هناك وقتاً‮ ‬جميلاً‮ ‬حيث صيد الأسماك الصغيرة ونصائح الجد ليو بعدم الاستعجال علي الفريسة‮. ‬وكان أبي‮ ‬يتابع فريسته وهي تدنو من الشاطئ وتظهر جلية تحت ضوء الشمس حتي‮ ‬يصدر له الجد ليو أوامره بأن‮ : »‬أقبض عليها‮!«‬

وبعد أن توغل أبي بصحبة أفراد العصابة في زراعات الذرة‮ ‬،‮ ‬كانت قدماه لا تكف عن الاصطدام بأعواد الذرة بينما هو‮ ‬غارق في التفكير في ماضي النهر وألعاب الطفولة.وكان لا‮ ‬يزال ممسكاً‮ ‬بطرف ثياب القائد ليو وهو‮ ‬يهرول وراءه،‮ ‬وقد أحس بالنوم‮ ‬يغلبه،فثقلت رأسه وبدت علي عينيه علامات النوم.ومضي أبي‮ ‬يفكر في أن رحلته لن تضيع سدي ما دام في رفقة الجد ليو إلي نهر موا شوي‮. ‬وكان أبي قد شبع كثيراً‮ ‬من أكل سرطان البحر وكذلك جدتي‮. ‬وكان الجد ليو‮ ‬يقوم بتقطيع سرطان البحر إلي قطع صغيرة ويضيف إليها فول الصويا والملح ويضعها في إناء لإعداد حساء سرطان البحر،‮ ‬ذلك الحساء الذي كانوا‮ ‬يتلذذوا جميعاً‮ ‬بشرابه.وكنت قد سمعت بأن جدتي كانت تتعاطي مخدر الحشيش‮ ‬،‮ ‬ولكنها لم تصل إلي حد الإدمان‮ ‬،‮ ‬لذا فقد كانت دائماً‮ ‬ما تبدو في حالة من الانتعاش.وكان الاهتمام بالصحة والمحافظة عليها شعارا معروفا في قريتنا التي كانت معروفة بإنتاج أنواع من الأسماك الغنية بقطع اللحم.وفجأة تذكر أبي حادثة وفاة الجد ليو في العام الماضي عند طريق جياو بينغ‮ ‬العام.وكانت جثته قد قُطعت إرباً‮ ‬إربا‮ ‬،وتم توزيع تلك القطع في جميع الاتجاهات.وكان قد تم سلخ الجثة مثل سلخ الضفدعة‮ .‬وما أن تذكر أبي حادثة مقتل الجد ليو حتي شعر برعشة شديدة أصابت جسمه كاملاً‮. ‬ثم تذكر أبي حادثة كانت قد وقعت منذ سبع أو ثماني أعوام مضت‮ ‬،‮ ‬ففي ذلك المساء كانت جدتي قد شربت حتي سكرت،‮ ‬ووصلت إلي ساحة فناء صناعة النبيذ في منزل العائلة الكبير،‮ ‬وهناك تعلقت بكتف الجد ليو وهي تتوسل إليه‮ :‬س ايها العم ليو‮ ‬،‮ ‬أتوسل إليك ألا تغادرنا‮ ‬،‮ ‬وإن لم‮ ‬يكن لأجلي فلأجل الصغير دوو قوان‮ ‬،‮ ‬أتوسل إليك‮ »‬أيها العم ليو ألا تغادرنا‮ ‬،‮ ‬وإن أردت أن أهب لك نفسي فسأفعل علي الفور،‮ ‬فأنت مثل أبي تماماً‮.. ‬وأتذكر أن الجد ليو كان قد أزاح جدتي عنه وغادر المكان إلي زريبة البغال ليطعم بغاله.فقد كانت أسرتي تربي بغلين أسودين‮ ‬يتم إستخدامهما في فرن صناعة النبيذ،وكان البغلان من أجود أنواع البغال المعروفة في القرية.ولم‮ ‬يغادرالجد ليو الأسرة إلا بعد قيام اليابانيين بالإستيلاء علي البغلين وإستخدامهما في صيانة وتعبيد طريق جياو بينغ‮ ‬العام‮ .‬

وسمع أبي دوي طلقة نارية أحدثت جلبة كبيرة وسط زراعات الذرة‮ ‬،‮

‬وقد أصابت الطلقة في طريقها الكثير من عيدان وسنابل الذرة‮ ‬،

   ‮ ‬   ولا أحد‮ ‬يعرف أين أستقرت‮.‬


وفي ذلك الحين‮ ‬،‮ ‬سمع أبي صوت الحمير القادم من القرية‮ ‬،‮ ‬ففتح عينيه ورأي أن الجو لايزال ملبداً‮ ‬بالضباب‮ ‬،‮ ‬وأن أعواد الذرة تحجب عنه رؤية أدني الأشياء منه‮ .‬ومضي‮ ‬يفكر في زراعات الذرة التي لا تنتهي وأنه لا‮ ‬يدرك كم من الوقت قضاه بين جنباتها.وفقد أبي وهو بين تلك الحقول التي لا تنتهي التركيز في الإتجاهات‮. ‬وتذكر أنه كان في العام قبل الماضي قد ضل طريقه وسط حقول الذرة‮ ‬،‮ ‬ولكن صوت مياه النهر أنذاك دله علي طريق النجاة من‮ ‬غيابات الذرة‮. ‬فعندما سمع أبي صوت صرير مياه النهر‮ ‬،‮ ‬عرف علي الفور أن العصابة تمضي في إتجاه الشرق في صوب النهر‮. ‬وبمجرد أن تأكد أبي من وجهة السير،‮ ‬فقد تأكد من أن الركب‮ ‬يمضي إلي ذلك الخندق لمواجهة وقتال الجيش الياباني‮ ‬،‮ ‬نعم إنهم‮ ‬يمضون إلي القتل‮ ‬،‮ ‬قتل البشر وكأنهم‮ ‬يقتلون الحيوانات.وعرف أن الركب سيسير صوب طريق جياو بينغ‮ ‬الذي قام الجيش الياباني وعملاءه بتعبيده بتسخير شعب القرية‮.‬

واشتد صوت إصطدام أفراد العصابة بعيدان الذرة‮ ‬،‮ ‬فقد أتعبتهم الرحلة الطويلة وسط زراعات الذرة التي لا تنتهي‮.‬حتي وانغ‮ ‬وين إي لم‮ ‬يتوقف عن السعال رغم سيل التوبيخ والسب الموجه له من القائد‮ ‬يو‮. ‬ولما أحس أبي أن الركب‮ ‬يقترب من الطريق العام‮ ‬،‮ ‬راح‮ ‬يتأمل عيدان الذرة المنغرسة في الأرض الطينية والمشبعة بمياه الأمطار‮.‬

وفجأة سمع أبي صوتا حادا‮ ‬،‮ ‬ثم أجتهد ليعرف مصدر الصوت‮ . ‬

وهنا سمع القائد‮ ‬يو‮ ‬يصيح بصوت مرتفع‮: »‬من الذي أطلق النار؟‮ ‬يا شياو جيو تسه من الذي أطلق النار؟‮«‬

وسمع أبي دوي طلقة نارية أحدثت جلبة كبيرة وسط زراعات الذرة‮ ‬،‮ ‬وقد أصابت الطلقة في طريقها الكثير من عيدان وسنابل الذرة‮ ‬،‮ ‬ولا أحد‮ ‬يعرف أين أستقرت‮. ‬ثم سمع صوت وانغ‮ ‬وين إي وهويصيح بصوت به الكثير من الأسي والخوف‮: ‬أيها القائد‮ ‬يو،‮ ‬إنني عديم الرأس،‮ ‬أيها القائد‮ ‬يو إنني عديم الرأس‮«!‬

فركله القائد‮ ‬يو برجله ثم قال‮: »‬عليك اللعنة‮ !‬عديم الرأس ولكنك جريء في الحديث‮ !«‬

وقال أبي‮ »‬أيها العم وانغ‮ ‬إنك جُرحت‮«.‬

‮»‬دوو قوان‮ ‬،‮ ‬أأنت دوو قوان‮ ‬،‮ ‬أنظر جيداً‮ ‬هل لاتزال رأس العم وانغ‮ ‬في مكانها؟‮«‬

‮»‬نعم‮ ‬،‮ ‬إنها لاتزال مستقرة في مكانها‮ ‬،‮ ‬فقط تبدو أذنك مجروحة‮«.‬

فمد وانغ‮ ‬وين إي‮ ‬يده‮ ‬يتحسس أذنه المجروحة،‮ ‬ولامست‮ ‬يده الدماء التي تسيل من أذنه،‮ ‬وهنا بدأ‮ ‬يشكو حاله إلي القائد‮ ‬يو‮: »‬أيها القائد‮ ‬يو‮ ‬،‮ ‬لقد جُرحت‮ ‬،‮ ‬لقد جُرحت‮ ‬،‮ ‬لقد جُرحت‮«.‬

فرجع القائد‮ ‬يو إلي الخلف‮ ‬،‮ ‬وجلس القرفصاء وأمسك برقبة وانغ‮ ‬وين إي‮ ‬،‮ ‬وقال بصوت منخفض‮: »‬كف عن الصراخ وإلا فصلت رقبتك عن جسدك‮«!‬

وهنا كف وانغ‮ ‬وين إي عن الصراخ‮.‬

وعاود القائد‮ ‬يو‮ ‬يسأله‮ :»‬أين مكان الجرح ؟‮«‬

فرد وانغ‮ ‬باكياً‮ : »‬إنها أذني‮ ...«‬

فأخرج القائد‮ ‬يو من جيبه قطعة قماش بيضاء وشقها نصفين ومدها إلي وانغ‮ ‬قائلاً‮ : »‬غطي بها الجرح‮ ‬،‮ ‬وكف عن الصراخ‮ ‬،‮ ‬وسنعاود لف الجرح ثانية في الطريق‮«.‬

ونادي القائد‮ ‬يو علي أبي‮ : »‬دوو قوان‮.« ‬فأجابه أبي ثم أقترب منه وواصلا السير معا.بينما كان وانغ‮ ‬يسير خلفهما وهو‮ ‬يتألم من جرحه‮ .‬

وكانت تلك الطلقة الطائشة التي دوي صوتها وسط زراعات الذرة‮ ‬،‮ ‬كانت قد خرجت عن‮ ‬غير قصد من بندقية الأخرس.وكان الأخرس صديق قديم وحميم للقائد‮ ‬يو،‮ ‬وكان بطلاً‮ ‬رافقه طويلاً‮ ‬وأكلا معاً‮ ‬الخبز وسط زراعات الذرة‮ ‬،‮ ‬وكانت إحدي قدمي الأخرس قد جُرحت وهو لايزال في بطن أمه‮ ‬،‮ ‬وكان‮ ‬يعرج عليها أثناء السير،‮ ‬ولكنه كان‮ ‬يسير عليها بسرعة‮ ‬،‮ ‬وكان أبي‮ ‬يخشاه كثيراً‮.‬

وعندما تبدد ضباب الفجر،‮ ‬وصلت العصابة أخيراً‮ ‬إلي طريق جياو بينغ‮ ‬العام.وعندما سلك الركب الطريق العام‮ ‬،‮ ‬بدا أبي أكثر مرونة وحيوية وقدرة علي السير بمفرده‮ ‬،‮ ‬حتي أنه لم‮ ‬يعد‮ ‬يمسك بطرف ثياب القائد‮ ‬يو‮. ‬وكان وانغ‮ ‬وين إي لا‮ ‬يزال‮ ‬يغطي أذنه المجروحة بتلك القماشة البيضاء وهو‮ ‬غارق في بكاءه‮. ‬وهنا مد القائد‮ ‬يو‮ ‬يده وساعده في أن أحكم ربط الجرح حتي شمل الغطاء نصف رأسه‮ . ‬وراح وانغ‮ ‬يتألم من شدة الألم‮. ‬

وقال القائد‮ ‬يو‮ : »‬آه من عمرك الطويل‮ !«‬

فرد وانغ‮ ‬وين إي‮ : »‬لقد نزفت دمائي كلها ولا أستطيع الذهاب‮ !«‬

فقال القائد‮ ‬يو‮: »‬عليك اللعنة‮ ‬،‮ ‬إن جُرحك هذا لا‮ ‬يعادل عضة بعوضة‮ ‬،‮ ‬وهل أنك نسيت ثأر أبنائك الثلاثة‮ !«‬

فطأطأ وانغ‮ ‬رأسه وقال وهو‮ ‬يغمغم‮ : »‬لا لم أنسي‮ ‬،‮ ‬لم أنسي أبداً‮ «.‬

ومضي وانغ‮ ‬يسير وهو‮ ‬يحمل بندقيته التي تلوثت بدمائه التي لم تتوقف بعد‮.‬

وكان الضباب قد تبدد تماماً،‮ ‬وبدا الطريق العام صحواً‮ ‬،‮ ‬ولم‮ ‬يكن علي الطريق أي أثر لأقدام الأبقار والخيل أو حتي البشر.وكان الطريق المحاط من جانبيه بزراعات الذرة كفيل بأن‮ ‬يجعل المارة‮ ‬يشعرون بعدم الإطمئنان‮. ‬وكان أبي‮ ‬يعلم أن عصابة القائد‮ ‬يو المكونة من أربعين شخصاً‮ ‬من بينهم الأبكم والأخرس والأعرج‮ ‬،كانوا جميعهم جنودا شجعانا عاشوا في القرية وأختلطوا بجميع ما فيها من حيوانات وطيور.وألتف ثلاثين رجل منهم مكونين دائرة تشبه الحية أثناء نومها،وكان من بينهم من‮ ‬يحمل البنادق والمسدسات والمطارق والتروس الحديدية.ولم‮ ‬يكن أبي‮ ‬يعرف أنذاك شيئاً‮ ‬عن نصب الأكمنة وعن فائدة التروس الحديدية في نصب الأكمنة لمواجهة العـدو‮.‬


الفصل الاول من رواية‮ »‬الذرة الرفيعة الحمراء‮« ‬للكاتب الصيني الحاصل علي نوبل مو بان‮.

            ‬  تصدر قريبا كاملة في المشروع القومي للترجمة


»‬مويان‮« ‬يتحدث‮  ‬بعد ان أن أعادته الكتابة للحياة

نوبل جائزة‮ ‬غربية والأدب الصيني الحديث بدأ في الثمانينات


‮ ‬لاتزال لدينا ممنوعات لا‮ ‬يمكن تناولها بشكل مباشر

‮ ‬تأثرت بالأدب الأمريكي اللاتينيي‮.. ‬والواقعية السحرية تشطب خبراتي

‮ ‬روايتي الأخيرة‮.. ‬الحياة والموت يستفزاني‮ .. ‬تحمل أسلوبي الخاص

ترجمة‮: ‬أحمد عبد اللطيف




عاش الكاتب الصيني أبكم دون إرادته مدة‮ ‬20‮ ‬عاماً‮. ‬والآن،‮ ‬بعد أن صار أحد أكثر الروائيين تأثيراً‮  ‬ومقروئية في القارة الأسيوية،‮ ‬ينشر رقصة الثوم قصة طويلة يرصد بها تاريخ بلده المضطرب‮. ‬

يحاول الروائيون دائماً‮ ‬تجنب السياسة،‮ ‬لكن الرواية في حد ذاتها تدور حول السياسة‮. ‬فالروائيون مشغولون كثيراً‮ ‬بمصير الإنسان‮ ‬غير أنهم عادة يفقدون مصيرهم الخاص‮. ‬وهنا تكمن التراجيديا‮.‬


بهذا التصدير الخاص بالزعيم والديكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين،‮ ‬يفتتح مو يان،‮ ‬أحد أهم الكتاب الصينيين الحاليين تأثيراً،‮ ‬روايته‮  ‬برقصة الثوما‮ . ‬وهو ليس اختياراً‮ ‬نتيجة الصدفة،‮ ‬فمو يان يسبح بهدوء فوق مياه حياته الخاصة المعذبة عندما يتحدث عن كيف وصل لنشر عشر روايات،‮ ‬ثماني منها تُرجمت إلي لغات أخري رغم جهل الغرب بالأدب الصيني‮. ‬لأنه ربما يربط مصير الإنسان بمصيره الشخصي،‮ ‬وما من طريقة أفضل لحكاية ذلك من الانطلاق من أرضه،‮  ‬من جاومي،‮ ‬القرية البائسة في محافظة شاندونج الساحلية،‮ ‬والتي شاهدت مولده في أحد أيام فبراير عام‮ ‬1955،‮ ‬وكانت منبعاً‮ ‬أساسياً‮ ‬لإلهامه بأعماله‮. ‬

‮     ‬حصاد ذلك عدد من الروايات الثرية التي تمزج تاريخ الصين المضطرب في القرن الأخير بالطقوس والتقاليد الخاصة بالمناطق الريفية وبروح الشعب الصيني من خلال لغة واقعية،‮ ‬سحرية،‮ ‬وصفية،‮ ‬إنسانية وساخرة،‮ ‬تأثر فيها بعدد من كُتاب الغرب مثل تولستوي وفوكنر وجابرييل جارثيا ماركيز‮.‬

رقصة الثوم

‮ ‬من بين كتبه الأكثر شهرة يبرز،‮ ‬بالإضافة ل»رقصة الثوم‮« (‬وهي صورة للصين الريفي،‮ ‬وتدور في السنوات الأولي لعملية الإصلاح التي بدأها دنج كسياوبينج في أواخر‮ ‬1978‮) ‬نجد بالذرة الرفيعة الحمراء التي تحولت لفيلم سينمائي فاز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين عام‮ ‬1988؛ وبنهود كبيرة وأرداف عريضة التي صودرت في الصين،‮ ‬والتي تناولت تاريخ بلده في القرن العشرين من خلال حياة امرأة‮. ‬وبجمهورية النبيذ‮«‬،‮ ‬التي فيها سخر من الفساد الحكومي ومن هواجس الدولة الخاصة بالأكل والكحول‮.‬

‮     ‬جالساً‮ ‬علي أريكة قديمة،‮ ‬في بار يسمي بالكُتّابا بفندق رافليس بمدينة بكين،‮ ‬ومحاطاً‮ ‬بصور أبيض وأسود لزعماء الثورة،‮ ‬يكسر مو يان صمته ويبدأ في حكاية حياته بعبارات متقطعة،‮ ‬تتناسب مع الاسم المستعار الذي اتخذه لنفسه عندما بدأ في الكتابة حين التحق بالجيش‮.‬

لا تتحدث‮.. !‬

مو يان ليس اسمي الحقيقي،‮ ‬فاسمي جوان‮ ‬موييه‮. ‬واخترت هذا الاسم،‮ ‬الذي يعني بلا تتحدث‮«‬،‮ ‬لأنه يتناسب مع السنوات التي فيها لم أستطع توجيه كلمة لأحد‮«‬،‮ ‬يشرح بينما يتذكر طفولته‮. »‬كانت سنوات مضطربة في الثورة الثقافية‮ (‬1966‮-‬1976‮) ‬وكانت هناك صراعات بين أناس شعبيين بشكل يومي‮. ‬كان أبي مزارعاً،‮ ‬وكانت أسرتي تعاني من وضع مختنق،‮ ‬فكان يخاف أن أقول شيئاً‮ ‬غير مناسب فأجلب لهم النكبات‮. ‬هكذا قال لي لا تتحدث وتظاهر بأنك أبكم‮«.‬

الصمت والعزلة كانا الغذاء اليومي لهذا الطفل،‮ ‬أصغر إخوته الأربعة،‮ ‬والذي اضطر لترك المدرسة عندما كان في الابتدائية‮. ‬بذاكرتي مليئة بالعزلة والجوع‮. ‬كان عقد الستينيات عسيراً‮ ‬جداً‮ ‬في الصين‮. ‬كنت أقضي يومي كاملاً‮ ‬في الحقل لرعاية الأبقار والنعاج،‮ ‬بينما كان الأطفال في سني يدرسون ويلعبون في مدارسهم‮. ‬وكانت تمر فترات دون أن أري أحداً‮ ‬ليوم كاملس‮.‬

عندما كان في الثامنة عشرة من عمره،‮ ‬بدأ الشاب مو في العمل في مصنع‮. ‬كان يعمل نصف اليوم عاملاً‮ ‬ونصفه الآخر فلاحاً‮. ‬حتي سنة‮ ‬1976،‮ ‬حاول الالتحاق بالجيش‮. ‬بكانت أفضل طريقة للحياة‮. ‬لكن كان هناك حد أقصي للسن،‮ ‬هكذا‮ ‬غيرت عائلتي تاريخ ميلادي،‮ ‬فأصبحت أصغر بسنة‮. ‬حينها،‮ ‬كان ذلك سهلاً‮ ‬جداً،‮ ‬لأنني لم يكن لدي شهادة ميلاد من الأصل‮. ‬لهذا يعتقد البعض أنني مواليد ‮٦٥٩١.  ‬

بعد وفاة ماو،‮ ‬في سبتمبر‮ ‬1976،‮ ‬وصعود دنج كسياوبينج إلي السلطة في‮ ‬79،‮ ‬خففت الحكومة حدة سيطرتها علي الإنتاج الأدبي وبدأت تظهر الأعمال الأولي حول كوابيس الثورة الثقافية‮. ‬وسمي بأدب الجرحيا‮. ‬ازدهر الأدب في هذه السنوات،‮ ‬وتناول عدداً‮ ‬كبيراً‮ ‬من الموضوعات الاجتماعية،‮ ‬التي شملت من الفساد الرسمي إلي قضايا المرأة‮.‬

التغيير الجذري

في تلك الفترة،‮ ‬عام‮ ‬1981،‮ ‬نشر مو يان روايته‮ ‬الأولي بمطر في ليلة ربيعية بعدها‮  ‬جاءت‮ ‬12‮ ‬رواية قصيرة‮. ‬الكن لم يكن الأمر سهلاً‮. ‬الضباط في الكتيبة كانوا ينتقدونني لأنني أكتب بدلاً‮ ‬من أن أقوم بعملي‮. ‬هكذا في عام‮ ‬1984‮  ‬التحقت بمدرسة الفن والأدب بالجيش‮. ‬ومنذ ذلك الحين،‮ ‬استطعت أن أعيش من الأدبس‮.‬

يؤكد مو،‮ ‬مثل كُتاب آخرين في نفس الفترة،‮ ‬قبل الثورة الثقافية وبعدها،‮ ‬أن الخطاب الرسمي‮  ‬بالطيبون كاملون والأشرار لا يتمتعون بشيء طيب‮- ‬قد أثر بشكل عميق في تفكيره‮. ‬بلكن،‮ ‬في الحياة الواقعية،‮ ‬ما من خط يفصل الأخيار عن الأشرار،‮ ‬وبعدها‮ ‬غيرت طريقة تفكيري‮. ‬وكان ذلك تغييراً‮ ‬جذرياً‮«.‬

‮»‬الجرجير الشفافا كان كتابه الأول الذي حقق نجاحاً،‮ ‬والثاني بالذرة الرفيعة الحمراءا‮. ‬وهذا الأخير سمح له بشغل مكانته ككاتب‮. ‬في عام‮ ‬1996‮ ‬نشر بنهود كبيرة وأرداف عريضة‮«‬،‮ ‬والتي سردت تاريخ الصين بدءاً‮ ‬من السنوات الأخيرة‮  ‬لأسرة كينج‮ (‬1644‮-‬1911‮) ‬حتي ما بعد ماو،‮ ‬من خلال حكاية امرأة لديها ثمان بنات قبل أن تصل لابن ولد مرغوب،‮ ‬وأنجبتهم جميعاً‮ ‬خارج إطار الزواج‮. ‬إنها عمل كبير،‮ ‬عنيف،‮ ‬وواقعي،‮ ‬يعلي فيه من قيمة التضحية وقوة المرأة،‮ ‬لكنها صودرت في الصين لسببين،‮ ‬كما يحكي مؤلفها‮.‬

أولاً،‮ ‬لأنها كانت خارج العقيدة الرسمية،‮ ‬التي كانت تنص علي:ب كل ما قام به الحزب الشيوعي كان صحيحاً،‮ ‬بلا أي خطأ،‮ ‬وأن ما فعله كومينتانج‮ (‬الحزب القومي لشيانج كاي‮- ‬شك،‮ ‬والذي خسر في الحرب الأهلية أمام شيوعيي ماو زدزنج‮) ‬كان شراً‮ ‬مطلقاً‮«. ‬السبب الثاني لأنني وصفت ببشكل جريء ومباشر الجسم الإنساني‮«.‬

تأثر بالأدب الأمريكي

يري مو يان أن قرار أن يكون كاتباً‮ »‬كان فكرة‮ ‬بسيطة‮«. ‬بكل بساطة كان يريد تغيير شكل حياته لأنه لا مستقبل له في الجيش‮. ‬بذات مرة،‮ ‬قال لي جار بقريتي قد درس في الجامعة إنه يعرف كاتباً‮ ‬يمكنه أن يسمح لي أن آكل ثلاث مرات في اليوم جياوزي‮ (‬طعام صيني يقدره هذا الشعب‮).  ‬وكان هذا شيئا لا يمكن أن يتخيله طفل في قرية‮. ‬وأنا كان عندي أشياء كثيرة لأرويها‮.. ‬عليك أن تتخيل شخصاً‮ ‬مجبراً‮ ‬علي الصمت خلال عشرين عاماً،‮ ‬وفجأة يستطيع أن يحكي كل ما رآه وجربه‮. ‬هذه كانت القوة الحقيقية وراء كتابنا‮.‬

يؤكد مو يان أن الأدب الأمريكي اللاتيني في الثمانينات،‮ ‬خاصة أدب الكولومبي جارثيا ماركيز،‮ ‬قد أثر كثيراً‮ ‬في أدبه‮. »‬الواقعية السحرية نشّطت خبراتي المتراكمة في الماضي‮. ‬ثمة تشابهات كثيرة بين الحياة في قريتي وبين كتبه‮. ‬في قريتي لم يكن هناك ضوء بالليل،‮ ‬وعندما كنت أفتح النافذة،‮ ‬كنت أري‮  ‬المجمرات تلمع في الحقل فتكسر الظلام‮. ‬ذكريات طفولتي مرصعة بالأشباح‮. ‬وأجدادي كانوا يحكون لي حكايات عن الأرواح‮. ‬بعدها التفتُ‮ ‬أنني لا يصح أن أنسخ جارثيا ماركيز‮. ‬أهم شيء أنني تعلمت من روحه المبدعة‮«.‬

يؤكد مو أنه عثر علي أسلوبه الخاص بداية من‮ ‬1985،‮ ‬أسلوب يمكن تعريفه بأنه واقعي ويستخدم بنيات سردية معقدة،‮ ‬محمّلة بالرمزية،‮ ‬وبعمق الشخصيات والحكايات الطويلة‮. ‬ولكن واقعيتي مختلفة عن الواقعية المستخدمة في الماضي في الصين‮«‬،‮ ‬يوضّح؛ تلك الواقعية الاجتماعية،‮ ‬التي نمذجت الحياة الريفية،‮ ‬والتي ميزت سنوات ما بعد ماو،‮ ‬والتي،‮ ‬طبقاً‮ ‬لما يوضحه،‮ »‬لم تقل الحقيقة‮« ‬،‮»‬واقعية كانت تصف كومينتانج بالشيطان والحزب الشيوعي بالإلها‮. ‬بواقعيتي تتحدث عن الناس العادية‮. ‬أقدم للقاريء كل نوع من الشخصيات،‮ ‬أشخاص لم يتعامل معها أبداً،‮ ‬في عالم خاص،‮ ‬يستطيع فيه أن يتنفس ما تتنفسه ويسمع أصوات الحياة الريفيةا‮.‬

يحقق الكاتب الصيني وجوده رويداً‮ ‬رويداً،‮ ‬بينما يتناول بهدوء عصير برتقال‮. ‬وعندما تسأله كم كتاباً‮ ‬باع،‮ ‬يؤكد أنه لا يعرف‮. ‬مليونا نسخة علي ما أعتقد،‮ ‬لكنني لا أعرف‮. ‬عندما تنشر كتاباً‮ ‬في الصين،‮ ‬تظهر في اليوم التالي النسخ المقرصنة‮.‬

‮  ‬يقول إن الرواية التي يفخر بها هي روايته الأخيرة بالحياة والموت‮ ‬يستفزاني‮«‬،‮ ‬المنشورة عام‮ ‬2006‭.‬‮ ‬بأغلب كتبي تستخدم أسلوباً‮ ‬منسوخاً‮ ‬من الغرب‮. ‬وهنا،‮ ‬في هذه الرواية،‮ ‬يظهر أسلوبي الخاص،‮ ‬الذي صنع قطيعة مع هذه التأثيرات‮.‬

يؤكد أن الكتاب الصينيين يختلفون عن الغربيين في أنهم يستخدمون نفسية الشخصيات من خلال لغتهم وسلوكهم،‮ ‬بينما الغربيون يصفون مباشرة نفسية الشخصية‮. ‬ويذكر من بين كتابه المفضلين‮  ‬ارنست همينجواي،‮ ‬جونترجراس والياباني ياسوناري كاواباتا‮. ‬ومن الكتاب الصينيين لو كسون والروائية الحالية وانج انيي‮.‬

يشير مو يان أن آلاف الروايات الطويلة التي تنشر كل عام في الصين،‮ ‬الجيد منها لا يصل لعشرين‮. ‬لكن قراءاته تتركز أساساً‮ ‬في الأعمال الغربية المترجمة إلي الصينية‮. ‬بل ويكرس وقتاً‮ ‬طويلاً‮ ‬لهذه القراءة،‮ ‬بالإضافة لمشاهدة التليفزيون،‮ ‬حيث إنه منذ انهي من كتابه الأخير لم يكتب كلمة‮. ‬عندما يبدأ عمله من جديد،‮ ‬سيبدأه في ساعات الغروب‮. »‬ما بين التاسعة والثانية عشرة ليلاً،‮ ‬عندما يسود الهدوء ويتوقف التليفون عن الرنين‮«. ‬ولن يستخدم الكمبيوتر لأنه يرهق نظره ولأنه أكثر بطئاً‮. »‬استخدمته خلال خمس سنوات،‮ ‬لكني الآن أستخدم القلم الجاف‮«.‬

مو يان أب لابنة عمرها‮ ‬27‮ ‬سنة،‮ ‬يؤكد أنه ليس لديها وقت فراغ،‮ ‬لكنها تحب المسرح وتسافر من آن لآخر إلي الخارج‮. ‬وعندما يتكلم مو يان،‮ ‬تجيبه بهالة من الحزن‮. ‬ربما ذلك ندبة من الطفولة القاسية التي يرويها في أعماله‮. ‬بعدما كنت في الخامسة‮ (‬خلال الهجمة الكبيرة،‮ ‬وفشل حركة التصنيع الحضري التي بدأها ماو زدونج،‮ ‬والتي اسست لمجاعات كبيرة وموت ملايين البشر‮) ‬كانت بطون أبناء قريتي منتفخة مثل أبناء أفريقيا‮. ‬الأشجار صارت بيضاء لأننا لم نأكل قشورهاا‮. ‬فقط عندما زالت المرارة،‮ ‬أصبح قادراً‮ ‬علي كتابتها‮.‬

مو يان،‮ ‬الذي كان ذات مرة مرشحاً‮ ‬محتملاً‮ ‬لجائزة نوبل للآداب،‮ ‬يعتقد أن اليوم الذي ستقع فيه هذه الجائزة في يد كاتب صيني،‮ ‬لا يزال بعيداً‮. »‬ربما بعد مائة عام يقول باقتضاب‮. ‬بأنها جائزة‮ ‬غربية،‮ ‬وأمر الترجمة للغات أخري معقدا‮. ‬لكنه عندما يحلل لماذا الكتاب الصينيون أقل شهرة من جيرانهم اليابانيين،‮ ‬يقول‮: »‬لأنهم ليسوا جيدين كما ينبغي‮. ‬الأدب الصيني الحديث يبدأ في كونه أدباً‮ ‬حقيقياً‮ ‬في عقد الثمانينات‮. ‬ما بين‮ ‬1949‮(‬تاريخ نشأة الجمهورية الشعبية التي أسسها ماو‮) ‬و‮ ‬1979،‮ ‬كان محملاً‮ ‬بالسياسة‮«.‬

أيعني ذلك أن الكتاب الصينيين يمكنهم الآن أن يكتبوا ما يريدون؟‮ »‬لا تزال هناك أشياء لا يمكن تناولها بشكل مباشر،‮ ‬لكن الوضع افضل بكثير من الماضي‮.  ‬فالكاتب الجيد يعرف العثور علي أفضل طريقة ليحكي ما يود حكايته‮«.

حوار منشور بمجلة‮ »‬الباييس‮« ‬الإسبانية عام‮ ‬2008

              واتحادات نشره آمس


منقول من أخبار الأدب