الخميس، 4 أبريل 2013

إشكالات في فلسفة اللغة.. حميد الراشد




تعتبر اللغة حاضرة بكثافة في مختلف الموضوعات والقضايا الفلسفية منذ بدايات الآداب والتفلسف ومحاولات ‏المعرفة ونشأة النظريات، وذلك الحضور كان ضمنياً، إما بصورة مباشرة بمثل ما نجده في مسائل المنطق ‏بصوره المختلفة (حجج زينون، مقولات أرسطو، منطق الرواقيين...) وبمثل ما نجده في نظرية المعرفة في ‏شكلها المبدئي وما لحقها من تطورات منهجية، وإما أن يكون الحضور الضمني للغة من خلال مسائل تتعلق ‏باختيار لغوي من أجل تحري قوة المعنى في موضوعات فلسفية تأملية أو تحليلية، كما يكون ذلك الحضور في ‏أعمال إنسانية أدبية وفنية خارج المجال الفلسفي. ويمكن أن نتصور شكل الحضور اللغوي هذا باعتباره سنداً لأي ‏طرح عندما تستدعي الضرورة.‏
بالاطلاع على آراء الفلاسفة حول مختلف القضايا يمكن التعرف على الحضور اللغوي داخلها: فمثلاً تعد ‏محاورات أفلاطون عملاً أدبياً قبل أن تكون عملاً فلسفياً نظراً لما حوته من فن ومتعة لغوية وروح حوارية ‏عالية، وفي جانبها الفلسفي قدرة لغوية تمكن أفلاطون من خلالها أن ينقل أفكار وفلسفة أستاذه سقراط إلا أنه ‏تجاوز تلك الرسالة إلى مرحلة إبداع حيث نلاحظ النفس الأفلاطوني أيضاً في المحاورات، ذلك النفس الذي ‏يتضمن تحليل الأفكار والمنطق بالإضافة إلى دعم نظرياته الفلسفية داخل المحاورات وأهمها نظرية المثل، ففي ‏محاورة قراطيلوس بحث أفلاطون عن طبيعة اللغة بتساؤله عن مدى تطابق الأشياء مع مدلولاتها أم أن العلاقة ‏اتفاقية؟ وخلص في ذلك إلى ما يعني محاكاة الأشياء. ودرس الفارابي معاني اللغة وخلص إلى نظرية تجمع بين ‏الاتفاق والتدبير، ففي كتاب (الحروف) يتحدث الفارابي عن الاتفاق في الألفاظ من أجل الدلالة على الأشياء، وبعد ‏التواضع والتواطؤ على استخدام ألفاظ بعينها تصبح تلك الألفاظ لاحقاً مما اصطلح عليه، وعند حدوث حاجة ‏جديدة لدى الإنسان فإنه يخترع تصويتاً ثم يتحول إلى دلالة ويضاف له تصويتات لاحقة حتى يتم وضع الألفاظ ‏لكل ما يحتاجون إليه في ضرورية أمرهم. ‏
وبهذا فإن اهتمامات الفلاسفة باللغة كانت حول التصورات والمعاني الكلية دون منهج بعينه حتى وإن تباينت ‏الصور بين فيلسوف وآخر. ومع بدايات الفلسفة الحديثة تحول الاهتمام تدريجياً إلى حقل المفاهيم انطلاقاً من ‏تمييز الأفكار وعلاقتها بالوضوح والبرهان بمثل ما نجده لدى ديكارت، وبعد ذلك تكثف الجهد المعرفي حول ‏اللغة لدى أكثر من مدرسة، فهيجل تناول علاقة الرمز بالفكرة وميز بينهما من حيث المجرد والعيني، وأتى ‏فيلسوف المنطق تشارلز بيرس فبحث المدرك العقلي ووضع مقولات الرتبة بهدف صياغة أسس معرفية تقوم ‏على الفروض العلمية والخبرة والنتائج المترتبة على استمرارية الفكر، وأكمل فريجه نظريات ليبنتز الخاصة ‏ببناء لغة رمزية من أجل تحقيق تقدم معرفي، وبذلك يكون فريجه بدأ بلفت الانتباه بما تستحقه الدلالات من علم ‏خاص بها كما أن له الفضل بتأسيس منطق حديث.‏
بعد ذلك تأتي النقلات النوعية في فلسفة اللغة والتي أسست لتيارات ومناهج قوية حيث استمر صداها حتى الآن، ‏وتتمثل أول تلك النقلات بدراسات ونظريات فردينان دي سوسير في البنيوية اللغوية، فقد درس تعدد عناصر ‏اللغة في ميادين شتى بهدف العثور على بنية لها وتحديدها، كما نفى أن تكون هناك رابطة طبيعية بين الدال ‏والمدلول وبين أن العلامة اللسانية اعتباطية، ثم نرى جهود بنفنيست الذي اختلف مع سوسير وعمق البحث ‏الفلسفي عن اللغة من حيث المفاهيم ودورها في إثراء الفكرة، متناولاً ما تقوم به اللغة من ترتيب علائقي، وكذلك ‏علاقة الضرورة بين الدال والمدلول فهما وجهان لعملة واحدة ويشكلان بدورهما المحتوى. وتعرفنا نظريات ‏جاكبسون على وظائف اللغة والتي استنتجها عندما درس عوامل التواصل اللفظي، وبناء على تلك العوامل وضع ‏تصنيفاً لوظائف اللغة. وأما منهج الوضعية المنطقية والتي انبثقت من أعلام دائرة فيينا وأبرزهم شليك ‏وفتجنشتاين ورودلف كارناب فترى أن الفلسفة هي البناء المنطقي للغة، وبذلك يكون التركيز على التحليل ‏المنطقي للقضايا. ‏
نضيف لذلك نظريتين حققتا نقلة نوعية، وهما: نظرية التأويل التي صاغها بول ريكور، حيث أراد إنشاء فلسفة ‏في اللغة عن طريق نقد مسلمات البنيوية، والتمييز بين علم الدلالة والسيمياء، ويرى ريكور بأن الجملة هي ‏الحدث الفعلي أثناء الكلام، ولذلك هي كل غير قابل للانحلال إلى مجموع أجزائه، والثانية هي نظرية الفعل ‏التواصلي لدى هابرماس، ويتمثل موقفه بأن هذا الفعل يحقق نموذجاً يتضح فيه التفاعل المستمر بين الذوات ‏المختلفة. ‏
وفي رأيي أن ما تحقق حتى الآن من نظريات ومناهج حول فلسفة اللغة لم يكن إلا تقدماً نسبياً، فتلك الجهود لم ‏تتناول مجمل الإشكالات الفلسفية بما يخص اللغة، بل إن بعض الجهود ركزت على جوانب للغة دون غيرها ‏فخرجت مبتورة لأنها لم تدرك ديناميكية اللغة وما يحيط بها.‏
وأهم الإشكالات التي تمثل تحديات وصعوبات في فلسفة اللغة: نطاق كل من المعرفة واللغة، وإشكالية الخاص ‏والعام لدى الأمم، وأيضاً التداخل بين مجالات المعرفة.‏
إن نطاق المعرفة بأبعادها الواقعية والمادية والمثالية والعقلية أكبر بكثير من نطاق اللغة، وذلك يعني بأن إمكانات ‏اللغة لا تفي دائماً بشرح ما لدى الإنسان من فكر. ونعني بإشكالية الخاص والعام أن هناك حساً مشتركاً ومعاني ‏يدركها جميع البشر إلا أن اختلاف اللغات من حيث خصائصها ومعجمها وسياقها يؤدي إلى طيف واسع من ‏المفاهيم لكل مفردة ولكل جملة مما يتسبب في تشتت المشترك بين البشر. كما أن أكبر إشكالية كون اللغة تدخل ‏في كل مجالات المعرفة دون استثناء مما يشكل تداخلاً بين تلك المجالات فيؤدي إلى خلط مفهومي وعلمي، وهذا ‏الخلط يحدث إما بتلقائية نتيجة لمشتركات الألفاظ وما تدل عليه أو نتيجة لمحدودية التعامل الثقافي، وأحياناً يحدث ‏هذا الخلط نتيجة لتحيز معرفي فكل مهتم بمجال ما يحس بأن اللغة خاصته المتاحة وأنه يختار الألفاظ التي تناسب ‏ما يعول عليه كثيراً. وإشكالية التداخل تلك وقفت حاجزاً أمام إنجاز فلسفي مؤمل يجمع بين أفق معرفي يحيط ‏بمؤثرات اللغة وعمق فلسفي يعي منهج البحث.‏

  منقول من موقع المجلة العربية