الأحد، 29 ديسمبر 2013

فيدل كاسترو يكتب عن الحدث المنسي في العلاقة بين كوبا وجنوب أفريقيا ‮ ‬مات مانديلا‮.. ‬لماذا نخفي الحقيقة‮ ‬ حول التمييز العنصري ؟

ترجمة‮:‬‮ ‬سمىة ربىع
.

بحسب ما أتذكر،‮ ‬لم يصدم خبر في الحاضر أو في الماضي الرأي العام العالمي مثل وفاة مانديلا‮. ‬ولم يكن السبب هذه المرّة الثروة والمال،‮ ‬وإنمّا بسبب دفئه الإنساني ونبل مشاعره وأفكاره‮. ‬

يكتب هنا فيدل كاسترو علي فراش مرضه ناعياً‮ ‬نيلسون مانديلا،‮ ‬الذي تعاطف العالم معه ليس بسبب ثراءه وإنما نبل أفكاره‮. ‬يذكر كاسترو القراء بالمعركة العسكرية المنسية التي دارت رحاها بين كوبا وبين جنوب أفريقيا العنصرية ودور مانديلا في المعركة‮. ‬لا يلزمنا الاتفاق مع جميع ما يقوله في هذا المقال الذي نشرته جريدة‮ "‬جرانما‮"‬،‮ ‬وهي الجريدة الرسمية للجنة المركزية بالحزب الشيوعي في كوبا‮. ‬فقط نقدم للقراء مادة مثيرة للاهتمام وللجدل علي حد سواء،‮ ‬احتراماً‮ ‬لحقهم في المعرفة‮. ‬

ربما اعتقدت الامبراطورية أن شعبنا لن يوفّي كلمته عندما أكدّنا،‮ ‬في أيّام مرتبكة من القرن الماضي،‮ ‬أنه حتّي وإن اختفي الإتحاد السوفيتي،‮ ‬فإن كوبا ستواصل القتال‮.‬

اندلعت الحرب العالمية الثانية عندما‮ ‬غزت النازية الفاشية بولندا في الأوّل من سبتمبر عام‮ ‬1939‭.‬‮ ‬وسقط هذ الخبر كالصاعقة علي الشعب البطولي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية،‮ ‬والتي ساهمت بـ‮ ‬27‮ ‬مليون روح للحفاظ علي حياة البشرية من تلك المجزرة الوحشية التي أنهت حياة أكثر من‮ ‬50‮ ‬مليون انسان‮.‬

من ناحية أخري،‮ ‬فإن الحرب هي النشاط الوحيد علي مر التاريخ التي لم يكن الجنس البشري أبدا قادرًا علي تجنبها،‮ ‬وهو ما دفع أينشتاين لأن يقول‮: ‬لا أعرف كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة‮ ‬،‮ ‬ولكن الرابعة ستكون بالعصي والحجارة‮.‬

الولايات المتحدّة وروسيا،‮ ‬وهما أكبر قوتين موجودتين الآن،‮ ‬لديهما عشرون ألف رأس نووي‮. ‬يجب أن نعرف جيدا أنه بعد ثلاثة أيام من تولّي جون ف‮. ‬كينيدي رئاسة بلاده في‮ ‬20‮ ‬يناير‮ ‬1961‮ ‬،‮ ‬كانت قاذفة القنابل بي‮-‬52‮ ‬التابعة للولايات المتحدة الأمريكية في رحلة روتينية وعلي متنها اثنان من القنابل الذرية ذات قدرة تدميرية أكبر‮ ‬260‮ ‬مرة من تلك المستخدمة في هيروشيما،‮ ‬وأصيبت بعطل عجّل بهبوطها إلي الأرض‮. ‬في مثل هذه الحالات،‮ ‬تعمل تقنيّات آلية متطورة علي تفعيل وسائل تحول دون إشتعال القنابل‮. ‬سقط الأول علي الأرض من دون مخاطر تُذكر،‮ ‬أمّا بالنسبة للقنبلة الثانية،‮ ‬فإن ثلاثا من معدّات الوقاية لم تعمل،‮ ‬الرابعة كانت في حالة حرجة،‮ ‬وبالكاد أدّت دورها‮. ‬القنبلة،‮ ‬بالصدفة،‮ ‬لم تنفجر‮.‬

بحسب ما أتذكر،‮ ‬لم يصدم خبر في الحاضر أو في الماضي الرأي العام العالمي مثل وفاة مانديلا‮. ‬ولم يكن السبب هذه المرّة الثروة والمال،‮ ‬وإنمّا بسبب دفئه الإنساني ونبل مشاعره وأفكاره‮. ‬

علي مدار التاريخ،‮ ‬وحتي قرن ونصف قرن فقط من الآن،‮ ‬وقبل أن تصبح الآلات والروبوتات التي تكلفنا طاقة أقل،‮ ‬هي المسؤولة عن القيام بالمهام المتواضعة‮ ‬،‮ ‬لم تتواجد أي من المظاهر التي تحرّك الإنسانية اليوم،‮ ‬وتتحكم بشكل لا رحمة فيه في حياة البشر كلّهم‮: ‬رجالاً‮ ‬ونساء،‮ ‬أطفالا وكبارا مسنين،‮ ‬وشبابًا وناضجين،‮ ‬ومزارعين وعمّال مصانع،‮ ‬أصحاب العمل اليدويّ‮ ‬والمفكرّين‮. ‬أصبح الاتجاه السائد هو الاستقرار في المدن،‮ ‬بحيث أصبح خلق فرص العمل وتوفير وسائل النقل والمعيشة الأساسية يتطلب استثمارات ضخمة تأتي علي حساب إنتاج الغذاء وغيرها من أشكال الحياة المنطقيّة‮.‬

ثلاث قوي عظمي استطاعت الهبوط علي سطح القمر‮. ‬في‮  ‬نفس اليوم الذي لُفَّ‮ ‬فيه جسد نيلسون مانديلا في علم بلاده‮ ‬،‮ ‬ودفن في باحة المنزل المتواضع الذي ولد فيه منذ‮ ‬95‮ ‬عاما،‮ ‬استطاعت الصين أن تُرسل وحدة متطوّرة هبطت علي جزء من الجانب المضيء لقمرنا‮. ‬كان تلاقي هذين الحدثين في نفس اليوم من قبيل الصدفة البحتة‮.‬

يبحث ملايين العلماء المواد والإشعاعات علي سطح الأرض وفي الفضاء‮. ‬وعن طريقهم نعرف أن‮ "‬تيتان‮"‬،‮ ‬أحد أقمار زحل،‮ ‬يحتوي علي نفط يعادل أربعين مرّة كل النفط الموجود علي كوكبنا منذ أن بدأنا استهلاكه من‮ ‬125‮ ‬عامًا،‮ ‬والذي لن يستمر سوي لقرن واحد آخر بالمعدلات الحالية للاستهلاك‮.‬

وُلدت روابط المشاعر الأخوية العميقة بين الشعب الكوبي ووطن نيلسون مانديلا من حدث لم يتم ذكره حتي،‮ ‬ولم نقل عنه‮ -‬عديدة‮: ‬مانديلا،‮ ‬لأنه كان رسولا للسلام ولا يريد أن يؤذي أحدًا،‮ ‬وكوبا،‮ ‬لأنها لم تقم أبدًا بشيء تسعي من خلاله إلي المجد والهيبة‮.‬

عندما انتصرت الثورة في كوبا،‮ ‬كنّا متضامنين مع المستعمرات البرتغالية في أفريقيا من السنوات الأولي‮. ‬لقد عرضّت حركات التحرر في أفريقيا القوي الاستعمارية والإمبريالية للخطر،‮ ‬خصوصًا أن الحرب العالمية الثانية قد انتهت،‮ ‬وتحررت جمهورية الصين الشعبية‮ - ‬البلد الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم‮ - ‬بعد الانتصار المجيد للثورة الاشتراكية الروسيّة‮.‬

هزّت الثورات الاجتماعية الأسس القديمة للحكم والأنظمة‮. ‬في عام‮ ‬1960،‮ ‬كان تعداد سكان هذا الكوكب قد وصل إلي‮ ‬3‮ ‬مليارات نسمة‮. ‬وبالتوازي،‮ ‬زادت قوة الشركات الكبيرة،‮ ‬والتي تتحكم في معظمها الولايات المتحدة‮. ‬وأصبحت عملة الولايات المتحدّة،‮ ‬بدعم من احتكار الذهب والصناعة،‮ ‬في مأمن بعيدًا عن جبهات القتال؛ أصبحت هي مالكة الاقتصاد العالمي‮. ‬وأصدر ريتشارد نيكسون قرارًا بأن الولايات المتحدة لن تغطي الدولارات الموجودة خارج حدودها برصيد من الذهب،‮ ‬وسيطرّت شركات بلاده علي الموارد الرئيسية و المواد الخام علي كوكب الأرض عن طريق الورق‮.‬

حتي الآن،‮ ‬لا يوجد

‮ ‬شيء‮  ‬لم يكن معروفً

ولكن لماذا يتّم إخفاء حقيقة أن نظام الفصل العنصري،‮ ‬والذي عانت بسببه أفريقيا،‮ ‬وغضبت منه الغالبية العظمي من أمم العالم،‮ ‬كان نتيجة لسياسات أوروبا الاستعمارية،‮ ‬وتم تحويله إلي قوة نووية تستخدمها الولايات المتحدة وإسرائيل،‮ ‬في حين تُدان علنًا كوبا،‮ ‬البلد الذي أيد قتال المستعمرات البرتغالية في أفريقيا من أجل استقلالهم؟

أبدًا لم تستسلم بلادنا التي تنازلت عنها إسبانيا إلي الولايات المتحدة بعد النضال البطولي لأكثر من‮ ‬30‮ ‬سنة،‮ ‬لنظام العبيد الذي فُرض عليها لأكثر من‮ ‬500‮ ‬سنة‮.‬

في عام‮ ‬1975،‮ ‬انطلقت بعض القوّات العنصريّة من ناميبيا‮ -‬المحتلّة من قبل جنوب أفريقيا‮- ‬مدعومة بدبابات خفيفة بمدافع قطرها‮ ‬900‮ ‬مم،‮ ‬واخترقت أكثر من ألف كيلومتر من ضواحي لواندا‮. ‬لكنّ‮ ‬كتيبة من كتائب القوات الخاصة الكوبية تمّ‮ ‬إرسالها جويّا وبعض تشكيلات من الدبابات السوفييتية والتي كانت موجودة لأسباب أخري،‮ ‬استطاعت احتواء الأمر‮. ‬حدث هذا في نوفمبر عام‮ ‬1975،‮ ‬أي قبل‮ ‬13‮ ‬عاما علي معركة كويتو كوانافالي‮ .‬

قلت أننا لم نفعل شيئًا أبدًا بحثًا عن هيبة أو فائدة‮ . ‬وإنما الحقيقة أن مانديلا كان رجلا نزيهًا وثوريًّا أصيلا واشتراكيًا حقيقيًا،‮ ‬تحمّل بحكمّة كبيرة‮ ‬27‮ ‬عامًا من السجن الإنفرادي‮. ‬لم أتوقف أبدًا عن الإعجاب بصدقه وتواضعه وأهليته للاحترام‮.‬

وفّت كوبا واجباتها الأمميّة بدقّة‮. ‬دافعت عن النقاط الرئيسية،‮ ‬ودربّت كلّ‮ ‬عام آلاف المقاتلين الأنجوليين ذمن أنجولا‮-  ‬علي التعامل مع الأسلحة،‮ ‬وتولّي الاتحاد السوفييتي مهمّة التسليح‮. ‬ولكن علي الرغم من ذلك،‮ ‬فإن وجود مستشار عسكري تابع للجهة المورّدة للمعدّات لم تكن فكرة نستطيع أن نقبلها في تلك الفترة‮. ‬كان الآلاف من الشباب الأصحاء الأنجوليين يتقدمّون بشكل مستمر بطلبات للاشتراك في الجيش الوليد‮. ‬لم يكن المستشار الرئيسي في ذلك الوقت زوكوف أو روكوسوفسكي أو مالينوفسكي أو‮ ‬غيرهم الكثير الذي رسموا مجد الاستراتيجية العسكرية السوفييتية‮. ‬كانت الفكرة المسيطرة هي إرسال ألوية قتالية أنجولية مسلّحة جيّدًا إلي الأراضي التي افتُرض أن توجد فيها الحكومة القبلية سافيمبي صاحبة جيش المرتزقة الذي يخدم الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا‮. ‬كان الأمر مثل إرسال القوّات التي تقاتل في ستالينجراد إلي حدود الكتائب‮  ‬الإسبانية التي أرسلت أكثر من ألف جندي لقتال الإتحاد السوفيتية‮. ‬كان هذا هو العام الذي يمكن أن تتم فيه عمليات لها هذا الطابع‮.‬

كان العدو يتقدّم،‮ ‬بعد أن ضرب عدة ألوية أنجولية علي مقربة من الهدف الذي تم إرسالهم إليه وعلي بعد حوالي‮ ‬1500‮ ‬كم من لواندا‮. ‬من هناك جاءوا متبوعين بقوّات من جنوب أفريقيا،‮ ‬واتجهّوا نحو كويتو كوانافالي،‮ ‬القاعدة العسكرية القديمة لحلف الناتو وعلي بعد حوالي‮ ‬100‮ ‬كيلومتر من أوّل لواء للدبابات الكوبية‮.‬

أهنئ الرفيق راؤول لأدائه الرائع،‮ ‬وأهنئه خصوصًا علي الحزم والكرامة عندما حيّا‮  ‬رئيس حكومة الولايات المتحدّة بلفتة‮  ‬وديّة ولكن قويّة،‮ ‬وقال له بالإنجليزيّة‮:  "  ‬سيدي الرئيس،‮ ‬أنا كاسترو‮".‬

في هذه اللحظة الحرجة،‮ ‬طلب رئيس أنغولا الدعم من القوات الكوبية‮. ‬نقل لنا رئيس قواتنا في الجنوب الجنرال ليوبولدو ثينترا فرياس هذا الطلب،‮ ‬وهو شيء معتاد‮.  ‬وكان ردنا أننا سنقدّم هذا الدعم إذا وافقت كل القوات والفرق الأنجولية في هذه الجبهة أن تخضع للقيادة الكوبية في جنوب أنجولا‮. ‬كان الجميع يفهمون أن طلبنا هذا كان يهدف إلي تحويل القاعدة القديمة إلي الشكل المثالي الذي يستطيع أن يضرب القوّات العنصريّة الآتية من جنوب أفريقيا‮.‬

‮ ‬في أقل من‮ ‬24‮ ‬ساعة وصلنا من أنجولا قرارها بالموافقة‮.‬

تم أخذ قرار بالإرسال الفوري للواء من الدبابات الكوبية إلي تلك المنطقة،‮ ‬وكانت عدّة لواءات أخري في نفس الطريق نحو الغرب‮. ‬كان العائق الرئيسي هو الطين ورطوبة التربة خلال موسم الأمطار،‮ ‬لذا كان علينا أن نفحص كل متر في الأرض لتحاشي الألغام الأرضية‮. ‬وتم إرسال أفراد إلي كويتو من أجل‮  ‬تشغيل الدبابات و البنادق‮.‬

كان نهر كويتو السريع والقويّ‮ ‬يفصل بين القاعدة والأراضي الواقعة في الشرق،‮ ‬ويصل بينهم فقط جسر متين‮. ‬هاجم الجيش العنصري القوّات بنفاذ صبر؛ ونجحت طائرة بدون طيّار مليئة بالمتفجرات في تفجير الجسر وجعله‮ ‬غير صالح للاستخدام‮. ‬وبالنسبة للدبابات الأنجولية المتراجعة،‮ ‬من يستطيع الحركة منها تم نقله إلي نقطة أخري في الغرب‮. ‬الدبابات المتضررة تم دفنها بأسلحتها في اتجاه الشرق؛ وبالإضافة لكميّة كبيرة من الألغام الأرضية ومضادات الدبابات،‮ ‬تحوّل المكان إلي جدار عازل عبارة عن فخ للموت بالنسبة للجانب الآخر من النهر‮. ‬عندما استأنفت القوات العنصرية تقدمها،‮ ‬وتفكك هذا الجدار،‮ ‬فتحت الدبابات وسلاح المدفعيّة التابعة للواءات الثوريّة النار من مواقع ارتكازهم الواقعة بمنطقة كويتو‮.‬

تم حجز دور خاص للـ ميج‮ -‬23،‮ ‬والتي برغم سرعتها التي تقترب من ألف كم/الساعة وطيرانها علي ارتفاع مائة متر كانت قادرة علي تحديد ما إذا كان جندي المدفعيّة أبيض أم أسود،‮ ‬وبالتالي أطلقت النار باستمرار وبكفاءة ضد العدوّ‮. ‬

عندما بدأ العدو المستهلَك وغير القادر علي الحركة في الانسحاب،‮ ‬استعدّت القوّات الثوريّة من أجل المعركة النهائية‮.‬

‮ ‬انتقلت العديد من الألوية الأنغولية و الكوبية بوتيرة سريعة و بمسافات مناسبة إلي الغرب،‮ ‬حيث كانت توجد الطرق الواسعة الوحيدة،‮ ‬والتي كانت قوّات جنوب أفريقيا تبدأ دائمًا الهجوم عبرها ضد أنجولا‮. ‬علي الرغم من ذلك،‮ ‬كان المطار الذي يبعد‮ ‬300‮ ‬كم عن حدود ناميبيا محتّلاً‮ ‬بالكامل من قبل جيش التمييز العنصري‮.  ‬

في الوقت الذي كان يتم فيه إعادة تنظيم القوّات وإعادة تجهيزها،‮ ‬تم أخذ قرار اضطراري ببناء مدرّج لطائرات الـ ميج‮-‬25‮ ‬علي وجه السرعة‮. ‬كان الطيّارون يستخدمون المعدات الجوية التي تسلمنّاها من الاتحاد السوفييتي في أنجولا،‮ ‬ولم يكن طيّار وأنجولا جاهزين بعد لاستخدامها بشكل صحيح‮. ‬فقدنا العديد من المعدّات الجويّة بسبب إصابات نجمت أحيانًا عن أخطاء قام بها جنودنا العاملون في سلاح المدفعيّة أو علي الأسلحة المضادّة للهجمات الجويّة‮. ‬جنوب افريقيا لا تزال تحتل جزءاً‮ ‬من الطريق الرئيسي الذي يصل بين الهضبة الأنجولية وناميبيا‮. ‬و فوق جسور نهر كونين القويّة،‮ ‬النهر الذي يصل بين جنوب أنغولا و شمال ناميبيا،‮ ‬بدأت في ذلك الوقت مباراة طلقات المدافع والتي ساعدها كونها ذات قُطر‮ ‬140‮ ‬مم أن تغطّي مجالا يقترب من‮ ‬40‮ ‬كم‮. ‬كانت المشكلة الرئيسية أن مقاتلي جنوب أفريقيا العنصريين يمتلكون،‮ ‬وفقا لحساباتنا،‮ ‬ما بين‮ ‬10‮ ‬و‮ ‬12‮ ‬سلاحًا نوويا‮  ‬تم اختبارها حتي في البحار أو في المناطق الجنوبية المجمدة،‮ ‬وصرّح الرئيس رونالد ريغان باستخدامها‮. ‬وسلّمتهم إسرائيل المعدّات اللازمة لتفجير الشحنة النووية‮. ‬وجاء ردنا علي هذا هو تنظيم مجموعات قتاليّة من الجنود لا يزيد عددها عن‮ ‬100‮ ‬شخص تتحرّك ليلا بمصاحبة السيّارات المجهزّة بمدافع مضادّة للطائرات لتوسيع نطاق أرضنا‮.‬

وفقًا لتقارير موثوق بها،‮ ‬فإن الأسلحة النووية التي تمتلكها جنوب أفريقيا لا يمكن تفجيرها عن طريق الطائرات الميراج،‮ ‬كانت تحتاج قاذفات ثقيلة من النوع كان-بيرا‮. ‬ولكن في أي حال،‮ ‬فإن قوات دفاعنا الجوي تشمل أنواعا عديدة متوافرة من الصواريخ التي يمكنها ضرب و تدمير الأهداف المحمولة جوا علي مسافات قد تصل إلي عشرات الكيلومترات‮.  ‬بالإضافة إلي ذلك،‮ ‬قامت مجموعة من المقاتلين الكوبيين والأنجوليين بالسيطرة علي مصدر ماء يقع في الأراضي الأنجولية،‮ ‬وبه‮ ‬80‮ ‬مليون كم‮. ‬كان تفجير هذا الموقع يعادل أثر العديد من الأسلحة النووية‮.‬

ولكن مع ذلك،‮ ‬استطاعت كتيبة من كتائب الجيش جنوب الأفريقي استخدام بعض التيارات المائيّة القويّة لنهر كو-نيني قبل وصولها إلي حدود ناميبيا‮. ‬

عندما بدأ العنصريون إطلاق مدافع الـ‮ ‬140‮ ‬مم في مسرح العمليّات،‮ ‬ضربت الميج ذ‮ ‬23‮ ‬كتائب الجنود البيض بقوّة،‮ ‬وغادر الناجون المكان تاركين وراءهم ملصقات تنتقد حتّي إدارتهم‮. ‬هذه كانت الحالة عندما تقدمت القوات الكوبية والأنغولية نحو خطوط العدو‮ .‬

كنت أعرف أن كاتيوشا بلانكو،‮ ‬مؤلفة العديد من الروايات التاريخية،‮ ‬كانت هناك،‮ ‬جنبًا إلي جنب مع‮  ‬الصحفيين والمصورين‮. ‬كان الوضع متوترا ولكن أحداً‮ ‬لم يفقد أعصابه‮ .‬

ثم جاء الخبر بأن العدو علي استعداد للتفاوض‮. ‬نجحت محاولة وقف المغامرة الإمبريالية و العنصرية في القارة التي سوف يفوق عدد سكانها خلال ثلاثين عاما عدد سكان الصين والهند مجتمعين‮.‬

كان دور كوبا في هذه المفاوضات لا يُنسي،‮ ‬خاصّة بعد فشل أخينا وصديقنا نيلسون مانديلا‮.‬

أهنئ الرفيق راؤول لأدائه الرائع،‮ ‬وأهنئه خصوصًا علي الحزم والكرامة عندما حيّا رئيس حكومة الولايات المتحدّة بلفتة وديّة ولكن قويّة،‮ ‬وقال له بالإنجليزيّة‮: " ‬سيدي الرئيس،‮ ‬أنا كاسترو‮".‬

عندما أعاقت حالتي الصحيّة قدراتي البدنيّة،‮ ‬لم أتردد لحظة في التعبير عن رأيي فيمن يمكنه حمل المسئولية من بعدي‮. ‬إن حياة فرد هي مجرّد دقيقة في تاريخ الشعوب،‮ ‬وأعتقد أن من يستطيع أن يتحمّل المسئ-ولية في هذا الوقت يحتاج إلي الخبرة والقدرة الكافيّة ليواجه عددا لا نهائيا من المتغيرات‮.‬

ستحتفظ‮  ‬الإمبريالية دومًا بعدّة رسائل هدفها إخضاع جزيرتنا،‮ ‬ولكن سيكون عليها أولا أن تبيد سكانها،‮ ‬وتحرمها من الشباب والشابات،‮  ‬وتقدم الفتات من الأصول والموارد الطبيعية التي تنهبها من العالم‮.‬

فلتتناقش الآن أصوات الإمبراطوريّة عن كيف ولماذا ظهر التمييز العنصري‮. ‬

منقول من موقع أخبار الأدب

الأحد، 22 ديسمبر 2013

تاريخ مراقبة كبار الكتاب ملفات سارتر وكامو ‮ ‬في‮ ‬المخابرات الأمريكية

أمىر زكى

يبدو أن مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي‮ "‬الإف بي آي‮" ‬لم يكن مشغولا فقط بالتحقيق في الجرائم الخطيرة التي تحدث في أمريكا،‮ ‬ولا حتي المشاركة في الأعمال المخابراتية التي تهتم بها أجهزة أخري بالولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬أو المشاركة في تصفية الخصوم السياسيين كما اتهمه المفكر الأمريكي نوام تشومسكي أكثر من مرة،‮ ‬بل كان أيضا يسعي وراء مشاهير كتاب الفلسفة والأدب لأسباب مختلفة‮. ‬أثير الأمر مجددا عندما كتب آندي مارتن أستاذ اللغة الفرنسية بجامعة كامبريدج ومؤلف كتاب‮ "‬الملاكم وحارس المرمي‮: ‬سارتر في مواجهة كامو‮" ‬مقالا بمجلة بروسبكت البريطانية في الشهر الماضي يتحدث فيه عن أن مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي‮ (‬FBI) بقيادة مديره الشهير آنذاك إدجار هوفر راقب الفيلسوفين الفرنسيين سارتر‮ ‬وكامو لأسباب عدة منها الخوف من كونهما يروجان للأفكار الشيوعية أو إيذاء البلاد‮.‬

‮ ‬الوثائق التي تظهر من عدة سنوات بشكل قانوني بسبب قانون حرية المعلومات الأمريكي،‮ ‬تؤكد أن كامو وسارتر ليسا الضحيتين الوحيدتين لتتبع الإف بي آي،‮ ‬فإلي جانب الفرنسيين الشهيرين هناك قائمة من الكتاب الأمريكان تعرضوا لهذه المطاردات،‮ ‬منهم الروائي نورمان ميلر والشاعر تشارلز بوكوفسكي‮. ‬مطاردة عملاء الإف بي آي البعيدين عن عالم الكتب والفلسفة للأدباء جعلت هؤلاء المحققين مضطرين إلي أن يلقوا نظرة علي كتب وأفكار هؤلاء الكتاب،‮ ‬مما جعل آندي مارتن يصفهم بأنهم أشبه بشخصيات‮ "‬الشرطيون المتفلسفون‮" ‬وهي شخصيات ابتكرها الكتاب الإنجليزي ج‮. ‬ك شسترتون في روايته‮ "‬الرجل الذي كان الخميس"؛ وهم في روايته كانوا يسعون وراء الفوضويين،‮ ‬وعلي حد تعبير شسترتون في الرواية هم يختلفون عن المحققين العاديين في أنهم لا يسعون وراء اللصوص بل يدورون في الاجتماعات بحثا عن المتشائمين‮.  ‬تعليقا علي الأوراق التي كشفها آندي مارتن يتساءل الصحفي جوستين بيترز عن كمية الوقت والأموال الضائعة التي أهدرها عملاء الإف بي آي بحثا وراء أناس لم يقوموا بإيذاء أحد‮. ‬ونحن هنا نرصد طبيعة بحث عملاء الإف بي آي عن عدد من الكتاب والفلاسفة‮.‬

سارتر

بدأ اهتمام الإف بي آي بسارتر من بداية الستينيات،‮ ‬بسبب عضويته لـ‮ "‬لجنة اللعب النظيف من أجل كوبا‮" ‬التي كانت تؤيد الثورة الكوبية في مواجهة هجوم الولايات المتحدة عليها،‮ ‬هذه اللجنة التي ضمت العديد من الأسماء الفكرية المهمة مثل ترومان كابوتي ونورمان ميلر وآلن جينسبرج،‮ ‬ولكنها ضمت أيضا لي هارفي أوزوولد المعروف باغتياله للرئيس الأمريكي جون كينيدي‮. ‬لذلك يتساءل آندي مارتن في مقاله بمجلة بروسبكت بسخرية إن كان الإف بي آي قد تشكك في أن سارتر هو الرجل الثاني الذي قام بإطلاق النار علي كينيدي،‮ ‬في إشارة إلي النظريات الأحدث التي تقول إن أوزوولد ليس مطلق النار الوحيد المتسبب في اغتيال كينيدي كما انتهت التحقيقات الأولية بل إن هناك مطلق نار آخر‮. ‬في النهاية يشير مارتن إلي أن سارتر كان في الأغلب في باريس وقت اغتيال كينيدي إذ كان يعمل علي مسودة كتابه"الأزمنة الحديثة‮".‬

بالإضافة إلي ذلك كانت تصريحات سارتر مقلقة للإف بي آي بقيادة مديرها الشهير تاريخيا إدجار هوفر،‮ ‬فيصف سارتر الولايات المتحدة بأنها‮ "‬دولة بلا رأس‮". ‬هذا‮ ‬غير صداقات الفيلسوف الفرنسي بالشيوعيين وبكاسترو وبرتراند راسل،‮ ‬وأيضا سارتر أعلن رفضه للتدخل الأمريكي بفيتنام‮. ‬

ووفقا لآندي مارتن في مقاله ببروسبكت اهتم الإف بي آي أيضا بالمفكر الفرنسي آلبير كامو‮. ‬وتعود قصة الاهتمام به إلي عام‮ ‬1946،‮ ‬إذ كتب جون إدجار هوفر مدير الإف بي آي خطابا إلي أحد العملاء بمكتب نيويورك طالبا منه أن يهتم بآلبير‮ "‬كانو‮" (‬أخطأ في هجاء الاسم الصحيح‮) ‬الذي يراسل جريدة‮ "‬كومبات‮" ‬من نيويورك‮": "‬ويرسل تقارير‮ ‬غير صحيحة ومؤذية للمصلحة العامة للبلد‮". ‬طلب هوفر أيضا في خطابه أن يقام‮ "‬تحقيق أولي للتأكد من خلفيات ونشاطات وانتماءات‮ (‬كانو‮)". ‬يذكر مارتن أنه أحد عملاء الإف بي آي واتته الشجاعة ليخبر هوفر أن الاسم الصحيح هو‮ "‬آلبير كامو‮" ‬ولكن ليخفف وطأة تصحيح الخطأ علي مديره أخبره أنه ربما يستخدم اسم‮ "‬كانو‮" ‬المستعار رغبة في التخفي‮.‬

يسخر الصحفي جوستين بيترز في تعليقه علي هذا الخبر في مجلة سليت،‮ ‬خاصة لحاجة رجال الإف بي آي أن يقرأوا رواية مثل‮ "‬الغريب‮" ‬لكامو للوصول إلي كتابة تقرير مناسب عن الكاتب الفرنسي.واجه عملاء الإف بي آي عدة مشكلات في التعامل مع سارتر وكامو منها أنهما يكتبان باللغة الفرنسية،‮ ‬لذلك شكي أحد العملاء في أحد التقارير أنه لا يستطيع قراءة الدفاتر المسروقة من الفيلسوفين بسبب لغتها الفرنسية،‮ ‬وأنه طلب من المترجمين أن يعملوا عليها حتي يتم التحقيق بشكل منضبط‮.‬

يعود مارتن ويري أن أحد الأغراض الأساسية لبحث الإف بي آي‮  ‬كامو وسارتر هو معرفة إن كانت الأفكار الوجودية والعبثية هي مجرد واجهة تخفي وراءها الأفكار الشيوعية،‮ ‬تلك التي كانت تشغل إدجار هوفر بشكل كبير‮. ‬ولكن يبدو أن الفيلسوفين كانا مربكين بالنسبة لعملاء الإف بي آي فقد كتب أحد العملاء في تقرير له أن‮ "‬سارتر يمكن أن يوصف بأنه مؤيد للشيوعية وهو يؤيد الشباب علي عدم الإيمان بالروحانيات،‮ ‬ولكن في الوقت نفسه يصفه البعض الآخر بأنه ضد الشيوعية‮".‬

كذلك يبدو أن كتب ألبير كامو قد أثرت علي أسلوب كتابة التقارير لدي عملاء مكتب التحقيقات،‮ ‬فقد كتب العميل جيمس آندرهيل الذي كان يرصد آلبير كامو ذا الطبيعة المتهربة في تقريره‮: "‬لا يُظهر هذا الملف حكمنا النهائي‮". ‬

هذا يدل ذ كما يقول جوش جونز في موقع‮ "‬أوبن كالتشر‮" ‬ذ إلي أن عملاء الإف بي آي لم يستوعبوا الطبائع المنوعة عند الكاتبين الفرنسيين،‮ ‬لأنهم اعتادوا بشكل أكبر علي لوني الأبيض والأسود وعالم مكون من جواسيس في مواجهة جواسيس‮.‬

نورمان ميلر

الكاتب الأمريكي نورمان ميلر كتب بجريدة‮ "‬اسكواير‮" ‬مقالا‮ ‬انتقد فيه جاكلين كينيدي السيدة الأولي بأمريكا آنذاك معلقا أنها‮ "‬معسولة الكلام جدا بالنسبة لسيدة أولي‮". ‬قرأ إدجار هوفر هذا المقال في الواشنطن بوست عام‮ ‬1962،‮ ‬وكتب لعملائه فورا‮: "‬أحضروا لي مذكرة عن نورمان ميلر‮". ‬كما سرد ذلك مقال بالواشنطن بوست عام‮ ‬2008‭.‬‮ ‬كان علي عملاء الإف بي آي أن يقرأوا كتابات ميلر إلي جانب متابعة تفاصيل حياته‮. ‬أحد العملاء كتب في تقرير له عن رواية ميلر السياسية‮ "‬ميامي وحصار شيكاجو‮" ‬قائلا‮ "‬يحتوي الكتاب علي إشارات إلي المقولات الفارغة من النوع المتوقع من ميلر المتعلق بالإف بي آي ومديره‮". ‬ويضيف في التقرير‮: " (‬الكتاب‮) ‬مكتوب بوقاحة‮ (‬ميلر‮) ‬المعتادة وأسلوبه اللاذع‮". ‬يعلق الصحفي جوستين بيترز علي الجملة الأخيرة قائلا إنها جملة يفخر بها أي عارض للكتب‮. ‬

ميلر كان معروفا برأيه المنتقد اللاذع تجاه الإف بي آي،‮ ‬وقد ذكرت أحد تقارير المكتب أنه قال إن الإف بي آي قام بإيذاء أمريكا أكثر مما فعل الشيوعيون‮.  ‬أحد التقارير التي تعود لعام‮ ‬1962‮ ‬أشارت إلي أن ميلر يعترف أنه يساري،‮ ‬وأنه وصف الإف بي آي علي أنها منظمة بوليس سري‮. ‬وأضيف في التقرير تعليق أحد الصحفيين أن ميلر‮ "‬شيوعي متخفي‮". ‬استمر عملاء الإف بي آي في متابعة ميلر لأكثر من‮ ‬15‮ ‬عاما‮. ‬متعقبين كل تفصيلة صغيرة وكبيرة في حياته‮. ‬تكلموا مع أصدقائه وانتحل أحد العملاء شخصية صديق له حتي يحدث والده،‮ ‬ودخلوا بيته كعمال توصيل طلبات للمنازل‮. ‬ليعودوا ويكتبوا التقارير التي يقدمونها لهوفر‮.‬

ولكن حتي بعد موت إدجار هوفر عام‮ ‬1972‮ ‬ظل ميلر علي قائمة اهتمامات الإف بي آي‮. ‬خاصة عندما علي مكتب

واجه عملاء‮ »‬الإف بي آي«عدة مشكلات في التعامل مع سارتر وكامو منها أنهما يكتبان باللغة الفرنسية،‮ ‬لذلك شكي أحد العملاء في أحد التقارير أنه لا يستطيع قراءة الدفاتر المسروقة من الفيلسوفين بسبب لغتها الفرنسية،‮ ‬وأنه طلب من المترجمين أن يعملوا عليها حتي يتم التحقيق بشكل منضبط‮.‬

التحقيقات أن ميلر ينوي تأليف كتاب عن مارلين مونرو،‮ ‬وسوف يشير إلي أن الإف بي آي أخفي المعلومات الحقيقية وراء موتها‮. ‬والكتاب صدر بالفعل عام‮ ‬1973‭.‬

ويمتد مجموع تقرير الإف بي آي عن نورمان ميلر الذي ظهر في جريدة الواشنطن بوست إلي‮ ‬166‮ ‬ورقة‮.‬

تشارلز بوكوفسكي

بدأ تتبع بوكوفسكي من عام‮ ‬1968‮ ‬بسبب كتابه‮ "‬مذكرات‮ ‬رجل عجوز قذر‮" ‬الذي أثار ريبة مكتب التحقيقات‮. ‬ولكن وفقا لجريدة لوس آنجلوس تايمز فيبدو أن الشاعر العجوز الذي وصف نفسه بالقذر لم يظهر هذه القذارة في تصرفات حياته البادية للإف بي آي،‮ ‬فحسب التقرير الذي يتجاوز المائة ورقة يقول عنه جيرانه إنه رجل هاديء ومن النادر أن يأتيه ضيوف وإنه لم ير أحد امرأة تزوره،‮ ‬هذا الذي جعل الصحفي جوستين بيترز يقول ساخرا إن مثل هذه المعلومات لو كانت نشرت في وقتها لدمرت سمعة تشارلز بوكوفسكي‮.‬

تضم أوراق الإف بي آي التي نشرها موقع بوكوفسكي علي الإنترنت العناوين التي سكن بها والوظائف التي التحق بها،‮ ‬وعدد المرات التي تم القبض عليها فيها بسبب مشاجرات أو بسبب السُكر‮. ‬وتعليقات علي كتابه‮ "‬مذكرات رجل عجوز قذر‮"‬،‮ ‬وتفاصيل علاقاته وزواجه،‮ ‬ربما كان أبرز ما كشفته أوراق الإف بي آي هو التشكك في أن بوكوفسكي كانت له زوجة قبل أول زوجة معروفة له‮.‬

ويليام فيلمان

قد تظن أن تصرفات الإف بي آي هي تصرفات قديمة‮ ‬استمرت من الأربعينيات إلي نهاية الستينيات،‮ ‬أو هي منحصرة في فترة إدارة إدجار هوفر الذي أدار المكتب من عام‮ ‬1935‮ ‬حتي وفاته عام‮ ‬1972؛ تلك الفترة التي كانت حافلة بالأحداث ومتوجسة من أي اتجاه يساري أو شيوعي في أمريكا ولكن يتضح أن الأمر ليس كذلك‮. ‬

ويليام فولمان الروائي المعروف باهتمامه بموضوعات متطرفة في كتبه،‮ ‬هذا الذي جعله يتجول مع المجاهدين الأفغان في بداية الثمانينيات ويغطي حرب البوسنة عام‮ ‬1994،‮ ‬تشكك فيه الإف بي آي باعتباره القائم علي عدة تفجيرات متسلسلة في التسعينيات‮  ‬والذي اشتهر آنذاك باسم‮ ‬Unabomber،‮ ‬وقد تم اكتشاف أن القائم بهذه التفجيرات هو الأكاديمي المختص بالرياضيات تيد كازينسكي‮. ‬فولمان المولع بمشاهد العنف في رواياته والمعارض دوما للحكومة قال في أحد الحوارات تعليقا علي اكتشافه لتتبع الإف بي آي له إنه لا يلقي عليهم اللوم في ذلك ولكنه يجد مشكلة في أنهم بعدما قبضوا علي القائم بالتفجيرات ظلوا يتتبعونه أيضا لمدة عامين‮. ‬كتب الإف بي آي مئات الصفحات عن فولمان الحاصل علي الجائزة الوطنية الأمريكية للكتاب وذكروا في أحد التقارير أن موضوعات كتبه‮ "‬مضادة للتقدم‮"‬،‮ ‬هذا الذي قد يكون سببا رئيسيا لتتبعه طوال هذه السنوات‮. ‬

منقول من موقع أخبار الأدب

الجمعة، 13 ديسمبر 2013

باولو فريري: فيلسوف الحرية في العالم الثالث







المفكر البرازيلي الكبير باولو فريري (1921-1997) تناهز مكانته التربوية مكانة أقرانه من مفكري الغرب ، وإن تميز بأنه اختبر مقولاته النظرية من خلال الممارسة في جدل خلاق تتحاور فيه النظرية بالتطبيق.
مع أن فريري قدم نظرية مهمة في تعليم الكبار تنطلق من قراءة الواقع قراءة نقدية ، واستخدام الكلمات المفتاحية في البيئة في عملية محو الأمية، فإنه يدعو أيضًا إلى اتباع بيداجوجية ثورية في العالم كله، من خلال رؤية إنسانية علمية يعبر عنها في عمل حواري يقوم فيه كل من المعلم والمتعلم معا بتحليل الواقع المهين، والسعي إلى تغييره من أجل تحرير الإنسان. واستفاد من تحليله لمصادر فلسفية عديدة منها تراث لاهوت التحرر بأمريكا اللاتينية، والماركسية، والوجودية، والظاهراتية. فالشخصانية المسيحية أمدته بقوة الفرد، وقدرته على الاختيار، واستخدم الفلسفة الوجودية في تحديد الفرق بين مجرد الوجود والحياة الواقعية، وسعيه إلى تحقيق ماهيته، واستفاد من الفكر الماركسي في كون الإنسان صانع تاريخه وثقافته ومضفيًا المعنى عليه، وطور نظريته عن الوعي مستفيدًا من الفلسفة الظاهراتية.
وانتقد فريري ثقافة الصمت التي تفرز وضعية القهر، ومصدر ثقافة الصمت : الجهل أو التعليم، فالنظام الاجتماعي الفقير الذي يعيش فيه الفلاحون ولد نوعا من التربية القهرية ومصدر ثقافة الصمت الجهل أو التعليم، فالنظام الاجتماعي.
الفقر الذي يعيش فيه الفلاحون ولد نوعًا من التربية القهرية، ومهمة المتعلم، والإنسان عمومًا عند فريري، تحطيم المشكلات والتناقضات التي يحيا فيها والعمل على تغيير واقعه.
ولدى فريري نظرية خاصة بالوعي الإنساني، والمعرفة هي العملية التي يعي الأفراد واقعهم الموضوعي من خلالها، وهو يسعى إلى بناء «الوعي النقدي» من خلال التطور السابق.
كيف تطورت فلسفة فريري من «تربية المقهورين» إلى «تربية الحرية» و«إلى تربية الأمل» في أخريات حياته، مشيدًا نظرية متطورة ، ومتسقة تبدأ بنقد التربية المطبقة في أغلب بلدان العالم الثالث المعتمدة على «ثقافة الصمت» و«تربية القهر» لينتهي بموقف متفائل عكس الكثير من الفلاسفة.
يصف التربوي الأمريكي باتريك كلارك مسيرة فريري ومكانته في جملة دالة : «كان باولو شعلة مضيئة في الظلام : ظلام الحتمية الجبرية الأيديولوجية واليأس المنظم، إنه الضوء الذي لم يكره أحدًا أو ينفي أحدًا ، ولم يكن نقدًا غير عادل بإمكان أحد أن يخرسه».
إن فريري بالتأكيد أحد المنظرين الكبار للتربية النقدية، التي ربما تنطلق من مقولة الروائي والمربي الروسي الكبير تولستوي: «إن الحرية شرط كل تعليم حقيقي»، سواء أكان التحرير يخص المتعلم أو المعلم أو المجتمع بأكمله ، ولذا كانت وصية فريري الأخيرة تجمع بين الحرية والأمل. فما مغزى ذلك ؟
ولد فريري ونشأ في مدينة رسيفي شمال شرق البرازيل، وحصل على الدكتوراه سنة 1959 في تعليم الكبار، وعين منسقًا لمشروع محو أمية الكبار في المدينة نفسها، ونجح مشروعه نجاحًا كبيرًا، ولكن قبض عليه بعد قيام الانقلاب العسكري في مدينة البرازيل سنة 1964، فقد استشعروا خطر طريقته المفجرة للوعي أثناء محو أمية الكبار، ونفي خارج البرازيل بعد سجنه.
استقر فريري ببوليفيا بعد نفيه، وعمل مستشارًا لدى وزارة التربية ، ولكن انقلابا عسكريا جديداً دفعه إلى الفرار إلى شيلي، والتي أقام فيها قرابة خمس سنوات، وعمل في المكتب الخاص لتعليم الكبار ، وأستاذًا بالجامعة الكاثوليكية ومستشارًا خاصًا لدى مكتب اليونسكو الإقليمي بسنتياجو، وهناك قام بتحليل موضوعي: «الغزو الثقافي» الذي يتخفى مع التقنية الأمريكية المستوردة ، وموضوع «الإرشاد في الوسط الريفي». وأكد على مفهوم الاتصال المرتبط بالثقافة، وأن سبل التعلم ألا تتعارض المعرفة الجديدة مع الواقع المعيش، وشجع الحوار بين الفلاح والعالم الزراعي. سافر فريري إلى الولايات المتحدة عام 1967 ليلقي عدة محاضرات ، ثم تلقى عرضًا من المجلس المسكوني للكنائس بجنيف للعمل مستشارًا به، حيث أسس معهد العمل الثقافي، وفي عام 1975 تلقى دعوة من وزير التربية بغينيا بيساو للمساعدة في حملة قومية لمحو الأمية، فوجدها فرصة لتطبيق أفكاره ، كما عمل أيضًا في ساو تومي برنسيبي موزمبيق وأنجولا ونيكارجوا، ثم عاد إلى البرازيل نهائيًا في مارس 1980.
تعليم المقهورين
يرى فريري أن التعليم المصرفي (البنكى)، الذي يتحول الطلاب فيه إلى مصارف يقوم فيه الأساتذة بإيداع معارفهم، هو انعكاس لمجتمع القهر، وهو من شأنه تقليل الإبداعية عند الطلاب - أو إلغاؤها تمامًا، من أجل خدمة أغراض القاهرين، ولا يطرح هذا النوع من التعليم حقائق العلم من وجهة نظر نقدية، بل يكيف المتعلمين مع واقعهم ويزيد من سلبيتهم.
لكن ما البديل للتعليم التلقيني، تعليم القهر، اللاحواري عنده، يجيب أن الحوار الناقد هو مفتاح التغيير ، ذلك الحوار الذي يؤمن بإيجابية المتعلمين وإنسانيتهم ، بحيث يدخلون في علاقة حوار دائم مع المقهورين، وتتكفل هذه العملية بتخليص المتعلمين من الأوهام والأساطير التي صورها وصاغها النظام القديم. وظيفة التربية إذن هي تنمية النقد والحوار، وتدريب الوعي الناقد، لأنه يسلم بأن عقل الإنسان قادر على كشف الحقيقة. وانتقد فريري «ثقافة الصمت» الشائعة في بلدان العالم الثالث، في شكلين للتربية: تربية القهر، وتربية الحرية، وتطور هدف التربية عنده من التحرر الثقافي للإنسان إلى الإسهام في تغيير البنية تغييرًا جذريًا.
فريري هو صاحب المقولة الشهيرة: «التعليم لا يكون محايدًا. إما أن يكون تعليما للحرية أو تعليما للاستعباد». كاشفًا عن الوظيفة التحريرية والنقدية لكل تعليم، وهادمًا لكل صيغ تزييف الوعي التي يقوم بها التعليم لصالح الشرائح والقوى المستبدة وبعد أن كانت المكتبة التربوية العربية مفتونة بأفكار الفيلسوف البرجماتي الأمريكي جون ديوي بفلسفته التقدمية، والتي نجحت في تحويل المجتمع الأمريكي وتبنيه للفلسفة البرجماتية عبر التربية، ومكملاً لجهود وليم جيمس وتشارلز بيرس في التنظير للفلسفة البرجماتية الذرائعية أو الوسائلية ، فلسفة القيمة الفورية Cash Value، وسلامة الفكرة من حيث قابليتها للتطبيق وليس معيار الخير أو الشر، فقد تحول الاهتمام النقدي بين التربويين العرب على فلسفة فريري ونظريته في تعليم الكبار.
تربية الحرية
في كتابه قبل الأخير: الأخلاق والديمقراطية والشجاعة المدنية تعتبر مكونا من مكونات (تربية الحرية)، وحيث يتحدث باولو فريري عن نفسه كمعلم رافضًا كل توجه نحو امتلاك الحقيقة المطلقة، وحيث يتوجه إلى المعلم بصورة مباشرة لينقل إليه تجربته وقناعاته الفكرية بعد هذه الخبرة الخصبة. السؤال الأساسي الذي يجيب عنه الكتاب: ما الذي يجعل المعلم معلمًا؟
يصهر فريري مكونات (تربية الحرية) وشروطها في الممارسة البداجوجية من أخلاقيات، والمكون الديمقراطي ، ومقاومة الشجاعة المدنية في مواصفاتها من أجل صياغة مجتمع جديد تستند إلى رؤية تقدمية تؤمن بأن الإنسان صانع تاريخه.
يقول فريري: «إن القيام بالممارسة التربوية بشكل عاطفي بهيج لا يقف دون تقديم التربية العلمية الجادة، أو دون تشكيل وعي سياسي واضح لدى المعلم. وحيث تشمل الممارسة التربوية كل ما تتضمنه من محبة، وبهجة، وجوية علمية ، وممارسة عملية في خدمة التغيير، وأيضا - خدمة الخط - خدمة الحفاظ على الوضع القائم».
ومن المفيد أن يتضمن الكتاب ترجمتين لاثنين من أصدقاء فريري هما دونالدو ماسيدو، وستانلي أرونويتز. ويلاحظ الأخير أن فريري يرفض فكرة اعتبار المعلم ناقلا للمعرفة التي تم تلقيها (التربية التقليدية)، أو أن المعلم «ميسِّر» لحكمة الحس المشترك، ووسيط في العملية التعليمية، بل يرى أن المعلم ينخرط في إنتاج المعرفة - قبل الطالب - انخراطًا مستمرًا، غير أن خلق معرفة جديدة، يدخل المعلم والطالب في موقف التعليم ولديهما معرفة سابقة، وإن كانت من مصادر مختلفة (خبرة الحياة - خبرات سابقة) ، اللحظة المهمة في موقف التعلم هي تلك اللحظة التي يقوّم الطالب معرفته نقديًا، ويوظفها في عملية إنتاج المعرفة بالتأمل.
نظريته في تعليم الكبار
ربما كانت نظرية وطريقة باولو فريري حول تعليم الكبار ومحو أميتهم، من أكثر النظريات انتشارًا في العالم الثالث لأنها تجمع بين النظرية والممارسة، وقد شرحها بالتفصيل في كتابه «التربية من أجل إثارة الوعي النقدي» 1973، وهو كتاب بدأ في تأليفه في السجن وأكمله في المنفى، وتتضمن هذه الطريقة الخطوات التالية:
- دراسة البيئة.
- اختيار الكلمات التوليدية ذات المحتوى الانفعالي للأمي.
- العملية الفعلية لمحو الأمية، وتتضمن جلسات لإثارة الدافعية، ثم وضع المواد التعليمية ، وفك الرموز الشفرية ، ويعقب هذه المرحلة مرحلة مكملة لمتابعة المتحررين من الأمية حتى لا يرتدوا إلى الأمية.
فريري في الثقافة العربية
كيف تعرف العرب على فكر باولو فريري ؟
وما مدى حضوره في الدرس التربوي بين مفكرينا وطلابنا العرب ؟
هل لامست أفكار فريري عن «تربية المقهورين» و«ثقافة الصمت» و «التعليم البنكي» و«الوعي» و«الثورة» و«التربية الحوارية» و«تسمية العالم» عصبًا حارًا في جهازنا النفسي الذي وجد في أفكاره تعبيرًا عن أوضاعنا وآهاتنا وأشواقنا؟
لعل الباحث السوداني يوسف نور عوض هو أول من لفت الأنظار إلى فلسفة باولو فريري عندما ترجم كتابه المتقدم «تعليم المقهورين» إلى العربية (دار القلم، بيروت 1980) وقدم له.
إلا أن المفكر التربوي المصري د.محمد نبيل نوفل هو صاحب البصمة الواضحة في «تعريب» باولو فريري ووضع فلسفته في دائرة الفكر التربوي العربي بقوة عندما خصص أحد فصول كتابه الرابع «دراسات في الفكر التربوي المعاصر» (مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1985) ليؤسس له مكانة راسخة في الوعي التربوي المصري والعربي. ولعل خطورة هذا الكتاب أنه خرج عن أبجدية الفكر التربوي الغربي التقليدي (الفلسفة المثالية، والفلسفة الواقعية، والفلسفة البراجماتية، والفلسفة التحليلية.. إلخ) لافتًا الأنظار من موقع الأستاذية إلى مفكرين تربويين لا نعرفهم حقيقة في الخبرة التربوية العربية من أمثال: ماوتسي تونج، وإيفان إليتش، وباولو فريري بالطبع، ويعد نبيل نوفل من أهم أصوات التربية الراديكالية المنفتحة على النظريات والأفكار النقدية في الغرب، وتتمثل رحابة مشروعه في الانفتاح على النظرية التربوية الماركسية من خلال ماوتسي تونج، والنقدية الرأسمالية الإطار من خلال إليتش، والفكر النقدي التربوي في العالم الثالث من خلال المفكر البرازيلي باولو فريري، لكن نوفل لم يستكمل مشروعه الفلسفي النقدي ليتابع مؤلفات باولو فريري نفسه المتأخرة فيما بعد.
كما لم يلتفت إلى تراث مدرسة فرانكفورت، وإسهامات جرامشي والماركسيين الجدد، وإسهامات بييربورديو في المدرسة السوسولوجية الفرنسية البالغة الأهمية، وخاصة نظرياته حول العنف الرمزي، والرأسمال الثقافي، ومعاودة الإنتاج، كما لم ينفتح على إسهامات مدرسة علم اجتماع المعرفة وخاصة مع مايكل يونج وآبيل، وكذلك الإسهامات النقدية الأمريكية مع كارنوي وبولز وجينتس، ومع ذلك يبقى نبيل نوفل الرائد الحقيقي للفكر النقدي التربوي في مصر وعالمنا العربي في الجيل التالي لجيل حامد عمار. وتلقف كرة باولو فريري أعضاء التيار النقدي التربوي فدخلت نظرية فريري في بحوث وكتب حسن البيلاوي، وعبد السميع سيد أحمد، وضياء الدين زاهر، وكمال نجيب، وشبل بدران، وعصام الدين هلال، ومحمود أبو زيد، وعبد الفتاح تركي، وطلعت عبد الحميد، وعبدالراضي إبراهيم.. وغيرهم، وبدأت الأطروحات الجامعية تلتفت إلى تراث فريري فسجلت أطروحة ماجستير بقسم أصول التربية بتربية عين شمس تحت إشراف شيخ التربويين حامد عمار - على سبيل المثال لا الحصر - وانتشرت تدريجيًا فلسفة فريري، وخاصة نظريته في محو الأمية المعتمدة على بناء الوعي النقدي والكلمات التوليدية في المجتمع المحلي، حيث تبنتها العديد من الجمعيات الأهلية العربية المعنية بمحو الأمية، خاصة كاريتاس في مصر، والتي استلهمت نظرية فريري في منهجها التعليمي (أتعلم أتحرر) في مقابل المنهج الرسمي (أتعلم أتنور) الذي تتبناه الهيئة العامة لمحو الأمية (تعليم الكبار، وهي المؤسسة الرسمية المعنية بمحو الأمية في مصر)، وفي الجزائر حاولت الباحثة المصرية نوله درويش نقل طريقة فريري في تعليم الكبار إلى أرض الواقع.
وترجم في مصر والمغرب على التوالي كتاب فريري «الفعل الثقافي في سبيل الحرية» Cultural Action for Freedom عن مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان، بترجمة لإبراهيم الكرادي (القاهرة 1995)، وترجم الكتاب نفسه لاحقًا في المغرب عن دار توبقال ، كما ترجم في العام نفسه عن المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر بليبيا، بل انتبهت الحياة الثقافية إلى فلسفة فريري فخصصت دورية «أدب ونقد» الصادرة من حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي محورًا عن فريري (أكتوبر 1977)، شارك فيه كل من القاصة والمترجمة سمية رمضان، وغادة الحلواني، وخصصت مجلة «جسور» الصادرة عن مركز المستقبل لجيل السبعينيات ملفا في عددها الثاني - سبتمبر 1999، شارك فيه كل من حسن بيومي وشعبان مكاوي وفاطمة الديساوي إلى جانب ترجمة مقابلة مع فريري أجراها مواري كوكس، ومع الأسف توقفت المجلة السابقة بعد ثلاثة أعداد. ومنذ وفاة فريري (2 / 5 / 1997) دأبت اللجنة المسكونية بمصر على إقامة احتفال يجمع بين الندوة الأكاديمية والاحتفال الشعبي، وبالتأكيد هناك جهود عربية أخرى، لاسيما في المغرب العربي لم تصل إلى علمنا.
وفي مجال الفكر التربوي المصري فقد عرضت فلسفة فريري باستفاضة في العديد من مؤلفات المفكرين التربويين من أمثال سعيد إسماعيل علي (فلسفات تربوية معاصرة - سلسلة عالم المعرفة بالكويت 1995)، وكمال نجيب (الوعي من الخارج لباولو فريري) في مجلة «التربية المعاصرة» الصادرة عن رابطة التربية الحديثة (ع50/ ديسمبر 1998)، ومحسن خضر «مجلة الهلال» الصادرة عن دار الهلال «مارس 1993» وحامد عمار «باولو فريري فيلسوف الأمل التربوي في تحرير الإنسان» «مجلة الهلال» على عددين (فبراير ومارس 1996) وغيرهم الكثير.
وقد خصص الدكتور عبد الراضي إبراهيم (رحمه الله) دراسة كاملة عن «نظرية باولو فريري في تعليم وتنمية الكبار» نشرها بمجلة دراسات تربوية الصادرة عن رابطة التربية الحديثة (1995) وربما تكون أشمل دراسة لنظرية فريري بعد دراسة محمد نبيل نوفل، وترجم حامد عمار، وأحمد عطية آخر كتابين لفريري أحدهما «تربية الأمل «والآخر» المعلمون «بناء ثقافة» عن الدار المصرية اللبنانية في سلسلة «آفاق تربوية متجددة»، كما انتهى حامد عمار من ترجمة مؤلف ثالث لفريري عن الإنجليزية لم يترجم من قبل، كما خصص المؤتمر الثاني لمركز تعليم الكبار بجامعة عين شمس جلسة كاملة بمؤتمره لعرض فلسفة باولو فريري من زوايا متعددة شارك فيها حامد عمار، وعصام هلال, ، وعبد الفتاح ترك، ومحسن خضر، ولمياء أحمد. اقتحم فكر فريري الفكر التربوي العربي المستقطب بين فلسفة التربية الغربية الوضعية بمضمونها البرجوازي ، والتربية الماركسية - الآفلة أخيرًا - وربما كان من مصادر الجاذبية في فلسفته، تشابه الظروف، حيث لا تختلف ظروف البرازيل كثيراً عن ظروف المجتمع العربي في الهموم والتطلعات، وربما كان مصدر الجاذبية الأهم أن نظرية فريري مزجت التنظير بالممارسة، والفكر بالواقع، حيث دخلا في جدل خلاق غذاها بالتقويم والمراجعة المستمرة ، كما أن الطابع التحريري لفلسفة فريري: تحرير الإنسان وتحرير المجتمع في مواجهة كل عوامل الاستلاب المحلي والغربي زادت من هذه الجاذبية لدى التربويين العرب.
ومن الطريف أن الثوري الشهير شي جيفارا رفض أن يتبنى أسلوب باولو فريري في تربية المقهورين، والمعروف بالأسلوب الحواري ومفاده «لا تثق حتى بظلك، لا تثق مطلقًا في الفلاحين الودودين أو المرشدين أو رجال الاتصال، لا تثق في أي شخص قبل أن يتم تحرير المنطقة بأسرها».

كبريائي فوق النجومِ ولولاها
لما كنتُ بالنجوم خليقا
جلّ شعري أقيه الرّوح من كلّ
هوانٍ, والشعر كالعِرضِ يُوقَى
ما شكوتُ العدو كبرًا ولكنّي
شكوت المبرّأ الموثوقا

منقول من مجلة العربي العلمي

   
  


الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

ماديبا..برقيّات عربيّة

 


مهما كتبنا فلن نحصر نيلسون مانديلا في نصّ أو ملفّ واحد. شيخ مناضلي التمييز العرقي، ورمز المقاومة السلميّة في العالم الثالث، ترسخ في الأذهان كأيقونة بارزة يصعب تجاوزها. اليوم، تمرّ عشرون سنة على تسلُّمه جائزة نوبل للسلام (مناصفة مع فريديريك دي كليرك) نظير مساهمته في القضاء على سياسة الآبارتيد، ومراهنته الدائمة على الخيار السلمي، والمنهج الأخلاقي في مواجهة الاستبداد. هي مناسبة للعودة إلى أرشيف الرجل، الخوض في ذكرياته الحميمة، إعادة اكتشاف أهمّ الأمكنة والمحطّات التي كرَّست اسمه عالمياً، والأشخاص الذين أحاطوا به. والأهم من ذلك إعادة قراءة تجربة «ماديبا» عربياً، واستقراء نفوذه ماضياً وحاضراً بين الأجيال المتعاقبة، ومدى حضوره بين الكتّاب والمثقَّفين في الداخل وفي الخارج.
 
تاريخ يدور حول نفسه

سارة تيسيير

ترجمة: عبد الله كرمون


جان غيلوانو هو كاتب سيرة نيلسون مانديلا. كما أنه ترجم أيضاً مذكِّراته، «مشوار طويل نحو الحرية». يتذكَّر الكاتب هنا بتأثُّر بالغ يوم الحادي عشر من فبراير/شباط سنة 1990، ولكنه يعرِّج كذلك على الصراعات الداخلية التي عرفها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وعلى قوة نيلسون مانديلا الذي أنقذ جنوب إفريقيا من الحرب الأهلية.


§ كان ذلك يوم الحادي عشر فبراير/شباط 1990، حينما غادر مانديلا السجن. ماذا تتذكر من تلك اللحظة؟


- كان ذلك يوم أحد، وقد تمَّ الإعلان عن إطلاق سراحه. كنت جالساً أمام التلفاز، لست أدري منذ متى، وشاهدنا مانديلا يظهر من بين الجموع شاهراً قبضته، وزوجته ويني آخذة بذراعه.

كنت قد سافرت إلى جنوب إفريقيا قبل شهر، وكان أن مررت أمام سجن فيكتور فيرسير، الذي كان محاصراً تقريباً، لأن مانديلا كان على وشك الإفراج عنه. كانت هنالك سيارات شرطة، الجيش، وتم استنفار قوّات هائلة. ثم نراه يخرج بعد شهر من هناك. لم يعد ثمة رجال شرطة، بل جموع من الناس تحيط به.

أتذكَّر قبضته المرفوعة. يُعتَبَر ذلك، وبشكل نوعي، التاريخ في تحقُّقه، مثلما نستطيع أن نرى ذلك في لوحات دولاكروا أو في لوحات رمزية تشير إلى وضع تاريخي. يتعلَّق الأمر هنا برمز حيّ، خاصة، وأن ذلك يحدث، على كل حال، بعد سبعة وعشرين سنة من السجن. لقد بكيت أمام شاشة تلفازي. إنها لحظة لا تنسى، لأن ذلك لم يكن ممكناً تصوُّره قبل سنة!


§ طُلب منك قبل سنتين من ذلك، أي في 1988، أن تكتب سيرةً لمانديلا، وكنتَ قد قلت في نفسك، مازال لديّ متَّسع من الوقت. فهو ما يزال في السجن ربّما لزمن.


- كان الجميع يعتقد بذلك، لأن بوثا (بيتر وليام بوثا رئيس جمهورية جنوب إفريقيا ما بين 1984 - 1989. المترجم) كان قد أعلن في سنة 1985، حالة طوارئ. وكان الوضع حينئذ عنيفاً جداً في جنوب إفريقيا. وحين اقتُرِح علي ذلك، قلت في نفسي: «آه، ستكون المهمّة عسيرة!» لأنني لم أكن أعرف جيداً مسار مانديلا، وكذا تاريخ حزب المؤتمر الإفريقي. لذلك قلت في نفسي: سيكون لزاماً علي أن أبحث حيث يمكنني أن أجد ضالّتي، أي في الكتب، لأنه في تلك الفترة كان ما يزال مسجوناً، ولم يكن وارداً البتة أن ألتقي به. انهمكت في العمل إذن، في تريُّث (يضحك). وعندما نحى الحزب الوطني بيتر بوثا سنة 1989، وعُوِّض بدوكليرك، حينها فهمت بأن ثمة أموراً تجري في الخفاء. ولكنني لم أستوعب وقتئذ بأن ذلك سوف يحدث بتلك السرعة.


§ قد تغير السياق؟


- سنة 1989 سنة مهمّة. إنها سنة انهيار جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، وقد علمنا، فيما بعد، بأنه منذ سنة 1983، كان الأميركيون قد أشاروا إلى حكومة جنوب إفريقيا بأن عليها أن تعثر على محاور كي تجد مخرجاً لتلك الأزمة. سنة 1983 هي أيضاً غورباتشوف، البروسترويكا، والغلاسنوست (الشفافية). نفهم بالتالي، شيئاً فشيئاً، بأن تحوُّلات كبيرة سوف تحدث في العالم.

في سنة 1983 ستتمّ زيارة مانديلا في سجنه، وسوف يُحَوَّل من سجنه أيضاً، بل سيتمّ إنزاله بعد ذلك مباشرة في بيت مدير سجن فيكتور فيرستر على مقربة من بارل. سيستقبل هناك مبعوثي الحكومة، على المستوى الوزاري، بمَن فيهم وزير العدل. بل سوف يعمدون منذ سنتَيْ 1985 و1986 إلى أن يطوفوا بمانديلا شوارع كاب على متن سيارة، رفقة وزير، كي يلحظ مانديلا بأن العالم قد تغيَّر منذ ثلاثين سنة. لم يتعرَّف به أحد، لأنه لم تنشر له أية صورة منذ سنة 1966.


§ كانوا منعوا كل صورة له!


-تعود الصورتان الأخيرتان له إلى سنة 1966. يظهر فيهما مع ولتر سيسيلي في باحة السجن. مُنِع بعد ذلك نشر حتى الصور التي أُخذت له من قبل، والتي يوجد منها الكثير. كان مانديلا مشهوراً، بطبيعة الحال من قبل، فقد ترأَّس في السابق حزب المؤتمر الوطني الإفريقي لجهة الترنسفال التي هي الولاية الكبرى للشمال، الولاية الصناعية، باحتوائها على مناجم الذهب. مُنِع نشر كل ما له علاقة به. وظنّت حكومة الأبارتايد (التمييز العنصري) بأنها بتلك الطريقة سوف تتمكَّن من محوه من الأذهان.

لكن السلطات أخطأت، لأنها بعدما عمدت إلى تغييب وجهه قد صنعت منه أسطورة. وكان أن صار مانديلا علماً «ماديبا» (اسم عشيرته. المترجم). عندما كان الشبان يهتفون بمانديلا كانوا يهتفون بالحرية. ولما غادر مانديلا السجن صارت الأسطورة حقيقة. كان اطّلاعه باهراً على الناس. فلم يكن أحد يدرك شيئاً عن مرآه. وتمّ اكتشاف وجهه بغتة في الحادي عشر من فبراير/شباط سنة 1990، بخصلة شعره البيضاء أعلى جبهته. كان ذلك مؤثِّراً حقّاً.

شيء آخر أثار أيضاً استغرابي كثيراً. توجَّه مانديلا إلى كاب حيث ألقى خطاباً أمام الجموع، وأعاد ترديد الجملة الأخيرة التي نطق بها في أثناء محاكمته سنة 1964، وكأن سنوات السجن السبع والعشرين ونصف كانت فقط مُجَرَّد وقت جامد، وأن التاريخ قد استأنف مجراه من حيث توقَّف في يونيو سنة 1964. وكانت جملته كالآتي:

«لقد ناضلت طيلة حياتي ضد استبداد البيض بالسود، وضد استبداد السود بالبيض». أبدى له الناس، في ذلك الحين، استياء؛ لأنهم كانوا جميعهم في صف المنتقمين. وواصل مانديلا «وذلك مبدأ قد كرَّست حياتي له، ومستعدّ لأن أموت من أجله»، وهو تصريح أنهى به تدخُّله سنة 1964. وتوقَّع الناس أن يتمّ شنقه في الصباح التالي. استعاد خطابه من جديد، بعد مرور سبع وعشرين سنة، واعياً بالمهمّة التي تنتظره. إذ كان يدرك جيداً لماذا خرج من السجن.

إنه شخصية فذة. فقليل من الرجال كانوا أهلاً، مثله، بالمهام التاريخية المنوطة بهم إلى ذلك الحدّ.

إن إعادة قراءة المقالات الصحافية لتلك الفترة، تجعلنا نقف على وجود مخاوف أيضاً، لأننا لم نكن ندرك كيف كانت ستتطوَّر أوضاع البلد.

- توجد هناك قوى مكافحة. لكن الوضع لم يكن مثالياً. علينا أن ندرك بأن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي كان واقعاً تحت تأثير الكوسا: مانديلا، سيسيلي، غوفان وامبكي. يتطلَّع الزولو، هم أيضاً وحركتهم الإنخاتا، إلى بسط نفوذهم. ثم هناك فئة من الأفريكانيين المنتمين إلى اليمين المتطرِّف، والمؤيِّدين للتمييز العنصري. البعض لا يرغب في تغيير الأوضاع، والبعض الآخر يرغب في المشاركة في الحكم. وشهد البلد، ما بين سنتَيْ 1990 و1994 موجات عنف رهيبة. فارتكب بيض مقنَّعون في هيئة سود هجمات إرهابية كي يتمّ الاعتقاد بأن ذلك كان من فعل حركة إنخاتا الزولو ضد كوسا حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. وقامت الإنخاتا هي أيضاً بمناوراتها. وهناك طرف من المؤتمر الوطني الإفريقي يرفض المحادثات. أما مانديلا فكان في الوسط. لم يتحقَّق أي شيء ملموس، ولكنه سيظل صامداً.

يعود الفضل إلى مانديلا في إنقاذ جنوب إفريقيا من الحرب الأهلية؛ إذ تمكَّن من لفّ الشعب الجنوب إفريقي، لتشييد جنوب إفريقيا جديدة حول ديموقراطية ترتكز على «لكل رجل صوته»، على مجلس تمثيلي، وعلى عدالة. لقد تَمَّ، على أي، إرساء نظام دستوري، قانوني، والذي انفتح، على حين غرة للجميع في الوقت الذي كان فيه السود مقصيين عنه في السابق، مثلما كانوا مقصيين من الحقل السياسي. غير أن الحقل الاقتصادي ظلّ هو مُعَلَّقاً دون حلّ.
 
 
البديل الوحيد

إدوارد سعيد

ترجمة: فخري صالح


زرت جنوب إفريقيا، لأوّل مرّة، في أيار من عام 1991. وقد كانت مرحلة مظلمة رطبةً شتائيّة ما زال نظام الفصل العنصريّ يحكمها، رغم أنه كان قد أُطلِق سراح نيلسون مانديلا وأعضاء المؤتمر الوطني الإفريقي.

وعدت إليها بعد عشر سنوات، في الصيف هذه المرّة، وقد أصبحت دولةً ديموقراطية، بعد هزيمة نظام الفصل العنصري، يحكمها المؤتمر الوطني الإفريقي، ويجاهد فيها مجتمع مدنيّ قويّ نشطٌ ومفعمٌ بالحيويّة وروحِ التنافس لاستكمال مهمّة تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية لهذا البلد الذي ما زال منقسماً، ويعاني من الأزمات الاقتصادية. لكنّ الصراع من أجل التحرير، الذي أنهى نظامَ الفصل العنصري، وأرسى دعائم أول حكومة ديموقراطية منتخبة في 27 نيسان/إبريل 1994، يظلّ من أعظم ما حقَّقه البشر في تاريخهم المكتوب. فرغم المشكلات التي تعاني منها جنوب إفريقيا، فإنها تبقى مكاناً ملهِماً تنبغي زيارته والتفكير بتجربته، لأنه، وعلى نحوٍ جزئيّ، قادرٌ على تعليم العرب الكثير من الأشياء عن الصراع، والأصالة، والمثابرة.

جئت إلى هنا، هذه المرّة، مشاركاً في مؤتمر عن القيم في التعليم نظّمته وزارة التعليم. فقادر أسمال QADER ASMAL، وزير التعليم، صديقٌ قديم يدعو إلى الإعجاب التقيته قبل سنوات عديدة عندما كان يعيش في منفاه الإيرلندي.... لكنه، وبوصفه عضواً في مجلس الوزراء، وشخصيةً فاعلة في المؤتمر الوطني الإفريقي منذ وقت طويل، ومحامياً وأكاديميّاً ناجحاً، استطاع أن يقنع نيلسون مانديلا (وهو الآن في الثالثة والثمانين من العمر، متعبٌ صحيّاً، كما أنه تقاعد من العمل العامّ) أن يلقي كلمة يخاطب فيها المؤتمر في ليلته الأولى. ما قاله نيلسون مانديلا وقتها أثّر فيّ عميقاً، بسبب مكانته الرفيعة العظيمة والجاذبيّة اللافتة والكاريزما التي يتمتَّع بها، وكذلك بسبب الكلمات التي اختارها بعناية وحذق. فمانديلا، الذي كان محامياً مارس المهنة في السابق، شخصٌ بليغٌ يمتلك الكثير من الفصاحة، وهو- رغم آلاف المناسبات والكلمات التي ألقاها- يبدو على الدوام قادراً على قول كلام مؤثّر ولافت.

هذه المرّة، أثارت اهتمامي عبارتان قالهما مانديلا عن الماضي في حديثٍ رائقٍ عن التعليم، حديثٍ لفت الانتباه، دون مجاملة، إلى الوضع البائس لأغلبيّة سكان البلد الذين «يوهن عزائمهم الفقر الماديّ والحرمان الاجتماعي». ولهذا السبب رغب مانديلا في تذكير الجمهور بأن «كفاحنا لم ينته بعد»، رغم أن (وهذه هي العبارة الأولى التي أثارت اهتمامي) الحملة ضد نظام الفصل العنصري «كانت واحدةً من أعظم فصول الصراع الأخلاقيّة التي أسرت الخيال الإنساني». أمّا العبارة الثانية فقد تضمّنها وصفه للحملة المناهضة للفصل العنصري، لا لكونها ببساطة مجرّد حركة لإنهاء التمييز العرقي، بل بوصفها طريقاً «لنا جميعاً لكي نؤكّد وحدتنا الإنسانيّة المشتركة». ما عنته عبارة «لنا جميعاً» هو أن جميع الأعراق في جنوب إفريقيا، بمن فيها الأشخاص البيض الذين يؤيِّدون الفصل العنصري، كانت مدعوّة للمشاركة في صراع هدفه الأخير هو التعايش، والتسامح وقبول الآخر، و»تحقيق القيم الإنسانيّة».

لقد صدمتني العبارة الأولى على نحوٍ قاسٍ، فسألت نفسي: لِمَ لَمْ يستطع كفاح الفلسطينيين أسر خيال العالم (بعدُ)؟ ولِمَ لم يبدُ هذا الكفاح (وهو ما يبدو أكثر تعبيراً عن الوضع) صراعاً أخلاقيّاً عظيماً؟ ولَمْ «لم يتلقَّ بالفعل دعماً عالميّاً من قبل جميع الأحزاب والتيارات السياسية؟» بالمقارنة مع ما قاله نيلسون مانديلا عن التجربة الجنوب إفريقية.

صحيحٌ أننا تلقّينا الكثير من التأييد العامّ، كما أن كفاحنا يكتسب مصداقية أخلاقيّة بمقاييس لا تُحَدّ. لكن، لنعترف أن الصراع بين الصهيونيّة والشعب الفلسطيني ذو طبيعة أكثر تركيباً وتعقيداً من كونه معركةً ضد الفصل العنصري، حتى ولو قلنا إن كلا الشعبين دفع أحدهما ثمناً غالياً فيما لا يزال الشعب الآخر يدفع ثمناً باهظاً من السلب، والتطهير العرقيّ، والاحتلال العسكري، والظلم الاجتماعي الشامل الذي لا حَدّ له. فاليهود شعبٌ يمتلك تاريخاً مأساويّاً من الاضطهاد والإبادة الجماعية. إنهم أسرى إيمانهم العتيق الذي يربطهم بأرض فلسطين، وقد استقبل معظم الناس في العالم وعدَ الاحتلال الإمبريالي البريطاني لهم

بـ «العودة» إلى أرض الوطن (وخصوصاً من قبل الغرب المسيحيّ الذي يتحمّل مسؤولية ممارسة أكبر الفظائع اللاساميّة) بوصفه تعويضاً بطولياً مُبَرّراً عمّا عانوه. ومع ذلك، وبمرور السنوات، فإن عدداً قليلاً من الناس في العالم هم الذين لفت انتباهَهم احتلالُ فلسطين من قبل القوات اليهودية، أو هم العربُ الذين ما زالوا يدفعون ثمناً باهظاً من دمار مجتمعاتهم، وتهجير غالبيّتهم، ومن النظام القضائي البشع وهو يمثّل نظامَ فصل عنصري شديد الوضوح يُمارَس ضدّهم داخل إسرائيل وفي الأراضي المحتلة. لقد كان الفلسطينيون الضحيّة الصامتة للظلم وغياب العدالة الجسيمين، العدالة التي جرى تغييبها بسرعة عن الأنظار من قبل جوقة منتصرة مثّلتها إسرائيل خيرَ تمثيل.

بعد ظهور حركة التحرُّر الفلسطيني في نهاية الستينيّات، ناصرت شعوبُ آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، التي كانت مستعمَرةً سابقاً، الكفاحَ الفلسطيني، لكن التوازن الاستراتيجي كان دائماً، وعلى نحوٍ صاعق، لصالح إسرائيل؛ لقد دعمتها الولايات المتحدة دون شروط (بخمسة مليارات من الدولارات سنوياً)، كما أنها تلقّت كلّ الدعم في الغرب من قِبَل وسائل الإعلام، والنخب الثقافية المتحرِّرة، وكانت معظم الحكومات الغربية إلى جانبها. لأسباب معروفةٍ تماماً لا نريد الخوض فيها هنا، كانت الأوساط الرسمية العربية إما معاديةً بصورة علنيّة لحركة التحرُّر الفلسطيني، أو أنها كانت فاترةً في دعمها الماليّ أو اللفظيّ، على الأغلب، لها.

هكذا، ولأن الأهداف الاستراتيجية المتغيّرة لمنظّمة التحرير كانت تغطّي عليها، على الدوام، أعمالٌ إرهابية لا نفعَ ولا طائلَ من ورائها، ولأنها لم تخاطب أبداً، أو تعبّر، بصورة بليغة ناجحة، عن هذه الأهداف، وبسبب كون الخطاب الثقافي الغربي غيرَ معروف، أو أنه قد أُسيء فهمه من قبل صانعي القرار والمثقَّفين الفلسطينيين، فإننا لم نكن قادرين على شرح الأسس الأخلاقية لقضيّتنا بصورة عمليّة. أما الدعاية الإسرائيلية فقد كان في إمكانها دائماً أن تلجأ إلى الاستعانة بمحرقة اليهود (الهولوكوست)، وتستغلّها، وكذلك بأعمال العنف الفلسطينية غير المدروسة، وغير المناسبة سياسياً، لكي تضعف قوةَ الرسالة الأخلاقية الفلسطينية أو تغطيّ عليها. فنحن، كشعب، لم نركّز على الكفاح الثقافي في الغرب (الذي أدرك المؤتمر الوطني الإفريقي أهمِّيته مبكراً، وكان مفتاحَ تقويض نظام الفصل العنصري والانتصار عليه)، كما أننا، ببساطة، لم نعمل بطريقة إنسانية متماسكة مقنعة على شرح وتوضيح عمليات السلب والتمييز التي قامت بها إسرائيل ضدّنا.

لكن، حتى لو كانت هذه الحقائق معروفة بصورة أفضل كسلاح يمكن استخدامه في معركة القيم بين الصهيونية والفلسطينيين، فلن يكون هذا كافياً. فما لم نركّز عليه، بصورة كافية، هو أن علينا، ولكي نواجه الذهنيّة الإقصائية الصهيونية، أن نوفّر حلّاً للصراع يشدِّد، بحسب عبارة مانديلا الثانية، على إنسانيتنا المشتركة كيهود وعرب. إننا، في معظمنا، لا نتقبّل، حتى هذه اللحظة، أن اليهود الإسرائيليين باقون هنا، ولن يرحلوا، كما أن الفلسطينيين باقون أيضاً، ولن يرحلوا. هذا أمر من الصعب تقبّله، وعلى نحوٍ مفهوم، بالنسبة للفلسطينيين، لأنهم ما زالوا يفقدون المزيد من الأرض، ويُضطهَدون، ويُضَيَّق عليهم بصورة يومية. ومع ذلك، فإن إيماننا، غير المسؤول والذي يفتقد القدرة على التفكُّر والتأمُّل، بأنهم سوف يُجبَرون على الرحيل (مثلهم مثل الصليبيين)، فإننا لا نركّز على نحو كافٍ على إنهاء الاحتلال العسكري بوصفه ضرورة أخلاقية، ولا نركِّز كذلك على أن نوفّر لهم قدراً من الأمن وتقرير المصير الذي لا ينتقص من أمننا وتقرير مصيرنا. إن هذا الحلّ، لا الأمل غير المنطقي بأن رئيساً أميركياً متحمِّساً يمكن أن يمنحنا دولة، هو ما ينبغي أن يكون أساساً لحملة شاملة واسعة تذهب إلى كلّ مكان.

ليس الكلام بصورة عامّة عن السلام كافياً. علينا أن نوجد أساسات صلبة لهذا السلام، ويمكن لهذه الأساسات أن تطلع من الرؤية الأخلاقية، لا من التصوُّر «الذرائعي البراجماتي»، أو «النزوع العمليّ». إذا كنّا جميعاً نريد العيش، فهذا هو الحل الضروري. علينا أن نمسك بتلابيب الخيال، لا من أجل شعبنا، بل من أجل مُضطهِدينا أيضاً. وينبغي في هذه الحالة أن نلتزم بالقيم الديموقراطية الإنسانية.

فهل تسمع القيادة الفلسطينية الحاليّة؟ هل يمكنها أن تقترح أيّ شيء أفضل؟ آخذين في الحسبان سجلّها الحافل بـ «مفاوضات السلام» التي لا نهاية لها، والتي قادت إلى الرعب والهول الذي نحن فيه الآن.

رجل تحت الشمس

عبدالعزيز بركة ساكن


وجَّهتُ إلى بعض الأصدقاء النمساويين سؤالاً مباشراً جداً: «ما رأيكم في المناضل نيلسون مانديلا؟» فكانت إجابة الفنان التشكيلي «بيتر شولنج»: «إنه بطلي»، وأضاف البروفسير رودي على الجملة ذاتها، بأسلوبه المرح: «ولكنه لم يحظ بنساء خيِّرات».

وهنا يقصد «ويني» التي قال عنها مانديلا «إن حياة زوجتي في أثناء وجودي في السجن كانت أصعب من حياتي، وكانت عودتي أكثر صعوبة بالنسبة لها، فقد تزوَّجَتْ رجلاً سرعان ما تركها، وصار ذلك الرجل أسطورة، وعند عودة الأسطورة إلى المنـزل ظهر أنه مُجَرَّد رجل». وأضاف، لقد تعرفت إليه أجيال أوروبا من خلال أغنية فنان الرُوك والناشط السياسي البريطاني الشهير PETER BRIAN GABRIEL، وأنشطة حزب المؤتمر. سألتُ صديقة يونانية تعمل نادلة بالمطعم الإغريقي، أجابت: لم أسمع بهذا الاسم من قبل، ولها العُذر، فذاكرة اليونانيين مشحونة بالأبطال الأسطوريين، واكتفيتُ بابتسامتها.

بالصدفة البحتة قابلت بالأمس القريب رجلاً من مدينة جوهانسبيرج، سليل أسرة من البيض الذين حكموا جنوب إفريقيا بنظام عنصري، رَدَّ وفي عينيه بريق غريب: إنه بطل قومي. فلاحقته قائلاً: ما أعظمُ ما قدَّمه نيلسون مانديلا في رأيك؟ قال، ما فعله كان أشبه بالمعجزة، لأنه استطاع في وقت قصير جداً إنهاء سلطة مركزية قوية عنصرية عنيفة لها مئات السنوات، وأظن ذلك كان عملاً خارقاً للعادة.

ليس بالإمكان التحدُّث عن أول مرة سمعت بها باسم نيلسون مانديلا، بل من الصعوبة أيضاً ما هو عكس ذلك. أو لم يكن ذلك واضحاً لديَّ كما هو الحال لَدي صديقي الروائي الكردي جان دوست: «كنت أسمع اسمه في صغري من إذاعة الـ BBC، فأسأل أمي: من هذا الرجل المسجون؟ فتقول لي أمي، لا أدري يا ولدي، سجون هذا العالم تعجّ بالمظلومين. نعم يا سيدي هو روح إفريقيا، بل رُوح الإنسانية كُلّها ومحطِّم أوثان الاستعباد.».

لقد ظلَّ الرجل حيّاً وفاعلاً في الحياة اليومية بالنسبة للكثيرين من أبناء جيلنا في السودان، حيث وجدناه منذ ميلادنا حبيساً في السجن، ولكن صوته القوي وحِكَمه المتفائلة تجوب شوارع وأزقة بلداتنا الصغيرات، وتتسكَّع في أروقة المدارس، وظل هنالك طوال الوقت وحتى اليوم، وكم تكرَّم المعلمون علينا في المدارس بأقواله مثل: «الحُرّية لا يمكن أن تُعْطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حُرّاً، أو لا يكون حرّاً»، و«الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة». وكم خلطنا بين شخصيته وشخصية عنترة بن شداد العبسي الذي كان ايضاً محبوباً في تلك السنوات اليانعات من عمرنا، وكان بطلاً شعبياً وأحد مُثُلنا العليا وبطل ألعاب الصبا وحكايات الجدّات الطاعنات. في الحقيقة كان الشارع السوداني في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يعجّ ويضجّ بالأسماء الإفريقية الكبيرة: زعماء تحرير، أبطال وطنيين وقوميين ومُغَنّين، من الرعيل الأول والثاني مثل، جمال عبد الناصر، سياد بري، منقستو هيلا مريام، هيلا سيلاسي، تفري بانتي، جُومو كنياتا، مريم ماكبا، المغنيتان الصوماليتان مريم وزهرة، ديزموند توتو، كوامي نكروما، سيمورا ميشيل، جوشوان كومو، أم كلثوم، أحمد بن بلة، أحمد سيكتوري، عبدالرشيد شيرماكي، جومو كنياتا، و إيدي أمين: ولكن صورة مانديلا كانت الطاغية على الجميع، وكانت حِكَمُه وحكايات نضالة ومقاومته وأقواله تتسرَّب من الزنازين والسجون المظلمة، من ريفونيا إلى جزيرة روبن إلى سجن بولسمور إلى سجن فيكتور فيرستر، وتنتقل عبر الصحافة، خلال زملائه المناضلين في حزب المؤتمر في أنشطتهم عبر العالم، ومُغَنِي الروك، الشعر الثوري، السينما المتجوِّلة، الإذاعات العالمية، والاحتجات الشعبية في كثير من دول العالم الحُرّ، مذكِّرات الإنسانيين الناشطين في مجالات حقوق الإنسان، وتضيف إليها المخيِّلة الشعبية الإفريقية وسعَهَا، ومن ثم تتشكَّل صورة البطل، بل الأسطورة الحية، صورة الرجل الذي قهر السجن والسجّان والعنصرية البغيضة، وظل بسيطاً وعادياً، وبحسب قوله: «مُجَرّد رجل».

ماذا تعلَّمنا من نيلسون مانديلا؟ ماذا تعلم الحكّام الوطنيون في كثير من دول إفريقيا من سيرة حياة مانديلا؟ ماذا تعلَّمت منه شعوب العالم؟ ماذا لم نتعلَّم منه؟ وتظل هذه الأسئلة ومثيلاتها تحوم في فراغ فشل المشروعات الوطنية والقومية للشعوب، وخاصة الإفريقية والعربية، وهي ذاتها التي تؤسِّس إما لمحن قادمة، وإما أن تُستلهم من أجل نهضة الشعوب. فاليوم تصبح سيرة مانديلا بُعبعاً مرعباً وكابوساً يقلق مضاجع كثير من الحكومات الوطنية التي تخاف من شعوبها النزّاعة إلى الحرية أن تسلك طرائقه في النضال الدؤوب المتفائل الذي ينتهي، حتماً، بالنصر: «ولم يَدُرْ في خلدي قَطّ أنني لن أخرج من السجن يوماً من الأيام، وكنت أعلم أنه سيجيء اليوم الذي أسير فيه رجلاً حُرّاً تحت أشعة الشمس والعشب تحت قدمي؛ فإنني أصلاً إنسان متفائل، وجزء من هذا التفاؤل أن يُبقي الإنسان جزءاً من رأسه في اتجاه الشمس، وأن يحرِّك قدميه إلى الأمام. وكانت هناك لحظات عديدة مظلمة اختبرت فيها ثقتي بالإنسان بقوة, ولكنني لم أترك نفسي لليأس أبداً. فقد كان ذلك يعني الهزيمة والموت.».
 
 
القبطان العاشق

منير أولاد الجيلالي


في 18 يوليو/ تمّوز 2013 بلغ نيلسون مانديلا الخامسة والتسعين من عمره، وعندما يحقِّق شخص ما المجد والشهرة العالمية الواسعة في حياته متخطِّياً كلّ المحن والمآسي، ثم يبلغ من العمر عتيّاً، فإن هذه الحياة تصبح موضوعاً للتأمُّل والتفكير. ومثلما تتجسَّد الحياة كقدر عظيم، كذلك يكون مانديلا.

فحسُّه الإنساني الذي ليس ببعيد عن البيئة الريفية الملتزمة التي ترعرع فيها، ومعاينته للخراب الكوني الذي حَلَّ بالعقل الإنساني، غداة حروب لاعقلانية، وانخراطه في حركة تحرُّر كفاحية ضدّ التمييز العنصري، جعل شخصيته تكتسي رمزية استثنائية على المستويين السياسي، والإنساني.

مانديلا الزعيم «الأسود» وأكثر سجناء العالم شهرة ورومانسية، المعروف بأسماء الشوارع والقاعات، والساحات، والأغاني، والذي ألهمت تجربته العديد من الأعمال الفنية منها مسرحية «اضربوا سارافينا» 1988 عن فتاة طالبة وصل جنونها بمانديلا حَدّ الجنون، لم تتعبه آلة الزمن القاسية، وظلَّ برأس شامخة وعيون مشرعة على المستقبل، داخل سجنه حيث كان يردِّد باستمرار مقطعاً من قصيدة للشاعرة و.ي. هينلي: «أنا سيد قدري.. أنا قبطان روحي».

لا يمكن الفصل بين حياة مانديلا النضالية والسياسية وبين حياته الشخصية والعاطفية، بل إن فرادة مانديلا تكمن بالضبط في القدرة على أسطرة ذلك التقاطع الطويل بين قدره النضالي والوجداني الذي تحَوَّل مع مرور الأيام إلى ذكريات أيقونية ساطعة وجريحة. فمانديلا المناضل الصلب، والعاشق الأنيق ظل وفيّاً حتى، وهو يتنقَّل بين سجون جنوب إفريقيا ومستشفياتها، إلى نداء قلبه الذي تقاسمته وجوه نساء كثيرات، مع حبه الكبير لوطنه. لأنه هكذا بروحه المرحة ونظرته الحادّة لا يحبّ أن يكون متشنِّجاً أو خائفاً من الحب أبداً، لأن الحب عظيم الإلهام، كما قال وهو يصافح أطفالاً وقفوا لتحيّته في ساحة «الطرف الأغر» في لندن خلال زيارته التكريمية سنة 1996.

طيلة حياته كان مانديلا رجلاً حكيماً وملهَماً، أحبّ، باستمرار، بشجاعة ملتزمة وجبّارة. وتزوَّج ثلاث مرات، كانت الأولى في سنة 1944 من السيدة «إفلين نتوكو ماسي» التي أنجب منها ابنتين وولدين، قبل أن ينفصلا في عام 1957، بسبب التزاماته النضالية والثورية التي كانت تأخذ معظم وقته، والتي كانت تتنافى من جهة أخرى مع انتمائها الطائفي ذي المرجعية المسيحية الذي كان يتطلَّب منها نوعاً من الحياد السياسي والسلمي.

وفي دوخة التبعات المستمرّة لمحاكمة الخيانة التي كانت تضطهد قادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الديموقراطي الاشتراكي، على خلفية إصدار ميثاق الحرية سنة 1952، والذي اعتبره النظام العنصري الحاكم مؤامرة للإطاحة بالحكومة واستبدالها بدولة شيوعية، سقط مانديلا في حبّ الأخصائية الاجتماعية بنت الاثنين والعشرين ربيعاً «ويني ماديكيزيلا»، وكان ذلك بعدما قدَّمَتها له للتعارف خطيبة رفيق له في الحزب الممرضة أديلايد تسوكودو عندما التقيا صدفة في دكان لبيع الأطعمة بجوهانسبورغ، حيث لم تخفِ ويني إعجابها الشديد بكاريزميّته الجذّابة وهي تعترف له بذلك كما لاحظتها بإحدى المحاكمات السياسية حيث كان مانديلا حاضراً كناشط حقوقي ومعارض سياسي.

في العام 1958، وفي الوقت الذي كان فيه رفاقه ينتظرون منه التقدُّم للزواج من أقرب رفيقاته «روث مومباتي» سكرتيرة مكتب المحاماة لديه، أو «ليليان نغوي» القائدة القومية لرابطة النساء التابعة للحزب، فاجأ مانديلا الجميع بإعلان زواجه من ويني بعدما عاشا لحظات عاطفية قوية وسط أوضاع سياسية متقلِّبة وغير مطمئنة.

غير أن هذه القصة الجميلة لم تدم كما كان يحلم مانديلا إلا حوالي عشر سنوات، حيث سيحكم نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا عليه بالسجن مدى الحياة ليقضي سبعة وعشرين سنة من عمره خلف القضبان بسجن جزيرة «روبن»، لتتحوَّل معها ويني الجميلة إلى مُجَرّد ذكريات دفء مقطوعة تلهب ظلام زنزانته الباردة كما كاتب يكتب ذلك في يومياته ورسائله الملتاعة والمكسورة.

أنجب مانديلا من ويني بنتين هما «زيناني، وزيندزي». لكن القصة اتخذت منعطفاً جديداً، حيث بعد مرور سنتين فقط من إطلاق سراحه من السجن انفصل مانديلا العام 1992 عن ويني قبل أن يطلِّقها رسمياً عام 1996 بعد تورُّطها في فضائح سياسية عديدة وقضايا فساد واستغلال نفوذ، وانخراطها في أعمال متطرِّفة أساءت كثيراً إلى رمزيَّته والتزامه وهو داخل زنزانته، حيث اعتُبِرت آنذاك تحريفاً لخطِّه النضالي الذي كان ينادي بالمصالحة الوطنية والتجميع العرقي من أجل مناهضة الاستبداد والتمييز العنصري.

في عيد ميلاده الثمانين، أي في يوليو/تموز 1998، وبعدما لم يتوَّج حبُّه للناشطة الحقوقية «أمينة كشاليا» بالزواج، اختار مانديلا للمرة الثالثة الزواج من السيدة «غراسا ماشيل» أرملة «سامورا ماشيل»، رئيس الموزمبيق وحليف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. غراسا التي انخرطت في سنّ مبكِّرة بداية السبعينات بجبهة تحرير موزمبيق، والتي كانت أول وزيرة للتربية والثقافة بعد استقلال بلدها تقول عن مانديلا بأنه رجل لا يتكرَّر لأنه رجل عظيم بكل المقاييس. هذا ما أكَّدته في إحدى المقابلات الصحافية حين قالت بأنها عندما تنظر إلى حياتها فإنها تستطيع أن تجد تفسيراً لكلّ شيء فيها باستثناء شيء واحد هو «ماديبا» الاسم العشائري لمانديلا.

مانديلا الذي كسره الحبّ ،وأتعبته السياسة، رمز وحدة جنوب إفريقيا الأسطوري ورئيسها السابق، العاشق للَّعب بالنار كما سبق أن قال وهو في ريعان شبابه وحماسه الثوري ردّاً على ضابط جاء لاعتقاله محذّراً إياه بأنه يلعب مع النظام لعبة من نار، يقول وهو يصارع المرض بالقوة نفسها التي صارع بها نظامـاً لا ديموقراطياً طيلة حياته، بأن الحياة ليست خالدة أبداً، وبأن الذي يصنع المعجزات العظيمة هو الحُبّ.

فقبل أن يتزوج من جراسا ماشيل في عيد ميلاده الـ 80 تقدَّم نيلسون مانديلا إلى إحدى الناشطات السياسيات في جنوب إفريقيا ورفيقة الكفاح ضدّ العنصرية لسنوات طويلة، وهي «أمينة كاشاليا»، المرأة الوحيدة التي لم توافق على الزواج منه رغم العلاقة العميقة التي كانت بينهما، كما تَمَّ نشرها في سيرة ذاتية في كتاب تحت عنوان «الأمل والتاريخ على قافية واحدة».
 
 
عندما يزيد وعي المرء تقلّ عدائيّته وغروره

ترجمة : راجية حمدي

بين المذيعة الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري والرئيس الأسبق نيلسون مانديلا حميمية نلتمسها في حوار مفتوح دار بينهما، يكشف عن الجانب الإنساني العميق من حياة «ماديبا»..


§ في حديث سابق رويت لي أن تجربة السجن قد مكّنتك من تحقيق الهدف الأصعب في حياتك، وهوالتغيير. كيف أصبحت إنساناً آخر بعد سبعة وعشرين عاماً من الظلم؟


- قبل دخولي السجن كنت مُجَرَّد ناشط سياسي، بصفتي عضواً في منظمة قيادة جنوب إفريقيا، كنت أعمل من السابعة صباحاً وحتى منتصف الليل، لم أحظَ أبداً بالوقت لأخلو بذاتي، وأفكِّر. في أثناء عملي هذا كنت في قمّة الإجهاد العقلي والجسدي، ولم أكن قادراً على استخدام الحيِّز الأكبر من قدرتي الذهنية، لكن في زنزانتي المنفردة في السجن وجدت الوقت لأفكِّر، أصبحت أمتلك رؤية واضحة لما مضى ولما هو كائن بالفعل، واكتشفت أنني بالفعل ممتنّ لكل ما مررت به في الماضي، سواء في علاقتي بالآخرين أو في علاقتي بذاتي.


§ إلى أي مدى أنت راضٍ عن ماضيك؟


- عندما وصلت جوهانسبرج عام 1940 ، كنت أعاني من تجاهُل عائلتي، وذلك لأني خذلتهم برفضي الزواج ممن اختاروها لي. وكان هروبي بمثابة ضربة مؤلمة لهم. في جوهانسبرج قابلت العديد من الأشخاص الذين لم يتردَّدوا في مساعدتي، لكن، وبعد انتهائي من دراستي وعملي بالمحاماة أخذتني مشاغل العمل السياسي ولم أعد أفكِّر فيهم، فقط داخل السجن بدأت التفكير في كل الوجوه التي وقفت بجانبي، أخذت أتساءل: لماذا لم أُبَلِّغهم حينها بامتناني لكل ما فعلوه من أجلي؟ شعرت بضآلتي وسوء تصرفي تجاه كرمهم معي ودعمهم لي طوال تلك السنين، حينها، عاهدت نفسي على أنه إذا تسنّي لي الخروج من السجن سأردّ الجميل لكل من ساعدني أو لأولادهم وأحفادهم. غيَّرت تجربة السجن حياتي حيث أصبحت أفكِّر في أهمية تعبير المرء عن الامتنان حال الشعور به تجاه كل من يساعده.


§ يجب أن يتم هذا طوال الوقت..

وهذا ما أفعله الآن، ليس هناك شيئاً يخيفني أكثر من الاستيقاظ في الصباح دون برنامج يساعد على جلب السعادة لهؤلاء الذين بلا موارد، هؤلاء الذين يعانون من الفقر، والجهل، والمرض، إذا كان هناك شيء يمكن أن يقتلني يوماً ما فهو عدم القدرة على مساعدة هؤلاء.إذا استطعت تقديم ولو جزء بسيط من حياتي لجعلهم سعداء، سأكون سعيداً.


§ هل نستطيع أن نقول إنك استيقظت ذات صباح لتبدأ رحلتك مع العطاء؟


- تحديداً، رحلتي لبناء المدارس، والمستشفيات وتقديم المنح الدراسية للأطفال، وبالطبع لديّ واجبات تجاه أسرتي.


§ أكان هذا نوعاً من التعويض عن كل السنين التي لم تكن فيها موجوداً لتقديم المساعدة؟


- التعويض - تحديداً - لم يكن مقصدي، لكني سوف أقضي المتبقّي من حياتي لمساعدة الفقراء ليتغلَّبوا على مشاكلهم، ويتمكّنوا من مواجهتها. الفقر هو التحدي الأكبر الذي يواجه الإنسانية. لهذا أقوم ببناء المدارس ، ما أريده هو تحرير الناس من الفقر والجهل.


§ قضيت وقتاً في «جزيرة روبن» حيث يوجد السجن الذي قضيت فيه أكثر من ثمانية عشر عاماً من مدة عقوبتك، سمعت أنك رأيت بناتك عندما كانت أعمارهن تتراوح بين عامين وثلاثة، ولم ترهن مرة أخرى حتى أصبحن تقريباً في السادسة عشرة كيف كان شعورك حيال ذلك؟


- عدم رؤية أطفالي طوال هذه المدة، هو ما جعل مشاعري تقوى تلقائياً تجاه الأطفال عموماً.لم أرَ أحداً طوال 27 عاماً. في نظري، هذه واحدة من أقسى العقوبات التي يمكن أن يفرضها السجن، لأن الأطفال هم الثروة الحقيقية في أي مجتمع وحتى يتمّ استثمار هذه الثروة يجب أن يحصلوا على التعليم والحبّ من كلا الوالدين. فعندما يكون الوالد في السجن فلا أحد بمكن أن يعطي هذه الأشياء إلى أبنائه بدلاً منه.


§ من الصعب على المرء أن يتصوَّرالحياة بدون قدرته على ملامسة وعناق أبنائه، أو على الأقل رؤيتهم. هل كانت هذه هي الخسارة الأفدح التي تكبَّدتَها بوجودك داخل جدران السجن؟


- بالتأكيد.


§ ما الأشياء الأخرى التي سلبها منك السجن؟


- سلبني عائلتي، كما سلبني كثيراً ممن اعتدت وجودهم حولي. خاصة هؤلاء الذين يعيشون خارج السجن، والذين كانوا فى أغلب الأحوال يعانون أكثر ممَّن هم داخله. ففي السجن، اعتدنا أن نأكل ثلاث مرات في اليوم، وكنا نمتلك ملابس كافية، وخدمات طبّية مجّانية، وكنا ننام لمدة اثنتي عشرة ساعة متتالية. بينما الآخرون لم يحصلوا على ما حصلنا نحن عليه في السجن.


§ هل انتابك، وأنت داخل السجن، شعور بالانقطاع عن العالم؟


- كان عندنا طرُقُنا الخاصة للاتّصال مع العالم الخارجي، فبالرغم من أن الأخبار كانت تصلنا بعد حدوثها بيومين أو ثلاثة، لكننا كنا نطّلع عليها على أية حال، وذلك نتيجة لصداقتنا مع بعض الحرّاس، كنا نطلب منهم أن يأخذونا إلى مكان تفريغ النفايات حيث نجد الصحف القديمة، ومن ثَمَّ نقوم بتنظيفها، ونأخذها إلى الزنزانة لقراءتها في الخفاء.


§ لقد أصبحت داخل السجن شخصاً أكثر تنظيماً عما كنت عليه قبل السجن، تدرس بانتظام، وتشجّع زملاءك على الدراسة.


- لا تستطيع أية أمة النهوض بدون العلم. فقط من امتلكوا هبة العلم هم من يقودون تقدُّم الأمم، أدركت أننا نستطيع تغيير حياتنا للأفضل برغم كوننا في السجن، استطعنا أن نصبح أشخاصاً أفضل حتى استطاع بعضنا الخروج وقد حصل على درجتين علميتين لا واحدة، تحصين أنفسنا بالعلم كان بمثابة امتلاك السلاح الأقوى لنيل الحرية.


§ هل خرجت من السجن إنساناُ أكثر حكمة؟


- كل ما أستطيع قوله هو أنني أصبحت أقل غباءً مما كنت عليه قبل دخولي السجن، سلَّحت نفسي بقراءة روائع االأدب، خاصة الروايات الكلاسيكية مثل رواية «عناقيد الغضب».


§ هذا أحد كتبي المفضلة.


- مع الصفحة الأخيرة لهذا الكتاب كنت قد أصبحت شخصاً مختلفاً، لقد أثرى قوة تفكيري وعلاقاتي، تركت السجن اكثر وعياً عما كنت عليه، وعندما يزيد وعي المرء تقلّ عدائيته وغروره.


§هل تمقت الغرور؟

- بالطبع. في بدايات شبابي كنت مغروراً لكن السجن ساعدني على التخلُّص من تلك العادة، لم يجلب لي الغرور شيئاً إلا الأعداء.


§ ما هي الصفات الأخرى التي تمقتها؟


عدم قدرة الشخص على رؤية ما يجمعه بالآخرين ورؤيته فقط لما يفصله عنهم. القائد الجيد يستطيع أن يدخل في مناظرة مع الطرف الآخر وهو يعرف أن الجدال وظيفته التوفيق بين وجهتَي النظر، وأن القوة في الوحدة. القائد الذي يمتلك هذه الرؤية ينبغي ألّا يكون مغروراً أو جاهلاً أو ضحل التفكير.


§ هل الأفضل للقائد أن يؤمن الجميع بما يؤمن به هو شخصياً أم عليه أن يصنع السلام؟


- عندما يكون هناك خطر فعلى القائد الجيد أن يأخذ الخطوط الأمامية، أما في الاحتفالات فعلى القائد أن يبقى خلف الكواليس.


§ ما الصفات التي تثير إعجابك فيمن هم حولك؟


- لامفرَّ من أن يجد القائد نفسه مضطرّاً في بعض الأحيان إلى انتقاد من يعملون معه. لكن القائد الجيِّد هو من يستطيع أن يبرز السمات الإيجابية للشخص بينما يوضح له خطأه، فعندما يفعل القائد هذا سيتأكَّد المخطئ أنك تملك صورة كاملة عن شخصيته، ليس هناك أخطر من شخص مُهان، حتى إذا كان مخطئاً.


§ لا أستطع تصوُّر أن هذا الشخص الذي أتحدَّث اليه الآن هو ذاته الذي قضى كل تلك السنوات في زنزانة لا تتعدّى مساحتها سبعة على تسعة أقدام. عندما عدت إلى هذا المكان بعد سنوات من خروجك منه ، هل استوعبت أنك قضيت كل هذا العمر في هذه المساحة؟

- لم أدرك حينها حجم الزنزانة لأني كنت داخلها وقد اعتدت على الوجود بها و فعل كل ما يحلو لي مثل أداء الرياضة صباحاً ومساءً، لكن الآن وأنا في الخارج لا أعرف كيف استطعنا العيش بداخلها وهي بهذا الحجم.


§ في أثناء سجنك كان يتم اجبارك على العمل اليومي الشاق في محاجر الجير، كما أنك لم تكن تتمكَّن من التحدُّث مع زملائك عندما تغلق الزنازين في الرابعة مساءً وحتى اليوم التالي..


- هذا صحيح، لكننا قمنا بكسر هذه القاعدة، اعتاد حرّاسنا الأعلى مرتبة على معاملتنا كحشرات بينما عاملنا الحرّاس الأقل مرتبة باحترام، فكانوا يقضون الليل معنا بود وإحترام، ولهذا بعد إغلاق الزنازين كان هؤلاء الحراس يعطوننا حرية فعل أي شيء ماعدا الخروج من الزنزانة، فالمفاتيح لم تكن لديهم، لكنهم تركوا لنا حرية الحديث إلى زملائنا المساجين في الزنازين المجاورة والمقابلة.


§ هل تعتقد أن جوهر البشر طيب؟


- ليس لدي أدني شك في أن الخير موجود في كل إنسان، بشرط أن يستطيع من حوله تحفيز الخير الفطري، فأنا وزملائي، في حربنا ضدّ التمييز العنصري، استطعنا كسب ولاء من كَرِهونا في البداية لأنهم بدأوا يشعرون أننا في هذا المكان من أجلهم.


§ كيف يمكنك احترام من يهينك؟


- يجب أن نفهم أن الأشخاص أسرى لسياسة حكوماتهم. في السجن على سبيل المثال، هؤلاء السجّانون لن تتمّ ترقيتهم إذا لم ينفِّذوا أوامر الحكومة حتى وإن كانوا هم أنفسهم غير مؤمنين بها.


§ هل يمكن تغيير شخص ينفِّذ سياسة لا يؤمن بها؟


- بالتأكيد. عندما دخلت السجن كنت محامياً متدرِّباً، وعندما كان يتسلَّم هؤلاء الحرّاس الصغار خطابات ليمثلوا أمام القضاء في أمور مختلفة، لم يكن عندهم المال الكافي لتوكيل مَنْ يدافع عنهم، ولهذا قمت بتسوية قضاياهم. ومن هنا نشأت علاقة ودّ معهم.


§ أحد الأسباب التي تجعلني أضعك في مرتبة التقديس، أنت ورفاق كفاحك، هو حفاظك على كرامتك في وجه القمع، بالتاكيد أنت فخور بنفسك .


- أنت غاية في الكرم أوبرا، كل ما أستطيع قوله أنه إذا كنت أنا الآن فعلاً هذا الشخص الذي تصفينه، فأنا لم أكن دوماً كذلك.


§ ما الأشياء التي تعرفها أنت يقيناً؟


أعرف يقيناً أن زوجتي ستظلّ دائماً بجواري، عندي يقين أن في كل مكان بالعالم هناك من يكرِّسون حياتهم لمواجهة التحدِّيات الخطيرة التي يواجهها الإنسان اليوم وهي الفقر، والجهل، والمرض.


§ هل تخشى الموت؟


لا... أعتقد أن شكسبير قد عَبَّرَ عن هذا جيداً عندما قال «الجبناء يموتون عدّة مرّات قبل موتهم» من أغرب ما رأيته من سلوكيات البشر هو خوف الإنسان من الموت. أرى أن الموت هو نهاية ضرورية ستحلّ في وقتها، فعندما يتيقَّن المرء أنه فقط سيختفي وراء سحابة من المجد، وأن اسمه سيظل خالداً هذا هو ما يجب أن ينتظره.
 
 
برقيّة من عبد اللطيف اللعبي
أخي العزيز،

هل يحقّ لي أن أذكِّرك بأنها ليست المرة التي أكتب فيها لك؟

منذ حوالي ربع قرن، حين كنت ما تزال في السجن، بعثت لك برقية خاصة، كتبتها بلغتي الحميمة، لغة الشعر. أقتطف منها هذا المقطع:

«رجل في السجن. متخلّصاً من الجسد، يمشي. يسير على طريق خفيّ يصل بين الجرح والروح. من الروح إلى البذرة. من البذرة إلى البرعم. من البرعم إلى وردة الأمل الهشّة. من الأمل إلى البصيرة. من البصيرة إلى الدمع. من الدمع إلى الغضب. من الغضب إلى الحُبّ. من الحُبّ إلى هذا الجنون الغريب بالإيمان، رغم كل شيء، بالإنسان».

وأنا أكتب لك، أتخيَّل نفسي إلى جانبك. أحببت فكرة أن أجد نفسي داخل زنزانتك، لأصير لك رفيقاً غير مرئي، تماماً كما كنت، لسنوات خلت، رفيقاً لي أكاد أراه في زنزانتي، مُرَبِّتاً على كتفي، ومواسيني في مِحَني الأصعب. هكذا اكتشفت، إلى جانبك، نبع الأخوة. بالاستسقاء من مائه كبر قلبي وعقلي. انتصرت بشجاعة، وصارت الكرامة شعاري. من وقتها والأرض تدور. وامتلكني شعور أن الكوكب يدور حول شمس جديدة، هي بلدك. وهذا البلد-الشمس يدور أيضاً حول نجم أكثر إشراقاً: هو مانديلا، إلى غاية يوم الإفراج عنك، يوم شاهد العالم كله، أولى خطواتك كرجل حُرّ، تمشي، وباب التاريخ يُفتَح أمامك. توقّفت، وكرجل طيّب وواعٍ، خاطبت شعبك بلباقة: «من فضلك، مُرّ أولاً». ثم تبعته. رافقته على درب العدالة والمصالحة. فقد افتتحت طريقاً جديدة، كان من الصعب التفكير فيها في فن الحكم، طريق النعومة. نعم، نعومة، هو ما يليق بها من تسمية في إفريقيا تعاني من الآلام ومن اللاعدالة، ويمكن لها بفضلك أن تفخر بنفسها بعد أن وضعت حجراً ثميناً من الحكمة في بناء الحضارة الإنسانية. لكنك لم تتوقَّف هناك. سريعاً (جدّ سريعاً كما يقول من يحبّونك) فضَّلت أن تنسحب قبل أن يبلغك سمّ السلطة. وكنت مصيباً. فقد قدّمت أفضل ما عندك، ولم تكن لتقبل أو تتخيَّل أن تقدِّم أقلّ من الأفضل. فأنت من اخترع قانون العطاء الجميل.

من يتحدَّث باستسهال عن بطولاتك لم يفقه الدرس الإنساني الذي منحتنا إياه.

منقول من مجلة الدوحة الثقافية

نجم


‬مسعود شومان‮ ‬
أن نجم لا‮ ‬يدعي علما عميقا بالشعر وسراديبه،‮ ‬لكنه‮ ‬يعرف هدفه كرصاصة تذهب‮  ‬مباشرة إلي جسد القضية‮ ‬،‮ ‬لذا فقد تركت بعض أشعاره مكانها الشعري لتقوم مقام الشعار،إنه المصري الأصيل،‮ ‬الشاعر،‮ ‬الملهم،‮ ‬طويل اللسان،‮ ‬الجريء،‮ ‬الرصاصة،‮ ‬الثوري،‮ ‬الحكاء،‮ ‬الرحالة،‮ ‬ابن النكتة المصرية،‮ ‬الوطني،‮ ‬الأهوج،‮ ‬ابن الشارع،‮ ‬المعتز بمصريته وبذاته وموهبته،‮ ‬إنه نجم أو أبو النجوم‮ :‬
أنا مش فاهم حاجه صراحه‮ ‬
لما القاتل‮ ‬يا خد جايزه‮ ‬
كده من دون تلبيخ وأباحه‮ ‬
يبقي‮ ‬
يا إما اللجنه دي بايظه‮ ‬
أو لا مؤاخذه‮ ‬
رئيسها حمار‮ ‬
أحمد فؤاد نجم علامة في تاريخ النضال بالشعر،‮ ‬اختلف بعض النقاد والشعراء حول حجم شاعريته،‮ ‬لكنهم أجمعوا علي تميز شخصيته وخصوصيتها،‮ ‬وشخصيته لصيقة بشعره واتجاهاته،‮ ‬لا انفصام بينهما،‮ ‬فإذا كان‮ ‬يحلو لبعض النقاد التعامل مع النص الشعري بوصفه ذاتا لها استقلالها عن شخصية كاتبه،‮ ‬فإن ذلك مع حالة نجم سيكون مخاطرة نقدية،‮ ‬وبالرغم من الجدل الذي دار حول تجربته‮ ‬،‮ ‬فقد أجمع العامة علي محبة ما‮ ‬يقول وما‮ ‬يكتب،‮ ‬فحين تدنو منه ومن أشعاره لن تشعر بمسافة بين الإنسان وما‮ ‬يكتب،‮ ‬كما أنه لا‮ ‬يحب شقشقة المثقفين الذين‮ ‬يسبحون في أودية بعيدا عن الناس وإيماناتهم فهو علي حد قول الشاعر الفرنسي‮ »‬لويس أراجون‮«:»‬إن فيه قوة تسقط الأسوار‮ »‬بينما أطلق الناقد‮ »‬علي الراعي‮ »‬عليه لقب الشاعر البندقية،‮ ‬لكنه كان في كل الأحوال منتميا للناس رافضا حياة المثقف الذي‮ ‬يعيش في برجه العاجي بعيدا عن أهل البلد‮ :‬
يعيش أهل بلدي
وبينهم ما فيش
تعارف
يخلي التحالف‮ ‬يعيش
تعيش كل طايفه
من التانيه خايفه
وتنزل ستاير بداير وشيش
لكن في الموالد
يا شعبي‮ ‬يا خالد
بنتلم صحبه
ونهتف‮ .. ‬يعيش
يعيش أهل بلدي
يعيش المثقف علي مقهي ريش
يعيش‮ ‬يعيش‮ ‬يعيش
محفلط مزفلط كتير كلام
عديم الممارسه
عدو الزحام
بكام كلمة فاضيه
وكام اصطلاح
يفبرك حلول المشاكل قوام
يعيش المثقف
يعيش‮ ‬يعيش‮ ‬يعيش
يعيش أهل بلدي
كما أن نجم لا‮ ‬يدعي علما عميقا بالشعر وسراديبه،‮ ‬لكنه‮ ‬يعرف هدفه كرصاصة تذهب‮  ‬مباشرة إلي جسد القضية‮ ‬،‮ ‬لذا فقد تركت بعض أشعاره مكانها الشعري لتقوم مقام الشعار،‮ ‬أليس ذلك من أدوار الشعر،‮ ‬سؤال قد‮ ‬يشتبك معه الكثيرون ممن‮ ‬يحبسون الشعر في دوره الجمالي فحسب،‮ ‬وهل نستطيع هنا أن نفصل الشعر عن الشاعر،‮ ‬أن نضع حدا بين الحياتي والفني عبر رحلة المعاناة،‮ ‬بداية من الطفولة،‮ ‬مرورا بالنضال والصعلكة،‮ ‬وليس انتهاء بالسجون التي أكلت وشربت من روح وجسد هذا الشاعر،‮ ‬والمجابهات التي دخلها كتابة‮ ‬،‮ ‬وحديثا،‮ ‬ونضالا لا‮ ‬يلين ولا‮ ‬ينقطع كأنك أمام شاب لم تنطفئ في روحه جذوة الثورة أبدا،‮ ‬إنه ذلك الكتاب الذي‮ ‬يمكن استعادته كلما أردنا التأريخ للمكابدة والنضال ؛ طفولة مشردة،‮ ‬وشباب مقموع،‮ ‬وشعر محاصر،‮ ‬وكتابة لا تلقي محبة ومتابعة النقاد،‮ ‬فقد كان النقاد في واد والشعراء في واد،‮ ‬ونجم في واد،‮ ‬يكتب‮ ‬غير آبه بالنقاد،‮ ‬كل ما كان‮ ‬يعنيه أن تصل كلماته‮ (‬الأشعار‮) ‬غياب النقد عن شعر نجم إلا أن باحثا هو كمال نجيب عبد الملك‮ ‬يتصدي لتجربة‮ "‬أمير شعراء الرفض‮"‬،‮ ‬والدراسة من تأليفه وترجمته،‮ ‬وتثير هي الأخري مجموعة من الإشكاليات التي تدور حول الإبداع بالعامية،‮ ‬فهي مازالت حبيسة المشكلات الأثيرة التي لا فكاك منها فيما‮ ‬يتعلق بالمصطلحات ومفاهيمها،‮ ‬فضلا عن إشكاليات التصنيف والاستلهام والتدوين،‮ ‬من هنا‮ ‬يمكن أن تفض مغاليق بعض الإشكاليات التي ستعمق درس العامية بوجه عام،‮ ‬وتجربة الشاعر أحمد فؤاد نجم علي وجه الخصوص‮.   ‬
إن مفهوم‮ "‬الإبداع بالعامية‮" ‬يتسع ليضم تحته الشفاهي والكتابي،‮ ‬الفردي والشعبي،‮ ‬هذا المفهوم المتسع والمتسامح‮ ‬يدعونا بداية لتأمل المشهد من جديد،‮ ‬ونعيد النظر فيما أنتج من اصطلاحات،‮ ‬كما‮ ‬يسهم مساهمة جليلة في التنقيب عن تراث الإبداع بالعامية بشقيه‮ (‬الشعبي‮ - ‬الفردي‮)‬،‮ ‬وما‮ ‬يندرج تحت كل واحد منهما من أجناس وأنواع سردية وشعرية،‮ ‬من هنا‮ ‬يجدر التنبيه إلي إهمـال تاريخي قد تم ولا‮ ‬يزال ـ عن عمد أو‮ ‬يسوء نية ـ لتراث العامية لغة وإبداعا ـ استثني كتاب تاريخ أدب الشعب نشأته،‮ ‬تطوره،‮ ‬أعلامه،‮ ‬حسين مظلوم رياض‮  ‬مصطفي محمد الصباحي،‮ ‬الذي نشره محمد خلف الموظف بقلم تحقيق الشخصية سابقا،‮ ‬مطبعة السعادة،‮ ‬أول‮ ‬يناير‮ ‬1936ـ فمنذ بدايات الأربعينيات،‮ ‬ومع تأسيس مجمع اللغة العربية بدأت لجنة اللهجات نشاطها،‮ ‬حيث نص مرسوم إنشاء المجمع علي‮ "‬أن‮ ‬ينظم دراسة علمية للهجات الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية‮"‬،‮ ‬وقد تألفت لجنة مهمتها دراسة اللهجات ونشر النصوص القديمة،‮ ‬ومن قراراتها المهمة ما‮ ‬يلي‮: ‬1‮ - ‬أن‮ ‬يحصر بحث اللهجات أول الأمر في اللهجات المصرية‮- ‬2‮ - ‬أن تبحث اللغة العامية المصرية من النواحي الآتية‮:‬
أ‮. ‬استخراج ما فيها من الكلمات العربية الفصيحة التي‮ ‬يتجافاها الأدباء لمجرد جريانها علي ألسنة العامة‮.-    ‬ب‮. ‬دراسة ما طرأ علي أصوات اللهجات العامية من تغير وتحريف،‮ ‬وأسباب ذلك‮.- ‬ج‮. ‬البحث في نحو العامية وصرفها وبلاغتها،‮ ‬ووضع قواعد لذلك‮.‬
3‮- ‬جمع المؤلفات العربية ـ وغير العربية ـ التي بحثت في موضوع اللهجات‮. ‬
4‮- ‬أن تمكّن اللجنة من تسجيل اللهجات من الناحية الصوتية،‮ ‬وطرق الأداء في سجلات صوتية،‮  ‬من أقراص وأشرطة،‮ ‬بآلاتها الخاصة،‮ ‬وتحفظ في المجمع‮. ‬
إن أحد تجليات بيرم البارعة هو ما‮ ‬يمكن أن نطلق عليه ظاهرة استلهام نجم لبعض عناصر المأثور والتراث الشعبي،‮ ‬وهو ما‮ ‬يمكن إيجازه في المراوحة بين‮ "‬بلاغة العامة‮       ‬وبلاغة العنف الثوري‮"‬،‮ ‬ونؤكد أن التناص مع بعض عناصر الثقافة الشعبية بتنوعاتها،‮ ‬وآليات تشكلها في بنية النص الشعري تعد واحدة من الاستراتيجيات التي‮ ‬يعتمدها أحمد فؤاد نجم دون قصد الاستلهام أو التوشية،‮ ‬لكن استلهاماته تأتي من صندوق الخبرة الحياتية،‮ ‬فهي ليست خبرة قرائية أو نزوعا نحو استدعاء عناصر الفولكلور ليصبح شعبيا‮ ‬،‮ ‬فالعناصر تأتي ببساطة كأنها شعر الناس‮ :‬
غمي عيونك‮ ‬
سد ودانك‮ ‬
إفتح بقك‮ ‬
قول انا فين‮ ‬
الشاطر فيكو‮ ‬
يحزر فزر‮ ‬
في دقيقتين‮ ‬
والأشطر منه‮ ‬
اللي‮ ‬يحزرها‮ ‬
في‮ ‬غمضة عين‮ ‬
والأشطر خالص ما‮ ‬يحزرش‮ ‬
يقول انا فين‮ ‬
والأشطر أشطر‮ ‬
اللي‮ ‬يبص‮ ‬يشوف بالعين‮ ‬
أنا فين ؟‮ ‬
إن استلهام وتوظيف عناصر الفولكلور عند نجم‮ ‬يأتي متنوعا فيصنع حوارا مع القصائد،‮ ‬لتعلن أنها لم تظهر في فراغ،‮ ‬وإنما تقيم حوارا مفتوحا علي نصوص أخر،‮ ‬ففي النص السابق تشتبك لعبة الاستغماية مع الفزورة‮ ‬،‮ ‬مع التعبير الشعبي لتجتمع الحركة مع الفكر وفنون القول‮ ‬،‮ ‬كل ذلك مع التعشيق الذي لا‮ ‬يخلو من ظل سياسي واجتماعي‮ ‬،‮ ‬ولا‮ ‬يفعل نجم علي هذه‮  ‬الآليات كستار لاستنزاف المشاعر الوطنية،‮ ‬واستخدام وتوظيف هذه العناصر كواجهة،‮ ‬أو حلية لتمرير توجهات بعض النظم السياسية التي لا تنشغل أصلا بحقوق الشعوب وحرياتها, لكنها في نفس الوقت تستثمر المأثور والتراث الشعبي عبر أشعار بعض الشعراء الذين‮ ‬ينتمون لتوجهاتها في لحظات تاريخية معينة‮: ‬
شوف عندك‮ ‬يا سلاملم‮ ‬
واتفرج‮ ‬يا سلام‮ ‬
مواطن‮ ‬
شخص عادي‮ ‬
مالوش أي اهتمام‮ ‬
ومبارك الخيانه‮ ‬
ومسميها السلام‮ ‬
وف‮ ‬يوم قرا الجرايد‮ ‬
تاريخ ما اعرفش كام‮ ‬
من‮ ‬يومها‮ ‬يا ضنايا‮ ‬
بيشقلب في الكلام‮ ‬
واتفرج‮ ‬يا سلاملم‮ ‬
علي شقلب‮ ‬يا سلام‮ ‬
إن نجم الإنسان‮ ‬يمثل حيوات‮ ‬يكاملها تصلح لقراءة بعض مراحل التاريخ المصري من خلالها،‮ ‬وقد‮ ‬
سجل بعضها في شعره وسيرته وحواراته وبرامجه وأغنياته المتفردة التي كتبها للمسرح‮ ‬،‮ ‬فأحمد فؤاد نجم أحد البنادق الشعرية التي صوبت رصاصاتها علي القهر والظلم‮ ‬،‮ ‬وهو أحد أهم شعراء الستينيات‮ ‬،‮ ‬وقد كانت أشعاره المقاومة والمواجهة للظلم أحد أسباب تردده علي السجون والمعتقلات لفترات طويلة من حياته حتي صار السجن جزءا مهما من تجربته الحياتية والشعرية‮ ‬،‮ ‬فهو أمير شعراء الاحتجاج والمواجهة للظلم والقهر‮ ‬،‮ ‬وهو التلميذ المخلص لتراث الجدود حيث نلمح في شعره روح مقاومة ابن عروس وتمرد وثورة بيرم التونسي ضد الإنجليز والملك وكذا مواجهته للقواهر الاجتماعية‮ ‬،‮ ‬وقد مثل نجم والشيخ إمام ظاهرة في الغناء المصري البديل للأغنية التي استلبها الهجر والخصام والفراق والكلمات الرخوة التي تنزع للاستسلام والخنوع‮ ‬،‮ ‬فكان نجم وإمام مرحلة مهمة في تاريخنا الغنائي الثوري‮ ‬،‮ ‬بل وصار علامة في فنون الأغنية الدرامية حيث كانا‮ ‬يقدمان الحفلة تلو الأخري عبر تجسيد الكلمات وإيصالها مستخدمين الصوت والإشارة والإيماءة والحركة عوالتلوين الصوتي علي المسرح ليحققا هذا الانتشار الجماهيري الذي كان وقودا للثورات المصرية المتتابعة‮.‬
لقد حير نجم النقاد بعضهم‮ ‬يعده شاعرا مباشرا‮ ‬يحاول الوصول للناس كرصاصة‮ ‬،‮ ‬وبعضهم اعتبره مسرحيا حاول مسرحة حياته وحياة المصريين في أشكال موزونة‮ ‬،‮ ‬بينما أعده البعض حياة ثرية بتناقضاتها وغناها الإنساني والشعري،‮ ‬وحياة الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم لتكون أيقونة درامية متسعة تشير إلي عوالم بقدر ما عاش من حياة مديدة حاشدة بالأحداث الدرامية‮ (‬23‮ ‬مايو‮ ‬1929‮- ‬3‮ ‬ديسمبر‮ ‬2013‮) ‬،‮ ‬لقد كانت حياة نجم مسرحية متعددة الفصول والأحداث،‮ ‬اجتاحتها عناصر المأساة والملهاة لتحوله إلي صندوق متسع لعالم كبير‮ ‬يمكن تفكيكه إلي عدد من المسرحيات الثرية،‮ ‬والعوام الشعرية والاستلهامات الفولكلورية‮ ‬،‮ ‬بداية من ميلاده بعزبة نجم التابعة لمركز أبو حماد بمحافظة الشرقية‮ ‬،‮ ‬وقد هيأت له الظروف ليكون أحد الأبطال الذين‮ ‬يرسم ملاحم القدر كما‮ ‬يرسم ملامح وشخصيات الأساطير ومسرحيات الدراما التي تعد علامات بارزة‮ ‬،‮ ‬كأن القارئ‮ ‬يعاين ميلاد بطل من أبطال السير أو الحكايات الشعبية حين‮ ‬يولد محاطا بالعقبات في أجواء تشع برواسب أسطورية تشع من حوله‮ ‬،‮ ‬فنجم أو أبو النجوم كما‮ ‬يطلق عليه كل من أحبه وصدق مسيرته‮ ‬ينتمي إلي عائلة نجم التي تمتد جذورها لأكثر من مكان في مصر‮ ‬،‮ ‬حيث ولد لأم من فلاحات مصر الأميات هي هانم مرسي نجم وأب‮ ‬يعمل ضابطا للشرطة هو محمد عزت نجم‮ ‬،‮ ‬والمتأمل للأبعاد الغرائبية التي تكون فيها نجم سيجد أنها هي الظلال التي تسكن شعره‮ ‬،‮ ‬من هنا لا‮ ‬ينبغي اعتبار قصائده بمثابة ذات لغوية مستقلة‮ ‬،‮ ‬فقراءة شعر نجم لا‮ ‬يمكن أن تتم دون معرفة بحياته ورحلته الممتدة‮ :‬
الاسم‮ : ‬صابر‮ ‬
التهمه‮ : ‬مصري‮ ‬
السن‮ : ‬أجهل أهل عصري‮ ‬
رغم انسدال الشيب ضفاير‮ ‬
من شوشتي‮ ‬
لما لتحت خضري‮ ‬
المهنه‮ : ‬وارث‮ ‬
عن جدودي‮ ‬
والزمان‮ ‬
صنع الحضاره‮ ‬
والنضاره‮ ‬
والأمان‮ ‬
البشره‮ : ‬قمحي‮ ‬
القد‮ : ‬رمحي‮ ‬
الشعر‮ : ‬أخشن م الدريس‮ ‬
لون العيون‮ : ‬اسود‮ ‬غطيس‮ ‬
الأنف‮ : ‬نافر كالحصان‮ ‬
الفم‮ : ‬ثابت في المكان‮ ‬
إن رحلة أحمد فؤاد نجم بقدر ما كانت صعبة ومليئة بالعذابات لكنها كانت مليئة بالانتصارات علي اليتم والقهر والسجن والظلم فصار علما‮ ‬يتغني المصريون بشعره حيث ترك لنا تراثا شعريا مهما وعددا كبيرا من الأغنيات الفردية أو أغنيات المسرح منها أغاني مسرحيا‮ » ‬كعبلون‮« ‬التي ضمت عدة أغنيات بصوت الشيخ إمام منها‮ ‬،‮ ‬كما كتب نجم أشعار مسرحية الملك لير،‮ ‬حيث ساهمت أشعاره في تحقيق رؤية المخرج الراحل الكبير أحمد عبد الحليم في تحويل نص لير إلي عمل مسرحي‮ ‬يتمتع بالشعبية مخرجا النص من صيغته المقروءة إلي صيغة مرئية ومسموعة ليعود به للناس محققا جماهيرية كبيرة ساهمت في ترسيخها أشعار نجم العامية في سياق نص شكسبير،‮ ‬كما كتب نجم أشعار مسرحية‮ »‬الملك هو الملك‮ «‬للراحل الكبير‮ ‬سعد الله ونوس وإخراج مراد منير وهي المسرحية التي لاقت محبة الجمهور المصري فتم عرضها بين عامي‮ ‬1988حتي‮ ‬2006‮ ‬،‮ ‬رحم الله الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم علي قدر عطائه الثري في مجالات الفن والإنسانية ليظل أيقونة مصرية مناضلة حفرت لنفسها المكان اللائق بهذا الوهج الإنساني والشعري‮ ‬،‮ ‬ومن أسف فإن ببليوجرافيا نجم بما تضم من شعر وأغان‮ ‬،‮ ‬وسيرة ذاتية وبرامج إذاعية وتلفزيونية لم‮ ‬يقدر لها أن تتم حتي الآن وهو ما سنسعي لإنجازه ليعكف كل دارس ومحب علي منجزه الشعري والإنمساني ليضعه لنا في ميزان الحقيقة والفن كوثيقة تاريخية مهمة في‮ ‬كتاب الثقافة المصرية‮ .‬
 
 باق ‮ ‬في ضمير الأمة
 
 
سيد حجاب
لا شك أن الأمة العربية والشعب المصري فقدا صوتا مهما من الأصوات التي تدافع عن حقوق الفقراء والمظلومين من أبناء هذه الأمة‮. ‬يمكن أن تكون قد نشبت بيننا بعض الخلافات الصغيرة في مسيرتنا ولكن المؤكد أننا كنا في نفس الخندق دفاعا عن حقوق الناس،‮ ‬ومن المؤكد أن نجم كان أعلا صوتا في هذه المعارك،‮ ‬سيظل نجم وابداعاته باقيا في ضمير الأجيال القادمة من أبناء‮ ‬هذه الأمة‮. ‬ 

 قال نجم مات قال‮!‬


مؤمن المحمدى
من حوالي عشر سنين،‮ ‬بعض المصريين صحيوا،‮ ‬وقرروا‮  ‬إن كده ما‮ ‬ينفعش،‮ ‬الست دي مش ممكن تفضل نايمة كده علي طول،‮ ‬مصر لازم تصحي‮! ‬كان ضروري‮ ‬يدقوا جرس،‮ ‬جرسين،‮ ‬عشرين جرس،‮ ‬في كل حتة ف البلد،‮ ‬ويقولوا لها‮: ‬قومي بقي،‮ ‬اتأخرنا كتير،‮ ‬وكان من أعلي الأجراس اللي استخدموها‮: ‬صوت أحمد فؤاد نجم‮.‬
1
لو‮ "‬ع‮" ‬الشعر،‮ ‬فيه أشعر منه بكتير،‮ ‬مع الأخد في الاعتبار طبعا إن الشعر مش بيتقاس بالمسطرة،‮ ‬وإن كل واحد له ذائقته،‮ ‬وإن أفعل التفضيل مكروهة لما نفتي في الشعر،‮ ‬بس‮ ‬يعني،‮ ‬ده ما أظنه،‮ ‬علي الأقل هو أقل واحد في الستة الكبار‮: ‬بيرم وحداد وجاهين والأبنودي وسيد حجاب‮.‬
لكن شعر نجم،‮ ‬بغض النظر عن قيمته الفنية،‮ ‬فيه ميزات تخليه‮ ‬ينفع‮ ‬يبقي‮ "‬شعبي‮"‬،‮ ‬وإنه‮ ‬ينتشر أكتر من أي حد تاني،‮ ‬وده من خلال وعيه باللغة،‮ ‬وعي فطري طبعا‮.‬
نجم كان بيكره الفصحي،‮ ‬وأكتر من مرة قال لي‮: ‬اوعي‮ ‬يا واد تكتب شعر باللغة‮ "‬الفظعي‮"‬،‮ ‬كانت بالنسبة له كابوس،‮ ‬ولما‮ ‬يكلمك عن العامية،‮ ‬تلاقيه زي صاحبك اللي عمال‮ ‬يكلمك جد،‮ ‬وفجأة بدأ‮ ‬يحكي لك عن صاحبته‮.‬
عامية نجم مليانة‮ "‬إديومز‮"‬،‮ ‬والأديومز زي ما إحنا عارفين هي التركيبات الجاهزة،‮ ‬وفيه ناس زي تيمور باشا في الموسوعة كان‮ ‬يسميها‮ "‬الكنايات‮"‬،‮ ‬زي‮ "‬خبطنا تحت بطاطنا‮"‬،‮ ‬ده‮ "‬إديوم‮". ‬نجم بقي،‮ ‬أستاذ في استقبال‮ "‬الإديوم‮" ‬واستطعامه،‮ ‬وبعدين استخدامه،‮ ‬ممكن‮ ‬يكتب أغنية أو قصيدة كاملة،‮ ‬كلها إديومز،‮ ‬لدرجة إنك أحيانا تشك إن هو اللي صك التعبير،‮ ‬أو إنه هو اللي أوحي بيه لأول واحد استخدمه،‮ ‬من كتر ما بيحطه ف مكانه المظبوط‮. ‬
ده كان بيخلي‮ "‬التفاعل‮" ‬مع القصايد أو الأغاني اللي بيكتبها‮ ‬يعدي مرحلة الإعجاب،‮ ‬كان بيخلي المتلقي‮ ‬يحس إنه شريك في كتابة النص،‮ ‬وأحيانا بيمد إيده فعلا في العمل اللي كتبه نجم،‮ ‬لدرجة إنه لما كتب‮ "‬الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا‮ .. ‬يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار‮"‬،‮ ‬الأغنية فضلت تلف تلف تلف،‮ ‬وبعد ما الناس‮ "‬شيروها‮" ‬بينهم‮  ‬وعملت‮ ‬ييجي مليون‮ "‬شير‮" ‬وصلت القصيدة تاني لـ نجم،‮ ‬وفيها مقاطع هو مكتبهاش‮. ‬وده تقريبا الوصف الأكاديمي لتعبير فن شعبي‮.‬
شوف كده فيه كام قصيدة ظهرت في العشر سنين الأخيرة عليها اسم نجم،‮ ‬ومش هو اللي كاتبها،‮ ‬زي‮ "‬سلامتك‮ ‬يا ريس‮"‬،‮ "‬هتطلع هتنزل هجيبلك جمال‮"!‬
طبعا،‮ ‬مش بس الإديومز‮  ‬اللي بتعبر عن إمكانيات نجم،‮ ‬بس هي مثال حي لفكرة سيطرة الراجل علي اللي بيكتبه،‮ ‬ووعيه بالوصول للجمهور من أقصر طريق،‮ ‬لدرجة إن نجم ما بقاش شاعر،‮ ‬بقي ماركة‮.‬
2
لو‮ "‬ع‮" ‬النضال،‮ ‬فالراجل الله‮ ‬يرحمه له مواقف دفع تمنها كتير ما‮ ‬ينفعش حد‮ ‬يزايد حتي علي ضوافر رجليه،‮ ‬أحلي سنين حياته راحت في السجون،‮ ‬وعبد الناصر حلف بكل الأيمانات إنه ما هو خارج طول ما هو عايش،‮ ‬وقد كان،‮ ‬ما خرجش إلا بعد رحيل ناصر،‮ ‬والـ‮ ‬11‮ ‬سنة بتوع السادات قضي منهم‮ ‬ييجي بتاع تسع سنين في السجن‮.‬
بس إحنا برضه عارفين إنه مكنش الوحيد،‮ ‬معظم الشعرا اتمرمطوا في السجون‮: ‬فؤاد حداد وزكي عمر وزين العابدين فؤاد وغيرهم‮. ‬كمان نجم كان بيزعل الناس منه في مواقف كتير‮. ‬
الدعوة هنا مش للمقارنة مين نضاله أكبر،‮ ‬ولا هي محاكمة،‮ ‬عايز بس أشاور علي إن فكرة‮ "‬مات المناضل المثال‮" ‬اللي انتشرت إمبارح،‮ ‬بالنسبة لي،‮ ‬جملة مالهاش محل من الإعراب،‮ ‬مع إنها جملة سليمة،‮ ‬بس لا محل لها من الإعراب‮.‬
استدعاء نجم في العشر سنين الأخيرة،‮ ‬مشاركته بشخصه،‮ ‬بعد ما عدي الخمسة وسبعين في ثورة بتتعامل مع اللي عدي أربعين سنة باعتباره عجوز،‮ ‬ده اللي‮ ‬يستحق التأمل والتقدير،‮ ‬قدرته علي جمع الناس حواليه،‮ ‬سحره في الحكي،‮ ‬صلابته،‮ ‬غشوميته في أحيان كتير،‮ ‬طاقة الحب اللي بيتكلم بيها،‮ ‬اختراقه لكل الأسقف ببساطة،‮ ‬حتي الأسقف اللي إنت شخصيا مش عايز تخترقها،‮ ‬كل دي ملامح صعب تتجمع في شاعر فنان‮. ‬لكنها اتجمعت مع نجم،‮ ‬فبقي أسطورة،‮ ‬وكان جرسه من أعلي الأصوات اللي الشباب هزها وهم بيغنوا‮:‬
اصحي‮ ‬يا مصر
اصحي‮ ‬يا مصر
هزي هلالك
هاتي النصر
كوني‮ ‬يا مصر وعيشي‮ ‬يا مصر
مدي اديكي
وطولي العصر
اصحي وكوني وعيشي‮ ‬يا مصر

3
ومفيش لقباحته حدود،‮ ‬أقل كلمة كان‮ ‬يقولها‮: ".. ‬امه‮"‬،‮ ‬وده مكنش بيخلي حد مضايق منه،‮ ‬فاكر في الدستور الأولي‮ ‬1995‮-‬1996‮ ‬كان‮ ‬ييجي بجلابيته وضحكته وحكاياته
أياميها كانت كلمة زي‮ "‬A7A" شتيمة شنيعة،‮ ‬ما‮ ‬ينفعش بأي حال من الأحوال تقولها قدام واحدة ست أو قدام حد ما تعرفوش‮.‬
حكايات نجم كانت مليانة ألفاظ‮ ‬غير طبيعة،‮ ‬وتفانين في شتايم‮ ‬غالبا هو اللي اخترعها،‮ ‬ومحدش كان بيتضايق،‮ ‬حتي السكرتيرة،‮ ‬كانت تيجي تسمع،‮ ‬مع إنها في العادي كان ممكن‮ ‬يغمي عليها لو حد شتم حد بامه قدامها‮.‬
ومرة واحد صحفي في مكتب خليجي،‮ ‬جه وعمل حوار مع أبو النجوم،‮ ‬وقعد‮ ‬يسأل أسئلة بضينة كتير،‮ ‬ونجم قاعد مستحمله بالعافية،‮ ‬لحد ما سأله‮:‬
أستاذ أحمد فؤاد نجم،‮ ‬في قصيدتك إسكندرية،‮ ‬حضرتك تقصد إيه بـ"اسكندرية"؟
وزي ما‮ ‬يكون نجم مستني حاجة زي كده،‮ ‬راح رادد عليه بسرعة‮:‬
أقصد بورسعيد‮ ‬يا ابن الشرمـ‮..... ‬،‮ ‬قوم‮ ‬يا عر‮..... ‬من هنا‮.‬
فالموضوع مش إنك تشتم وخلاص،‮ ‬الشتيمة مش جدعنة ولا موهبة،‮ ‬بس احنا شعب الشتيمة جزء من لغته،‮ ‬فالعبرة هنا إنك بتستخدم لغته،‮ ‬وجزء منها الشتيمة،‮ ‬فبتطلع حاجة طبيعية،‮ ‬غير القصدية،‮ ‬إنك تبقي بتتكلم وكل شوية تقول‮: ‬اللهم إني نويت الشتيمة،‮ ‬هنا بقي تبقي قليل الأدب والعياذ بالله‮.‬
4
في الآخر
الحكاية بالنسبة لي مش إنه شاعر كبير ولا مناضل نحرير ولا مخلص للقضية ولا رافض للتعريض‮.‬
نجم حالة،‮ ‬عيوبها مزايا،‮ ‬والنقص فيها اكتمال‮.‬
عارف البني آدم الطاقة،‮ ‬المصري أبو عينين بتلمع،‮ ‬النمس،‮ ‬الاستثناء،‮ ‬نقاط ضعفه هي عناصر قوته‮. ‬فاهم كل حاجة،‮ ‬ويعرف‮ ‬يعمل أي حاجة،‮ ‬أكتر حاجة تقهره إحساسه إنه مش مؤثر‮.‬
أشعار كتير كتير ظهرت في السنين الأخيرة باسمه،‮ ‬مكتبش منها‮ ‬يمكن ولا حرف،‮ ‬غير قصيدة‮ "‬عريس الدولة‮"‬،‮ ‬وده لأنه انضم لجحا وإخواته من اللي الناس بيستخبوا فيهم‮.‬
اللي‮ ‬يكتب سطرين خايف أو مكسوف‮ ‬يحط عليهم اسمه،‮ ‬أو عايز الكلام‮ ‬ينتشر،‮ ‬يروح حاطط عليهم اسم أحمد فؤاد نجم‮.‬
أي حد عرف نجم‮ ‬غالبا زعل منه في موقف‮. ‬بص ما عرفش بعد كده‮ ‬يكمل زعل،‮ ‬وعلي رأي نزار قباني‮: ‬فأنت كالأطفال‮ ‬يا حبيبي،‮ ‬نحبهم مهما لنا أساؤوا‮.‬
خلاص،‮ ‬دلوقتي نجم خد مكانه،‮ ‬وصورته اتحطت في البرواز جنب العلامات،‮ ‬العلامات اللي بتثبت إن الزمن بينسي فرح وحزن‮ ‬ياما،‮ ‬بس مش بيقدر‮ ‬ينسي‮ "‬البني آدمين‮"‬
قال نجم مات قال‮!‬
 
 وجــــوه شعرية أخري للفاجومي
 
 
شعبان‮ ‬يوسف
يحكي صلاح عيسي عن النائب البرلماني‮ "‬زكريا لطفي جمعة‮" ‬الذي وقف في البرلمان،وراح‮ ‬يحرض النواب علي هذا الشاعر‮ "‬البذئ‮"‬،الذي‮ ‬يطلق سخافاته وبذاءاته في مجتمع‮ ‬ينعم بالاستقرارفي بداية الموجة الأولي للتمرد والانتفاض علي السلطة المصرية في أعقاب كارثة‮ ‬67،‮ ‬وكانت الجماهير الشعبية وطلائعها والمثقفون والساسة مبهوتين من هول الحدث،‮ ‬هناك من جن،ومن صرخ،‮ ‬ومن كاد‮ ‬يكفر بالحكام،‮ ‬وخرج الطلاب والعمال‮ ‬يطالبون برفض تنحي عبد الناصر وتحميله المسئولية،‮ ‬ثم خرجوا مرة ثانية لرفض الأحكام اللينة والهينة لقادة الطيران،كان الشعب كله مذهولا،ولا‮ ‬يوجد بيت في مصر لم‮ ‬يتأثر بهذه الكارثة،وكانت قصائد الشعراء حزينة ونادبة وفيها أسي شديد،وكنا جميعا مدهوشين،وغير قادرين علي التعبير الصحيح،إلا هذا الشاعر الذي انفجر فجأة في وجه الحياة السياسية والثقافية والشعبية،فعلا انفجر،إذ أنه لم‮ ‬يكن معروفا علي المستوي السياسي ولا الثقافي،هو الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي كتب قصيدته الشهيرة الحادة والجارحة‮  "‬البلاغ‮"‬،‮ ‬والتي‮ ‬يبدأها‮:‬
‮(‬خبطنا تحت بطاطنا
يامحلا رجعة ضباطنا من خط النار
يا أهل مصر المحمية بالحرامية
الفول كتير والطعمية
والبر عمار
ح تقولي‮ "‬سينا‮" ‬وما‮ "‬سيناشي‮"‬
ماتدوشناشي
ماستميت أتوبيس ماشي
شاحنين أنفار
إيه‮ ‬يعني شعب في ليل ذله
ضايع كله
دا كفاية بس أما تقوله‮:‬
إحنا الثوار‮!)‬
واعتبرها المثقفون آنذاك هي صوتهم الغائب والكامن والذي كان شاردا في الجبل المصري العتيد،وعند هذه الانفجارة الشعرية اللافتة،‮ ‬انفجرت سلسلة مفرقعات نقدية وفكرية علي نفس الدرجة والمستوي،وكتب محمود أمين العالم ورجاء النقاش وفؤاد زكريا وكمال النجمي وعبد الرحمن الخميسي وكامل زهيري واستاذ الموسيقي فرج العنتري وغيرهم،ولم تكن انفجارة الشاعر وحيدة،بل صاحبتها انفجارة أخري هي صوت وألحان رجل ضرير هو الشيخ إمام،وضما إليهما الفنان الفطري وضابط الإيقاع"الطبال‮" ‬محمد علي،أي تشكلت وبدأت تنمو أهم ظاهرة فنية سياسية ومتمردة في ذلك الوقت،وصارت هذه الظاهرة هي الشرارة الأكثر اشتعالا في كل المحافل الطلابية والشعبية والجماهيرية،وكان من الطبيعي أن تشاهد هذا الثلاثي الفني السياسي في أي مؤتمر سياسي طلابي،أو حفل فني،وكان أحمد نجم‮ ‬يبدأ أولا بإلقاء قصائده علي دندنات عود الشيخ إمام،الذي فور أن‮ ‬ينتهي نجم من إلقاء قصائده،حتي تتعالي كلماته مرة أخري متصاعدة من حنجرة الشيخ الضرير،وكثيرا ماكان الجمهور‮ ‬يطلب أغنيات محددة،ويختلف الجميع حول الاستقرار علي أغنية محددة،‮ ‬ولكن الشيخ إمام كان‮ ‬يحسم ويختار وينشد،وكان الجميع‮ ‬يسمع ويستمتع ويردد وينتشي،وتسود حالات ثورية فريدة،وكان دوما الشيخ إمام‮ ‬ينهي حفلته بأغنية‮ "‬جيفارا مات‮"‬،‮ ‬التي تنهتهي بكلمات صارخة ومحرضة تقول‮ :‬
‮(‬ياتجهزوا جيش الخلااااااااص
ياتقولوا ع العالم خلاص‮)‬
ويظل‮ ‬يرددها بتنويعات مختلفة،ويردد الجمهور الذي‮ ‬يصبح كورسا جماعيا خلفه،وكان للشيخ إمام حركة مشهورة‮ ‬يحدثها في نهاية كل حفل،وهي أنه‮ ‬يرفع عوده إلي أعلي،مع علو الهتاف والترديد،وبالطبع كان ذلك مقلقا لأمن الجامعة،وكان تهريب أو تمرير الشيخ إمام‮ ‬يستلزم كتيبة مقاتلة من الطلاب حتي‮ ‬يخرج الثلاثي الفني المتمرد في أمن وسلام‮.‬
لكن أين كان نجم قبل هذا التاريخ ؟،ولماذا تأخر كل هذه الفترة حتي‮ ‬يكون بيننا ؟،لاحظوا أن بدايته هذه كان أبو النجوم اقترب من الأربعين من عمره،فهو من مواليد‮ ‬22‮ ‬مايو1929،أي كان عمره ثمانية وثلاثين عاما،إذن ما الذي عطله كل هذه الفترة،ليبدأ حيث‮ ‬ينتهي الشعراء،ويستعدون لإصدار أعمالهم الكاملة،ويجلسون علي منصات عامرة بالميكروفونات ليتحدثوا عن تجاربهم،وفي هذا العمر‮ ‬يكون الشاعر من هؤلاء بدأ‮ ‬يجني ما زرعت‮ ‬يداه،لكن هذا الشاعر لم‮ ‬يجن سوي الليالي الطويلة التي قضاها في السجون والمعتقلات،‮ ‬أو قضاها متخفيا من البوليس‮.‬
في مذكراته‮ "‬الفاجومي‮" ‬يحكي قصة حياته كاملة،دون أن‮ ‬يزوقها،أو‮ ‬يطليها بعدد من البطولات الوهمية،فهو لا‮ ‬يحتاج إلي ذلك،‮ ‬فنجده مثلا‮ ‬يصف نفسه بالأحمق،وهذا لطولة لسانه،وهو الذي ذاق مرارة اليتم مبكرا،ومات أبوه المعجباني وضابط البوليس،وليس في جيبه سوي ثلاثة جنيهات،هي كل ثروته التي تركها لـ‮ "‬جرمأ‮" ‬من العيال،أي كوم لحم كما نقول في لغتنا الدارجة،وأرسلت الأم ابنها الشقي وطويل اللسان إلي ملجأالأيتام في الزقازيق،ومن المصادفات العجيبة،كان‮ ‬يصاحبه فتي آخر انكتب له مستقبل حافل فيما بعد،هو الفتي عبد الحليم شبانة من قرية‮ "‬الحلوات‮"‬،والذي اشتهر بعبد الحليم حافظ،وكأن الاثنين سارا في اتجاهين متعاكسين ومتناقضين،احمد فؤاد نجم سار في طريق الفقر،والثاني سار في طريق المجد والغني،‮ ‬رغم أنهما كانا‮ ‬يجتمعان معا في‮ ‬غرفة الموسيقي التابعة للملجأ،‮ ‬ويحفظان المقامات والتواشيح والأدوار والطقاطيق،‮ ‬وحسب صلاح عيسي كانا‮ ‬يعشقان الطرب،إذن كانا صديقين وزميلين،ولكن الأقدار اختلفت،والاختيارات تنوعت،للدرجة التي تحتضن السلطة واحدا،ولكنها تلفظ الآخر،وهذا لا‮ ‬ينفي أن عبد الحليم كان فنانا وطنيا من طراز فريد،ولكنه استطاع أن‮ ‬يوحد موهبته مع تطلعات الثورة،فغني لها وأنشد أجمل أغانيه في قائدها،اما الثاني فهجا هذه الثورة وقائدها،لدرجة أن هذا القائد جمال عبد الناصر،عندما اعتقل نجم في منتصف‮ ‬1968،‮ ‬حدث أن التقي نايف حواتمة قائد الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين،وعلي استحياء طلب حواتمة من عبد الناصر أن‮ ‬يفرج عن ثلاثة معتقلين،وهم أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وصلاح عيسي،ولكن عبد الناصر رد عليه في تجهم،وقال له‮:‬
‮(‬ماتتعبش نفسك،التلاتة دول مش ه‮ ‬يطلعوا م المعتقل طول ما أنا عايش‮!)‬
وبالفعل لم‮ ‬يخرج أبوالنجوم ورفيقاه إلا في مايو‮ ‬1971‮ ‬ليمارس حياته السياسية والاجتماعية،ويتزوج من الكاتبة الصحفية الكبيرة صافيناز كاظم،وهذا قد أثار تساؤلات كثيرة،أولها كيف‮ ‬يتزوج الشاعر الصعلوك المتمرد،من الكاتبة المثقفة خريجة الجامعة الأمريكية،والصحفية اللامعة ؟،وساعتئذ أطلق الكاتب الراحل الكبير مقولته المدهشة وقال‮ : "‬كأن شكوكو تزوج من سهير القلماوي‮"‬،ورغم ذلك عاش العاشقان حياة مثيرة،وأنجبا نوارة التي سارت علي نهجهما،ورغم أن نجما أفرج عنه في عهد السادات،إلا أنه لم‮ ‬يحمل ضغينة لجمال عبد الناصر وكتب فيه قصيدة رثاء من أجمل ماكتب،ولكن العهود السياسية التالية لم تحتف بنجم كمايليق بشاعر كبير،وتبادل نجم والسلطات جميعا كافة أنواع التراشق،هو كان‮ ‬يهاجمها ويكشف عوارها،وهي كانت بالتالي تسجنه وتعتقله من أجل أن‮ ‬يصمت مثل آخرين،أو‮ ‬يجنح ناحية السلام كما جنح آخرون،ولكنه اختار الطريق الأصوب بالنسبة له،ـوالطريق الأكثر عندا،فلم‮ ‬ينتم للجنة الشعر،ولم‮ ‬يقرأ شعره في المحافل الرسمية المصرية مطلقا،ولم‮ ‬يعتل منصة الأوبرا المصرية كما اعتلاها‮  ‬شعراء مصابون بالعقم الفني،‮ ‬ولكن نجما كان الأكثر تأثيرا والأكثر شعبية بين الناس‮..‬
هذه الحياة التي عاشها نجم قبل‮ ‬5‮ ‬يونيو،والتي أودت به إلي السجن الجنائي في قضية تزوير،حيث كان صعلوكا،فلم‮ ‬يجد العمل المستقر المريح،الذي‮ ‬يدر عليه أمولا وفيرة لتنفيذه من الجوع والفقر،‮ ‬ولكن كان أبو النجوم‮ ‬يكتب الشعر في السجن،مما نال إعجاب ضباط السجن،فينشر له المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب ديوانه الأول‮ "‬من الحياة والسجن‮"‬،وتقدمه للمرة الأولي الدكتورة سهير القلماوي،‮ ‬محتفية به،ومثنية علي أشعاره الطازجة والبكر والمختلفة،ثم‮ ‬يفرج عنه في عام‮ ‬1962‮ ‬ليلتقي بعدها بالشيخ إمام ومحمد علي ليصنع الثلاثة هذا الثلاثي الذي أشعل مصر من أقصاها إلي أقصاها،ولم تكن هناك قضية سياسية إلا وكان الثلاثة القاسم المشترك في هذه القضية،ويحكي صلاح عيسي عن النائب البرلماني‮ "‬زكريا لطفي جمعة‮" ‬الذي وقف في البرلمان،وراح‮ ‬يحرض النواب علي هذا الشاعر‮ "‬البذئ‮"‬،الذي‮ ‬يطلق سخافاته وبذاءاته في مجتمع‮ ‬ينعم بالاستقرار،وللأسف أن هذا النائب،هو نجل الزعيم والمفكر الوطني محمد لطفي جمعة‮.‬
ودون أن نطيل كثيرا،نختار هنا‮  ‬قصيدة رئيسية من أشعاره التي كتبها أبو النجوم قبل‮ ‬5‮ ‬يونيو،وهي في ديوانه الثالث‮ "‬حكاية الأهلي والزمالك‮" ‬المجهول والذي لم‮ ‬ينشر في أعماله الكاملة،وقد قام نجم‮  ‬بتقديمه بنفسه،مرجعا فضل حماسه‮  ‬لكتابتها إلي الإذاعي الشهير فهمي عمر،الذي كان نجم‮ ‬يزوره في الإذاعة،قبل أن تقرر الإذاعة استكتاب نجم لبعض البرامج،وفي هذا الديوان‮ ‬يطرح نجم أبرز الملامح التي تميز ظاهرة الجماهير الكروية،وفي هذه القصيدة التي نختارها،يدور حوار حماسي بين أشهر مشجعي الفريقين في ذلك الزمان،ويكشف كافة الآراء والإفيهات التي كانت سائدة في ذلك الوقت،وهذا مالم نجده في أي مرجع آخر،وأزعم أن حذف هذه الأشعار من المتن النجومي،لهو خسارة كبيرة وفادحة،لأن ذلك‮ ‬يخفي جانبا من شعرية أحمد فؤاد نجم،‮ ‬ويحرمنا من التعرف علي الحياة الاجتماعية والفنية فة تلك المرحلة لشاعر كبير مثل أحمد فؤاد نجم،والآن إلي القصيدة‮.‬


المندوه
‮ ‬من بهية النداهة‮ ‬
رؤوف سعد
كنت سألتقي بنجم في أمستردام‮ ..‬مرة لقاء رسميا في القصر الملكي‮  ‬بدعوة خاصة من مؤسسة البرنس كلاوس‮ ‬،‮ ‬أيدني في الحصول عليها صديق هولندي مقرّب من جماعة الجائزة‮ ..‬ومرات كنت انوي التصعلك معه في‮ " ‬الكوفي شوب‮ " ‬الخاصة بأمستردام المسموح لها رسميا آن تبيع‮" ‬المزاج‮ " ‬للمدخنين‮ ..‬
قالت لي سكرتيرة المنظمة انه سيحضر معه مني أنيس وشخصا‮  ‬اسمه‮ "‬الشهاوي‮ " ‬ولم اعرف أي شهاوي تقصد ولم اهتم‮ ..‬كان اهتمامي آن اعمل‮ "‬واجب‮ " ‬مع نجم‮  ‬الذي اعرفه منذ أيام‮ " ‬قدم‮ " ‬حيث أخذني إلي هناك صديق مشترك أراد آن بسري عني بعد الإفراج عنا في‮ ‬64‮  ..‬وصعدت الدرج المتهالك حيث كان هناك الشيخ أمام والفنان التلقائي محمد عبلة‮ ..‬ونجم طبعا‮..‬
ثم طلبت مني حنان ابنة المناضل شهدي عطية الشافعي‮ ‬أن تتعرف عليه‮ ‬،‮ ‬فأخذتها إلي هناك وتعامل معها نجم بحب أبوي‮  ‬ومودة خاصة‮ ..‬
التقيت به مرات كثيرة في بيروت ودمشق في عهد السادات وبضع مرات في ميريت في أيام مبارك‮  ..‬نتبادل حديثا وديا حذرا خاصة انه كان‮ ‬يؤيد ما تبقي من جماعات‮  ‬صدام‮  ‬والبعث العراقي ضد قوات التحالف‮ .‬بينما كنت حذرا في تأييدي خاصة إني عشت وعملت في العراق خلال‮  ‬سنوات حكم صدام‮  ‬وتعاطفت أساسا مع ضحاياه من شيوعيين وديمقراطيين‮ .‬
لكن هذا لم‮ ‬يفسد الود بيننا‮ .. ‬
بالطبع لم تعجبني اتهاماته ضد سيد حجاب‮  ‬والابنودي ولا طريقة اعتذاره‮ ..‬لكني أيضا‮  ‬لم أحفظها ضده،‮ ‬فقد وصلت‮  ‬بل وصل كلانا أو عدد كبير من جيلنا بمن فيهم حجاب والابنودي‮  ‬إلي سن‮ ‬،‮ ‬تتضاءل فيها الحزازات الشخصية ونتعامل معها كنكتة سخيفة في معظم الأحيان‮ .   ‬
منذ أسابيع طلبت من زوجتي أن تحجز لي تذكرة الطائرة علي الانترنيت ووجدنا بطاقة معقولة الثمن في اليوم التالي للاحتفال‮   ‬بتسليم نجم الجائزة‮ .. ‬فحجزناها‮ .‬
سألني البعض هنا عن‮ "‬أهمية نجم‮ " ‬لكي‮ ‬ينال الجائزة‮ .‬فأجبت آن من رشحوه من المؤكد‮ ‬يعرفون أن أشعار نجم التي‮ ‬غناها الشيخ أمام‮  ‬كانت هي السائدة في ميدان التحرير‮ ‬يوم خمسة وعشرين‮ ‬يناير مع أشعار زين العابدين فؤاد ونجيب سرور والابنودي وحجاب وغيرهم‮ ..‬رغم أنهم جميعا من جيل سابق لجيل الثوار بكثير‮ .‬
وهذا سر حلاوة بقاء أشعارهم رغم الزمن‮ !‬
سيقال الكثير عن نجم كشاعر ثوري من نوع خاص‮  ‬وعن مرحلة معينة من تاريخ مصر‮ ..‬وكل هذا صحيح وصائب‮ ..‬وسيحاول البعض أن‮ ‬يركز علي صورة نجم‮ "‬الفاجومي‮ " ‬التي أخمن معناها بالكاد ولا أستسيغها‮ .. ‬لكنه سيبقي دائما في ذاكرة محبيه ومريديه‮  ‬الذين‮ ‬يعرفونه جيدا‮ ( ‬بشكل ما‮ ..‬فلا احد‮ ‬يعرفه جيدا سوي نواره ابنته علي ما أظن‮ ) ‬بالشاعر الذي لم‮ ‬يتخل عن الجلابية حتي عند مقابلة ملوك وزعماء العالم‮ .. ‬والشاعر الذي أعاد اختراع‮ " ‬تاريخه الشخصي‮  " ‬أكثر من مرة باعتبار أن هذا من حقه‮ (!)‬
سنختلف حول أشياء تخصه قالها أو لم‮ ‬يقلها أو أنكرها‮ ..‬
لكنننا سنتفق جميعا أن حبه لمصر‮ " ‬بهية‮ " ‬التي أعاد اكتشافها أيضا‮ ‬،‮ ‬كان حبا صوفيا خالصا بدون شروط‮.‬
كان‮ ‬يناديها دائما‮ ..‬
‮ ‬وحينما استجابت له ندهته‮ ‬،‮ ‬فلبي النداء وهو‮ ‬يضرب لها تعظيم سلام
 
 
وصايا‮ ‬
‮ "‬نجم‮" ‬السبعة
فيروز كراوية
الأولي‮: ‬عشان تفتكروني‮... ‬إنسوني
عشت زمني،‮ ‬لحظة بلحظة،‮ ‬ثورة بعد ثورة،‮ ‬حاكم بعد حاكم،‮ ‬حب بعد حب‮. ‬لا هربت للي فات،‮ ‬ولا بنيتله أصنام‮. ‬لا عملت شيخ ولا درويش،‮ ‬لا كنت بطل ولا زعيم‮. ‬نفر عايز‮ ‬يجيب موهبته لآخرها‮. ‬وموهبته حرام وحلال،‮ ‬وعسل ونار،‮ ‬وأمنيات وممنوعات‮. ‬مش عايز منكم دراويش،‮ ‬ولا بهاليل،‮ ‬ولا تلاميذ‮. ‬مستنيكم تفتشوا زي ما فتشت،‮ ‬وتنكشوا زي ما نكشت‮... ‬وحلّوا عن سمايا بأه‮.‬
التانية‮: ‬عيشوها بالطول والعرض
بالطول تكبروا،‮ ‬تتمدوا لفوق وتحفروا جدر لتحت‮. ‬تجيبوا الكلام اللي ماحدش جابه،‮ ‬وتهربوا من الخيابة والتكرار،‮ ‬ما تلفوش في حلقة ذكر،‮ ‬وتهللوا ورا كودية الزار‮.‬
بالعرض تتفردوا،‮ ‬تضللوا علي اللي حواليكو،‮ ‬تشوفوهم،‮ ‬تبصوا في عينيهم،‮ ‬اللي فيها جمال تعاينوه،‮ ‬والقبح تستروا عليه‮. ‬تبقوا فروع ماحدش عارف أولها من آخرها،‮ ‬وليكو في كل قلب ذكري‮.‬
التالتة‮: ‬الخوف ما‮ ‬يجيبش شعر
الشعر ما‮ ‬يجيش إلا وانت مش خايف‮. ‬الشعر أشكال وألوان؛ الجنان شعر،‮ ‬والحب شعر،‮ ‬والتريأة شعر،‮ ‬والشتيمة شعر،‮ ‬المشي في الشوارع شعر‮. ‬وكل شاعر وله طريقة؛ فيها اللي عرف‮ ‬يكتب شعره كلام،‮ ‬وفيها اللي عرف‮ ‬يخلّي حياته قصيدة‮.‬
المسجون ما‮ ‬يعرفش‮ ‬يقول شعر‮.‬
الرابعة‮: ‬ما تشوفوا حلاوة الإنسان
أنا عاجب نفسي،‮ ‬واعرف أعجبكو،‮ ‬واعجب الباشا‮. ‬مش لمعجزة فيا،‮ ‬ولا كرامات‮. ‬ده رضا وصياعة وشوية أسرار للكاريزما‮. ‬خليكوا حلوين في نفسكو،‮ ‬ودوروا علي الحلاوة في اللي حواليكو،‮ ‬شوفوا الستات حلوين ازاي،‮ ‬أمهات وبنات وستات،‮ ‬علي كل لون حلوين‮... ‬والحلو بس هو اللي‮ ‬يعرف‮ ‬يشوف الحلوة‮.‬
الخامسة‮: ‬مصر مش بتاعة حد
مهما حاولتوا تشدوا التوب من طرف واحد،‮ ‬هتعاند،‮ ‬راسية وقديمة وبايخة ولئيمة،‮ ‬تقيلة الحركة،‮ ‬زمنها ابتدي ومش بينتهي‮. ‬انا عشت وشفت اللي عايز‮ ‬يسايسها بالحديد والنار،‮ ‬واللي عايز‮ ‬يمسّخ عيشة الغلابة فيها،‮ ‬واللي عايز‮ ‬يحجّبها ويغطيها‮... ‬وسبتهم بيضربوا أخماس في أسداس،‮ ‬اللي‮ ‬يقف قصاد زمن مصر‮ ‬ينداس‮.‬
السادسة‮: ‬كشفت وشي ودعيت
عشان اشوف وشوشكم مكشوفة،‮ ‬كان لازم أكشف وشّي‮. ‬كان لازم تعرفوا عيبي،‮ ‬والبلاوي اللي عملتها،‮ ‬وكان لازم اقولكو ان سكتي زي سكتكم،‮ ‬ضلامها أكتر من نورها،‮ ‬واللي‮ ‬يقول إنه عارف اللي فيها واد‮ ‬يويو،‮ ‬ما تاخدوش علي كلامه‮.‬
كل وش كشفته شم الهوا،‮ ‬اتفتّح زي ورد الجناين،‮ ‬إتنفست،‮ ‬وعشت ما متّش‮. ‬بنيت قصور رمل،‮ ‬وفرحت وانا باهدها،‮ ‬أو الموجة الإسكندرانية بتيجي تكنسها‮. ‬فرحت زي ما بكيت،‮ ‬بردت زي ما دفيت‮. ‬أنا بلوة مسيّحة،‮ ‬الوش اللي بيدبل،‮ ‬أعرف أجيب‮ ‬غيره‮.‬
السابعة‮: ‬الرقة زينة الكلام
ما تلفوش الكلام بالغطيان،‮ ‬ما تاخدوش الكلام في الحواري الضلمة وتغتصبوه،‮ ‬وتلففوه في الدهاليز،‮ ‬وتصعّبوه،‮ ‬وتخنقوه‮... ‬سيبوه‮.
 
 
نجم‮ ‬
الذي لا‮ ‬يعرفني


سمر دياب
كنت في السادسة عشرة من عمري حين سمعت اسم أحمد فؤاد نجم لأول مرة‮ . ‬تلفظ به صديق لي أمامي مع ابتسامة مفتوحة علي تأويلات كثيرة لم أفهم سببها حينها‮. ‬قال لي‮: ‬أنت بالذّات ستحبّين نجم‮. ‬كان هذا كافياً‮ ‬لأقضي السنوات اللاحقة وأنا أطارد ما‮ ‬يقوله نجم و‮ ‬يغنيه إمام ليصبحا جزءاً‮ ‬من أذني حتي هذه اللحظة‮. ‬ولكن،‮ ‬خارج الموسيقي‮ ‬،‮ ‬كان ثمة شيء آخر‮ ‬يحفر في العقل و الروح‮. ‬الكلام الذي لا‮ ‬يريد منك أن تطرب له فقط،‮ ‬بل‮ ‬يريدك أن تغيّر حياتك كلها،‮ ‬أن تصبح ببساطة،‮ ‬شجاعاً‮. ‬كلام‮ ‬يكتبه‮  " ‬حفيد فلاح مصريّ‮ " ‬حوّلته الموهبة إلي ملك في صعلكته‮  ‬ونزقه الحيّ‮. ‬كانت الحقيقة بالنسبة لي هي ما‮ ‬يقوله نجم أولاً‮ ‬ويغنيه إمام‮. ‬مأدلجون؟ فليكن‮ . ‬كان لابدّ‮ ‬من اعتناق هويّة رافضة،‮ ‬لا تعادي الانتماء لحقّها في إطلاق صرختها ومستعدة للموت وهي تسخر من جلّاديها‮. ‬تلك هي الكيمياء التي حدثت منذ وقت طويل بيني و بين كلام وصورة نجم،‮ ‬و التي فعلت المطلوب منها بالضبط‮: ‬حسم الوجهة نحو الـ‮ " ‬لا‮" .‬
أدخلني نجم إلي مصر أخري لم‮ ‬يكن سنّي ولا اهتماماتي وقتها تسمح لي بالتعرف إليها في جوهرها‮. ‬مصر التي تضجّ‮ ‬بعوالم مربكة في صخبها الإنساني اليومي،‮ ‬رأيتها في أشعاره أمّةً‮ ‬من الأنين،‮ ‬كلّما‮ ‬غار النصل عميقاً‮ ‬فيها،‮ ‬كلما استبسلت في فضح الواقع و نفسها أكثر فأكثر،‮ ‬و ليحدث ما‮ ‬يحدث‮ . ‬كانت صورة وحياة نجم بعُريها الإنساني الساخط علي مفهوم القيم الشائع،‮ ‬و المتطرّف حدّ‮ ‬الفجاجة في تلقين المنتمين إلي الحياد درساً‮ ‬في الحياة و الشعر و الكلام‮ ‬،‮ ‬صورة عفويّة متكاملة‮ ‬،‮ ‬طينة خام،‮  ‬جعلت من نجم نجماً‮ ‬من دون استدعاء وسائط أو ادّعاءات خوارقية‮. " ‬النحيل الغامق المجعّد الخطير‮" ‬،‮ ‬كما كنت أدعوه،‮ ‬وضعني وجهاً‮ ‬لوجه أمام قضايا هي نفسها الحياة‮. ‬الأوطان والحروب‮  ‬والكرامة‮ ‬،‮ ‬ألم القهر والذلّ‮ ‬والسجن‮  ‬والجوع‮ ‬،‮ ‬الحرّية و الابتسامة والحبّ‮. ‬أقفز من قصيدة لقصيدة،‮ ‬ومن أغنية لأغنية،‮ ‬ثمّ‮ ‬أخرج وأنا أشعر بالامتلاء والإطمئنان،‮ ‬مثل طفلة وجدت درب العودة من المتاهة‮.‬
اليوم،‮ ‬مات نجم‮ . ‬ومع أني لم ألتق به أبداً‮ ‬،‮ ‬ولاهو كان‮ ‬يعرف بوجوده في حياتي بل بوجودي كله من أساسه،‮ ‬لكني حين عرفت برحيله فتحت عينيّ‮ ‬علي وسعهما‮ ‬،‮ ‬وخرج مني استفهام استنكاري‮ : " ‬إلي أين ؟‮! ". ‬لا أعرف تماماً‮ ‬إلي أين ذهب أحمد فؤاد نجم‮ ‬،‮ ‬ماأعرفه أن العالم نقص إنساناً‮ ‬استحقّ‮ ‬المحبة والشعر و إثارة الجدل‮ . ‬وهذا أمر‮ ‬يستدعي حزناً‮ ‬نقيّاً‮ ‬يستحقّ‮ ‬الإخلاص‮ ‬،‮ ‬و تحيّة‮  ‬لا تقدّم و لاتؤخّر في شيء سوي في تغيير زاوية موته من قائمة إلي حادّة‮. ‬من السادسة عشر إلي السادسة و الثلاثين،‮ ‬عشرون عاماً‮ ‬من الامتنان‮ . ‬فهمت الآن لماذا ابتسم صديقي حينها‮.  ‬وداعاً‮ ‬أحمد فؤاد نجم‮.‬
بيروت
 
 
طائر
‬حر

ياسين عدنان‮ ‬
احمد فؤاد نجم طائر حر،‮ ‬شاعر اصيل،‮ ‬وإنسان شهم‮. ‬ابن بلد‮. ‬عاش طفلا ومات طفلا‮. ‬كان علي الدوام‮ ‬يشهر في وجه الحزن فرحه بالحياة‮. ‬كان الفرح مهنته‮. ‬يبحث دوما عن المسرات الصغيرة ويسرقها رغم ما‮ ‬يبدو عليه من قلق وتوتر دائمين،‮ ‬ورغم شتائمه التي لا تنتهي‮. ‬يشتم الجميع‮. ‬الرؤساء والحكومات ومثقفي السلطة وشعراء البلاط‮. ‬كلهم عنده‮: "‬أولاد الوسخة‮"‬،‮ "‬أولاد الكلب‮".  ‬حينما حل بالدار البيضاء آخر مرة كنا نسهر معا ونقضي وقتا ممتعا في‮ ‬غرفته وكانت معنا ابنته وناشرنا المشترك محمد هاشم صاحب دار ميريت الذي نشر لي مجموعتي القصصية الأولي ونشر لنجم أعماله الكاملة وصديقنا الجزائري بوزيد حرز الله والساخر المغربي الكبير أحمد السنوسي‮ (‬بزيز‮). ‬وكانت حكايات عم أحمد لا تنتهي‮. ‬في لحظة قلت له‮: ‬عم احمد،‮ ‬ستأتي معي إلي مشارف‮. ‬يجب أن نسجل حلقة تبقي للتاريخ وتمكن محبيك في مختلف مناطق المغرب من مصافحتك والجلوس إليك ولو للحظات عبر قناتهم الوطنية‮. ‬فما كل احبابك بإمكانهم‮ "‬الحج‮" ‬إليك حتي الدار البيضاء‮. ‬وفيهم طلبة ومدرسون في الأقاصي‮. ‬فسألني‮: ‬وماذا عن التعويض؟ انت تعرف ظروفي‮ ‬يا‮ ‬ياسين وأنا آخذ مالا من التلفزيونات لأن لديهم فلوسا بالهبل‮. ‬ويجب ان‮ ‬يدفعوا لي‮. ‬قلت له‮: ‬أتفهم الأمر واقدر ظروفك‮. ‬لكن البرنامج الذي أعده وأقدمه محدود الإمكانيات‮  ‬وإدارة التلفزيون عندنا لا توفر تعويضات للضيوف‮. ‬كان في البداية‮ ‬يتحدث عن ثلاثة آلاف دولار‮. ‬وطبعا لم‮ ‬يكن لدي مورد للدفع‮. ‬لكن في لحظة مشرقة ونحن نغني في‮ ‬غرفته‮: "‬كل عين تعشق حليوة،‮ ‬وانتِ‮ ‬حلوة في كل عين‮". ‬قفز عم احمد من مكانه كأنه تذكر شيئا هاما‮. ‬ثم توجه إلي قائلا بحماس مفاجئ‮: "‬تعرف‮ ‬يا‮ ‬ياسين بكرة حانصور‮. ‬بكرة حا روح معاك‮.. ‬تعرف علي شان مين؟ من أجل طلبة الجامعات البعيدة عن البيضاء اللي‮  ‬حكيت لي عنهم‮.. ‬من أجل حبايبي الطلبة‮  ‬اللي حافظين كلامي وماعرفوش‮ ‬يجوني ع المعرض‮." ‬هذا هو احمد فؤاد نجم‮. ‬هذا هو معدنه الأصيل‮. ‬ولهذا بالضبط عاش شامخا ومات واقفا تماما مثل شجرة‮ ‬علي شط النيل‮.‬
المغرب
 
منقول من موقع أخبار الأدب