الجمعة، 2 مايو 2014

»" في أغسطس نلتقي‮ "..‬ رواية جديدة‮ ‬غير مكتملة لماركيز‮ ‬



أكد كلاوديو لوبيث مدير دار بنجوين راندام هاوس للنشر،‮ ‬المعنية بنشر أعمال ماركيز أنه بصدد نشر رواية لم يسبق نشرها لجابو،‮ ‬مشيرا في الوقت نفسه إلي أن الرواية‮ ‬غير مكتملة وأن القرار النهائي بشأن نشرها هو أمر يخص ورثة الأديب الكولومبي‮..‬وقال لوبيث في حوار صحفي‮ :"‬هناك بالفعل رواية ولدي المسودة ولكنها رواية‮ ‬غير مكتملة ولذلك لم يتم نشرها‮..‬انها مكتملة بنسبة‮ ‬85٪‮ ‬ولكن نهايتها مفتوحة لحد كبير وهو لم ينهها‮".‬وأضاف‮ "‬اعتقد أنها ستري النور ان عاجلا أم آجلا‮ ..‬انها تستحق ذلك ولكن كرواية‮ ‬غير مكتملة‮". ‬وأكد الناشر في ذات الوقت أن القرار النهائي يعود لورثة ماركيز،‮ ‬مشيرا إلي أنه ليس هناك مزيد من المادة الأدبية التي لم تنشر للأديب الكولومبي‮.‬

‮"‬عادت للجزيرة يوم الجمعة السادس عشر من أغسطس في العبارة التي وصلت في الثانية ظهرا‮..‬كانت ترتدي قميصا ذا مربعات صغيرة وبنطلوناً‮ ‬جينز وحذاء بسيطا بدون كعب وبدون جوارب‮..‬لم تكن تحمل من أمتعة سوي مظلة وحقيبة بحر.بدا صف سيارات التاكسي بجوار الرصيف كأنه نموذج قديم متآكل بفعل البارود.استقبلها السائق بتحية صديق قديم واصطحبها عبر قرية السكان الأصليين ذات المنازل المبنية من الخوص المعشق بأسقف من سعف النخيل،‮ ‬والشوارع المفروشة برمال بيضاء مطلة علي بحر متأجج.كان عليه أن يقوم بالعديد من المناورات ليتفادي الخنازير الهائجة والأطفال العرايا الذين يتسلون بأداء حركات مصارعي الثيران‮. ‬في نهاية القرية دلفا في طريق يحفه النخيل يقود إلي الشواطي والفنادق السياحية الواقعة بين البحر المفتوح وبحيرة مغلقة تسكنها طيور البلشون الزرقاء.أخيرا توقفا أمام الفندق الأقدم والأكثر حقارة.كان الحاجب ينتظرها حاملا مفاتيح الحجرة الوحيدة في الطابق الثاني التي تطل علي البحيرة.صعدت الدرج في أربع قفزات ودلفت إلي الحجرة الفقيرة المعبأة برائحة المبيد الحشري والمشغولة تماما تقريبا بذلك الفراش المعد للازواج.أخرجت من حقيبتها علبة جلدية وكتابا سميكا يحمل بين صفحاته فتاحة خطابات من العاج وضعته علي الطاولة المجاورة للفراش‮ ..‬وأخرجت كذلك قميص نوم من الحرير وضعته تحت الوسادة.أخرجت منديلا من الحرير يحمل صورا مطبوعة لطيور استوائية وقميصا أبيض قصير الاكمام وحذاء تنس مستخدما وحملت كل ذلك معها إلي الحمام مع العلبة الجلدية‮.‬
قبل أن تستحم خلعت القميص ذا المربعات وخاتم الزواج والساعة ذات الطابع الرجالي التي كانت تضعها في يدها اليمني وأخذت ترش وجهها بالماء لتزيل‮ ‬غبار السفر وتطرد نوم القيلولة.عندما انتهت من تجفيف وجهها راحت تنظر في المرآة متفحصة نهديها المدورين المشدودين علي الرغم من ولادتين سابقتين،‮ ‬ومع أنها تجاوزت العقد الخامس من العمر‮..‬شدت وجنتيها بأطراف أناملها للخلف لاستعادة مظهرها في شبابها وشاهدت وجهها بهاتين العينين المسحوبتين والانف المفلطح والشفتين الدقيقتين‮ .‬تغاضت عن التجاعيد الاولي التي بدأت تظهرعلي جيدها ولا مفر منها،‮ ‬وأظهرت أسنانها المستوية التي فرشتها جيدا بعد الافطار الذي تناولته في العبارة‮ .‬حكت ابطيها اللذين ازالت الشعر عنهما حديثا بمزيل العرق وارتدت القميص القطني الناعم الذي نقشت الحروف‮  ‬AMB‮ ‬يدويا اعلي جيبه.مشطت شعرها الهندي الطويل الذي يغطي كتفيها وربطته للخلف بالمنديل المنقوش بصور الطيور.وأخيرا رطبت شفتيها بإصبع المرطب ثم بللت طرف اصبعها بلسانها ومسحت حاجبيها المرسومين ثم أضفت رشة من عطرها الثقيل خلف اذنيها وألقت نظرة أخيرة في المرآة بوجه أم في خريف العمر‮..‬هذه البشرة التي لا تبدو عليها أية آثار لمواد التجميل تشع بلونها الطبيعي والعينان العسليتان الغارقتان بين الاجفان البرتغالية لا يكشفان عن سن‮. ‬حاسبت نفسها بعمق وبلا رحمة ووجدت نفسها علي ما يرام بقدر ما كانت تشعر.فقط عندما وضعت خاتم الزواج والساعة تنبهت إلي أنها كانت متأخرة:بقيت ست دقائق علي الخامسة‮.‬غير انها منحت نفسها دقيقة من الحنين لتأمل طيور البلشون التي وقفت بلا حراك وسط أبخرة البحيرة المتأججة.أنبأتها كتل السحب السوداء المتراكمة علي جانب البحر بضرورة حمل المظلة‮..‬
كان التاكسي ينتظرها تحت أشجار الموز قبالة مدخل الفندق.مضت في الطريق المحفوف بالنخيل حتي وصلت إلي منطقة لا تقع بها أي فنادق حيث يوجد سوق شعبي في الهواء الطلق،‮ ‬وتوقفت عند أحد دكاكين الزهور.ثمة عجوز زنجية كانت تأخذ القيلولة علي مقعد بحر استيقظت فجأة وتعرفت علي السيدة الجالسة في المقعد الخلفي للسيارة وأعطتها،‮ ‬وسط ضحكات وثرثرة فارغة فرع من زهور الجلاديولس احتفظت لها به منذ الصباح‮. ‬بعد بضعة أمتار انحرف التاكسي في طريق‮ ‬غير ممهد يصعد إلي تل من الاحجار المتراصة‮ .‬وعبر الهواء المعبأ بالحرارة كان يمكن رؤية اليخوت الفاخرة تقف بمحاذاة الرصيف السياحي والعبارة التي توشك علي المغادرة بينما يلوح منظر المدينة عن بعد وسط الضباب والكاريبي المفتوح‮.‬
علي قمة التل تقبع مقابر الفقراء البائسة‮..‬دفعت البوابة التي يعلوها الصدأ بلا أدني جهد ثم دلفت حاملة فرع الزهور وسارت في الطريق الذي تحيطه القبور التي تغطيها النباتات المتسلقة حيث تتناثر حطام توابيت وعظام فحمتها الشمس.بدت القبور جميعها متشابهة في تلك المقابر المهجورة التي تتوسطها شجرة سيبا ذات أفرع ضخمة.كانت الحجارة المدببة تلحق الضرر بالحذاء الكاوتشوك الملتهب أصلا بفعل الشمس الحارقة التي تتسلل عبر نسيج المظلة.ثمة سحلية اجوانا ظهرت أمامها فجأة من بين الاشجار فتوقفت ونظرت إليها لبرهة قبل أن تفر بسرعة‮.‬
كانت قد انتهت من تنظيف ثلاثة شواهد وأصابها الارهاق وراحت تتصبب عرقا عندما نجحت أخيرا في التعرف علي ذلك الشاهد الرخامي المائل للاصفرار الذي يحمل اسم والدتها وتاريخ وفاتها قبل تسعة وعشرين عاما‮..‬كانت قد اعتادت أن تروي لها كافة الاخبار،‮ ‬فقد أخبرتها مثلا بجميع التفاصيل السرية لكي تساعدها علي اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان عليها أن تقبل الزواج أم لا واعتقدت أن الرد جاءها بعد أيام قليلة في صورة حلم بدا لها حكيما ولا يحتمل الخطأ.وتكرر الأمر ذاته عندما ظل ابنها بين الحياة والموت لاسبوعين بعد ان تعرض لحادث سير‮ ‬غير أنها اعتقدت انها تلقت الرد هذه المرة ليس في صورة حلم بل عبر محادثة بالصدفة البحتة مع سيدة اقتربت منها في السوق بدون أي مبرر‮..‬لم تكن ممن يؤمنون بالخرافات‮ ‬غير أنه كان لديها هذه الثقة المستندة إلي المنطق في أن هذا التناسخ الكامل بينها وبين والدتها مستمر حتي بعد وفاة الوالدة.وهكذا فقد طرحت عليها كافة الاسئلة التي جمعتها علي مدار العام ووضعت الزهورعلي القبروهي واثقة تماما في أنها ستتلقي الرد في أقرب وقت ممكن‮.‬
المهمة اكتملت:لقد اعتادت تكرار هذه الرحلة طيلة ثمانية وعشرين عاما متتالية في السادس عشر من شهر أغسطس من كل عام في نفس الوقت وفي نفس الحجرة بذات الفندق ومع نفس التاكسي ومن بائعة الزهور ذاتها تحت نفس الشمس الملتهبة في تلك المقابر الخاصة بالسكان الاصليين لتضع فرع الجلاديولس علي قبر والدتها‮..‬ومنذ هذه اللحظة لم يعج لديها ما تفعله حتي التاسعة من صباح اليوم التالي،‮ ‬وهو الموعد المحدد لمغادرة العبارة في رحلة العودة‮.‬
كانت تدعي انّا مجدالينا باخ،‮ ‬وكانت قد أكلمت عامها الثاني والخمسين من العمر والثالث والعشرين في زيجة تسير علي نحو طيب من رجل يحبها تزوجته قبل أن تتم تعليمها وهي عذراء بدون أية علاقات عاطفية سابقة‮..‬أما والدها فهو استاذ للموسيقي لا يزال وهو في الثانية والثمانين من العمر يشغل منصب مديرمعهد الموسيقي البلدي.وكانت والدتها معلمة نابهة للمرحلة الابتدائية ولم ترغب حتي آخر أنفاسها في أن تكون‮ ‬غير ذلك علي الرغم من مميزاتها الكثيرة‮.‬
ورثت أنا ماجدالينا عن والدتها جمال العينين المائلتين للصفرة وفضيلة قلة الكلام والذكاء الذي يمنحها القدرة علي اخفاء قوة شخصيتها.كانت والدتها قد أعربت عن رغبتها في أن تدفن في الجزيرة قبل وفاتها بثلاثة أيام.وكانت أنا ماجدلينا ترغب في أن ترافقها منذ الرحلة الاولي‮ ‬غير أن أحدا لم يتحمس فهي ذاتها لم تكن واثقة في قدرتها علي التغلب علي الشعور بالضيق.وعلي الرغم من ذلك فإنه في الذكري السنوية الاولي اصطحبها جدها للجزيرة لوضع الشاهد الرخامي علي مقبرة الام.شعرت بالفزع خلال الرحلة التي قطعتها في قارب بموتور والتي استغرقت قرابة الاربع ساعات وسط بحر لم يشهد لحظة من الهدوء‮..‬اعجبتها كثيرا تلك الشواطئ ذات الرمال الذهبية التي تجاور الغابة البكر وتلك الضوضاء الهادرة التي تحدثها الطيور والتحليق المبهر لطيور البلشون علي ضفاف البحيرة المغلقة‮.‬غير أنها شعرت بالحزن الشديد تجاه البؤس الذي تعانيه القرية التي يتعين علي أهلها أن يناموا في العراء في شباك النوم المعلقة بين نخيل جوز الهند،‮ ‬وهذا العدد الكبير من الصيادين الزنوج مبتوري الاذرع بسبب الانفجار المبكر لاصابع الديناميت.إلا أنها علي الرغم من كل ذلك فقد تفهمت رغبة والدتها عندما شاهدت بهاء العالم من القمة التي تقع عليها المقابر‮..‬عندئذ فقط اخذت علي نفسها ذلك العهد بأن تضع فرع الزهور علي قبر والدتها طوال حياتها‮.‬
أغسطس هو الشهر الأكثر حرارة خلال العام العام كما أنه الأغزر أمطارا،‮ ‬غير أنها كانت تنظر للأمر باعتباره التزاما شخصيا ينبغي عليها الوفاء به دون تأخير‮..‬ودائما بمفردها.وكان هذا هو الشرط الوحيد الذي فرضته علي زوجها قبل الزواج،‮ ‬وكان هو من الذكاء أن اعترف بأنه أمر خارج عن سلطته‮..‬وهكذا فقد تابعت أنا ماجدالينا تزايد الممرات الزجاجية التي تقيمها الفنادق السياحية،‮ ‬كما مرت بالتطور الذي شهدته الزوارق إلي اللنشات ذات المحرك وصولا إلي العبارت،‮ ‬وعلي هذا فقد كان لديها من الدوافع ما يشعرها بأنها أقدم سكان القرية‮.‬
عندما عادت إلي الفندق في تلك الظهيرة تمددت علي السرير بملابسها الداخلية فقط واستأنفت قراءة الكتاب الذي بدأت فيه خلال الرحلة.كانت رواية دراكولا الاصلية لبرام استوكر.كانت دوما قارئة ممتازة وكان أكثر ما يعجبها وتقرأه بنهم هي الروايات القصيرة من أي نوع مثل لاثاريو دي تورمس والعجوز والبحر والغريب وغيرها.ولكنها خلال الاعوام الاخيرة بعدما تجاوزت الخمسين أصبحت مولعة بروايات ما وراء الطبيعة‮.‬
أبهرتها دراكولا منذ البداية بيد أنها في ذلك المساء استسلمت للهديرالمتصل للمروحة المعلقة في السقف واستغرقت في النوم محتفظة بالكتاب فوق صدرها‮. ‬استيقظت بعد ساعتين فوجدت نفسها محاطة بالظلام وهي تتصبب عرقا وتشعر بجوع شديد وقد تعكر مزاجها.لم تكن هذه حالة استثنائية في روتينها خلال هذه السنوات.كانت حانة الفندق تظل مفتوحة حتي العاشرة مساء وكثيرا ما نزلت إليها لتتناول شيئا من الطعام قبل أن تنام.لاحظت أن هناك عددا من الزبائن يفوق المعتاد في مثل هذا الوقت وخيل إليها أن النادل قد تغير.طلبت ساندوتشا من اللحم المقدد والجبن مع الخبز المحمص وقهوة باللبن.لاحظت أنها كانت محاطة بعدد من الزبائن يماثل تلك الاوقات التي كان فيها الفندق الوحيد في المنطقة.ثمة طفلة سمراء كانت تغني بضع اغنيات بوليرو من الرائجة في ذلك الوقت،‮ ‬بينما يصاحبها أجوستين روميرو بالعزف علي بيانو ذي اوتار افقية‮ .‬
شعرت بالاكتئاب وأثقلها شعور بالمهانة لكونها تتناول طعامها وحيدة،‮ ‬لكنها كانت مرتاحة للموسيقي التي كانت ناعمة وحنونة كما أن الطفلة كانت تجيد الغناء‮..‬عندما عادت إلي طبيعتها لم يكن تبقي في الحانة سوي ثلاثة أزواج علي موائد متفرقة،‮ ‬وأمامها مباشرة كان يقف رجل مختلف لم تكت قد شاهدته يدخل للمكان.كان يرتدي ملابس من الكتان الابيض كتلك المنتشرة في زمن والدها وله شعر لامع وشارب جندي ذي طرفين مدببين.كانت المائدة التي يجلس عليها تحمل زجاجة من العرق وكأسا مملوءا حتي منتصفه‮ ‬،‮ ‬بينما كان هو يبدو وحيدا في العالم‮.‬
بدأ البيانو يعزف ضوء القمر لديبوسي في إيقاع يتلائم مع رقصات البوليرو وشدت الطفلة السمراء في حب.تأثرت أنا ماجدالينا بالموسيقي فطلبت كأسا من الجن بالصودا والثلج،‮ ‬وهو المشروب الروحي الوحيد الذي تسمح لنفسها به بين الحين والحين ويمكنها احتماله.اعتادت أن تستمتع بشربه علي رشفات مع زوجها الخبير في الشراب الذي كان يعاملها بأدب ولطف عشيق سري‮.‬
تغير العالم تماما بعد الرشفة الاولي وشعرت بأنها أصبحت علي ما يرام وبأنها سعيدة وجريئة وقادرة علي فعل اي شيء،‮ ‬وأشعرها ذلك الخليط السحري بين الموسيقي والكحول بأنها ازدادت جمالا.كانت تعتقد أن الرجل علي المائدة المقابلة لم ينظر إليها لكنها عندما أعادت النظر إليه بعد الرشفة الاولي من الجن فوجئت بأنه ينظر إليها‮..‬اصطبغ‮ ‬وجهه بالحمرة أما هي فعلي العكس تماما إذ ركزت بصرها عليه بينما راح هو ينظر للساعة في صبر نافد ثم نظر للباب وصب لنفسه كأسا آخر بارتباك بعدما أدرك أنها كانت تنظر إليه بلا هوادة‮...‬عندئذ بادلها النظر فابتسمت بدون تحفظ بينما حياها هو بهزة خفيفة برأسه وحينها قامت متوجهة إلي مائدته وباغتته بوخزة في كتفه‮ .‬
هل يمكنني أن أدعوك إلي شراب؟
هذا يشرفني‮.‬
يكفيني أن تقول إنه يسعدك‮.‬
قبل أن يجيب كانت قد جلست إلي المائدة وصبت الشراب في كأسه ثم في كأسها.وكانت تفعل ذلك بتمكن وأسلوب رفيع جعله لا يجرؤ علي أخذ الزجاجة منها ليمنعها من الصب‮.‬
في صحتك
رد بالمثل وقام كلاهما بتجرع الشراب دفعة واحدة.شعر بالاختناق وراح يسعل وقد ارتج جسده كله وسالت دموعه بغزارة‮. ‬أخرج منديله المعطر باللافندر ونظر إليها عبر دموعه المنسالة.لاذ كلاهما بالصمت لبرهة حتي انتهي من تجفيف وجهه واستعاد صوته‮. ‬تجرأت وسألته‮ :‬
امتأكد أن أحدا لن يحضر؟
قال بلا وعي‮- ‬الأمر كان يتعلق بلقاء عمل ولكنه لن يحضر‮.‬
سألته في دهشة محسوبة‮: ‬
لقاء عمل؟
ها أنا لم يعد لدي ما أفعله‮.‬
انهت الحديث في وقاحة ليست من طبيعتها ولكنها محسوبة جيدا‮.‬
سيتم الأمر في منزلك‮.‬
واصلت سيطرتها علي الوضع عبر لمساتها الرقيقة وحاولت أن تحزر سنة فأخطأته بعام إضافي:ستة وأربعون.حاولت كذلك أن تحزر جنسيته عبر لهجته إلا أنها أخطأت في ثلاث محاولات.ثم حاولت أن تحذر مهنته فسارع بالقول إنه مهندس مدني لكنها شكت في أنه يخدعها لإخفاء الحقيقة‮..‬
تحدثا عن وقاحة تحويل مقطوعة مقدسة لديبوسي لموسيقي لرقصة البوليرو‮ ‬غير أنه لم يكن قد لاحظ ذلك.تنبه إلي أنها تعرف الكثير عن الموسيقي بلا أدني شك أما هو فلم تكن معرفته تتعدي الدانوب الازرق.أخبرته بأنها تقرأ دراكولا بينما كان هو قد قرأها في طفولته في نسخة مبسطة للاطفال ولا يزال مبهورا بفكرة وصول الكونت إلي لندن متحولا إلي كلب.بعد الرشفة الثانية شعرت بأن العرق يختلط مع الجن في مكان ما من القلب وكان يتعين عليها أن تركز جيدا حتي لا تفقد اتزانها‮..‬انتهت الموسيقي في الساعة الحادية عشرة وكانت الحانة تنتظر انصرافهما لكي تغلق أبوابها‮.‬
في تلك اللحظة شعرت أنها تعرفه كما لو كانت تعيش معه منذ الأزل.كانت تعرف أنه نظيف ومهندم وله يدان نظيفتان مع أظافر تبدو وكأنها مطلية بشكل طبيعي.لاحظت ارتباكه أمام عينيها الواسعتين اللتين لم ترفعهما عن عينيه وأنه كان رجلا طيبا وجبانا.شعرت بالقوة الكافية التي مكنتها من أن تمنحه قبلة لم تخطر له باله ولا في أحلامه طوال حياته.سألته دون مواربة‮:‬
أنصعد؟
أجاب في خجل‮ ‬غامض‮:‬
لكني لا أسكن هنا‮.‬
لكنها لم تمهله أن ينهي عبارته‮ .‬قامت وهزت رأسها قليلا لتطرد آثار المشروب بينما تشع عيناها المتألقتان‮:‬
سأصعد أولا بينما تدفع الحساب‮..‬غرفة‮ ‬203‮ ‬بالطابق الثاني يمين السلم‮..‬لا تقرع الباب ادفعه فقط‮..‬
صعدت‮ ‬غرفتها تغمرها حالة من الشهوة لم تشعر بها منذ آخر لياليها كعذراء.أدارت مروحة السقف ولكنها لم تشعل الضوء.تعرت في الظلام‮  ‬وتركت الملابس ملقاة علي الارض في صف ممتد من الباب وحتي الحمام‮.. ‬عندما أشعلت المصباح كان عليها ان تغلق عينيها وتتنفس بعمق في محاولة لتنظيم أنفاسها والتحكم في الرجفة التي اصابت يديها.اغتسلت بسرعة‮ ..‬فرجها‮ ‬،ابطيها وأصابع قدميها التي كانت تحمل اثار خطوط الحذاء،‮ ‬ذلك أنه علي الرغم من العرق الغزير طوال اليوم فإنها لم تفكر في الاستحمام حتي موعد النوم‮..‬لم يكن لديها وقت لتفرش‮  ‬أسنانها فوضعت قطعة من المعجون علي طرف لسانها وعادت إلي الحجرة المضاءة بنور المصاح الخافت‮.‬
لم تنتظر ضيفها ليدفع الباب‮ ‬،‮ ‬بل فتحته هي من الداخل بمجرد أن أحست بوصوله فأصابه الفزع‮ :‬يا أمي‮..‬
لكنها لم تعطه المزيد من الوقت‮..‬خلعت الجاكت وربطة العنق والقميص وكانت تلقي كل ذلك علي الأرض.وبينما كانت تفعل كل ذلك كان جو الحجرة يعبأ برائحة اللافندر القوية‮.‬
حاول أن يساعدها في البداية ولكنها منعته بوقاحة‮ .‬وعندما أصبح نصفه العلوي عاريا أجلسته علي السرير وجلست علي الأرض لتخلع حذاءه وجوربه‮.‬
أما هو فقد فك الحزام فأصبح من السهل أن تجذب البنطال بدون أن يلتفت أي منهما لصليل المفاتيح وأصوات العملات المعدنية التي سقطت من الجيب‮...  ‬سلم تترك له زمام المبادرة‮ ..‬
امتطته وراحت تنهشه دون أي تفكير فيه حتي‮ ‬غرقا سويا في العرق‮..‬ظلت فوقه تكافح أولي وخزات الضمير وسط العرق وضوضاء مروحة السقف حتي تنبهت إلي أنه لم يكن يتنفس جيدا‮..‬
عندئذ نزلت عنه واستلقت بجواره‮ .‬ظل هو بلا حراك لبرهة حتي استعاد انفاسه وسألها‮:‬
لماذا أنا؟
لأنك بدوت لي رجلا‮..‬
الوجود مع سيدة مثلك شرف لي‮..‬
آه شرف‮..‬ألم يكن ممتعا؟
لم يجب وظلا ممددين سويا وسط ضجيج الليل‮ ..‬كانت الغرفة‮ ‬غارقة في عتمة البحيرة وكان من الممكن سماع خفقات أجنحة قريبة.سأل‮: ‬ما هذا؟
حدثته عن عادات البلشون في الليل‮ .‬وبعد ساعة بدت طويلة من الهمسات الخافتة،‮ ‬بدأت تستكشفه بأصابعها من صدره وحتي أسفل بطنه.ثم استكشفته كذلك بقدمها بطول ساقيه اللتين وجدتهما مغطاتين بزغب مجعد ذكرها بحشائش أبريل.بعد ذلك بدأت تستثيره بالقبلات الناعمة في اذنيه وعنقه ثم تبادلا للمرة الاولي قبلة في الفم‮.‬
عندئذ تحول هو إلي عشيق لطيف أوصلها بدون تعجل إلي أقصي درجات الشهوة.شعرت بالدهشة لأن تتمكن يدان مبتدئتان قادرتان علي الاتيان بكل ذلك ولكنه عندما حاول اثارتها بالطرق المتعارف عليها قاومت خشية أن تفسد فلتة المرة الاولي‮..‬ومع ذلك فقد دفعها بقوة وأجبرها علي الخضوع لذوقه وأسلوبه‮..‬وقد فعلت ذلك عن طيب خاطر‮..‬
بعد أن انتهيا من المرتين أيقظها دور رعد هزت الارجاء وفتحت الرياح القوية مزلاج النافذة.سارعت لاغلاقها وشاهدت عبر ضوء مفاجئ لضربة برق البحيرة الهائجة والقمر يلمع في الافق والبلشون الازرق يحرك جناحيه وسط العاصفة‮.‬
في طريقها للفراش تعثرت في ملابسهما الملقاة علي الأرض.تركت ملابسها لتلتقطها فيما بعد وقامت بتعليق الجاكت الخاص به علي ظهر المقعد وفوقه القميص وربطة العنق ثم طوت البنطال في دقة ووضعت فوقه المفتاح والمطواة والنقود التي كانت قد سقطت من الجيب.أصبح الهواء في الحجرة منعشا بفعل العاصفة ولذلك فقد ارتدت قميص النوم الوردي المصنوع من الحرير شديد النعومة‮ .‬كان الرجل نائما وقد باعد بين ساقيه وبدا لها كأنه يتيم ضخم فلم تستطع مقاومة دفعة مفاجئة من الشهوة.استلقت خلفه واحتضنته من وسطه إلا أنه أطلق شهقة وبدأ يشخر‮.‬
غفلت لبرهة واستيقظت وسط ضوضاء المروحة الكهربائية عندما راح ضوء النهار وغرقت الحجرة في ذلك الضي الفسفوري الاخضر للبحيرة.كان الرجل يواصل شخيره في صفير متصل‮. ‬وبدأت هي تداعب ظهره بأطراف أناملها‮ .‬توقف عن الشخير بقفزة مفاجئة وبدأت‮ ‬غريزته تصحو من جديد.تركته للحظة وخلعت قميص النوم في حركة واحدة ولكنها عندما عادت إليه كانت كل حيلها بلا فائدة إذ أدركت أنه كان يصطنع النوم ليفلت من المرة الثالثة.وعندئذ ابتعدت إلي الطرف الاخر من الفراش وارتدت قميص النوم مجددا واستغرقت في النوم‮.‬
أيقظتها ساعتها البيولوجية في الصباح‮..‬ظلت مستلقية لبرهة مغلقة العينين دون أن تجرؤ بالاعتراف بالالم الذي يخز صدغيها ولا الرائحة الكريهة التي تنطلق من فمها منذرة بأمر مجهول ينتظرها في حياتها الحقيقية‮..‬تنبهت إلي أن ضوء الصباح قد طلع وأن الحجرة قد أصبحت مضاءة بفعل الفجر الذي بزغ‮ ‬في البحيرة‮.‬
وفجأة‮ ‬،‮ ‬وكقبضة الموت،‮ ‬استيقظ ضميرها بوحشية علي حقيقة أنها للمرة الاولي في حياتها زنت ونامت مع رجل‮ ‬غير زوجها‮ ..‬عادت تنظر اليه مرتاعة ولكنه لم يكن هناك‮..‬لم يكن موجودا كذلك في الحمام‮..‬أضاءت الانوار كلها واكتشفت أن ملابسه لم تكن موجودة كذلك‮ ..‬فقط ملابسها هي كانت هناك لكنها لم تكن ملقاة علي الارض كما تركتها،‮ ‬بل مكوية بعناية وموضوعة علي الكرسي.حتي تلك اللحظة لم تكن قد انتبهت إلي أنها لا تعرف عنه شيئا‮..‬ولا حتي اسمه‮ ..‬كل ما بقي لها من تلك الليلة المجنونة هو راحة اللافندر القوية.فقط عندما تناولت الكتاب الموضوع علي المائدة المجاورة للسرير لضبه في الحقيبة اكتشفت أنه قد وضع بين صفحاته ورقة بعشرين دولارا‮.‬


منقول من أخبار الأدب

الخميس، 1 مايو 2014

ميثولوجيا القرن الواحد والعشرين




لم تتخلى البشرية عن الميثولوجيا في يوم من الأيام فهي مرآة طبيعية لوجوهنا المغتربة لرغبتنا الجامحة في أن نسير عكس الحقيقة وأن بني وهمنا الذي نريد أن نسجن بداخله عسى أن نحصل على السلام النفسي وتنام أعيننا ملؤ الجفون تلك الرغبة التي لن نحصل عليها أبداً لأننا جعلنا من الإنسان كائن ميثولوجي بدلاً من أن يكون كائن ميتافيزيقي - كما يقول شوبنهاور – وأسمحوا لي أن أضيف وفيزيقيٌ في آن .



الميثولوجيا في مقابل الميتافيزيقا :



تختلف الميثولوجيا عن الميتافيزيقا إختلاف جذري فالأولى لها صفتان أساسيتان هما الوهم و الخيال الأبستمولوجي ( الوهم المعرفي ) المرتبط بالإغتراب عن أصول وآليات وحقيقة المعرفة البشرية والصفة الثانية هي إضافة قدرات غير حقيقية وخارقة لشخص ما أو شيء ما في حين تتصف الثانية ( الميتافيزيقا ) بالحقيقة المعرفية وتطابق القدرة مع الفعل هو أذن إختلاف جذري بين الوجود والعدم أو لنقل بين ما هو موجود بالفعل وما هو موجود بالوهم – لأننا نجد مظاهر ثقافية وحضارية تُبنى على أسس أيدولوجية وهمية – الميثولوجيا أذن هي حالة إغتراب عن الميتافيزيقا تسمح للإنسان بالخروج عن قواعدها وسلطانها لكي يكون قادراً على فعل ما يهوى وما يشاء بدلاً من أن يفعل ما يجب أن يكون .



هو أذن صراع دائم بين الميثولوجيا والميتافيزيقا مرت فيه البشرية بثلاث مراحل رئيسية الأولى هي مرحلة إستبدال الميتافيزيقا بالميثولوجيا البدائية ( القصصية ) حيث أستبدل الإنسان الإله بالآلهه وبنى نسق عقدي ملحمي مشوه وخيالي والمرحلة الثانية هي مرحلة تشويه الميتافيزيقا بإدخال معتقدات ميثولوجية إليها حيث قام الإنسان بتشويه الدين لخدمة اغراض سياسية وإقتصادية وإجتماعية وغيرها كما حدث في العصور الوسطى الأمر الذي أدى إلى الوصول إلى نقطة الصراع بين القاهر والمقهور العلم والدين السلطة والشعب وبطبيعة الحال التحول إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة قتل الميتافيزيقا وإستبدالها بالإنسان \ الإله .



هنا أستُبدل الدين بالأخلاق الوضعية وتخطى العلم قدراته ليصبح سيد الموقف وحل الإنسان محل الإله إلا أن الأمم المختلفة لا تتساوى في تلك المراحل فالشعوب العربية على سبيل المثال لا تزال في مرحلة تشويه الميتافيزيقا والسؤال الأهم هنا ما الداعي إلى قتل الميتافيزيقا أو قتل الفيزيقا من الأساس فالعلاقة بينهما علاقة تكاملية ولا ينشأ الصراع بينهما إلا في حالة تشويه أحدهما أو كلاهما الأمر الذي يؤدي إلى فقدهما لخصائصهما الحقيقية ويجعل حالة التكامل بينهما مستحيلة أو شبه مستحيلة .



كما أن الدين والواقع والإنسان ثلاثية يجب أن تكون مكوناً واحداً لا إنقسام فيه ولا تضاد فالدين يجب أن يكون متوافقاً مع الفطرة السوية للإنسان تلك التي تلبي إحتياجاته النفسية والروحية والجسدية بصورة صحيحة وسوية لكي لا يركن إلى ذلك الجزء الحيواني بداخله ولكي ينال السعادة في الدنيا والآخرة وإلا فلمن يكون الدين كما ان الواقع يجب أن يكون مرآة لإيمان الإنسان بالدين وتطبيقاً له في الحياة  إلا ان التاريخ ينبأنا بغير ذلك لا لأن الدين لا يتناسب مع الفطرة البشرية ولكن لأن الإنسان أغترب عنها ليصبح حيوان مفترس قادر على تشويه الدين ورسم واقع مآساوي ومظلم في آن هي أذن معضلة تاريخية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض حديثة بفعل الإغتراب المستمر لبني البشر .

ولكي تكون ثلاثية الدين والإنسان والواقع مكوناً واحداً لا إنقسام فيه ولا تناقض يجب علينا أن نقضي أولاً أو على الأقل أن نقلل من حالة الإغتراب الإنساني لأنه وحده القادر على تشويه الدين لكي يتناسب مع مايهوى الإنسان ومايشاء وبالتبعية رسم واقع مظلم ومأساوي كما ذكرت من قبل وفي ظل الوضع الراهن وظهور أشكال مختلفة من الكهنوت المقنع في عالمنا العربي والإسلامي وجب علينا ان أردنا أن نتحرر منه ومن كل أشكال العبودية الثقافية  ان نعود إلى التمييز بين الأصول والفروع الثوابت والمتغيرات المتن ومساحة الهامش التي يجب ان نتحرك فيها جميعاً كما يجب أن يفتح باب الإجتهاد بشكل جدي من جديد سواء بدأ من حيث أنتهى الاخرون  بما يتناسب مع أوضاع العصر أو بدأ من الأصول أي من القرآن والسنة كما يجب الفصل بين كل ما هو إجتماعي وماهو ديني نظرلصبغ العادات مع مرور الأيام بصبغة مقدسة مما يجعلها تحفظ في الذاكرة الشعبية بتلك الصبغة الدينية هذا بالإضافة إلى  أن التربية الدينية يجب أن تندمج مع الواقع ومشكلاته وأن تنتقل حتى على مستوى العقيدة من مرحلة إدراك الحقيقة إلى مرحلة إدراك أبعادها – أي إدراك الأسباب والنتائج  -  الأمر الذي سيؤدي إلى تربية وعي جمعي ناقد قادر على التحليل ومعالجة المشكلات بصورة لا ينفصل فيها ماهو ديني عن ماهو إنساني وواقعي وأخيراً يجب أن تنتقل تلك الرؤية إلى ديانات ومذاهب مختلفة وان تعمل على تنمية فكرة التعايش المشترك والسلام الإجتماعي والعالمي لكي تصل المجتمعات إلى حالة بنائية داخل المجتمع الواحد – أي حالة تعتمد على التكامل لا الصراع – والأمم إلى حالة من التعارف والتعايش السلمي كما ان تلك الرؤية لا يجب أن تكون لها قواعد ثابته اللهم إلا الحفاظ على الأصول والسعي من أجل إلغاء حالة الإغتراب الإنساني لكي لا تفقد ديناميتها وقدرتها على تحقيق مقاصدها بأختلاف الأزمنة والأمكنة .



فلسفة السلطة في مقابل إغتراب السلطة :



السلطة كما قال كثير من الفلاسفة هي نتاج تنازل الشعب عن بعض حقوقه للحكومة عن طريق إبرام عقد إجتماعي معها يُسمحُ لها بمقتضاه بإدارة شؤون الدولة نيابة عن الشعب هي أذن ضرورية ومنطقية في آن ولكن متى تكون السلطة مغتربة.. ؟ تكون السلطة مغربة إرادياً حينما لا تبنى على أيدولوجيا سليمة ( أي لا تتوافق مع المنطق والحدس السليميين أو بعبارة أخرى مع الفطرة البشرية هذا بالإضافة إلى هوية المجتمع الخاصة ) أو عندما لا تطبق تلك الأيدولوجيا على أرض الواقع وفي كلتا الحالتين ينشأ الصراع داخل المجتمع.. فالفطرة البشرية لا تقبل الظلم والقهر والقمع لا تقبل الفقر والإحتكار والتحكم ولا ترضى إلا بالمساواة والعدالة والحرية  هذا بالإضافة إلى التفرد أيضاً فيما يتعلق بهويتها الخاصة .



إلا ان السلطة لم تتخلى عن إغترابها إلا في حالات قليلة من تاريخ البشرية فالإنسان مر بحكم الإله ( الفرعون والإمبراطور وغيرهما ) ثم الحكم بأمر الإله في العصور الوسطى وفي المرحلة النهائية أنتقل إلى حكم الإنسان \ الإله في العصر الحديث هي أذن صورة ميثولوجية وهمية تتيح للسلطة فعل ما تشاء عن طريق السيطرة على الوعي الجمعي وللإنسان فعل ما يشاء ولكن لأننا كائنات ميتافيزيقية بطبعها علينا إستبدال الميتافيزيقا بصور مختلفة للميثولوجيا .

  



ثقافة الـ 0 في مقابل ثقافة الـ



الثورة هي " القضاء على حالة الإغتراب الإجتماعي والسياسي والإقتصادي للأمم  " تلك الحالة التي تجعل مغترباً إرادياً وآخر قهرياً ( ظالماً ومظلوماً ) في مواجهة مباشرة أو غير مباشرة في معادلة سياسية وإقتصادية وإجتماعية مغلوطة الأمر الذي يؤدي إلى محاولة تغيير تلك المعادلة من أجل بناء نظام جديد سوي وعقلاني .



ذكرت من قبل أن التاريخ يسير بشكل دائري يتمثل في دائرتين تسيران بإتجاهين متعاكسين الأولى تبدأ بمرحلة الصراع بين أمتين ثم إنتصار أحدهما على الآخرى ثم مرحلة القوة والضعف والعودة إلى الصراع من جديد في حين تبدأ الثانية بمرحلة الصراع ثم الهزيمة ثم الضعف ثم مرحلة إفاقة إحدى الأمم والعودة إلى الصراع من جديد هذا الشكل الدائري للصراع يتسم به التاريخ بشكل عام وتاريخ الأمم المختلفة بشكل خاص وذكرت أن الحل يكمن في الوصول إلى حالة بنائية داخل الأمة الواحدة وحالة من التعارف والتعايش السلمي بين الأمم المختلفة وتلك هي وظيفة الثورات .



نعم فالثورات تدخل في دائرة الصراع لكي تصل إلى هاتين الحالتين في حين تحاول السلطة أن تقف عند مرحلة القوة وهي مرحلة الصفر أو العدم ( اللاشيء ) وسأحاول ان أشرح هذا بشيء من التفصيل فالثورة قبل أي شيء تكون ثورة معرفية ( فكرية ) لأنه بالرغم من ان العلاقة بين الفكر والمادة علاقة ديناميكية إلا أن الفكر يظل سابق على المادة – وأتحدث هنا عن علاقة الإنسان بالإنسان فقط – لأنه سابق على الفعل البشري المنشيء للمادة \ الواقع من الأساس .



السؤال الأهم هنا كيف يكون الصراع بين الثورة والسلطة.. ؟ أعتقد ان الصراع يكون عن طريق فرض حالة من " الحركة السالبة للثقافة " من قبل السلطة وإيجاد " حركة موجبة للثقافة " من قبل الثورة الأولى تتميز بشيئين الحركة السالبة أي حركة إلى الوراء ( عكس عقارب الساعة ) والهدم لبنى " الحركة الموجبة للثقافة " وهي حركة مغتربة عن العصر والتطور الطبيعي للثقافة البشرية وثقافات الأمم الخاصة وينتهجها كل من السلطة ومن والاها والأطراف الأخرى التي تريد أن تصل إلى السلطة ولكن مع الحفاظ على خصائصها " السيئة " كما هي أو بمعنى آخر الأطراف التي لا يشغلها التغيير في حد ذاته بل تغيير السلطة بسلطة أخرى والطرفان يحاولان أن يفرضا حالة من الحركة السالبة للثقافة لكي يحافظوا على مصالحهم ويمنعوا أي تغيير حقيقي في المجتمع .



والثانية تتميز بثلاثة أشياء الديناميكية ( الحركة التفاعلية ) والإنفتاح الفكري والسعي الدائم إلى تغيير الواقع للأفضل وإذا إستطاعت السلطة السيطرة على الوعي الجمعي فأنها تجعل حركة  المجتمع تسيرإلى الوراء حتى يصل إلى ثقافة الصفر وهي ثقافة تتميز بشيئين الإستاتيكية ( أي ثبات النظام ) والدوجما ( الإنغلاق الفكري ) وهي ثقافة عدم أو لا شيء إلا أنها وفي نفس الوقت تضفي على الواقع قيم مطلقة كالصفر الذي لا يساوي شيئاً إلا انه له قيمة رياضية مطلقة .



وبالفعل تحاول السلطة أن تفعل ذلك عن طريق فرض أسطورتين أساسيتين الأولى هي أسطورة الفناء عن طريق إيهام الوعي الجمعي بأن الثورة هي مجرد فعل فوضوي سيؤدي في نهاية المطاف إلى فناء الدولة التي لن تستطيع تلبية حاجات البشر الأساسية من مأكل وأمن ومأوى وهي الحاجات الأساسية للوجود البشري في حد ذاته والثانية هي أسطورة المنقذ من الفناء ( النظام أو الفرد أو الدولة ) وبغض النظر عن ماهيته يظل هذا المنقذ بطلاً أسطورياً نصنعه ليتحكم بنا .



أما إذا إستطاعت الثورة إقناع الوعي الجمعي فأنها تجعل حركة المجتمع تسير إلى الأمام حتى تترسخ مبادئها في عقله ووجدانه  وهنا ينتقل المجتمع إلى ثقافة الفاي ( المالانهاية ) التي تتميز بالديناميكية والإنفتاح الفكري والسعي الدائم إلى تغيير الواقع للأفضل فالثورة لا تتوقف – وأنا هنا لا أعني الإحتجاج وأن كان مهماً حتى تتحقق مطالب الثورة – ولكن أعني التطور المستمر للمنظومة المعرفية للمجتمع التي تجعل كل ما هو متغير في حالة تطور مستمرمع الحفاظ على ما هو ثابت بالطبع .



العلم في مقابل الميتافيزيقا :



الثورة معرفية في الأساس والمعرفة أشمل من العلم لأنها لا تقتصر فقط عليه وتُبنى على معتقدات فكرية حقيقية راسخة ورصينة فالثقافة العلمية على سبيل المثال تعتمد على أذهان تفكر بطريقة تفكيرعلمي تلك التي كانت ولازالت ضرورية لبناء المعرفة العلمية من الأساس وكما ذكرت من قبل نحن من نجعل الميتافيزيقا والفيزيقا العلم والدين المادي والملموس واللامرئي في حالة صراع لا تكامل لخدمة أغراض أخرى لها أبعادها السياسية والإقتصادية والإجتماعية المختلفة .





هناك من يرى أن التطور المعرفي يتسم بالتراكم والإتصال وهناك من يرى مثل ميشيل فوكو أن التطور المعرفي للبشرية يأتي من القطيعة لا الإتصال ويُقصد بالقطيعة هنا القطيعة المعرفية عما هو سائد في المجتمع في عصر معين هذا بالإضافة إلى أن المعرفة - حتى من منظورها التاريخي - متغيرة وفقاً لرؤى العصر الذي تُبنى فيه وأعتقد أن التطور المعرفي يتسم بالصفتين في آن بمعنى أنها تكون قطيعة معرفية عما هو سائد في المجتمع لكنها تظل تراكمية إذا نظرنا إلى التاريخ المعرفي للبشرية ككل فنسبية أينشتاين كسرت كل ما هو متعارف عليه وسائد لقوانين نيوتن وهذا أدى بطبيعة الحال إلى صراع شديد بين من يمتلكون عقل دوجمائي ومن يمتلكون عقل ديناميكي منفتح إلا أن النظريتان الان في حالة تكامل لا صراع فأينشتين لم يقضي على قوانين نيوتن بل وضعها في مكانها الصحيح وأضاف إلى المعرفة العلمية بصمته بطبيعة الحال .



العلم أيضاً في صراعه مع الميتافيزيقا مر بثلاثة مراحل الأولى هي مرحلة إستبدال العلم والميتافيزيقا بالميثولوجيا وهنا أتفق مع كانت في أنها كانت مرحلة لا علمية في الأساس وتعتمد على التفكير الأسطوري الخيالي والثانية كان فيها العلم خادماً للميتافيزيقا المشوهه والثالثة هي مرحلة العلم \ الميثولوجيا حيث حل العلم محل الميتافيزيقا وبالتبعية أصبح أسطورياً لأنه حل محل الإله وبطبيعة الحال أتصف بصفتي الوهم الأبستمولوجي وإضافة قدرات غير حقيقية وخارقة له إلا أن الخطير هنا هو توهم الإنسان القدرة المطلقة ومنها القدرة على الخلق مما جعله يحاول أن يشييء الإنسان ويؤنسن الشيء وبدلاً من أن يستخدم العلم في التوافق والتكيف مع الطبيعة وحل مشاكله المختلفة أصبح شغله الشاغل هو التحكم في الحياة نفسها الأمر الذي أدى إلى سقوطه في شرك الميثولوجيا والإغتراب .