الخميس، 29 أغسطس 2013

أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم

يعتبر الفنان الإيطالي "أليساندرو ديدي" هو رائد فن الرسم بتقنية "3D" على الورق في العالم، حيث يرسم بالقلم الرصاص لوحات إبداعية وتجذب معارضه أنظار العالم من شدة دقتها لأنها بالأبعاد الثلاثية.

ويقول القنان "ديدي" -البالغ من العمر 42 عامًا- إنه يريد إيصال رسالة أن العين تخدع العقل فما تراه وتعتقد أنه حقيقة لا خيال، ويحاول دومًا أن تكون لوحاته مميزة وفريدة من نوعها بشكل لا يقلده أحد فيها.
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم
بالصور.. أفضل أعمال "أليساندرو ديدي" رائد لوحات الـ"3D" في العالم 
 
كتب: أحمد خيري
منقول من موقع فيتو

الأحد، 25 أغسطس 2013

نص نادر لتوفيق الحكيم.. الطبيب الشرعي



هذا نص نادر‮. ‬كتبه توفيق الحكيم كـ‮ "‬بورتريه‮" ‬عن شخصيات التقاها في الريف المصري اثناء عمله في النيابة‮. ‬ملاحظات ذكية حول الطبيب الشرعي لإحدي المدن التي عمل بها الحكيم‮ ..‬ليعكس ليس فقط جانبا مهما من حياة هذه الشخصية المجهولة وإنما جوانب اخري كثيرة حول الحياة في اقاليم مصر المختلفة في ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي‮. ‬كيف كان الطبيب الشرعي؟ كيف كان‮ ‬يعمل في ظل ظروف سيئة؟ كيف تكونت ثقافته؟ وكيف كان‮ ‬يكتب تقاريره ومعايناته؟ اسئلة كثيرة‮ ‬يجيب عنها هذه البورتريه‮ ...‬وقد تعيد أيضا طرح اسئلة حول هذه اللحظة التي نحياها‮. ‬حيث الطبيب الشرعي قاسم مشترك في معظم القضايا التي تفجرت في المجتمع المصري في الثلاث سنوات الأخيرة‮ ..‬تحديدا عن كتب أحد هؤلاء الأطباء عن‮ " ‬لفافة‮" ‬خالد سعيد التي كانت أحد اسباب خروج المصريين ضد نظام‮ ‬يقتل المصريين في أقسام الشرطة‮  ‬بالتعذيب‮... ‬ولم‮ ‬ينته الأمر إذا عرفنا أن كثيرين ممن ماتوا في الأحداث الأخيرة‮ ... ‬كتب في شهادات وفاتهم أن سبب الوفاة‮ " ‬انتحار‮" ... ‬
اصلاح مؤسسة الطب الشرعي‮ ‬،‮ ‬وتأهيل العاملين فيها وتدريبهم‮ ... ‬وتوفير الامكانات لهم‮ ..‬مطلب أساسي من مطالب الثورة‮ ...‬التي لا تتفجر ثورات أخري‮ ..‬وربما لهذا نستعيد نصا قديما عن طبيب شرعي التقاه الحكيم منذ أكثر من‮ ‬70‮ ‬عاما‮ ...‬ربما نقارن بين وضعين وزمنين‮ ...‬وقد نتحسر علي ما فات‮!‬
‮ ».. ‬لم‮ ‬يمض اليوم الأول حتي جاءه‮ »‬التمرجي‮« ‬يناوله عشرة جنيهات قائلاً‮: ‬إنها الإيراد اليومي،‮ ‬فلما سأله عن مصدرها قال‮: »‬خير ربنا كثير‮«.. ‬ومضي الشهر الأول فكان إيراده ثلاثمائة جنيه خلاف مرتبه‮..«‬
كنا نقطن ذلك المنزل الذي تديره سيدة‮ ‬يونانية في ذلك البندر الكبير من بنادر الأقاليم‮.. ‬نزل نظيف‮ ‬يحوي عدة حجرات متسعة حسنة الفرش،‮ ‬أغنانا عن استئجار البيت المستقل‮.. ‬كان خير مأوي للعذاب من الموظفين المقيمين أو المارين في مهام رسمية قصيرة الأجل‮.. ‬كنت تجد فيه القاضي القادم لجلسة عابرة،‮ ‬أو المفتش في الداخلية أو المالية أو التعليم الآتي في مأمورية عاجلة‮.‬
أما المقيمون فكانوا ثلاثة‮.. ‬أنا وكيل نيابة البندر‮.. ‬ورجل أيرلندي هو مدرس اللغة الإنجليزية بالمدرسة الثانوية‮.. ‬ثم طبيب شرعي المديرية‮.‬
كان من الطبيعي أن تقوم صلة بيني وبين الطبيب الشرعي بحكم العمل‮.. ‬فإن أكثر الإصابات الناتجة عن الجرائم التي أتولي تحقيقها كان عليه هو أن‮ ‬يفحصها‮.. ‬واقتضي الأمر مني أن أذهب إلي محل عمله‮.. ‬فكنت أعجب لمنظر المكان‮.. ‬أكوام من اللبد والطواقي المثقوبة بالعيارات النارية،‮ ‬وأنواع مختلفة الأحجام من النبابيت والفئوس والبنادق الطويلة والمقروطة،‮ ‬وألوان من الجلاليب والصداري والعباءات ملطخة بالدماء‮.. ‬كان الطب الشرعي وقتئذ قد أدخل حديثاً‮ ‬في بعض المديريات الكبري،‮ ‬ولم تزل المديريات الأخري تلجأ في فحص جرائمها إلي مفتش الصحة،‮ ‬كما كنا نلجأ من قبل‮.. ‬ولطالما لجأت إلي مفتش الصحة،‮ ‬وهو‮ ‬غير متخصص في هذا العمل الدقيق‮.. ‬فلما شاهدت عمل الطبيب الشرعي المنقطع لفحص الجرائم أخذتني الدهشة‮.. ‬لقد كان‮ ‬يكفيه أن‮ ‬ينظر في لبدة مثقوبة ليقول لي كل شيء عن الجريمة والمجني عليه والقاتل،‮ ‬كأن‮ ‬غجرية تنظر الطالع في كف أو فنجان‮! ‬فإذا هو‮ ‬يتدفق قائلاً‮ ‬لي‮: ‬إن القتيل ضرب علي مسافة كذا،‮ ‬ومات في الساعة كذا،‮ ‬وكان عندئذ في وضع كذا،‮ ‬جالساً‮ ‬أو نائماً‮ ‬أو راكباً‮ ‬حماراً‮ ‬أو فرساً‮ ‬أو جملاً‮.. ‬وكان عمله كيت،‮ ‬وحالته المعيشية كيت،‮ ‬وعاداته كيت‮.‬
هذه الاستنتاجات التي ما كانت تخطئ في أغلب الأحيان جعلتني أهتم بهذا النوع العجيب من العمل‮.. ‬وجمع بيننا الجوار في نفس النزل،‮ ‬والتلاقي علي مائدة الطعام،‮ ‬فلم‮ ‬يمض قليل وقت حتي نمت الصلة وأصبحت صداقة بيني وبين هذا الطبيب الشرعي تبيح لي الخوض معه في الشئون الخاصة والعامة‮.. ‬قلت له ذات‮ ‬يوم‮:‬
‮- ‬إن عملك هذا لذيذ،‮ ‬ولاشك أنك تمارسه بشغف‮.‬
فقال‮:‬
‮- ‬أكثر من ذلك‮.. ‬لقد ضحيت في سبيله بالثروة التي كانت في انتظاري‮.. ‬لقد كنت في أول عهدي مفتش صحة‮.. ‬وأنت تعرف بالطبع الثروة التي‮ ‬يجمعها مفتش الصحة‮.‬
ثم جعل‮ ‬يقص عليّ‮ ‬ما حدث له في بداية عمله بالوظيفة الأولي‮.. ‬لقد عين في أقاصي الصعيد‮.. ‬في منطقة رأي فيها الفلاحين‮ ‬يخرجون من شبه جحور ليست آدمية،‮ ‬وأطفالهم تحبو علي بطونها كالزواحف،‮ ‬والأمراض ترعي في أجسادهم النحيلة التي لا لون لها ولا دم فيها‮.. ‬لا تظهر لهم ملامح من الذباب الذي‮ ‬يغطي وجوههم وأجسادهم،‮ ‬لقد شك في أن هذا المكان قطعة من بلادنا‮.. ‬ومع ذلك لم‮ ‬يمض اليوم الأول حتي جاءه‮ »‬التمرجي‮« ‬يناوله عشرة جنيهات قائلاً‮: ‬إنها الإيراد اليومي،‮ ‬فلما سأله عن مصدرها قال‮: »‬خير ربنا كتير‮«.. ‬ومضي الشهر الأول فكان إيراده ثلاثمائة جنيه خلاف مرتبه‮.. ‬وفهم كيف‮ ‬يجري العمل المعتاد‮.. ‬فالعيادة المجانية لا‮ ‬يراها هو بل‮ ‬يتلقاها‮ »‬التمرجي‮« ‬ويفهم مرضاها الأوضاع‮: ‬من أراد العلاج المخصوص فليعد نقوده ويقف علي جنب‮.. ‬أما من ليس لديه نقود ويريد العلاج المجاني،‮ ‬فهاهو ذا العلاج المجاني‮: ‬يفحصه التمرجي فحصاً‮ ‬صورياً‮ ‬ثم‮ ‬يسلمه زجاجة بها ماء مرشح من الزير،‮ ‬ويوصيه أن‮ ‬يشرب منها جرعة قبل الأكل ويصرفه ويحيل علي مفتش الصحة المرضي طلاب المخصوص ممن دفعوا‮.. ‬وظن المفتش أول الأمر أنهم بالمجان،‮ ‬ولكن التمرجي قال له‮: »‬عيب‮ ‬يا سعادة الدكتور تضيع وقتك هدراً‮..« ‬كل هذا خلاف الإتاوات‮.. ‬فالمحال العمومية المطلوب منها اشتراطات صحية،‮ ‬كالمقاهي ومحال البوظة ودكاكين البقالة والجزارة وخلافه‮ ‬يستصدر لها التمرجي من مفتش الصحة الموافقة اللازمة بعد استلام المعلوم،‮ ‬وهو‮ ‬يقول له‮: »‬لا تنتقل ولا تتعب نفسك‮ ‬يا سعادة البك،‮ ‬كل شيء تمام‮..« ‬بل إن تصاريح دفن الأموات تعطي،‮ ‬مادام المعلوم‮ ‬يدفع دون أن‮ ‬يكشف أحد علي جثة المتوفي‮.. ‬فمن حرق دفن‮.. ‬ومن دس له السم دفن‮.. ‬ومن مات من عدوي أو وباء دفن‮.. ‬والتمرجي‮ ‬يقول لمفتش الصحة وهو‮ ‬يعرض كل حالة ليحصل علي الإمضاء‮: »‬امضاءك الكريم‮ ‬يا سعادة الدكتور وأنت مطمئن‮.. ‬الوفاة طبيعية أربعة وعشرين قيراط‮!« ‬فيسأله الدكتور‮: »‬أنت متأكد؟‮« ‬فيشير التمرجي إلي عنقه بحماسة‮: »‬عيب‮ ‬يا دكتور‮! ‬برقبتي‮!« ‬وأراد‮ ‬يوماً‮ ‬أن‮ ‬يثور علي هذا الحال،‮ ‬وأن‮ ‬يقوم بنفسه‮ ‬يشرف علي كل شيء فأفهمه التمرجي أن تغيير الأوضاع سيؤدي إلي ارتباك العمل،‮ ‬لأن العمل سائر علي هذا النحو منذ عشرات السنين‮.. ‬مفتش صحة‮ ‬يأتي ومفتش صحة‮ ‬يذهب،‮ ‬والوضع هو الوضع‮.. ‬لأن هذا شيء متعارف عليه،‮ ‬ومفهوم في المصلحة والحكومة من قديم‮.. ‬ولسنا نحن المطالبين وحدنا من دون الجميع بإصلاح الكون‮ ‬يا سعادة الدكتور‮! ‬ولم‮ ‬يدر الطبيب ماذا‮ ‬يصنع،‮ ‬وسكت علي مضض‮.. ‬إن تغيير الوضع لابد له من تغيير الجهاز‮«‬،‮ ‬وأول ما‮ ‬يلزم في هذه الحال هو علي الأقل تغيير الممرض الذي‮ ‬يعمل معه‮.. ‬وأين له بالممرض صاحب العقلية التي تفهمه‮.. ‬إن أي ممرض جديد سيجيء بمثل هذ الفهم وهذا الأسلوب‮: ‬جمع النقود وتسليمها إلي الطبيب بعد حجز ما‮ ‬يستطيع حجزه لنفسه‮.. ‬وخالجت مفتش الصحة فكرة عندما استيقظ ضميره‮: ‬أن‮ ‬يلقي بهذه النقود في وجه التمرجي ويأمره بأن‮ ‬يردها إلي أصحابها‮.. ‬ولكن سرعان ما وجد الفكرة ساذجة،‮ ‬ذلك أن الذي سيحدث هو أن التمرجي سيضع النقود في جيبه بكل بساطة،‮ ‬ولن‮ ‬يرد مليماً‮ ‬واحداً‮ ‬إلي إنسان،‮ ‬ويستمر بعد ذلك‮ ‬يعمل في الخفاء لحسابه الخاص،‮ ‬بأي طريقة‮.. ‬لا جدوي إذن‮..‬ليس أمامه إلا أن‮ ‬يترك هذا العمل إذا كان لا‮ ‬يروق له‮.. ‬وقد فكر بالفعل في تركه‮.. ‬ولكن أين‮ ‬يذهب؟ لابد من انتظار فرصة مواتية‮.. ‬ولكن ضيقه وقرفه ازدادا علي أثر خيبة أمله في مأمور المركز أيضاً‮: ‬فقد وصل إلي علمه أن وباء تفشي في قرية نائية من قري المركز،‮ ‬فأراد الانتقال،‮ ‬وإذا بالمأمور‮ ‬يثبط عزمه قائلاً‮ ‬له‮: ‬لا تصدق‮.. ‬الحالة بخير‮!« ‬فأصر علي الانتقال والمرور بنفسه،‮ ‬واضطر المأمور إلي أن‮ ‬يرافقه،‮ ‬وهناك رأي الحالة علي أسوأ ما تكون‮.. ‬ولكن المنطقة كان لها سيد هو أحد كبار الملاك،‮ ‬لم‮ ‬يكن من مصلحته طبعاً‮ ‬أن‮ ‬ينتهي الأمر إلي وضع‮ »‬كردون‮« ‬حول القرية،‮ ‬وحجز الفلاحين الذين‮ ‬يعملون في أطيانه‮.. ‬فأوعز إلي المأمور أن‮ ‬يثني الدكتور عن عزمه‮.. ‬وجعلوا‮ ‬يتحايلون ويماطلون ويراوغون،‮ ‬تضييعاً‮ ‬للوقت،‮ ‬وأعدوا له وليمة،‮ ‬فرفض الطعام،‮ ‬فجاءوا إليه بالشاي والسجاير من الدكان الوحيد في القرية،‮ ‬وهو أيضاً‮ ‬تحت إدارة المالك الكبير،‮ ‬افتتحه ليبيع لأهل الناحية ولخفراء نقطة البوليس،‮ ‬وكان وكيل الدايرة‮ ‬يتقاضي من الخفراء ما استجروه من الدكان في أول كل شهر‮.. ‬كان‮ ‬يذهب ومعه قائمة بأسمائهم،‮ ‬يظل‮ ‬ينادي فيها علي اسم كل خفير والمستحق عليه،‮ ‬ويقبض من المرتب بعضه أو كله من الصراف مباشرة،‮ ‬كما لو كان مندوب الحكومة‮!.. ‬رفض الطبيب كل ما قدم إليه،‮ ‬لأنه كان‮ ‬يعلم ما وراء ذلك‮.. ‬وظل‮ ‬يعمل ويبحث والمأمور في أثره‮ ‬يقول له مردداً‮: »‬الحكاية لا تستحق‮.. ‬والله الحكاية كلها ما تستحق اهتمامك‮!..« ‬وجاء الطبيب بالعمدة وسأله عن الحالة الصحية فقال‮: »‬مفيش أحسن من كده‮!« ‬فطلب إليه تقديم دفاتر المواليد والوفيات،‮ ‬فأحضرها له،‮ ‬فما كاد‮ ‬يفتحها وينظر في صفحاتها حتي صعق من الدهشة‮: ‬لقد كانت الدفاتر كلها بيضاء من‮ ‬غير سوء،‮ ‬لم‮ ‬يدون فيها حرف واحد‮.. ‬فصاح‮:‬
‮- ‬أيه ده‮ ‬يا عمده؟ فين المواليد والوفيات؟‮!‬
فقال‮:‬
‮- ‬المواليد في الغيط،‮ ‬والوفيات في القبر‮.‬
فصاح فيه‮:‬
‮- ‬مفهوم‮.. ‬لكن الدفاتر دي سلمت لك لأجل تقيد فيها المولود والمتوفي‮.‬
فقال محتجاً‮:‬
‮- ‬أقيد المولود والمتوفي؟‮! ‬سبحان الله‮! ‬أنت عاوزني أعد علي ربنا؟ سبحانه وتعالي هو المتصرف في عباده‮! ‬وهنا لم أتمالك نفسي من الضحك وقلت لصاحبي الطبيب الشرعي وقد توقف قليلاً‮ ‬عن السرد‮.‬
‮- ‬مهمتك كانت صعبة حقاً‮.‬
فاستطرد‮ ‬يقول‮: ‬إن الصعب في الأمر حقاً‮ ‬ليس هو جهل الناس بقدر ما هو فقدان الضمير والشعور بالواجب عند من ليسوا بجهلاء،‮ ‬هؤلاء الذين كان‮ ‬يعتقد أن واجبهم هو أن‮ ‬يعاونوه علي محاربة الجهل والمرض،‮ ‬كانوا هم الواقفين في وجهه،‮ ‬يضعون العقبات لمآربهم الشخصية‮.. ‬ولم‮ ‬يستطع أن‮ ‬يكمل شهراً‮ ‬آخر في هذه الوظيفة‮.. ‬عاد إلي القاهرة وقابل الرؤساء،‮ ‬وأفضي إليهم برغبته في الانتقال إلي عمل آخر‮.. ‬وأخرج لهم محفظته وبها ثملاثمائة جنيه قائلاً‮: ‬إنها جملة إيراده في ذلك الشهر خارج مرتبه المشروع‮.. ‬إنه‮ ‬يرد هذا المبلغ‮ ‬الكبير إلي المسئولين،‮ ‬لأنه جاء من طريق لا‮ ‬يؤمن بشرعيته‮.‬
والتفت نحوي صاحبي الطبيب قائلاً‮:‬
‮- ‬أتدري ماذا كان جواب الرؤساء؟‮! ‬إنك ستعجب كما عجبت‮.. ‬لقد اتهموني بالجنون‮.. ‬وقالوا‮: ‬إن تعييني مفتش صحة في الريف كان من علامات الرضا،‮ ‬لأعمل علي تكوين ثروة مثل‮ ‬غيري من الزملاء السابقين واللاحقين‮.‬
فسألته‮:‬
‮- ‬وماذا فعلوا بالجنيهات الثلاثمائة؟
فقال‮:‬
‮- ‬دسوها في جيبي ثانية،‮ ‬وهم‮ ‬يهددوني بقولهم‮: ‬إن معني هذه الحركة هو الاتهام الصريح لكل الرؤساء والمسئولين الكبار،‮ ‬لأنهم كلهم قد مروا بهذه المرحلة في تفتيش الصحة بالأقاليم وكونوا ثرواتهم بنفس الطريقة،‮ ‬واقتنوا العقارات والضياع كما هي العادة‮!‬
‮- ‬وأخيراً؟
‮- ‬أخيراً‮ ‬أنقذني الله،‮ ‬أو أنقذوا هم أنفسهم من لساني بأن عرضوا عليّ‮ ‬السفر في بعثة إلي انجلترا للتخصص في الطب الشرعي‮.. ‬قبلت طبعاً‮ ‬بسرور،‮ ‬وسافرت بالفعل ودرست هناك عامين وعدت لأعمل طبيباً‮ ‬شرعياً‮ ‬كما تري‮..‬
‮- ‬ليس لك‮ ‬غير مرتبك‮.‬
‮- ‬فقط ولله الحمد،‮ ‬وعملي هذا اللذيذ الذي أحبه،‮ ‬لأنه كما رأيت أنت هو شيء أشبه بالفن‮.‬
‮- ‬حقاً‮!‬
قلتها وأنا شارد البال‮.. ‬أفكر في شخصية هذا الطبيب الذي رفض حياة جمع المال،‮ ‬مفضلاً‮ ‬الحياة من أجل العمل الذي‮ ‬يحبه‮.. ‬أهي شخصية مثالية شاذة أم أن هذه هي الشخصية الطبيعية التي‮ ‬يجب أن تكون لكل طبيب‮.. ‬لكل طبيب حق؟ الشيء المخيف حقاً‮ ‬هو أنه قد اعتبر مجنوناً‮ ‬لأنه بهذه الأخلاق‮.. ‬إذن هل نيئس من أن نري‮ ‬يوماً‮ ‬الفقير‮ ‬يعالج بالمجان؟ ربما وضعت النظم التي تكفل مثل هذا العلاج المجاني،‮ ‬ولكن من‮ ‬يضمن لنا أن الأمر لن‮ ‬يسير كما تسير العيادات المجانية التي ذكرها؟
يذهب الفقير إلي الطبيب فيعالجه العلاج الذي‮ ‬يستحقه الفقر والمجان،‮ ‬ويفهم من طرف خفي أن هناك علاجاً‮ ‬آخر مخصوصاً‮ ‬لمن‮ ‬يدفع الأجر؟ فيضطر الفقير إلي الحصول من أي طريق علي أجر العلاج الخفي المخصوص؟‮! ‬وبهذا تمكن النظم للطبيب من أن‮ ‬يربح من الناحيتين‮: ‬مرتب الانقطاع للعلاج المجاني،‮ ‬ثم أرباح العلاج في السوق السوداء‮! ‬إنها ليست النظم إذن‮! ‬إن النظم وحدها ليست هنا بكافية‮.. ‬إن المطلوب أولاً‮ ‬الأخلاق‮.. ‬المثل العليا‮.. ‬أن تكون شخصية هذا الطبيب المثالي هي القاعدة العامة،‮ ‬وليست الشذوذ ولا الجنون‮!‬
ولكن‮.. ‬كيف‮ ‬يحدث هذا في مجتمع أساسه كله قائم علي اعتبار جمع المال هو القيمة المثالية‮.. ‬إن الأطباء اعتادوا أن‮ ‬يتنافسوا،‮ ‬لا في عدد من عالجوهم بالمجان من الفقراء،‮ ‬ولا في الكشف الفني عن علاج جديد،‮ ‬ولا في التفوق العلمي وحده،‮ ‬بل في مستويات الدخل والإيراد‮.. ‬سمعت فعلاً‮ ‬في بعض المجالس عن طبيب‮ ‬يدخل علي زملائه بعد انتهاء عيادته آخر النهار ليعلن إليهم في صيحة الانتصار‮: »‬بعد إيراد هذا الشهر أكون قد وصلت إلي العشرين ألفاً‮!« ‬من الجنيهات طبعاً‮.. ‬فيرد عليه زميل‮ »‬أنت متأخر جداً‮!.. ‬من في مثل دفعتك له الآن مستشفاه الخاص،‮ ‬يدر عليه مثل هذا المبلغ‮ ‬سنوياً‮!« ‬هذا علاوة علي التفاخر بالمقامات والمكانات تبعاً‮ ‬لرسم العيادة‮.. ‬كشف الدكتور فلان خمسة جنيهات،‮ ‬وأنا لست أقل منه شأناً‮.. ‬هذا هو مقياس المستوي الفني‮.. ‬لا عند طائفة الأطباء وحدهم‮.. ‬بل عند كل طوائف المجتمع‮.. ‬مقياس الكفاءة عند المحامي والمهندس والممثل والمقاول،‮ ‬ومقياس الاحترام للشريف وغير الشريف واحد في هذا المجتمع‮: ‬محفظة نقوده‮.. »‬معك قرش تساوي قرشاً‮.. ‬معك جنيه تساوي جنيهاً‮« ‬هذا هو شعار المجتمع كله‮.‬
وخرجت من شرودي وتأملي وقلت لصاحبي الطبيب‮:‬
‮- ‬متي‮ ‬يكون كل الناس مثلك؟‮!‬
‮- ‬في أي شيء تقصد؟
‮- ‬أقصد‮.. ‬في أن تكون قيمة المواطن فيما‮ ‬يحب ويحسن من عمل،‮ ‬لا فيما‮ ‬يباهي ويجمع من مال؟‮!‬
ففكر قليلاً‮ ‬ثم قال في شبه همس‮:‬
‮- ‬لست أدري‮..‬
فقلت له‮:‬
‮- ‬حقاً‮.. ‬ليس الأمر سهلاً‮! ‬لكي‮ ‬يحدث هذا‮ ‬يجب أن‮ ‬يغير المجتمع كله شعاره ونظرته‮.. ‬ولكي‮ ‬يغير المجتمع مثله ونظرته وشعاره‮ ‬يجب أن‮ ‬يتغير هو نفسه من أساسه‮!‬
‮> > >‬
كان العمل مع هذا الطبيب متعة‮.. ‬خرجنا ذات‮ ‬يوم إلي إحدي القري،‮ ‬علي أثر وصول بلاغ‮ ‬من مجهول‮ ‬يفيد بأن جثة أحد الأهالي مدفونة في قاعة الفرن بدار إحدي الريفيات‮.. ‬وقد استخرجت الجثة فعلاً‮ ‬من تلك القاعة‮.. ‬واتضح أنها لزوج هذه الريفية‮.. ‬كان قد اختفي منذ مدة‮.. ‬وزعمت الزوجة أنه ذهب إلي بلدة نائية تزوج فيها بامرأة أخري‮.. ‬سرنا في التحقيق شوطاً‮.. ‬ولم تجد الزوجة بداً‮ ‬من الاعتراف بأن زوجها قتل في هذه القاعة أمام عينيها‮.. ‬فوجود الجثة مدفونة في دارها لا‮ ‬يدع مجالاً‮ ‬لإنكارها‮.. ‬ولكنها أنكرت وأصرت علي الإنكار أن لها‮ ‬يداً‮ ‬في القتل،‮ ‬كيف حدث القتل إذن؟‮! ‬ومن القاتل؟ جماعة لا تعرفهم‮.. ‬كانوا ملثمين،‮ ‬دخلوا عليها هي وزوجها ليلاً،‮ ‬وطعنوه بسكين ودفنوا جثته في أرض القاعة،‮ ‬وهددها بالحرق إذا هي نطقت بحرف عما حدث‮.. ‬لماذا فعلوا به ذلك؟ قالت إنها لا تدري‮.. ‬ولعله ثأر قديم لا تعرف عنه شيئاً‮.. ‬فزوجها كان‮ ‬يقول لها أحياناً‮ ‬أن له أعداء في بلدة أخري،‮ ‬ولكنه لم‮ ‬يصرح لها بشيء أكثر من هذا‮.. ‬ولم‮ ‬يخطر لها هي أن تسأله،‮ ‬لأن الموضوع وقتئذ لم‮ ‬يظهر لها بالأهمية التي تسترعي الالتفات‮.. ‬وكانت المرأة تتكلم بهدوء ووضوح وصراحة،‮ ‬وكل ما فيها‮ ‬يوحي بأنها جديرة بالثقة والتصديق‮.. ‬لقد بدت الحادثة منطقية علي هذا الوضع‮.. ‬وكل ثغرة فيها أصبحت مسدودة‮.. ‬فلم‮ ‬يبق إلا أن نقيدها قضية قتل ضد مجهولين‮.. ‬إذ لم نر هناك بصيصاً‮ ‬من أمل في معرفتهم،‮ ‬والمرأة لم تر وجوههم الملثمة،‮ ‬ولا تعرف أصواتهم،‮ ‬لأنهم من بلدة أخري بعيدة لا تعرفها كذلك‮.. ‬ولكن لماذا كتمت الأمر وانتحلت سبباً‮ ‬لاختفاء زوجها؟ لماذا لم تبلغ‮ ‬البوليس؟ قالت إنها خافت من تهديدهم‮.. ‬فقد كان منظرهم مرعباً‮ ‬وهم‮ ‬يقتلون زوجها‮! ‬ثم ما هي الفائدة من إحضار البوليس؟ أهو سيعيد إليها زوجها حياً؟‮! ‬لا بالطبع‮.. ‬إذن كل ما ستجنيه من تبليغ‮ ‬البوليس هو تعريض نفسها لانتقام الجناة،‮ ‬ولو بعد حين‮.. ‬وهاهو ذا زوجها قد ذهب ضحية ثأر أو انتقام‮.. ‬أفلا‮ ‬يكفي هذا درساً‮ ‬لها‮.. ‬لقد آثرت السكوت،‮ ‬ورأت فيه السلامة والعافية،‮ ‬وهي المرأة الضعيفة‮! ‬ألم تحسن صنعاً؟ فهززت رأسي‮.. ‬ولم أدر بماذا أجيبها‮! ‬كلامها‮  ‬معقول‮! ‬إنها وجهة نظر مقبولة علي كل حال‮.. ‬وطويت أوراقي،‮ ‬وعدت أدراجي‮.‬
وانصرف صاحبي الطبيب الشرعي في صمت إلي بحثه،‮ ‬وانقطع له أسبوعاً،‮ ‬غاب فيه عن نظري‮.. ‬ثم ظهر فجأة أمامي ومعه التقرير،‮ ‬وهو‮ ‬يقول باسماً‮:‬
‮- ‬اسمع‮ ‬يا سيدي نتيجة الفحص‮!‬
قلت له بغير اهتمام كبير،‮ ‬كأني متوقع أنه لن‮ ‬يأتي في الأمن بجديد‮.‬
‮- ‬تفضل‮!‬
فقال بهدوء متواضع‮:‬
‮- ‬أولاً‮ ‬القتل لم‮ ‬يحدث في القاعة،‮ ‬بل حدث في الغيط‮.. ‬ثانياً‮ ‬لم‮ ‬يحدث القتل بسكين،‮ ‬بل حدث بالخنق وبواسطة حبل من الليف،‮ ‬ثم وضعت الجثة في زكيبة من زكايب القطن حملت علي جمل إلي القاعة حيث دفنت‮.. ‬ثالثاً‮ ‬المرأة اشتركت قطعاًفي القتل مع شخصين آخرين علي الأقل‮..‬
فصحت من الدهشة‮:‬
‮- ‬أأنت أيضاً‮ ‬تؤلف روايات؟‮!‬
فقال ضاحكاً‮:‬
‮- ‬ولمَ‮ ‬لا‮.. ‬إنني أؤلف فعلاً‮.. ‬ولكن فقط‮.. ‬علي أساس من عناصر حقيقية ملموسة‮.‬
‮- ‬قل لي بالله كيف عرفت أن القتل حدث في الغيط؟
فأجاب‮:‬
‮- ‬لأني وجدت الكف اليسري لجثة القتيل قابضة علي أعواد دقيقة متكسرة من أعواد القطن‮.. ‬لقد فوجئ وهو في الغيط وسط زراعة قطنه‮.. ‬ولو كان في داره ليلاً‮ ‬لما كان هناك سبب لاستمرار قبضه علي هذه الأعواد‮.‬
‮- ‬وكيف عرفت أنه خنق بحبل ليف؟
قال‮:‬
‮- ‬معرفة الخنق بسيطة جداً‮.. ‬وأنت لا تجهل ذلك‮.. ‬ولعلك تقصد لماذا خنق بحبل ليف بالذات؟ هنا العقدة‮! ‬والجواب أنني لاحظت حول عنقه بضعة خيوط دقيقة لا تكاد تُري،‮ ‬وبفحصها تحت الميكروسكوب تبين لي أنها خيوط ليف مما‮ ‬يستعمل في جدل حبال المواشي‮.‬
قلت له‮:‬
‮- ‬وكيف عرفت أن الجثة نقلت في زكيبة علي جمل؟
قال‮:‬
‮- ‬هذا مجرد استنتاج‮.. ‬لأني أبصرت جملاً‮ ‬في زريبة الدار،‮ ‬كما أبصرت أكياس قطن مفروشة فوق الفرن‮.. ‬وبما أن القتل حدث في الغيط،‮ ‬فما من وسيلة لنقل الجثة إلي القاعة لدفنها إلا بوضعها في الزكيبة وحملها علي الجمل،‮ ‬والزكيبة والجمل موجودان فعلاً‮ ‬في الدار‮.‬
قلت له‮:‬
‮- ‬إلي هنا كل هذا جائز‮.. ‬لكن ما دليلك علي اشتراك الزوجة في القتل؟
فأجاب علي الفور‮:‬
‮- ‬أما هذا فمؤكد‮.. ‬وإليك الدليل القاطع‮: ‬وجود شعر لرأس امرأة في قبضة القتيل اليمني التي وجدتها‮.. ‬قد تشنجت وماتت علي هذه الخصلات‮.. ‬وبمضاهاتها بشعر الزوجة‮.. ‬أثبت الفحص أنها لها‮.. ‬والذي حدث هو أن القتيل قد قاوم بالطبع قاتليه،‮ ‬وأثناء المقاومة أراد أن‮ ‬يقبض علي رأس المرأة‮.. ‬أما أنها كانت مع شخصين آخرين علي الأقل،‮ ‬فهذا واضح من أنه لا‮ ‬يمكن لامرأة بمفردها القيام بكل هذه العملية،‮ ‬واستبعد أن‮ ‬يكون معها شخص واحد آخر فقط،‮ ‬فالقتيل ضخم فارع قوي،‮ ‬وليس من السهل علي رجل وامرأة وحدهما التغلب عليه وخنقه بحبل‮!‬
قلت وأنا أتعجب‮:‬
‮- ‬شيء عجيب‮! ‬أعطني التقرير‮!‬
وقمت في الحال بفتح باب التحقيق من جديد،‮ ‬وأمرت بالقبض علي الزوجة،‮ ‬وواجهتها بالتهمة وصورت لها الجريمة كما حدثت طبقاً‮ ‬لما جاء في تقرير الطبيب الشرعي،‮ ‬وإذا بالمرأة تُذهل وتنهار،‮ ‬وتأخذ في الاعتراف،‮ ‬وتقص علينا تفاصيل الجريمة كما وقعت بالفعل‮.. ‬فإذا أنا أُذهل بدوري‮.. ‬فقد كان كل ما تصوره الطبيب الشرعي وخلته أنا تأليفاً‮ ‬روائياً‮ ‬إنما هو حقيقة واقعة‮.. ‬فالقتلة كانوا رجلين معها‮.. ‬هما شقيقاها‮.. ‬وتم القتل فعلاً‮ ‬بالخنق بحبل الجمل الليف‮.. ‬بعد‮ ‬غروب الشمس‮.. ‬في‮ ‬غيط القتيل‮.. ‬ذهبت المرأة مغ‮ ‬شقيقيها إلي الغيط ليساعدوا الزوج علي تحميل أكياس قطنه علي ظهر الجمل،‮ ‬وكانوا قد تآمروا علي انتهاز‮ ‬غفلة منه،‮ ‬وخلو الغيطان المجاورة من أصحابها،‮ ‬وعودة الفلاحين مساء مع مواشيهم إلي دورهم،‮ ‬للانقضاض عليه وخنقه وحمله في زكيبة قطن فارغة لدفنه في الدار‮.. ‬لقد رفضوا فكرة ذبحه بشرشرة البرسيم،‮ ‬أو فلق رأسه بالفأس،‮ ‬خشية أن‮ ‬يسيل دمه في الغيط ويلوث ثيابهم،‮ ‬ويحتاج إخفاء الجريمة إلي مشاكل ومتاعب ووقت طويل‮.. ‬فاستقر رأيهم علي هذه الطريقة،‮ ‬وكادت تنجح حقاً‮ ‬في إخفاء كل أثر للجثة والجريمة والقتلة،‮ ‬لو لم‮ ‬يطلع لهم من تحت الأرض صاحبنا الطبيب الشرعي،‮ ‬فيهتك سترهم بفنه العجيب‮.. ‬ليس من المهم بعد ذلك أن نعرف سبب الجريمة‮.. ‬إنه سبب فارع تافه من تلك الأسباب التي‮ ‬يضخمها الجهل في الريف فتودي إلي القتل‮.. ‬إنه‮ ‬غيظ الزوجة من زوجها الذي كان‮ ‬ينوي التزوج عليها من امرأة في بلدة أخري،‮ ‬وفزعها من أن‮ ‬يذهب بالقيراطين المملوكين له إلي الضرة الجديدة،‮ ‬ويتركها بلا عائل‮.‬
وجلسنا بعد العشاء في شرفة المنزل،‮ ‬بعد أن فرغنا من هذه القضية،‮ ‬أنا وصاحبي الطبيب الشرعي،‮ ‬نتجاذب الحديث‮.‬
قلت له‮:‬
‮- ‬أتعرف أن عملك فعلاً‮ ‬هو عمل فني؟
فقال باسماً‮ ‬كمن‮ ‬يري أني أقول شيئاً‮ ‬بديهياً‮ ‬لا جديد فيه ولا معني له‮:‬
‮- ‬طبعاً‮.. ‬أنا كادر فني‮ ‬يا أستاذ‮!‬
فقلت موضحاً‮:‬
‮- ‬لا‮.. ‬ليس هذا ما أقصد‮.. ‬إنني أقصد أنه عمل مشابه من بعض النواحي لعمل الروائي والمسرحي والمصور والموسيقي والشاعر‮.‬
‮١‬ــ‮  ‬تقصد الخيال‮..‬
‮- ‬الخيال في أعمق معانيه‮: ‬وهو القدرة علي تشكيل الحقيقة من العناصر المتفرقة‮.. ‬تصور الأشياء تصوراً‮ ‬يشكل منها حياة نابضة‮.. ‬تركيب أجزاء صغيرة متناثرة‮ ‬غير ملاحظة تركيباً‮ ‬يبرز خلقاً‮ ‬كاملاً‮ ‬للحقيقة‮.. ‬إنك من بضعة خيوط،‮ ‬وخصلة شعرات استطعت أن تعيد بناء الحقيقة‮! ‬الفنان لا‮ ‬يفعل أكثر من ذلك،‮ ‬ببضعة ألفاظ أو ألوان أو أنغام‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يعيد تركيب حقيقة هذا الوجود الإنساني‮!.. ‬ولم‮ ‬يصغ‮ ‬هو إلي قولي،‮ ‬فقد أرهف أذنه إلي صوت موسيقي تتسرب إلينا من خلال باب نصف مغلق في الجانب الآخر من الشرفة‮.. ‬فأرهفت أذني أنا وقلت‮:‬
‮- ‬هذه افتتاحية الناي المسحور لموزار‮..‬
فالتفت الطبيب إلي الجهة الآتي منها الصوت وقال‮:‬
‮- ‬إنها حجرة المدرس الأيرلندي‮!‬
‮- ‬عن إذنك‮!‬
قلتها وأنا أنهض ميمماً‮ ‬شطر هذه الحجرة‮.. ‬فإن سحر موزار علي روحي لا‮ ‬يقاوم‮.. ‬لم تكن صلتي بهذا الأيرلندي وثيقة‮.. ‬كل ما بيننا من علاقة لم‮ ‬يتجاوز تلك الأحاديث العادية التي‮ ‬يتبادلها النزلاء علي مائدة العشاء‮.. ‬ولكني صممت في تلك اللحظة علي أن أوثق صلتي به من أجل موزار‮.. ‬واقتربت من حجرته وأرسلت البصر من خلال الباب نصف المغلق،‮ ‬فشاهدته مستلقياً‮ ‬علي المقعد الكبير ماداً‮ ‬ساقيه فوق الكرسي الخيزران،‮ ‬وإلي جانبه فوق المنضدة فونوغراف علي شكل حقيبة،‮ ‬كان‮ ‬يعتبر طرازاً‮ ‬حديثاً‮ ‬نادراً‮ ‬في ذلك العهد‮.. ‬طرقت الباب طرقاً‮ ‬خفيفاً،‮ ‬سمعه فانتفض ناهضاً‮ ‬علي قدميه‮.. ‬فلما رآني بدت في عينيه نظرات العجب والتساؤل،‮ ‬ومد‮ ‬يده في الحال‮ ‬يسكت أسطوانة موزار‮.. ‬وخفت أن تذهب به الظنون بعيداً‮.. ‬ويخيل إليه أني جئت بصفتي الرسمية لأمر‮ ‬يتصل بالنيابة والقانون‮.. ‬فأسرعت أقول له باسماً،‮ ‬وأنا أشير إلي الفونوغراف‮:‬
‮- ‬أرجوك‮! ‬فلتستمر الأسطوانة‮! ‬إني ما جئت إلا من أجلها‮!‬
فعاد الهدوء والصفاء إلي وجهه،‮ ‬ودعاني إلي الجلوس وهو‮ ‬يقدم لي كرسياً،‮ ‬ويقول في ابتسامة ترحيب‮:‬
‮- ‬أتحب هذه الموسيقي؟‮!‬
‮- ‬جداً‮ ‬وخصوصاً‮ ‬موسيقي موزار‮.‬
‮- ‬من حُسن الحظ أن عندي منها الكثير‮.‬
وأشار إلي مجموعات عديدة رص بعضها فوق بعض،‮ ‬ثم أخذ‮ ‬يتناول منها ويناولني لأشاهد،‮ ‬وإذا كل مجموعة داخل‮ ‬غلاف من الجلد تحوي سيمفونية كاملة‮.. ‬ياللعجب‮! ‬ما كل هذا العدد لسيمفونيات موزار‮! ‬وما كل هذه العناية في جمعها‮! ‬لقد بهرني ما رأيت‮.. ‬إن أغلب هذه الأعمال لم أكن قد أطلعت عليها من قبل‮.. ‬فما أتيح لي سماعة لموزار لم‮ ‬يجاوز بعض الافتتاحيات،‮ ‬وقليلاً‮ ‬من الأوبرات،‮ ‬وسيمفونية واحدة أو اثنتين علي الأكثر‮.. ‬ولم أكن عل علم إطلاقاً‮ ‬بأن موزار كتب كونشرتو للفلوت والأوركسترا‮.. ‬وهاهو ذا بين‮ ‬يدي هذا الكونشرتو في مجموعة كاملة داخل‮ ‬غلاف جلدي جميل‮! ‬خيّل إليّ‮ ‬أنه مر وقت طويل وأنا لاه عن الرجل صاحب الحجرة،‮ ‬أقلب مجموعاته ذاهلاً‮ ‬لا أشعر بما حولي‮.. ‬إلي أن وجدت‮ ‬يده تمتد في رفق إلي ما في‮ ‬يدي من أسطوانات،‮ ‬وهو‮ ‬يقول‮:‬
تحب أن تسمع شيئاً‮ ‬منها بالذات؟
فأفقت وفهمت أنه أراد أن‮ ‬يخرجني من هذا الموقف الذي طال،‮ ‬فقلت له وأنا خجل‮:‬
‮- ‬نعم‮.. ‬أكون شاكراً‮!‬
‮- ‬هل وقع اختيارك علي شيء؟
فلم أعرف ماذا أختار؟ كل ما عنده‮ ‬يغري بالاستماع‮.. ‬بل إنني في حاجة إلي سماعها كلها‮.. ‬كلها‮.. ‬ولكن بالطبع وقته لن‮ ‬يسمح لي بأكثر من اسطوانتين أو ثلاث‮.. ‬ولا‮ ‬ينبغي أن أطيل جلوسي‮ ‬

في حجرته إلي حد‮ ‬يضايقه وحسبي أنني تطفلت واقتحمت عليه خلوته،‮ ‬وجعلته‮ ‬يترك جلسته المريحة المستلقية المتراخية،‮ ‬ليتكلف لي حسن الاستقبال والضيافة‮.. ‬تركت له هو الاختيار‮.. ‬فاختار السيمفونية القصيرة من المقام الصغير‮.. ‬وما كادت تنتهي وأنا‮ ‬غارق‮ ‬غرقاً‮ ‬في المتعة،‮ ‬حتي أغلق الفونوغراف،‮ ‬كأنما أراد أن‮ ‬يسد عليّ‮ ‬الطريق‮.. ‬وقال وهو‮ ‬يبتسم‮:‬
‮- ‬بديعة‮.. ‬أليس كذلك؟‮!‬
‮- ‬جداً‮.‬
‮- ‬إنه ليسرني أن تشاركني الاستماع كلما سمح بذلك وقتك‮.‬
‮- ‬بكل سرور‮! ‬بل إن هذا ليسرني أنا ويسعدني بنوع خاص‮!‬
قلتها بإخلاص وكأنها نابعة من أعماق قلبي،‮ ‬وصافحته شاكراً‮ ‬وانصرفت‮.. ‬وصرت بعدئذ أحوم حول حجرته أملاً‮ ‬في أن‮ ‬يدعوني إلي الاستماع‮.. ‬ولكن شاء سوء الحظ أن‮ ‬يشغل في تحضير امتحانات نصف العام،‮ ‬وفي تصحيح الأوراق وغير ذلك من المشاغل التي صرفته عن الموسيقي‮.. ‬فلم أعد أسمع من خلال بأية صدي لصوت‮.. ‬بل إن بابه نفسه أصبح مغلقاً‮ ‬عليه،‮ ‬فأغلق بذلك دوني باب الرحمة‮! ‬وفي ذات صباح مررت ببابه فوجدته مفتوحاً‮.. ‬ولم‮ ‬يكن هو بالحجرة،‮ ‬فقد علمت أنه انصرف مبكراً‮ ‬ليكون في المدرسة في تمام الثامنة،‮ ‬لحضور الحصة الأولي،‮ ‬أو لأعمال المراقبة في الامتحانات،‮ ‬لست أدري‮.. ‬ولم‮ ‬يكن هذا بالمهم عندي‮.. ‬المهم هو أن حجرته كانت خالية،‮ ‬وقد لمحت فيها الفونوغراف فوق المنضدة،‮ ‬ومجموعات الاسطوانات مرصوصة،‮ ‬وكأنها تناديني‮.. ‬كان الإغراء شديداً‮.. ‬لم أستطع المقاومة فدخلت حجرته،‮ ‬وأخرجت كونشرتو الفلوت لموزار،‮ ‬وجعلت استمع‮..‬
تكرر مني هذا الفعل‮.. ‬حتي كدت انتهي من سماع كل ما في المجموعات بهذه الطريقة‮.. ‬أترقب خروجه المبكر إلي عمله،‮ ‬فأدخل متلصصاً‮ ‬إلي حجرته،‮ ‬قبل أن‮ ‬يدخل إليها الخادم لتنظيفها وتنظيمها وترتيب فرشها‮.. ‬فأسمع علي عجل سيمفونية أو اثنتين،‮ ‬ثم أخرج إلي عملي أو إلي جلستي التي تفتتح عادة في التاسعة‮.‬
ولكن ضميري أخذ‮ ‬يوبخني علي هذا الفعل الشائن‮.. ‬رويت القصة لصاحبي الطبيب الشرعي‮.. ‬قال‮ ‬يهون من شأن الموضوع‮:‬
‮- ‬وماذا في ذلك؟ هل نقصت قطعة من أسطوانات الرجل؟
‮- ‬تقريباً‮! ‬لقد انتفعت بها واستهلكتها،‮ ‬بدون إذنه‮.. ‬ودخلت حجرته بدون علمه‮! ‬استهلكت متاعاً‮ ‬مملوكاً‮ ‬له‮.. ‬إنه نوع من الاختلاس‮.. ‬تصور‮.. ‬وكيل النيابة هو الذي‮ ‬يقوم بهذا التلصص والاختلاس؟‮!‬
فأطرق الطبيب‮ ‬يفكر قليلاً،‮ ‬ثم قال‮:‬
‮- ‬لم تتح لي الفرصة‮! ‬لقد وجدت نفسي فجأة أمام الإغراء وجهاً‮ ‬لوجه‮!‬
‮ - ‬في الواقع أن التصرف من حيث الشكل منتقد‮.. ‬لكن من حيث الجوهر فهو عمل مشروع‮.. ‬إن كل ما أردت أنت هو الاستمتاع الفني‮.‬
‮- ‬وأي استمتاع‮!‬
قلتها وأنا أتذكر تلك النشوة التي ما‮ ‬غمرني مثلها قط‮.. ‬لماذا تضاعف حجم تلك المتعة،‮ ‬وأنا أختلسها اختلاساً‮ ‬من حجرة ليست لي،‮ ‬وباب نصف مغلق،‮ ‬أتطلع من خلاله تطلع الخائف القلق؟‮! ‬أفضيت بهذا الشعور إلي صاحبي الطبيب،‮ ‬وسألته رأيه فقال‮:‬
‮- ‬حقاً‮! ‬ما أجمل اللحن الذي‮ ‬يأتينا عفواً‮ ‬من بعيد عبر نافذة الجيران‮! ‬هناك دائماً‮ ‬علاقة بين البعد والحجم‮.. ‬ففي الماديات‮ ‬يصغر الحجم مع البعد،‮ ‬ولكن العكس‮ ‬يحدث في المعنويات‮.. ‬إن المعنويات والروحيات‮ ‬يكبر حجمها مع البعد‮!‬
‮- ‬هل تري أن أصارح هذا الأيرلندي بما حدث‮.. ‬وأشرح له قوة الإغراء التي أوقعتني،‮ ‬وأسأله الصفح‮!‬
‮- ‬يكون أحسن‮! ‬والأفضل من كل هذا أن تبادر فتشتري لنفسك فونوغرافيا وتقتني اسطوانات،‮ ‬حتي لا تعود مرة أخري‮.. ‬وتصبح من أرباب السوابق‮!‬
‮- ‬فكرة‮..‬
لفظتها باقتناع وقوة،‮ ‬وقد صممت علي تحقيقها‮.. ‬وما وافي اليوم التالي حتي كانت خطة التنفيذ قد اكتملت‮..‬لن أنتظر حتي أذهب إلي القاهرة‮.. ‬فلست أدري متي أذهب‮.. ‬وليس من السهل طلب اجازة‮: ‬لابد أن‮ ‬يكون في هذا البندر محل لبيع الفونوغرافات‮.. ‬من الذي‮ ‬يدلني؟ لا أحد‮ ‬غير ذلك المخلوق العجيب‮! ‬إنه فنان هو أيضاً‮.. ‬فنان بالروح والسليقة والاستعداد،‮ ‬وإن كان فنه لا‮ ‬يتخذ شكلاً‮ ‬ولا إطاراً‮.. ‬إنه‮ »‬سيد دومة‮« ‬ماسح أحذية النيابة والمحكمة‮! ‬تلك الشخصية التي أصبحت جزءاً‮ ‬لا‮ ‬يتجزأ من الهيئة القضائية في هذا البندر‮.. ‬إنه الدليل القضائي الحي المتحرك في هذه المدينة‮.. ‬من أراد التحري عن أي معلومات خاصة بأحد القضاة أو أعضاء النيابة أو المكتبة والموظفين،‮ ‬فما عليه إلا أن‮ ‬يسأل‮ »‬سيد دومة‮«‬،‮ ‬فيقول لك‮: ‬فلان بك القاضي أو عضو النيابة أو فلان افندي كاتب الجلسة أو سكرتير التحقيق،‮ ‬كان هنا سنة كذا،‮ ‬وطباعه كيت،‮ ‬ومن عاداته أنه‮ ‬يجلس في المكان الفلاني في الساعة الفلانية،‮ ‬ويحب فلاناً‮ ‬ويكره فلاناً‮ ‬ويفضل هذا النوع من الطعام أو الشراب،‮ ‬ويدخن هذا الصنف أو ذاك من السجاير‮.. ‬وهكذا،‮ ‬وهكذا‮.. ‬ولكن القيمة الحقيقية لسيد دومة هي أنه قاضي الحاجات كلها لكل الموظفين وحلاّل المشكلات‮.. ‬إذا أردت شيئاً‮  ‬مستعصياً‮ ‬أو نادراً‮ ‬فاطلب إلي سيد دومة‮ ‬يبحث لك عنه ويأت بالطلب في ساعتين‮.. ‬وإذا كسر لك متاع أو آلة أو عدة ساعة أو وابور جاز أو طاحونة بن،‮ ‬وماكينة خياطة أو دراجة أو قلم حبر،‮ ‬فهو الذي‮ ‬يقوم بإصلاحها بنفسه‮.. ‬عبقريته في إصلاح الآلات‮- ‬خاصة الدقيقة‮- ‬تكاد تكون قد ولدت معه،‮ ‬بدون دراسة ولا تعليم‮.. ‬إن درجة تعليمه لا تتعدي فك الخط‮.. ‬إنه‮ ‬يكتب ويقرأ ويفهم كل شيء‮.. ‬ولا أحد‮ ‬يعرف أين تعلم هذا‮.. ‬إن كل ما في الصحف من أخبار وحوادث‮ ‬يعرفها في المحطة بعد وصول قطار الجرائد‮.. ‬وفي أقل من ساعة‮ ‬يكون قد مر علي مكاتب الموظفين‮ ‬يخبرهم بما‮ ‬يهمهم منها،‮ ‬وما‮ ‬يتعلق علي الخصوص بحركة الترقيات والتنقلات‮.. ‬وهو‮ ‬يدخل كل صباح علي أكبر موظف وأصغر موظف علي السواء،‮ ‬بدون استئذان‮.. ‬ما‮ ‬يشعر الواحد منا إلا وحذاؤه بين‮ ‬يدي سيد دومة،‮ ‬يمسحه في صمت بالورنيش المناسب،‮ ‬ولا‮ ‬يتكلم إلا إذا طلب منه الكلام،‮ ‬أو أنس فراغاً‮ ‬من الموظف‮.. ‬ومحال أن تبدو منه حركة أو لفظ‮ ‬يعطل أو‮ ‬يضايق المشغول بالعمل‮.‬
جلست إلي مكتبي ذلك الصباح منتظراً‮ ‬مجيء سيد دومة،‮ ‬حلاّل المشكلات‮.. ‬وما أن دقت ساعته المعينة حتي ظهر من الباب بعد طرقه طرقاً‮ ‬خفيفاً‮ ‬كعادته دون انتظار الإذن بالدخول‮.. ‬ومشي مشيته الخفيفة كمشية القط الأليف،‮ ‬وقبع بجوار الحذاء وشمر كم سترته‮- ‬إذا كانت تسمي سترة‮- ‬فإن ملابسه الغريبة لا‮ ‬يمكن أن توصف‮.. ‬فهي خليط عجيب من سروال أو بنطلون قديم لا‮ ‬يعرف مصدره مع سترة شبه عسكرية مما كان‮ ‬يتسلل من معسكرات جيوش الاحتلال،‮ ‬قد رقعت ترقيعاً‮ ‬أخرجها عن الصفات العسكرية والمدنية جميعاً،‮ ‬وأصبحت لها صفة خاصة بسيد دومة وحده،‮ ‬وفوق رأسه‮ ‬غطاء صوف أشبه بالطاقية،‮ ‬ولكنه ليس قطعاً‮ ‬بالطاقية‮.. ‬إنه شيء سمعت بعضهم في البندر‮ ‬يسميه‮ »‬كلبوش‮«.‬
وقد اتخذ هو أيضاً‮ ‬صفة الشخصية المستقلة عن أي رداء آخر للرأس،‮ ‬إنه رداء رأس سيد دومة وكفي‮!‬
جعل‮ ‬يمسح حذائي دون أن‮ ‬ينبس بحرف أو‮ ‬ينظر إليّ‮.. ‬ولكنه فوجئ ولاشك بصوتي‮ ‬يقول له باهتمام‮:‬
‮- ‬اسمع‮ ‬يا سيد‮ ‬يا دومة‮! ‬تقدر تشتري لي فونوغراف؟
‮- ‬فونوغراف بنفير؟
‮- ‬نفير؟ لا‮.. ‬لا‮.. ‬فونوغراف حديث بشنطة‮!‬
‮- ‬حاضر‮!‬
أجاب بهذه الكلمة الواحدة‮.. ‬ثم مضي وعاد بعد قليل‮ ‬يعلن إليّ‮ ‬أن طلبي موجود‮.. ‬ولكنه‮ ‬يستحسن أن أذهب لأختار بنفسي ما‮ ‬يعجبني‮.. ‬ودلني علي الدكان،‮ ‬وقادني إليه‮.. ‬فإذا أنا في دكان بقال‮.. ‬فالتفت إليه منتهراً‮:‬
‮- ‬بقال؟‮! ‬دكان بقال؟‮! ‬أنا قلت لك فونوغراف؟ أنت فاهم كلمة فونوغراف‮ ‬يعني إيه؟‮!‬
فنظر إليّ‮ ‬نظرة كلها عتاب،‮ ‬وقال‮:‬
‮- ‬وانا جاهل للدرجة دي‮ ‬يا بيه؟
وأسرع إلي صاحب الدكان،‮ ‬وحادثه قليلاً‮.. ‬فإذا به‮ ‬يكشف عن ستارة في ركن من أركان المحل‮ ‬،‮ ‬ظهر خلفها صف به عديد من أجهزة الفونوغراف مختلفة الأنواع،‮ ‬من قديم ذي نفير إلي حديث بحقيبة‮.. ‬فعجبت‮.. ‬ثم علمت بعدئذ أن هذا المحل‮- ‬هو أكبر محل بقالة في المدينة‮- ‬لا‮ ‬يبيع البقالة وحدها،‮ ‬بل‮ ‬يعرض أصنافاً‮ ‬أخري مختلفة‮: ‬من أقمشة جوخ،‮ ‬إلي أحذية،‮ ‬إلي جرادل،‮ ‬ومكانس،‮ ‬وفونوغرافات واسطوانات‮.. ‬وأخذت الفونوغراف الذي أعجبني ولم‮ ‬يكن ثمنه‮ ‬يجاوز الجنيهين،‮ ‬لأن الطلب قليل في الريف لمثل هذا الطراز‮.. ‬الكل هنا‮ ‬يفضل الطراز القديم ذا النفير الضخم الذي‮ ‬يملأ العين‮! ‬وكان لابد لي معه من بضع اسطوانات،‮ ‬للتجربة علي الأقل‮.. ‬فعرض عليّ‮ ‬البائع أن أتخير من بين كوم من الأسطوانات القديمة مختلفة الأحجام‮.. ‬فجعلت أقلب فيها‮.. ‬لم أتوقع بالطبع أن أعثر من بينها علي موزار أو بيتهوفن أو هايدن‮.. ‬وجدت المرحومين الشيخ‮ »‬يوسف المنيلاوي‮« ‬والشيخ‮ »‬سيد المصطفي‮« ‬و»عبدالحي افندي حلمي‮«.. ‬فانتقيت للأول‮: »‬فتكات لحظك أو سيوف أبيك‮« ‬وللثاني‮ »‬الحب صبحني عدم‮« ‬وللثالث‮ »‬حلالي بلالي وافاني الحبيب‮«.‬
عدت إلي النزل وخلفي سيد دومة‮ ‬يحمل ما اشتريت‮.. ‬وما أن وصلت إلي حجرتي حتي بادرت إدارة الفونوغراف الجديد باسطوانات أولئك الأعلام في فن‮ ‬غنائنا العربي‮.. ‬وعجبت أن أذني لم ترفضهم،‮ ‬بل استقبلتهم هم أيضاً‮ ‬بالترحاب‮.. ‬ما أبعد الشقة حقاً‮ ‬بينهم وبين هايدن وموزار وبيتهوفن‮.. ‬بل إن أي مقارنة بين هؤلاء وأولئك تعتبر ضرباً‮ ‬من المستحيل‮.. ‬فهذان لونان لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يتقابلا‮.. ‬لأن منطق كل منهما‮ ‬يقوم علي أساس مختلف‮.. ‬ومع ذلك استطعت لدهشتي أن أحب هذا وذاك‮.. ‬ثم زالت الدهشة الأولي وبدأت أفسر نفسي‮.. ‬أفسر ظاهرة تقبلي للنقيضين‮.. ‬ما من تفسير إلا أني تذوقت كلاً‮ ‬منهما بطعمه هو لا بطعم الآخر‮.. ‬وقسته بمقياسه لا بمقياس الآخر ولا بمقياس واحد للاثنين‮.. ‬إن اقتناص أنواع الجمال في الفن كاقتناص أنواع السمك في البحر‮! ‬كل له شبكة خاصة‮.. ‬فإذا استخدمت شبكة واحدة للجميع أفلتت منها أنواع أخري كثيرة‮.‬
ولم تتم فرحتي بالفونوغراف الجديد‮.. ‬فلم أكد أديره في اليوم التالي بحضور صديقي الطبيب علي اسطوانة‮ »‬فتكات لحظك‮..« ‬ولم‮ ‬يكد‮ ‬يعلو صوت المطيب صائحاً‮: » ‬الله الله‮ ‬يا شيخ‮ ‬يوسف‮ ‬يا منيلاوي‮« ‬ولم‮ ‬يكد‮ ‬غناء المطرب الكبير‮ ‬يلعلع بمطلع القصيدة،‮ ‬حتي سمعنا حشرجة أخذت تمتد وتستطيل حتي أصبحت أنيناً‮ ‬خافتاً‮ ‬بوقوف الإبرة وقوفاً‮ ‬تاماً‮.. ‬ماذا حدث؟ لقد انكسر‮ »‬الزمبلك‮«!‬
ولعنت الفونوغراف وماركته وبائعه والذي كان السبب،‮ ‬وهو سيد دومة بجلالة قدره‮.. ‬وأرسلت في طلبه في الحال فحضر‮.. ‬فابتدرته صائحاً‮:‬
‮- ‬الحق عليّ‮.. ‬أنا الغلطان‮.. ‬اشتري فونوغراف من محل بقالة؟‮!‬
فقال مأخوذاً‮:‬
‮- ‬حصل خير؟‮!‬
فأشرت له إلي الفونوغراف‮:‬
‮- ‬حصل‮ ‬يا سيدي أن‮ »‬الزمبلك‮« ‬مصنوع من المكرونة،‮ ‬لا من الحديد،‮ ‬انكسر بعد‮ ‬يوم وليلة‮.. ‬تفضل عاين‮! ‬فأخرج من جيبه مفكاً‮ ‬صغيراً‮ ‬يحمله في جيب سترته الواصع مع بعض آلات وأدوات دقيقة‮ ‬يحملها دائماً‮.. ‬وجعل‮ ‬يفك‮ ‬غطاء الفونوغراف حتي كشفه ونظر داخله وأخرج الزمبلك المكسور‮.. ‬ونظر إليّ‮ ‬وقال‮:‬
‮- ‬حاجة بسيطة‮!‬
وغادرنا في سرعة البرق قبل أن نتمكن من استمهاله أو استيضاحه،‮ ‬وغاب مقدار نصف الساعة،‮ ‬ثم عاد إلينا ومعه شريط‮ »‬خردة‮« ‬طويل رفيع من المعدن أو النحاس،‮ ‬لا أحد‮ ‬يدري من أي شيء خلعه أو انتزعه،‮ ‬استطاع أن‮ ‬يلويه ويلفه علي بعضه لفاً‮ ‬وثيقاً‮.. ‬سألناه‮:‬
‮- ‬ما هذا؟
فقال‮:‬
‮- ‬زمبلك عمولة‮!‬
وأخذ‮ ‬يضعه في جوف الفونوغراف،‮ ‬ويثبته بالمفك،‮ ‬ثم ركب الغطاء،‮ ‬وانتهي من المهمة،‮ ‬ونحن ننظر إليه دون اعتراض علي شيء مما‮ ‬يفعل‮.. ‬فقد كنا‮ ‬يئسنا منه ومن فونوغرافه‮.. ‬ولم نر جدوي في الكلام‮.. ‬ونفض‮ ‬يديه ثم مسحهما في سترته واستأذن للانصراف قائلاً‮: »‬خلاص‮!« ‬ونظرنا إلي الفونوغراف متشككين‮:‬
‮- ‬أممكن لهذا الشيء أن‮ ‬يدور بعد الآن؟‮!‬
فرد في ثقة واطمئنان‮:‬
‮- ‬جربوا‮!‬
وجربنا‮.. ‬وإذا الفونوغراف‮ ‬يدور حقاً،‮ ‬وعلي أحسن ما‮ ‬يكون‮!.. ‬بل حدث ما هو أعجب‮: ‬لقد ظل هذا‮ »‬الزمبلك الخردة‮« ‬صناعة سيد دومة متيناً‮ ‬قوي النبض،‮ ‬قوة قلب فتي صلب لا‮ ‬يضعف ولا‮ ‬يشيخ مدي عشرين عاماً‮ ‬تنقل فيهما معي من بلد إلي بلد ومن مصير إلي مصير،‮ ‬وأسمعني خلالها من روائع السيمفونيات والمؤلفات الغربية،‮ ‬ولوامع البشارف والأغاني في الموسيقي الشرقية ما لا‮ ‬يقع تحت حصر‮.. ‬إلي أن اقتنيت جهاز راديو شغلني وألهاني وأنساني وجود الأنيس القديم،‮ ‬فإذا هو‮ ‬يتنحي في تواضع،‮ ‬ويفسح الطريق للجهاز الجديد علي استحياء‮.. ‬وإذا هو ذات‮ ‬يوم قد اختفي،‮ ‬لا أدري والله كيف‮! ‬اختفي في صمت وهدوء،‮ ‬واختفت معه عِشرة دامت عشرين عاماً‮.‬
كلما ذكرته،‮ ‬ذكرت معه سيد دومة،‮ ‬وذكرت الطبيب الشرعي،‮ ‬وذكرت ذك النزل في ذلك البندر من بنادر الأقاليم،‮ ‬بل ذكرت فوق كل ذلك أن في الدنيا أشخاصاً‮ ‬تجري في دمائهم روح الفن وهم لا‮ ‬يشعرون‮!‬


منقول من موقع أخبار الأدب

الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

كتاب علمي.. (أمة من العباقرة): كيف بدأت العلوم الهندية تهيمن على العالم.. أنجيلا سايناي.. عرض: طارق راشد



 

  

«سيكون من واجب كل مواطن هندي أن ينمّي المزاج العلمي، والمبادئ الإنسانية، وروح التقصي والإصلاح». لقد أصر جواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru، أول رؤساء وزراء الهند، على اشتمال الدستور الهندي الذي بدأ العمل به في 26 يناير 1950 على هذه العبارة.

 تتسم عبارة «المزاج العلمي» التي قال بها نهرو بالإيجاز الرائع؛ حيث تصف رؤيته لإقامة أمّة يمكن للناس فيها التفكير على نحو مستقل واستعمال المنطق وفهم المنهج العلمي. وهكذا، نجد نهرو يضع إيمانه في العلوم والتكنولوجيا في أرض عمادها الدِّين والتديّن. لقد آمن نهرو بأن «العلم وحده يمكنه حل مشكلات الجوع والفقر، والأمية وانعدام النظافة الصحية، والخرافات والعادات والتقاليد المميتة» وأن «المستقبل سيكون للعلم ولمن يمتلكون ناصية العلم». لقد كان نهرو يريد أمة من العباقرة.

تقول أنجيلا سايناي في كتاب «أمة من العباقرة»: «يُشتهر الهنود والأفراد ذوو الأصل الهندي، أينما كنا نعيش في هذا العالم، بأنهم محترفون ومجتهدون ومهرة ومجدون ومهووسون بالكمبيوتر». وقد أمضت سايناي، وهي صحفية علمية بريطانية مولودة لأبوين هنديين، ستة أشهر في الهند وهي تستكشف أمة العباقرة التي أرادها نهرو بعد نحو 50 سنة على وفاته.

تمتلك الهند بتعداد سكانها الذي يقترب من 1.2 مليار نسمة، أكبر مَعين في العالم من العلماء والمهندسين. وعلى الرغم من أن معدل الأمية يحوم حول نسبة مؤسفة تبلغ 60 في المائة، فإن هناك نحو 400 جامعة تفرز مليوني خريج كل عام من ضمنهم عدد مذهل من المهندسين قوامه 600 ألف مهندس، والأشد رواجًا من بين هؤلاء هم خريجو المعاهد الهندية للتكنولوجيا وعددها 16 معهدًا. ومع ذلك، فبدلًا من اكتشاف مراتع للفضول الفكري والابتكار، وجدت سايناي كادحين لا عباقرة. فالضغط بلا هوادة على طلاب الهند «يُضعف ملكة الخيال» ويدفع المئات إلى الانتحار.

من مركز بابا للأبحاث الذرية المقام على الطراز السوفييتي إلى أكاديمية الأبحاث السنسكريتية، يوجد «العبقري والغريب» جنبًا إلى جنب، وهنا تجد الأفكار الحمقاء آذانًا صاغية أكثر منها مقارنة بالغرب. وتشير سايناي إلى أن الهنود يتمتعون «بحرية فريدة من نوعها لاستكشاف منتهى ما يُعتقد أنه ممكن».

العلوم الهندية بعيدة كل البعد عن الهيمنة على العالم، فلا تساهم الهند حاليًا إلا بأقل من 3 في المائة من المخرجات البحثية العالمية، حيث تأتي بعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بفاصل كبير، لكن هناك عددًا متزايدًا من الباحثين الهنود بدأوا يعودون إلى ديارهم لقيادة جيل شاب بعد أن صنعوا لأنفسهم صيتًا ذائعًا في الخارج.

تكشف الصورة النابضة بالحياة التي ترسمها سايناي للهند، تلك الأمة رفيعة التكنولوجيا، عن بلد في عجلة من أمره. لا أحد يعرف كم سيستغرق هذا، لكن توسع الهند الاقتصادي الحالي يذكّرنا بأنها منذ أكثر من 1000 سنة مضت كانت تمتلك ثقافة علمية متقدمة مثلها مثل أي ثقافة أخرى في العالم. وقد قال ونستون تشرشل Winston Churchill ذات يوم: «إمبراطوريات المستقبل ستكون إمبراطوريات العقل».

الهند أمة من العباقرة والكادحين والمهرة. فنحو واحد من كل خمسة من جميع العاملين في حقل الرعاية الطبية وطب الأسنان في المملكة المتحدة من أصل هندي، وواحد من كل ستة علماء موظفين يحملون درجة الدكتوراه في العلوم أو الهندسة في الولايات المتحدة آسيوي، بل إن هناك من ادعى مع مطلع الألفية الجديدة أن ثلث جميع المهندسين العاملين في منطقة وادي السيليكون هم من أصل هندي، كما يدير الهنود 750 شركة من الشركات التقنية هناك.

«أمة من العباقرة» رحلة تقوم بها المؤلفة عند فجر هذه الثورة العلمية وتلتقي فيها المخترعين والمهندسين والعلماء الشبان الذين يساعدون على ولادة القوة العظمى العلمية التالية في العالم، وهي أمة لم تنبن على فتح البلاد ولا على النفط ولا على المعادن، بل أمة انبنت على عبقرية شعبها العلمية. وتوضح أنجيلا سايناي كيف تفسح العلوم القديمة المجال للعلوم الجديدة، وكيف بدأت تكنولوجيا الأثرياء تنتقل إلى الفقراء. كما تغوص سايناي في أعماق أنفس مواطني الهند المتعطشين للعلم، مستكشفةً الأسباب التي حدت بحكومة البلد الأكثر تدينًا على وجه الأرض إلى الإيمان بالعلوم والتكنولوجيا.

من خلال التحقيقات الصحفية الذكية التي تجريها المؤلفة على أرض الحدث ومن خلال التحليل الدقيق، يشرح لنا «أمة من العباقرة» ما يعنيه هذا بالنسبة لبقية دول العالم، وكيف تتمكن أمة روحانية من المواءمة بين روحها والعقلانية الشديدة. كما يصف الكتاب المليء بالشخصيات اللافتة للنظر والنابضة بالحياة والقصص الجذابة الهند من خلال شعبها. فيا لها من أمّة من العباقرة.

لقد آمن جواهر لال نهرو سنة 1960 بأن «المستقبل سيكون للعلوم». كان نهرو يريد إحداث تحول في الهند لتصبح «أمة عقلانية علمية من المحترفين البارعين» كما تقول الصحفية العلمية أنجيلا سايناي، التي تمضي حتى لتقول إن الهند ربما تكون «مهد المعرفة»؛ حيث استخدم الهنود الكسور العشرية والجبر قبل الغرب بقرون من الزمان. سايناي، ابنة المهندس الكيميائي الهندي والتي تعترف بأنها هي نفسها من المهووسين بالحوسبة، مؤهلة تمامًا لتفسير الأسباب التي تجعل الهنود «مشهورين بأنهم محترفون ومجتهدون ومهرة ومجدون ومهووسون بالكمبيوتر» وما إذا كان من الممكن أن تصبح الهند قوة عظمى علمية. تسافر سايناي في مختلف ربوع البلد لتتحدث مع «أساتذة جامعيين غريبي الأطوار»، بداية من علماء الفضاء وعلماء البيولوجيا الذين يصممون ثمار موز معدلة وراثيًا ذات فترة صلاحية أطول، إلى أيقونة عالم الكمبيوتر الملياردير نارايانا ميرثي Narayana Murthy، مؤسسة شركة إنفوسيس. ربما يتجه نظام التعليم في الهند إلى إفراز عقول كادحة لا عقول خلاقة، لكن سايناي ترى أن موطن قوة هذه الأمة تكمن في تسامحها مع غريبي الأطوار، حيث تجادل بأن التقدم العلمي يُعنى «بتنشئة ذلك العشق المجنون الغامض للإجابة عن الأسئلة».





منقول من موقع مجلة العربي

الاثنين، 12 أغسطس 2013

" بورترية ".. جورج لومتر.. راهب بلجيكي صاغ نظرية (الانفجار العظيم).. . عاطف يوسف محمود

 

  


  • كان لومتر أول عالم يعطى وصفًا مفصلاً منطقيًّا لما نطلق عليه الآن «الانفجار العظيم Big Bang» كنموذج لنشأة الكون. وكان يكرر أنه ليس مجرد نموذج، بل إنه الصورة الحقيقية لمولد الكون
 على خلاف صورة الكون الاستاتيكي الأزلي المستقر استقرارًا أبديًّا، تلك الصورة التي كان علماء الكونيات يبجلونها كثيرًا، ابتكر العالم الروسي «ألكساندر فريدمان» Alexander Friedmann رؤية مستحدثة للكون، مؤداها أنه دائب التحوّر، آخذ في التمدّد. ومع وفاة «فريدمان» عام 1925، توارت إلى حين رؤيته الكونية تلك، لافتقارها للمادة التجريبية الفلكية الكافية. على أنه من حسن الحظ أن مفهوم الكون المتمدد والآخذ في التطور لم يختفِ كلية، وعادت الفكرة لتطفو على السطح بعد سنوات قلائل من وفاة فريدمان. ولم يكن الفضل في بعثها هذه المرة منسوبًا إلى روسيا، بل أُعيد نموذج الكون المتمدّد مرة أخرى على نحو مستقلّ على يد «جورج لومتر» Georges Lemaître، وهو راهب لاهوتي وعالم كونيات بلجيكي اضطربت مسيرته التعليمية، شأنه شأن غيره من العلماء، من جراء أحداث الحرب العالمية الأولى.
 وُلِد «لومتر» (1894-1966) في «شارلروا» Charelroi، وحصل على درجة علمية في الهندسة من جامعة «لوفين» University of Louvain لكنه اضطر للتخلي عن دراسته حينما غزت قوات النازي الألمانية بلجيكا، حيث قضى السنوات الأربع التالية في الجيش، ونال لشجاعته وسام صليب الحرب. وفي أعقاب الحرب، استأنف دراسته في «لوفين»، لكنه انتقل هذه المرة من الهندسة إلى الفيزياء النظرية. وفي عام 1920، انخرط أيضًا في مدرسة لاهوتية في «مالين» Maline، ورُسّم في سنة 1923 كاهنًا. وقد حافظ لومتر، طيلة ما تبقى من حياته، على مسيرتيه المهنيتين المتوازيتين كفيزيائي وقسيس على نحو متوازن، وقال عن ذلك: «إن هناك سبيلين للوصول إلى الحقيقة، ولقد قررت أن أسلكهما كليهما».
وبعد تنصيبه قسيسًا، أمضى لومتر عامًا في «كيمبردج» مع العالم الشهير «آرثر إدينجتون» Arthur Eddington، الذي رأى فيه تلميذًا باهر الذكاء. وفي العام التالي رحل لومتر إلى أمريكا، حيث قضى وقته في إجراء قياسات فلكية في مرصد «هارفارد» Harvard Observatory، وعكف على دراسة الدكتوراه بمعهد «ماساتشوستس» التكنولوجي Massachussetts Institute.
وفي عام 1925 عاد إلى جامعة «لوفين» وشغل وظيفة أكاديمية، وشرع في تطوير نماذجه الكونية الخاصّة به، والمبنية على أساس معادلات آينشتاين للنسبية العامة. بيد أنه تغاضى، وبدرجة كبيرة، عن دور «الثابت الكوني» الذي أقحمه آينشتاين في معادلاته ليحافظ على صورة الكون الاستاتيكي المستقر. وعبر العاميْن التالييْن، أعاد لومتر اكتشاف النماذج التي تصف تمدّد الكون، دون أن يدري أن الكسندر فريدمان (العالم الروسي) قد سبقه إلى خوض العمليات الفكرية ذاتها في وقت مبكر من العقد نفسه.
على أي حال، مضى لومتر إلى أبعد مما توصل إليه سلفه الرّوسي، باتباعه - دون هوادة - للتضمينات المحتواة في نموذج الكون الآخذ في التمدّد.
 كان شغوفا بتاريخ الكون الفيزيائي بصفة خاصّة، فلو أن الكون يتمدد حقًا فلابد أنه كان بالأمس أضألَ منه اليوم، وبالمثل كان أضأل وأضألَ في العام المنصرم. وهكذا إذا ما مضينا القهقري بقدرٍ كافٍ، فلابد من أن الفضاء برمته - منطقيًّا- كان مدموجًا في حيّز ذي ضآلة متناهية.
كان حدس لومتر الأعظم هو أن نظرية النسبية العامة تقتضي وجود لحظة بداية. وانتهى لومتر إلى خلاصة مؤدّاها أن الكون بدأ في حيز مدموج بالغ الضيق، انفجر إلى الخارج ليُفضي - مع الوقت - إلى الكون الذي نجد أنفسنا فيه اليوم، كما أن من شأنه أن يتطور في الاتجاه ذاته مستقبلاً.
وبعد أن أتم صياغة نموذجه عن نشأة الكون، شرع لومتر في البحث في الفيزيائيات التي من شأنها أن تدعم نظريته عن تلك النشأة وتطورها، فوقع على منطقة كانت تثير شغفًا متناميًّا بين الفلكيين هي «فيزيائيات الأشعة الكونية» Cosmic Ray Phys. كان لومتر بالمثل مطّلعًا على عملية انحلال النشاط الإشعاعي، التي تتكسر خلالها الذرات الضخمة - كذرة اليورانيوم - إلى ذرات أضأل، مطلقة جسيمات وإشعاعًا وطاقة.
بدأ لومتر في تأمل أن عملية مماثلة، وإن تكُنْ على مقياس أكبر بكثير، يمكن أن تؤدي إلى ولادة الكون. وباستقراء الأزمنة الغابرة تصوّر لومتر كلّ نجوم الكون منضغطة في حيز بالغ الاندماج أطلق عليه اسم «الذّرّة الابتدائية» Premeval atom، ثم تصوّر اللحظة التي تحللت فيها تلكم الذرّة المفردة المدموجة بغتةً، مطلقةً كل مادة الكون.
وفي إيجاز، كان لومتر أول عالم يعطى وصفًا مفصلاً منطقيًّا لما نطلق عليه الآن «الانفجار العظيم Big Bang» كنموذج لنشأة الكون. وكان يكرر أنه ليس مجرد نموذج، بل إنه الصورة الحقيقية لمولد الكون. لقد انطلق من نظرية النسبية العامة لآينشتاين، ثم استحدث نموذجًا نظريًّا لنشأة الكون وتمدده، ثم طابقه مع أرصاد الظواهر المعروفة مثل الأشعة الكونية وانحلال النشاط الإشعاعي.
كانت لحظة النشأة هي جوهر نموذج لومتر، ورغم أن بحثه كان علميًّا ومنطقيًّا، فقد صاغه في قالب شاعري: «يمكننا تشبيه تطور الكون بألعاب نارية توقف إطلاقها للتوّ، فاستحالت إلى أشرطة واهية من الدخان والرماد. وإذ تبرد المادة المتفحمة شيئًا فشيئًا، فإننا نشاهد الشموس الخابية، محاولين أن نستحضر صورة العالم المتوهج الذي كان ثم لم يلبث أن اختفى».
وإذ قرن ما بين النظرية والأرصاد، وصاغ رؤيته للانفجار العظيم في إطار من العلوم الفيزيائية والأرصاد الفلكية، وصل لومتر إلى ما هو أبعد كثيرًا من أعمال «فريدمان» السابقة لأعماله. ورغم ذلك، فعندما أعلن ذلك الراهب البلجيكي نظريته عام 1927، جوبِه بالصمت الفاتر ذاته الذي قوبلت به نماذج سلفه فريدمان. ولم يشفع للومتر أنه اختار لنشر أفكاره صحيفة بلجيكية محدودة الانتشار هي «سوسييتيه ساينتيفيك دي بروكسيل» Societe Scientifique de Bruxelle.
ولقد زاد من سوء الأمر، تدخل من آينشتاين بعد أن نشر لومتر مقاله عن «فرضية الذرّة الأولية» مباشرةً. فقد حضر لومتر مؤتمر «سولفاي» Solvay Conference ببروكسيل عام 1927 الذي كان تجمعًا لأعظم علماء العالم آنذاك، حيث لفت الأنظار بزيّه الكهنوتي المميز. ولقد أمكنه أن ينتحي بآينشتاين جانبًا، ويشرح له رؤيته عن مولد الكون وتمدده، فأجاب آينشتاين بأنه سبق له أن سمع بتلك الرؤية من فريدمان، وأطلع القسَّ البلجيكي على عمل سلفه الروسي لأول مرة، ثم لم يلبث آينشتاين أن سخّف الفكرة وأحبط لومتر بقوله: «إن حساباتك صحيحة حقًا، بيد أن فيزيائياتك بغيضة وممجوجة».
لقد أتيحت الفرصة لآينشتاين مرتين كي يتقبل سيناريو «الانفجار الأعظم»، أو على الأقل كي ينظر إليه بعين الاعتبار، لكنه في المرتين عارض الفكرة. وكان رفض آينشتاين يعني رفض كل الدوائر العلمية. وفي غياب برهان رصين دامغ، كان انتقاد آينشتاين كفيلاً بوأد النظرية الوليدة. لقد أصبح آينشتاين، ذلك الذي كان ذات يوم عنوانًا على التمرد، دكتاتورًا متسلّطًا. غير أنه في خاتمة المطاف، أقر بالتضارب في موقفه، وقال ذات مرة متحسّرًا: «لقد عاقبني قدَري على ازدرائي للسلطات، بأن جعل مني أنا نفسي سلطة غاشمة».
أحبطت الأحداث التي جرت في مؤتمر «سولفاي» لومتر، فقرر ألا يمضي في أفكاره إلى مدىً أبعد.
وبنظرة مستقبلية، يسعنا القول بأن لكل من النموذجين نقاط قوة ونقاط ضعف. وفي نهاية الأمر كان كلاهما مترابطًا من الناحية الرياضية، وصالحًا من وجهة النظر العلمية. وقد انطلق كل منهما من معادلات النسبية العامة، ولم يتعارض مع أي قوانين فيزيائية مصطلح عليها، إلا أن كلتا النظريتين عانت حينذاك افتقارًا تامًا لأي بيانات رصدية أو تجريبية تدعمها. وكان هذا الافتقار للبرهان العملي هو ما دعا الدوائر العلمية إلى التأرجح في موقفها قبل أن تميل إلى التحامل، محبّذةً رؤية كون آينشتاين الاستاتيكي على نموذج فريدمان ولومتر... نموذج الانفجار العظيم.
ثم كان للأرصاد الضافية التي قام بها عالم الفلك النابه «إدوين بوويل هابل» Edwin Powell Hubble من مرصد «مونت ويلسون» القول الفصل في تلك القضية، إذ أثبتت أرصاده - بما لا يدع للشك مجالاً - تمدد الكون، وتباعد مجراته وأظهرت قياساته أن الكون كما لو كان قد بدأ من حالة مدموجة متناهية في كثافتها، ثم أخذ في التمدد إلى الخارج، ذلك التمدد الذي ما زلنا نرصده حتى الآن.
-------------------------------------
عاطف يوسف محمود
* كاتب ومترجم علمي، حاصل على الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية - مصر.

الأحد، 11 أغسطس 2013

العالم‮ ‬يحتفل بمائة عام علي ميلاده‮ ‬ آلبير قصيري‮ : ‬الرجل الحر في حوار عن المرأة والحب والقاهرة والكتابة.. حوار‮: ‬ميشال ميترانى ‮ ‬ترجمة‮ : ‬أحمد عثمان



في الثانية والتسعين من عمره،‮ ‬التزم بجمل مثل‮ : "‬أحب،‮ ‬بعد أن‮ ‬يقرأني الناس،‮ ‬أن لا‮ ‬يذهبوا إلي أعمالهم في الغد‮". ‬تمتلك كتب آلبير قصيري،‮ ‬الأديب المصري المقيم في باريس منذ‮ ‬1945،‮ ‬في الغرفة‮ ‬58‮ ‬بفندق‮ "‬لا لويزيان‮"‬،‮ ‬جاذبية منفتحة وحكمة معدية،‮ ‬وتحمل نظرة حية ودقيقة عن العالم الذي‮ ‬يجعل القارئ‮ ‬يتساءل عنه‮. ‬هو ذا،‮ ‬من بين حجج عدة،‮ ‬يتبدي لماذا جمعت دار النشر‮ (‬دويل لوزفيلد‮) ‬أعمال هذا الكاتب الحر الكاملة مما جعله حدثا أدبيا كبيرا‮. ‬والمناسبة هي العودة إلي أحد أهم الأدباء الأخاذين في المشهد الأدبي الفرنسي المعاصر‮. ‬

‮   ‬المكتب،‮ ‬لم‮ ‬يعرفه آلبير قصيري أبدا‮. ‬ولد في القاهرة عام‮ ‬1913،‮ ‬لعائلة من ملاك الأراضي الصغار‮. ‬درس في مدارس كاثوليكية وفي سن العاشرة،‮ ‬بدأ الكتابة،‮ ‬قبل أن‮ ‬يتجه إلي الدراسة بالليسيه الفرنسية‮. ‬في السابعة عشرة من عمره،‮ ‬غطس في قراءة بلزاك بشغف كبير،‮ ‬وعندما بلغ‮ ‬مونبارناس كانت لديه الرغبة في اكتشاف هذا الحي الشهير‮.‬
في‮ ‬1941،‮ ‬صدرت بالعربية والفرنسية في آن معا مجموعته القصصية الأولي‮ "‬الناس الذين نساهم الرب‮"‬،‮ ‬ثم قدم هنري ميلر الطبعة الإنجليزية‮ : "‬لم‮ ‬يكتب أي كاتب حي بهذه الحدة والقسوة عن حياة الذين‮ ‬يشكلون القاعدة العريضة من الجماهير‮...".    ‬خلال الحرب،‮ ‬عمل قصيري رئيسا للخدم علي باخرة تعمل بين نيويورك وبور سعيد‮. ‬في الميناء،‮ ‬كتب أولي رواياته‮ : "‬منزل الموت المؤكد‮"‬،‮ ‬قبل أن‮ ‬يستقر نهائيا في فرنسا،‮ ‬في هذه الغرفة الكائنة في شارع السين والتي لم‮ ‬يزل قاطنها حتي اليوم‮. "‬فكر العالم كله‮ ‬يوجد‮ ‬ في هذا الحي‮"‬،‮ ‬هكذا أعرب قصيري عن حنينه‮. ‬هو،‮ ‬من لم‮ ‬يعمل أبدا بالمعني المألوف للكلمة والذي أمضي عشر سنوات لكي‮ ‬يكتب كتابا،‮ ‬عاش الحيل في باريس الأسطورية حيث كان مالكو المعارض الفنية‮ ‬يهدونه أحيانا لوحة فيبيعها لكي‮ ‬يسدد إيجار‮ ‬غرفته‮. ‬في‮ (‬مقهي‮) ‬فلور،‮ ‬عنده حساب مفتوح‮. ‬كان كأصدقائه،‮ ‬آلبير كامو وروجيه نيميه أو لورنس داريل ضمانة مؤكدة كضمانة المصرفي‮. ‬يا للزمن‮ !‬
‮   ‬كما شخصيات رواياته التي‮ ‬ينصهر معها‮  "‬هذه الشخصيات حياتي،‮ ‬ذريعة لحكي ما أفكر فيه عن هذا العالم‮"  ‬لم‮ ‬يرض قصيري بأي عقبة تهدد حريته،‮ ‬مؤكدا نصف جاد‮ "‬أنا حي لأنني لم أتزوج أبدا،‮ ‬وليس لدي أبناء،‮ ‬خادمة،‮ ‬سيارة ولا فاتورة كهرباء‮. ‬يكفيني أن أحيا‮".    ‬شخصيات رواياته،‮ ‬أطفال من قاع المجتمع القاهري أو شحاذون رائعون،‮ ‬بشائر هذه الفلسفة الحاذقة والمعقدة التي لا‮ ‬يكشف صاحبها عنها بسهولة‮. ‬مثله مثل جوهر،‮ ‬المعلم في‮ "‬شحاذون ومتكبرون‮"‬،‮ ‬يشير إلي الفقر‮ "‬إذ أننا نعلم الحياة بدون أن نعيشها هي جريمة الجهل المكروه للغاية‮". ‬يمسك المعلم حساب منزل للدعارة ويكتب خطابات العاهرات قبل أن‮ ‬يقوده مصيره،‮ ‬تحت تأثير الحشيش،‮ ‬إلي الجريمة‮. ‬حتي النظرة اللاذعة‮  ‬أحيانا المنذرة‮  ‬في‮ "‬بيت الموت المؤكد‮"‬،‮ ‬حيث انتهي سكان المنزل‮ ‬غير الصحي إلي الاطمئنان علي أنفسهم بينما هم متأكدون أن منزلهم سينهار‮ .‬
وبمناسبة‮ ‬100‮ ‬عام علي ميلاده الذي‮ ‬يحتفل به العالم ننشر هنا ترجمة للفصل الثالث من كتاب‮ : ‬ميشال ميتراني،‮ ‬حوار مع آلبير‮ ‬قصيري،‮ ‬مطبوعات جويل روزفيلد،‮ ‬باريس‮.‬






‮ ‬آلبير قصيري،‮ ‬كتاب كل عشرة أعوام،‮ ‬ايقاعك لإنضاج الحكاية‮. ‬هل ستعمل علي نشر‮ "‬لصوص صغار ولصوص كبار‮" ‬؟
‮  ‬لم أعرف أبدا متي أنتهي من كتابة أي كتاب‮. ‬يجب أن أقول أنني لست متعجلا بما أنني أكتب نفس الكتاب‮.‬
‮  ‬الم‮ ‬ينتج كبار الأدباء سوي عمل واحدب،‮ ‬كما قال مارسيل بروست ذات مرة‮.‬
‮  ‬بيد أن معظم الكتاب‮ ‬يعرفونها جيدا‮... ‬أقول في كل كتبي ما لدي‮.‬
‮  ‬نعم،‮ ‬يستحق كلامك أن‮ ‬يكون قابلا للتأويل بالنسبة للقراء الذين‮ ‬يحبون كتبك وينتظرون كتابك القادم‮.‬
‮  ‬لديك الحظ أنك تمتلك سبعة كتب لي‮. ‬اذا كنت كتبت ثلاثين،‮ ‬كنت ستكون في حالة مزرية‮...‬
‮  ‬دراسة ضخمة لموريس بلانشو،‮ ‬معنونة‮ "‬الحوار اللا نهائي‮"‬،‮ ‬كما تعرف‮... ‬علي وجه العموم،‮ ‬بما أن هناك فاصلا زمنيا‮ ‬يقارب العشر سنين‮ -  ‬تقترب اللفظة من نهايتها‮  ‬يفصل بين ظهور كتبك‮  ‬كإحصائية‮ -‬،‮ ‬لماذا تظل وقتا طويلا في الكتابة ؟
‮  ‬لأنني أعمل‮... ‬لتفترض خمسة عشر‮ ‬يوما متتابعة،‮ ‬ثم أبقي شهرا بدون كتابة‮. ‬يتأتي أن أبقي ثلاثة أشهر بدون أن أفعل شيئا،‮ ‬قبل أن أعاود الكتابة‮. ‬الكتابة صبر طويل‮.‬
‮  ‬اذأ،‮ ‬لا تكتب منهجيا كل‮ ‬يوم،‮ ‬كما‮ ‬يفعل بعض الكتاب ؟
‮  ‬بالطبع لا‮ !‬
‮  ‬كل نهار في العاشرة صباحا‮...‬
‮  ‬أنهض متأخرا‮. ‬أحتسي قهوة‮. ‬تلزمني ساعتين حتي أبدأ العمل‮.‬
‮  ‬كيف تحافظ حياتك اليومية علي رابطة مع مصر،‮ ‬التي تلقح نتاجك ؟
‮  ‬قلت لك أنني لم أغادر مصر،‮ ‬أي أنني أحيا دوما نفس المناخ‮.‬
‮  ‬تحيا في باريس،‮ ‬ولا تقرأ‮ "‬الأهرام‮" ‬كل صباح،‮ ‬حتي تكون مطلعا علي ما‮ ‬يجري‮.‬
‮  ‬نعم‮... ‬لا أشتري‮ "‬الأهرام‮". ‬في تناقص،‮ ‬أقرأ بالعربية،‮ ‬لأنه علي مدي خمسين عاما في باريس،‮ ‬أصبح الأمر صعبا‮. ‬أنا خجل‮. ‬مع من سأتحدث العربية ؟ حتي عندما‮ ‬يأتي إخوتي الي باريس،‮ ‬نتبادل الأحاديث بالفرنسية‮. ‬أصدقائي المصريون الذين‮ ‬يأتون،‮ ‬يتحدثون الفرنسية‮. ‬آخر الأمر،‮ ‬ينسي المرء لغته علي مدي عدد من السنوات‮.‬
‮ - ‬ومع ذلك،‮ ‬اندهشت،‮ ‬حتي بعد العدوان الفرنسي‮-‬البريطاني الغبي علي السويس،‮ ‬من عدد المصريين الذين استمروا في الكلام بالفرنسية في حياتهم العادية‮. ‬Comment ca va؟‮... ‬كيف الحال ؟ كما‮ ‬يقولون في محادثاتهم الهاتفية،‮ ‬التي‮ ‬يجرونها بالعربية والفرنسية،‮ ‬بلا تمييز‮...‬
‮  ‬نعم‮. ‬من قبل،‮ ‬كان هناك الكثير ممن‮ ‬يتحدثون الفرنسية‮. ‬الآن،‮ ‬لا توجد سوي فتيات العائلات المرموقة لأنهن درسن في مدارس الارساليات،‮ ‬لدي‮ (‬مدراس‮) ‬الأخوات‮... ‬لا أعرف أية مدرسة‮.‬
‮  ‬يجب أن‮ ‬يعمل المصريون،‮ ‬ولذا‮ ‬يتعلمون الانجليزية‮.‬
‮  ‬حتي أسماء الشوارع كانت بالفرنسية‮.‬
‮  ‬الحواسيب آمريكية‮...‬
‮  ‬نعم‮... ‬الحواسيب‮... ‬حتي اليوم،‮ ‬لا أعرف فيم تختص‮. ‬لا تثير اهتمامي‮. ‬سمعتهم‮ ‬يتحدثون عن‮ "‬المينيتل‮" (‬2‮)‬،‮ ‬غير أنني لا أعرفه،‮ ‬ولا أريد أن أعرفه‮. ‬بالنسبة لي،‮ ‬يكفيني قلم رصاص وورقة،‮ ‬وهو كل ما أحتاجه للكتابة‮. ‬غير أنني لا أكتب‮... ‬الا اذا كان عندي شئ جديد لقوله،‮ ‬واذا لم أجده،‮ ‬لا أكتب‮. ‬اذا كان لعدم قول أي شئ‮... ‬ربما بسبب التعب عديم الفائدة،‮ ‬وبالتالي لدي كل الوقت‮ !...‬
‮  ‬شخصياتك عربية وتتحدث بالفرنسية‮.‬
‮  ‬لا،‮ ‬أترجم كلامهم الي الفرنسية‮. ‬لا أستخدم تعبيرا باريسيا خالصا،‮ ‬علي سبيل المثال‮... ‬الكاتب الفرنسي الذي‮ ‬يكتب عن باريس لديه حرية أكبر‮. ‬يقول‮ : ‬عبرت الشخصية شارع سان-جاك ودخلت الي مكتبة‮...‬
‮  ‬لكي تنمي الموقف،‮ ‬هل تفكر بالعربية أم بالفرنسية ؟
‮  ‬لا،‮ ‬أفكر بالعربية،‮ ‬أي أمنح جملتي محيطا،‮ ‬ليس محيطا باريسيا أو،‮ ‬لنقل،‮ ‬غربيا‮. ‬بالنسبة للحوارات أو الأجوبة،‮ ‬أفكر بالعربية‮. ‬غير أن أسلوبي،‮ ‬في نفس الوقت،‮ ‬يأخذ شكلا آخر اذا كتبت حول باريس أو أي شئ آخر‮. ‬لئلا أعطي الانطباع بأن فرنسيا‮ ‬يكتب عن مصر‮...‬
‮  ‬دوما،‮ ‬تكتب،‮ ‬مباشرة،‮ ‬بالفرنسية‮.‬
‮   ‬نعم‮. ‬ولكن هناك دوما،‮ ‬في عقلي،‮ ‬المناخ العربي،‮ ‬طريقة الكلام‮. ‬تعرف حتي ان قال أحد لك‮ "‬صباح الخير‮"‬،‮ ‬تشعر أن شيئا خلفها‮. ‬أنه ليس دائما‮ "‬صباح الخير‮" ‬علي الطريقة الأوروبية،‮ ‬أي الذي لا‮ ‬يعني أي شئ‮. ‬وهذا السلام،‮ ‬يستلزم أن أرده‮.‬
‮  ‬في المعني‮ : ‬هل تعرف مع من تتحدث ؟
‮   ‬في مصر،‮ ‬يتبقي هذا أكثر شعبية،‮ ‬بدون طيف البورجوازي الصغير‮.‬
‮  ‬هل تمثل الكتابة بالفرنسية ضغطا خاصا ؟
‮  ‬بالتأكيد‮. ‬يلزمني أن أجد الأسلوب اللازم‮. ‬غير أنني أجده سريعا‮. ‬مثلما لاحظت،‮ ‬منذ كتبي الأولي‮. ‬لأن هناك شكل الذهن الشرقي،‮ ‬أخيرا‮... ‬المصري بالأخص‮. ‬هناك دوما شئ من الدعابة‮. ‬بخصوص التحية علي وجه الدقة،‮ ‬هناك الصداقة،‮ ‬طريقة للسخرية منه‮. ‬هناك دوما شئ ما‮.‬
‮  ‬هل تستطيع دوما أن تحكي مسعي اعداد الكتاب ؟
‮ ‬في‮ ‬غالب الأحايين،‮ ‬سؤال‮ ‬يطرحه القراء،‮ ‬الذين لا‮ ‬يعرفون الكتابة‮ (‬أو لا تمتلكهم الرغبة‮)‬،‮ ‬وانما‮ ‬يحبون القراءة‮.‬
‮  ‬لكل كاتب طريقته في الكتابة‮.‬
‮  ‬وطريقتك ؟
‮  ‬بعض الكتاب‮ ‬يكتب مباشرة ويقول لكم‮ : ‬أكتب خمس صفحات‮ ‬يوميا،‮ ‬وهذا‮ ‬يتبدي لي‮ ‬غريبا‮. ‬لا‮ ‬يكتب،‮ ‬بالضبط‮ ‬يحرر نصا ما‮. ‬أنا أكتب جملة‮. ‬فقط،‮ ‬أتفحصها عشرين مرة كي أضيف شيئا ما فيها‮.‬
‮  ‬كيف تولد فكرة الكتاب ؟
‮  ‬أنها عملية تحضير طويلة،‮ ‬ولهذا أخذ كثيرا من الوقت لكتابتها‮. ‬بداية،‮ ‬لأنني لست متعجلا‮. ‬ليس لدي أي طموح‮.‬
‮  ‬ألا‮ ‬يتأتي هذا البطء من رفضك للتغيير،‮ ‬للجدول ؟ هل من الممكن أن‮ ‬يتغير كاتب ما حينما‮ ‬يحتوي نتاجه علي نفس الصور-القوي ؟
‮  ‬لست روائيا‮. ‬يكتب الروائي كتابا‮ ‬يدور في باريس،‮ ‬في افريقيا،‮ ‬في أي مكان في العالم،‮ ‬وبأي حكاية‮. ‬قسرا،‮ ‬يغير الجدول،‮ ‬بينما أنا أعمل دائما علي نفس الشئ‮.‬
‮  ‬بطريقة ما،‮ ‬أ لا تغترف،‮ ‬في كل مرة،‮ ‬من مادة محدودة وثابتة ؟ لا أشير فقط الي وفائك الاقصائي لمصر‮.‬
‮  ‬نفس الفكرة موجودة في جميع كتبي،‮ ‬أعمل عليها بصورة مختلفة‮. ‬الكاتب الحقيقي‮ ‬يتصرف بالمادة المحدودة التي تمثل وجهة نظره للعالم‮.‬





‮ ‬من أين تأتي شخصياتك ؟ هل لها بطاقة وصفية مشتركة ؟
‮  ‬إنها شخصيات عرفتها في مصر،‮ ‬تمثل جزءاً‮ ‬من هذا التصور عن العالم‮. ‬أستطيع،‮ ‬بعد خمسين عاما،‮ ‬أن أكتب كتابا،‮ ‬بتفصيلة،‮ ‬بصفة للشخص الذي قابلته في شبابي‮. ‬وبدون أن أدون ملاحظات،‮ ‬لست في حاجة الي ملاحظات‮.‬
‮  ‬ذاكرة الكاتب انتقائية،‮ ‬كما قال جوليان جراك،‮ ‬تتعامل مع المخزون،‮ ‬ولكنها لا تحدد موضوع الكتاب ولا حبكته‮. ‬ما دور الحبكة في رواياتك ؟
‮  ‬الحبكة‮... ‬بالتأكيد،‮ ‬من الواجب أن أجد حبكة فريدة،‮ ‬لأن شخصياتي فريدة،‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن تحدث معها حكاية تافهة‮... ‬عن سيد متزوج‮ ‬يحب امرأة أخري،‮ ‬وهكذا‮. ‬بالتالي،‮ ‬أبتكر لها حكاية‮. ‬ولكن الشخصيات هي التي تثير اهتمامي علي وجه الخصوص،‮ ‬وما سيقولونه‮. ‬لأنه،‮ ‬بعد كل شئ،‮ ‬يعبرون عن فكري‮. ‬فضلا عن ذلك،‮ ‬لا أعتقد أن القارئ‮ ‬ينشغل بالحبكة،‮ ‬وانما بالشخصيات‮. ‬تعرف أن الناس الذين‮ ‬يأتون لرؤيتي،‮ ‬والشباب بالأخص،‮ ‬لم‮ ‬يقولوا لي أبدا‮ : ‬كتبت رواية جميلة‮. ‬أنهم مفتونون بالشخصيات وبما تعبر عنه‮...‬
‮ -... ‬بأسلوبك الخاص‮. ‬جملك المرصعة بدقة تنتج صورا قوية،‮ ‬عنيفة دوما‮. ‬بطريقة تقنية خالصة،‮ ‬تستعمل دوما الصفات‮. ‬أنت سخي في استعمال الصفات‮.‬
‮  ‬لأنه،‮ ‬أيضا،‮ ‬أسلوب اللغة العربية‮.‬
‮  ‬من الصحيح أن هذه الصفات المباشرة للغاية لا توفر الحالة ولا الشخصيات النضرة‮. ‬هذه الصفات تمحو كل التباس‮.‬
‮  ‬من اللازم أن تحتوي كل جملة علي النقد بينما أقوم بالوصف‮. ‬اذا تكلمت عن مصباح،‮ ‬أقول عمن‮ ‬يملكه‮. ‬أقول‮ : ‬مصباح الحكومة‮...‬
‮  ‬في‮ "‬طموح في الصحراء‮"‬،‮ ‬بينت هيكل الدريك‮ (‬4‮) ‬صدئا بأكمله،‮ ‬أي أن الشركات النفطية أخفقت في عملها‮...‬
‮  ‬يخدم الأطفال الذين‮ ‬يلهون‮. ‬يتسلقونه‮. ‬يجب أن‮ ‬يؤدي الديكور دورا‮. ‬لا أكتب روايات لكي أصف مدينة أو منظرا،‮ ‬هذا لا أهمية له‮.‬
‮  ‬لا تتردد أبدا عن تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية،‮ ‬الوغد وغد،‮ ‬وحتي الدنيء‮...‬
‮  ‬نعم‮ ! ‬أحب الأوغاد،‮ ‬أنهم من‮ ‬يمنحون الحياة بعض الملح‮.‬






‮  ‬الأوساخ هم من‮ ‬يقتلون كل فرحة حولهم،‮ ‬كما قلت علي لسان هيكل‮. ‬وبالتالي،‮ ‬من هم الأوساخ،‮ ‬بالنسبة اليك ؟
‮  ‬أنه الفرد الذي‮ ‬يستفيد من هذا المجتمع الذي نحيا فيه‮.‬
‮  ‬محتال‮... ‬هل هذا الاحتيال الذي تعريه منهجيا عاما ؟
‮  ‬الاحتيال‮ ‬يحيا منذ قرون وقرون‮.‬
‮  ‬ما هو شكله الأكثر مقتا ؟
‮  ‬الطغيان‮. ‬غير أن الطغاة،‮ ‬دوما،‮ ‬موجودون‮. ‬يوجدون دوما‮.‬
‮  ‬وبالتالي،‮ ‬بدون أدني شك،‮ ‬من العبث محاربتهم،‮ ‬لا‮ ‬يثيرون الضحك‮ ! ‬اذا كنت فهمت جيدا،‮ ‬هؤلاء الطغاة‮ ‬يجب النظر اليهم علي اعتبار أنهم دمي متحركة،‮ ‬وكل طغيان أداة سخرية‮. ‬يلهو البطل القصيري بها،‮ ‬ويريد أن‮ ‬يخلدهم لكي‮ ‬يسخر منهم‮. ‬للاحتيال مستقبل مشرق‮...‬
‮  ‬أنه دائم بما أن الأثرياء نصوا عليه،‮ ‬وكذا الناس الذين لهم مكانة ما‮.‬
‮  ‬هل من الممكن أن تعرفه ؟
‮  ‬أنه موجود في كل مكان‮ ! ‬فقط،‮ ‬هذا لا‮ ‬يعني ألا نحب الحياة‮. ‬الحياة رائعة‮. ‬من اللازم التوفر علي صفة ما،‮ ‬أن‮ ‬يكون المرء ذكيا لكي‮ ‬يخرج منه،‮ ‬ويلاحظ كل هذا الاحتيال بفرح،‮ ‬أي تناوله بسخرية،‮ ‬دوما‮...‬
‮  ‬متي تحتفي بالحياة،‮ ‬تحدد الأخوية للذوات‮.‬
‮  ‬الأخوة بين الناس الذين‮ ‬يتلاقون،‮ ‬لأنهم من نفس العائلة‮.‬
‮ - ‬غير أن هذه الأخوية لم تعد موجودة‮... ‬مثل قصة حب بين‮ "‬خبراء‮".‬
‮  ‬نعم،‮ ‬إنها ذوات تتلاقي،‮ ‬وليس جميع الذوات‮. ‬لا‮ ‬يعرف الناس سوي الحب بين رجل وامرأة،‮ ‬الذي‮ ‬يعتبر صورة من صور الحب‮. ‬تفكر شخصياتي في نفس الشئ،‮ ‬هم أنفسهم ضاعوا وسط هذا الاحتيال،‮ ‬وبالتالي تعارفوا‮. ‬مثل أناس تائهين في الصحراء،‮ ‬وبالتالي هناك أخوة بينهم‮.‬
‮  ‬بين مدحت وتيمور،‮ ‬هيكل وكريم،‮ ‬سامنتار وشعث‮... ‬بالتأكيد‮.‬
‮  ‬تبادلوا الاختيار‮.‬
‮  ‬إنها هبة الذات أيضا‮.‬
‮  ‬عرفت آلاف الأفراد،‮ ‬ولم أختر سوي أربعة أو خمسة منهم طوال حياتي‮. ‬لقاء أحد أفراد العائلة‮ ‬يماثلك‮ (‬أتكلم عن العائلة الفكرية‮) ‬شئ نادر‮.‬
‮  ‬تفترض هذه الأخوية،‮ ‬هذا‮ "‬الكمال‮"‬،‮ ‬فن العيش المشترك‮.‬

‮   ‬نعم‮...‬
‮  ‬وما هو فن العيش ؟
‮   ‬أن تتخلي عن كل ما علموك اياه،‮ ‬عن كل القيم،‮ ‬عن الدوغمائيات‮. ‬وهذا ما قلته من قبل،‮ ‬أي أن‮ ‬يقوم المرء بثورته‮.‬
‮  ‬هل قمت بثورتك ؟
‮   ‬أوه‮ ! ‬وأنا شاب‮ ! ‬غير أن كان الحظ رفيقي،‮ ‬كان لدي إخوة أكبر مني،‮ ‬من المثقفين،‮ ‬وقرأت،‮ ‬في السن التي‮ ‬يقرأ أطفال اليوم فيها الرسوم المتحركة،‮ ‬كل الكلاسيكيات الفرنسية‮.‬
‮  ‬ما الذي‮ ‬يميز فن العيش لدي الشخصيات التي ابتدعتها ؟
‮ ‬في بادئ الأمر،‮ ‬انعدام الطموح‮. ‬الطموح‮ ‬يقتل الناس‮. ‬وأيضا هذا الاندفاع نحو مجتمع الاستهلاك‮. ‬أنا،‮ ‬حينما أتابع الاعلانات في التلفاز،‮ ‬أقول في نفسي‮ : ‬يستطيعون أن‮ ‬يقوموا بهذا أمامي لسنوات،‮ ‬لن أشتري شيئا مما‮ ‬يعرضونه‮. ‬لم أتمن أبدا سيارة جميلة،‮ ‬لم أتمن شيئا آخر سوي أن أكون نفسي‮. ‬أستطيع أن أمشي في الشوارع ويداي في جيبي،‮ ‬وأشعر بكوني أميرا‮.‬
‮  ‬هذا الأسلوب الحياتي صاغ‮ ‬شخصيات نتاجك‮. ‬يعيشون علي الهامش،‮ ‬ويجابهون بالسخرية الصفة القمعية لمجتمع‮ ‬يعدد نظامه التنافرات،‮ ‬يعقدها طوعا‮  "‬خلله الوظيفي‮"‬،‮ ‬كما‮ ‬يقال اليوم‮  ‬لكي‮ ‬يحتال بصورة فضلي علي الناس‮. ‬شخصياتك تحب الحياة الطبيعية،‮ ‬خارج كل ابتذال‮ ‬يحقق العنف‮. ‬يتصرفون كأمراء علي خشبة الحياة،‮ ‬أيا كانت،‮ ‬وعلي وجه الخصوص حسبما‮ ‬يختارون أن‮ ‬يعيشوها‮.‬
‮  ‬هو ذا،‮ ‬الأرستقراطية الحقيقية،‮ ‬هي تلك المتحررة من هذا العالم الاستهلاكي،‮ ‬من العنف ومن الاحتيال‮.‬
‮  ‬لشخصياتك رقة خاصة ؟
‮  ‬ولكن هذا‮ ‬يمنحنك،‮ ‬طبيعيا،‮ ‬رقة خاصة‮.‬
‮  ‬لا‮ ‬يكرهون‮.‬
‮  ‬لا‮ ‬يكرهون،‮ ‬بما أنهم لا‮ ‬يملكون أي طموح‮. ‬كالعادة،‮ ‬الطموح‮ ‬يكره الطموحين الآخرين مثله،‮ ‬الذين‮ ‬يريدون أن‮ ‬يبلغوا نفس المكانة‮.‬
‮  ‬أنه التحرر من ثروات هذا العالم الذي تمتدحه‮...‬
‮  ‬من الثروات،‮ ‬ولكن ليس من الحياة‮. ‬لا تستطيع امتلاك الثروات أن ترضي انسانا ذكيا،‮ ‬فهم العالم الذي‮ ‬يحياه‮. ‬لأن الذكاء،‮ ‬يعني فهم العالم الذي نحياه‮ ! ‬فهمه كثير من الناس،‮ ‬ولكن من،‮ ‬لئلا‮ ‬يفقد مكانه،‮ ‬أو أمام مديرهم،‮ ‬يستمرون في الكذب،‮ ‬في العيش في هذه الكذبة‮. ‬اذا لم‮ ‬يكن لديك مدير،‮ ‬اذا لم‮ ‬يكن لديك أي دين لأي شخص،‮ ‬لست في حاجة الي العيش في الكذبة‮.‬
‮  ‬لا تعمل شخصياتك،‮ ‬لا تتبع أحدا‮. ‬أنها أحرارمن خلال تحررها من كافة القيود والعمل‮.‬
‮  ‬نعم‮. ‬هو ذا بالضبط‮.‬
‮  ‬بيد أن هذه المسافة،‮ ‬أ لا تفضي الي نوع من الأنانية،‮ ‬الي أريحية تحديدية،‮ ‬الي اختزال الحنو،‮ ‬حتي،‮ ‬أقول‮... ‬أين‮ ‬يتموضع هذا الحنو الانساني في هذا التحرر ؟
‮  ‬ولكن بالضبط،‮ ‬هذا التحرر‮ ‬يمنح الامكانية للمرء بأن‮ ‬يكون سخيا،‮ ‬بما أنه،‮ ‬كما قلت من قبل،‮ ‬لا‮ ‬يوجد سوي الطموحين من‮ ‬يكرهون‮.‬
‮  ‬هل من الممكن أن‮ ‬يكون الحنو انتقائيا ؟
‮  ‬أنه انتقائي لأن المرء لا‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يحب سوي من‮ ‬يشبهه‮.‬
‮  ‬حينما أقول أنه انتقائي،‮ ‬بمعني أنه خارج العائلة الشرعية‮. ‬ينتخب المرء أصدقاءه،‮ ‬يختار من‮ ‬يحبه‮.‬
‮  ‬شعرت بهذا لما كنت شابا،‮ ‬لأن،‮ ‬كما قلت في سياق حوارنا،‮ ‬والدي لم‮ ‬يعمل أبدا وبالتالي لم أشعر بأي ثقل‮. ‬تعرف،‮ ‬في العائلات التي‮ ‬يستلزم أن‮ ‬يعمل الأب لكسب المال،‮ ‬أن‮ ‬يجلب المال للبيت،‮ ‬وبالتالي،‮ ‬هناك شئ من السلطة‮. ‬لم‮ ‬يكن لأبي أية سلطة علينا‮. ‬لم‮ ‬يقل أبدا‮ : ‬عليك أن تفعل هذا أو ذاك‮. ‬ليس الآباء من‮ ‬يستطيعون تربية الأطفال‮.‬
‮  ‬أ لم تر أبدا الي أن المجتمعات من الممكن أن تتقدم ؟
‮  ‬التقدم الروحي،‮ ‬نعم‮ ! ‬ليس بالمعني الديني‮. ‬الروحي،‮ ‬أي في الروح‮. ‬صعب للغاية،‮ ‬ولذا لم تتقدم الانسانية قيد أنملة منذ آلاف الأعوام‮. ‬نراه اليوم في كل مكان بالعالم‮ : ‬الناس تتكاره،‮ ‬يصنعون الحروب،‮ ‬يتقاتلون‮.‬
‮  ‬ولكن كيف تستطيع المجتمعات أن تصلح من شأنها بدون التقدم التقني،‮ ‬المادي ؟
‮  ‬دوما،‮ ‬في الاحتيال،‮ ‬أي‮ ‬يدفع الفقراء ثمن هذا التقدم‮.‬
وبالتالي،‮ ‬بقدر ما‮ ‬يتبقي من فقراء‮...‬
‮  ‬لا أقول إن العالم لا‮ ‬يجب أن‮ ‬يتطور عبر التقدم‮. ‬لست ضد هذا العالم‮. ‬أتخلص منه بلباقة وذا كل شئ‮. ‬هناك كثيرون مثلي‮.‬
‮  ‬مثل شخصيات كتبك ؟
‮  ‬نعم‮. ‬ومثل كثير من الناس،‮ ‬الشباب بالأخص،‮ ‬الذين قرأوني‮. ‬ولكن العالم‮ ‬يستمر كما‮ ‬يريد‮. ‬لست ضد أي شئ‮. ‬يستمر هؤلاء،‮ ‬ويفعلون ما‮ ‬يحلو لهم‮. ‬غير أن لا رابط بيني وبينهم‮.‬
‮  ‬تتحدث في معظم الأحيان عن الدعابة،‮ ‬عن هذه الدعابة الخالدة التي تهيمن علي وجود الانسان المصري،‮ ‬يتبدي بالمثل أن التهكم والسخرية أمر قصيري خالص‮.‬
‮  ‬لا‮. ‬كذلك الشعب المصري‮. ‬يسخر من نفسه أيضا‮. ‬تعرف،‮ ‬في مصر،‮ ‬كل‮ ‬يوم،‮ ‬هناك حكاية‮ ‬غريبة،‮ ‬لا نعرف من أبدعها،‮ ‬عن الأحوال الراهنة‮. ‬ولا أحد‮ ‬يتضايق‮.‬
‮  ‬ولكن هناك معني للسخرية‮ ‬ينتمي اليك ؟
‮  ‬نما من محيطي‮.‬
‮  ‬وجهة نظرك تنمي هذه السخرية‮...‬
‮  ‬في مصر،‮ ‬أنا،‮ ‬كنت ألهو طوال اليوم برفقة أصدقائي‮. ‬إنها الطريقة الوحيدة لفهم الحياة‮. ‬علي أي حال،‮ ‬بالنسبة لي ولكثير من الناس‮. ‬في مصر،‮ ‬كنت محاطا بكثير من الناس الذين‮ ‬يفكرون مثلي‮. ‬لم أبدع هذه السخرية‮.‬
‮  ‬أخيرا،‮ ‬بالمثل،‮ ‬في نتاجك،‮ ‬هناك تطور‮. ‬رأيناه،‮ ‬يقدم كتاباك الأولان وقائع تشهد علي الشعب المصري ذ‮   .     ‬ي بؤسهم الفظيع‮. ‬في كتبك التالية،‮ ‬تنمي صفات الشخصيات،‮ ‬تتأكد أكثر فأكثر‮. ‬شخصيات رئيسية،‮ ‬تبرز،‮ ‬شيئا بعد شئ،‮ ‬البطل القصيري الذي‮ ‬يتكلم دوما علي لسانك‮. ‬لا‮ ‬يمكن أن نكتفي،‮ ‬حتي وان كان أرستقراطيا‮  ‬بالنسبة لك‮  ‬استحضاره،‮ ‬بأطروحتك عن كون هذه الشخصيات تنتج نماذج مجهزة سلفا،‮ ‬تمت مقابلتها في شبابك‮. ‬السخرية المكشوفة البصيرة لرفيق من ابداعك‮. ‬جوهر،‮ ‬أبدعته‮. ‬هيكل،‮ ‬سامنتار،‮ ‬شخصيتان مبتكرتان،‮ ‬حسبما نماذج بعيدة بدون شك‮. ‬ولكن فيهم،‮ ‬هناك روح المبدع،‮ ‬النظرة،‮ ‬مهارة الكاتب،‮ ‬آلبير قصيري‮.‬
‮  ‬نعم،‮ ‬ولكن‮... ‬بالتأكيد،‮ ‬هناك المهارة،‮ ‬بما أنني الكاتب الذي‮ ‬يكتب‮... ‬الذي‮ ‬يصف هذه الشخصيات‮. ‬هناك الأسلوب،‮ ‬هناك شئ من المغالاة أيضا،‮ ‬لأنني روائي،‮ ‬بقدر ما ان التاريخ لا‮ ‬يثير اهتمامي‮. ‬هذا هو كل شئ‮.‬
‮  ‬أهذا هو كل شئ ؟
‮  ‬ولكنني لا أخرج من عالمي،‮ ‬وهذا العالم،‮ ‬عشته‮. ‬وأصفه،‮ ‬بالتأكيد،‮ ‬بطريقة الروائي‮.‬
‮  ‬تعيد ابداعه‮.‬
‮  ‬في رواية‮ "‬تنابلة الوادي الخصيب‮"‬،‮ ‬كانت عائلتي التي وصفتها،‮ ‬وانما‮ ‬غيرت أحوالها بالطبع‮.‬
‮  ‬اذاً،‮ ‬هل تعيد ابداع هذا العالم ؟
‮  ‬نعم‮.‬
‮  ‬قبلته‮.‬
‮  ‬ولكنني أعيد ابداعه بكل تأكيد،‮ ‬بما أنني كاتب‮ !‬
‮  ‬ألا تمتلك ارادة،‮ ‬دوما عبر الدعابة والسخرية،‮ ‬طرد المثير للشجن،‮ ‬الايمان الزائف،‮ ‬وما شابه‮  ‬آخيرا،‮ ‬المشاعر الصريحة المتعلقة بالقيم الهابطة لمجتمع مؤسس علي النفاق ؟
‮  ‬هذه المشاعر الانسانية،‮ ‬حذار‮ ! ‬مم ولدت ؟ ولدت من دوغمائيات نتعلمها،‮ ‬من قيم نتعلمها منذ قرون،‮ ‬وتجعل الانسان تابعا لهذه الدوغمائيات‮. ‬اذا تخلصت منها،‮ ‬سيعم صفاء استثنائي‮ ‬الحياة‮. ‬اذا،‮ ‬تري أن الأمر بسيط للغاية‮. ‬لست كاتبا معقدا‮. ‬لايمكن أن‮ ‬يقول أحد ما علي هذا‮. ‬ولذا،‮ ‬بسبب هذه البساطة،‮ ‬لا‮ ‬يفكر أحد في أن الأمر عميق،‮ ‬لأن،‮ ‬كما تعرف،‮ ‬بالنسبة للنقد‮... ‬كلما كان الكتاب‮ ‬غير مفهوم،‮ ‬كان عميقا‮.‬




‮  ‬في هذا الفن،‮ ‬فن الحياة،‮ ‬أية مكانة تحتلها المرأة ؟ لم تتحدث عنها أبدا‮.‬
‮  ‬ولكن المرأة تحتل المكان‮... ‬الأكبر والمتميز‮.‬
‮  ‬ولكن ليس في هذه الأخوة،‮ ‬دوما بين الرجال‮.‬
‮  ‬بلي‮. ‬ولكن‮... ‬دوما هن شابات صغيرات السن‮. ‬لا أستطيع أن أقيم علاقة مع امرأة بالغة،‮ ‬أي امرأة،‮ ‬ما تسمي امرأة‮. ‬يلزمني أن أمتلك أفكارا مبطنة عنها‮.‬
‮  ‬للحكم عليها ؟
‮ ‬‮ ‬نعم‮. ‬بينما فتاة صغيرة السن،‮ ‬لا أحكم عليها‮. ‬شرحت هذا من قبل‮.‬
‮  ‬في آخر الأمر،‮ ‬هل تعبر شخصياتك دوما عن أفكارك في كتبك،‮ ‬دائما‮ ‬
‮ ‬نعم،‮ ‬أيضا،‮ ‬إنه الشرق‮.‬
‮  ‬نعم،‮ ‬أفكر في الكاتب المصري،‮ ‬توفيق الحكيم‮ (‬5‮)‬،‮ ‬الذي أطلق عليه‮ "‬عدو المرأة‮"...‬
‮  ‬أطلقوا عليه هذا المسمي لأنه انصرف الي مداعبات بدون سوء نية‮. ‬وأنا أيضا،‮ ‬في كتبي،‮ ‬أسخر نوعا ما من المرأة‮. ‬المرأة،‮ ‬وليس الفتيات صغيرات السن‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬لدي قارئات تقرأني‮...‬
‮  ‬ولكنك تمتلك شيئا كبيرا من التسامح مع الممالقين،‮ ‬أخيرا شخصياتك تحترم الممالقين،‮ ‬العاهرات‮. ‬وهن كثيرات في كتبك‮.‬
‮  ‬غير أنهن جديرات بالاحترام،‮ ‬في كل مكان بالعالم،‮ ‬وليس من قبل شخصيات كتبي فقط‮. ‬هذا‮ ‬يمثل جزءاً‮ ‬من العالم‮.‬
‮  ‬والأطفال ؟
‮   ‬نعم‮... ‬أعشق الأطفال،‮ ‬وكما قال لوي كارول‮ : "‬أحب كل الأطفال،‮ ‬ماعدا الأولاد‮". ‬لأن الأولاد،‮ ‬أراهم أصبحوا رجالا‮. ‬سوف أعترف لك‮ : ‬أحببت أن تكون لي بنات‮. ‬لم أنجب أطفالا،‮ ‬اذ خفت أن‮ ‬يكون لي أولاد‮. ‬اذا كنت أنجبت بنتا،‮ ‬لأحببت أن تظل طفلة‮...‬
‮  ‬أحتفظ بصورة هذا الطفل،‮ ‬العاري دوما،‮ ‬الذي‮ ‬يجوب نتاجك والريف المصري‮. ‬غريزته الحيوية تجعله‮ ‬يري في بعض الأحايين الحقيقة قبل والديه،‮ ‬قبل البالغين ؟ ما الدور الذي‮ ‬يؤديه في نتاجك ؟
‮   ‬يؤدي دورا في المشهد،‮ ‬لأنه موجود في هذا المشهد،‮ ‬ولكن هذا الطفل،‮ ‬ذكي للغاية،‮ ‬لأنه في الشارع،‮ ‬وفي الشارع نتعلم أن نحيا‮.‬
‮ - ‬الطفل ممثل أكثر عما قلته‮ : ‬عنصر بسيط مصور في المشهد‮. ‬أفكر في هذا الطفل الذي‮ ‬يشتري البرسيم بينما لا‮ ‬يمتلك خروفا،‮ ‬في‮ "‬أناس نسيهم الرب‮". ‬وفي طفل آخر،‮ ‬طفل العربجي عبد الله في‮ "‬بيت الموت المؤكد‮"‬،‮ ‬الذي‮ ‬ينتقد أباه بقسوة‮. ‬والطفل الذي‮ ‬يصطاد بالمقلاع في‮ "‬تنابلة الوادي الخصيب‮"...‬
‮   ‬نعم،‮ ‬ولكنهم بالضبط أبناء الشعب،‮ ‬وأنا،‮ ‬عندما أتكلم عن الأولاد،‮ ‬يتعلق الأمر بأولاد البورجوازية‮. ‬هؤلاء أطفال الشعب،‮ ‬لا أراهم قد أصبحوا من الطغاة ومن الوزراء‮...‬
‮  ‬ولا من الظالمين‮...‬
‮   ‬حضرت تصوير فيلم في مصر،‮ ‬مأخوذ عن‮ "‬شحاذون ومتعجرفون‮". ‬كان هناك أطفال صغار‮ ‬يمثلون في الفيلم‮.  ‬وقت الغداء،‮ ‬نسي وجود أحد الأطفال‮. ‬لم‮ ‬يحضروه معهم‮. ‬منحته بعض المال لكي‮ ‬يشتري شيئا‮ ‬يأكله،‮ ‬فلافل أو كما‮ ‬يريد‮. ‬لم‮ ‬يكن عمره‮ ‬يتعدي الخامسة‮. ‬ذهب،‮ ‬ولما عاد أحضر لي قطعة شيكولاته لكي‮ ‬يشكرني لأنني منحته بعض القروش‮. ‬في الخامسة من عمره‮ ! ‬حينما‮ ‬يحيا المرء في الشارع،‮ ‬يتعلم أن‮ ‬يكون كريما‮. ‬الشعب المصري شعب كريم‮. ‬بالبداهة،‮ ‬أتكلم عن الشعب المصري‮.‬
‮  ‬آلبير قصيري،‮ ‬تمدح دوما البطالة والكسل‮. ‬عن شخص كسول،‮ ‬كتبت سبعة كتب،‮ ‬سيناريوهات‮(‬6‮)... ‬هل عملت‮...‬
‮   ‬حسب وجهة نظري،‮ ‬لم‮ ‬يكن هذا من قبيل العمل‮. ‬لم أبحث عن كسب المال،‮ ‬والا كنت عملت شيئا آخر‮ ‬غير الكتابة‮. ‬بالتالي،‮ ‬هذا لا‮ ‬ينتمي الي فكري‮. ‬بعد ذاك،‮ ‬الكلمة‮ "‬كسل‮" ‬ينظر اليها سيئا في الدول الغربية،‮ ‬لأن الكسل،‮ ‬في هذه الدول،‮ ‬يعني الي حد ما الغباء،‮ ‬وليس هذا المقصود تماما‮. ‬بالنسبة لي،‮ ‬الكسل نوع من البطالة‮. ‬لا بد منه للتأمل‮. ‬لهذا نجد،‮ ‬في الشرق،‮ ‬الأنبياء والحكماء‮.‬
‮  ‬ألا‮ ‬يقابل أي نشاط،‮ ‬أيا كان نوعه،‮ ‬الكسل ؟
‮   ‬ليس نشاط الذهن،‮ ‬النشاط اليدوي أو التجاري‮.‬
‮  ‬ماذا‮ ‬يمثل العالم أو الباحث ؟ شخص‮ ‬يعمل ؟
‮   ‬يعمل ما‮ ‬يعجبه‮. ‬هناك اختلاف كبير‮. ‬تعمل في مصنع،‮ ‬ليس لمتعتك‮. ‬أو بالتالي،‮ ‬أنت مخبول بأنه‮ ‬يمثل طريقتك في العيش‮.‬
‮  ‬صفحة بيضاء،‮ ‬من الصعب ملؤها‮...‬
‮   ‬هذا‮ ‬يتعلق بما‮ ‬يقال‮. ‬بالنسبة لبعض الأشخاص،‮ ‬أمر سهل،‮ ‬لأن نفاد البصيرة‮ ‬ينقصهم‮. ‬بالنسبة لهم،‮ ‬كل ما‮ ‬يكتبونه طيب‮.‬
‮  ‬لديك،‮ ‬من الممكن أن‮ ‬يصبح البطل القصيري شحاذا‮. ‬عمل الشحاذ‮ ‬يتبدي كعمل مثل أية أعمال أخري،‮ ‬كما قال جوهر‮.‬
‮   ‬ولكن الشحاذ بطل من هذا العالم
‮> > > ‬
‮ ‬يستطيع المرء أن‮ ‬يكون شحاذا بكل صفاء،‮ ‬بدون أن‮ ‬يفقد احترام ذاته،‮ ‬ومع ذلك تري أنه من الضروري الحفاظ علي احترام ذاته‮...‬
‮   ‬يتعلق الأمر بوجود الشحاذ في بلد حار أو بلد بارد‮. ‬في بلد حار،‮ ‬من الممكن أن‮ ‬يحيا الشحاذ،‮ ‬بل وحتي أن‮ ‬ينام في الشارع‮. ‬ولكن كيف‮ ‬يمكن التخلص من العالم الذي‮ ‬يحيط بنا ؟ من الضروري أن نجد مخرجا‮. ‬حسنا‮... ‬ولهذا،‮ ‬في‮ " ‬شحاذون ومتعجرفون‮"‬،‮ ‬قلت‮ : ‬من الممكن أن‮ ‬يصبح المرء شحاذا ومتعجرفا،‮ ‬وهذا لا علاقة له برؤية الغرب للشحاذين‮. ‬في البلاد الأخري‮... ‬لا توجد دعابة كما في مصر‮. ‬تماما،‮ ‬شأن مصري خاص‮. ‬وهو ما‮ ‬يدعمهم في بؤسهم‮. ‬وهو ليس مثل البؤس الذي‮ ‬يلقاه المرء في أوروبا،‮ ‬حيث المناخ قاس،‮ ‬والناس قساة‮.‬
‮  ‬هل سمعت قارئا قال لك إن أحد كتبك‮ ‬غير حياته ؟
‮   ‬نعم،‮ ‬لدي كثير من النماذج،‮ ‬من الشباب علي وجه الخصوص‮. ‬لأنني بلغت عمرا،‮ ‬لا‮ ‬يغير المرء فيه من حياته،‮ ‬يتحسر علي ما فاته،‮ ‬وما فقده‮. ‬غير أنه بالنسبة للشباب‮. ‬يجب أن أقول لك أن كثيرا من هؤلاء الشباب‮ ‬يرحلون الي مصر لأنهم قرأوا كتبي‮. ‬وبالتأكيد أقاموا هناك‮.‬
‮  ‬هل وجدوا مصر التي وصفتها ؟
‮   ‬نعم،‮ ‬ثم‮ ‬يسليهم هذا الأمر،‮ ‬لأن القاهرة عاصمة حية،‮ ‬استثنائية لدي الشباب‮...‬
‮  ‬من هم الكتاب الذين قرروا موهبتك ؟ هل هناك لحظة ؟ حيث قلت،‮ ‬حسبما نموذجهم‮ : ‬أستطيع أن أكون كاتبا بدوري ؟
‮   ‬ولكن بالتأكيد،‮ ‬بما أنه في سن العاشرة،‮ ‬كنت أعرف بأنني سأكون كاتبا‮.‬
‮  ‬ولكن،‮ ‬من من الكتاب اعتبرته الأهم ؟
‮   ‬دوستويفسكي،‮ ‬نيتشه،‮ ‬ستندال‮. ‬وكشاعر،‮ ‬بودلير‮. ‬وقرأت الألمان أيضا،‮ ‬توماس مان،‮ ‬والأنجليز‮...‬
‮  ‬بودلير الأكثر انسانية من كثير من الشعراء‮. ‬أثر عليك شابا‮.‬
‮   ‬قرأت بودلير في سن العاشرة‮. ‬ورامبو أيضا‮...‬
‮  ‬لا أقاوم ذكر احدي قصائدك،‮ ‬كتبتها خلال المراهقة،‮ ‬في عمر رامبو تحديدا‮.‬
‮   ‬تبرأت من هذه القصائد‮ (‬7‮)...‬
‮  ‬ومع ذلك أحتفظ بهذين البيتين‮ :‬
‮"‬وحيدا كجثة جميلة،
في‮ ‬يومها الأول بالقبر‮"‬
بالتأكيد،‮ ‬كنت ناضجا قبل الأوان‮...‬
‮   ‬صدفة الحياة‮...‬
‮  ‬أنها فرصة اكتشاف،‮ ‬كما تفعلها،‮ ‬النصوص الكبري في طفولتك،‮ ‬واعادة قراءتها علي مدار حياتك‮. ‬هذه الفرصة من الممكن أن تكون دوما محجوزة،‮ ‬حسبما تقول‮ ‬غالبا للشباب‮. ‬الكتب الكبري تعلمنا الروحية الحقيقية،‮ ‬المتحررة من الدوغمائيات‮. ‬من خلال أعمالهم،‮ ‬نصب كبار الكتاب سورا ازاء الغباء‮. ‬هل تستطيع أن تبدي رأيك،‮ ‬في كلمات قليلة،‮ ‬للقراء عن نهاية هذا الحوار ؟
‮   ‬لكي ترجعوا الي الكتب‮... ‬كتاب كبير‮ ‬يمنحكم قدرة استثنائية‮. ‬من الممكن أن تكونوا فقراء،‮ ‬بؤساء،‮ ‬مرضي،‮ ‬يائسين،‮ ‬قراءة عمل بارز‮ ‬ينسيكم كل هذا‮.‬

 



منقول من موقع أخبار الأدب