السبت، 30 نوفمبر 2013

بورتريه " إرفين شرودنغر".. النمساوي الإيرلندي الذي فتح الباب لاكتشاف سر الجينات


 
 
احتفت النمسا والأوساط العلمية بشكل عام، في شهر أغسطس الماضي بذكرى وفاة  عالم الفيزياء النمساوي إرفين شرودنغر، الذي طوّر عدداً من النتائج الأساسية في مجال نظرية الكم، شكلت الأساس لميكانيكا الموجات: صاغ معادلة الموجة، ومعادلة شرودنغر الثابتة والمعتمدة على الزمن والكشف عن هوية تطوره من الشكلية والميكانيكا المصفوفة، فيما اقترح «شرودنغر» التفسير الأصلي أو الترجمة الأصلية من المعنى المادي للوظيفة الموجي.
وفي السنوات اللاحقة قام بانتقاد تفسير «كوبنهاجن» لميكانيكا الكم التقليدية مراراً وتكراراً، وعلى سبيل المثال: قام باستخدام مفارقة ما عرف آنذاك باسم قط شرودنغر. وبالإضافة إلى ذلك، ألّف العديد من الأعمال في مختلف مجالات الفيزياء: الميكانيكا الإحصائية والديناميكا الحرارية والفيزياء من العوازل، ونظرية اللون، الديناميكا الكهربائية، النسبية العامة، وعلم الكونيات، وقدم عدة محاولات لبناء نظرية الحقل الموحد.
السنوات الأولى من حياته
ولد «شرودنغر» في فيينا في عام 1887، في النمسا، لأبوين هما رودولف شرودنغر الذي كان يعمل في مجال إنتاج الضماد المشمع، وهو في الأساس عالم في مجال النباتات، و«جورجين إميليا بريندا»، وهي نصف نمساوية ونصف إنجليزية الأصل ابنة «الكسندر باور»، الذي كان أستاذاً للكيمياء، بجامعة فيينا التقنية، وقد كان إرفين هو الابن الوحيد الذي أنجبته.
وبسبب أصول والدته  البريطانية استطاع إرفين شرودنغر أن يتعلم اللغة الإنجليزية خارج المدرسة، تحت إشراف جدته بريطانية الأصل. وفيما بين عامي 1906 و1910 درس في فيينا على يد «فرانز إكسنر» الذي عاش من (1849 وحتى 1926)، و«فيدريك هازينور» الذي عاش منذ (1874 وحتى 1915).
أدار أيضاً العمل التجريبي مع «كارل ويلهيلم فريتز كولراوش».
وقد توقفت مسيرته العملية مثل أغلب أبناء جيله في أوربا آنذاك، حين شارك في الحرب بين عامي 1914 و1918، حيث عمل كضابط في سلاح المدفعية بالقلاع النمساوية في كل من مدن: جوريزيا، ديونو، سيستيانا، بورسيكو وفيينا.
لكنه سرعان ما عاد لحياته العلمية في عام 1920حيث أصبح مساعداً «لماكس ويين»، وفي سبتمبر 1920 حصل على وظيفة أستاذ استثنائي أو بروفيسور استثنائي وهو ما يعادل منصب (أستاذ مشارك) بالولايات المتحدة، في جامعة شتوتغارت.
وفي عام 1921، انتقل إلى جامعة زيوريخ، وقد نجح «ماكس بلانك» في جامعة فريدريش ويلهلم في برلين عام 1927.
ومع ذلك ففي عام 1933، قرر «شرودنغر» مغادرة ألمانيا، بسبب كراهيته للنازية والنازيين، ومعاداتهم للسامية، وبعدها أصبح زميلاً في كلية المجدلية في جامعة أكسفورد. بعد فترة وجيزة من وصوله، حصل على جائزة نوبل مناصفة مع العالم «بول ديراك».
وبالرغم من الجائزة المرموقة فإن عمله في جامعة أكسفورد لم يسر على النحو المأمول؛ حيث إن الترتيبات المحلية كانت غير تقليدية له، وتقاسم العيش مع أرباع المصابين مع امرأتين وقطته، و لم يتمكن من قبول «ميلتون»، أما في عام 1934، حاضر شرودنغر في جامعة برينستون، وتم عرض وظيفة دائمة عليه هناك، ولكن لم يقبل ذلك.
«إرفين شرودنغر» كعالم شاب
في عام 1939، بعد أحداث الضم، وكان لدى «شرودنغر» مشاكل بسبب فراره من ألمانيا في عام 1933 ومعارضته المعروفة للنازية، مما دعاه لإصدار بيان أنكر فيه معارضته للنازية. لكنه فيما بعد أعرب عن أسفه للقيام بذلك واعتذر شخصياً لمجتمع العلماء العالمي، بل وأبلغ اعتذاره الشخصي لآلبرت «آينشتاين»، ورغم ذلك، فقد بدا موقفه غير مقنع للإدارة الجامعية آنذاك، فقررت إعفاءه من وظيفته لعدم موثوقيته السياسية. وقد أدت تلك المرحلة من حياته إلى أن يعايش العديد من المتاعب والمضايقات، كما أنه تلقى تعليمات سياسية بعدم مغادرة البلاد، لكنه وزوجته نجحا في الفرار إلى إيطاليا، ومن هناك ذهب إلى زيارة عدة مناصب في أكسفورد وجامعة غنت.
وفي العام نفسه حصل على دعوة شخصية من تاوسيتش (حاكم) إيرلندا، «ايمون دي فاليرا»، ليقيم في إيرلندا ليوافق على المساعدة في إنشاء معهد للدراسات والأبحاث المتقدمة في دبلن، وفيما بعد انتقل إلى كلونتارف، دبلن، وأصبح مدير مدرسة للفيزياء النظرية في عام 1940 وظل هناك لمدة 17 عاماً، وأصبح مواطناً إيرلندياً متجنساً في عام 1948، لكنه أبقى على جنسيته النمساوية. وكتب نحو 50 مقالاً ومزيداً من المنشورات حول مواضيع مختلفة، بما في ذلك استكشافاته من نظرية الحقل الموحد.
أما في عام 1944، فألّف كتابه «ما هي الحياة؟»، والذي يحتوي على مناقشة «غير الكونيات» ومفهوم الجزيء المعقد مع الشفرة الوراثية للكائنات الحية، وفقاً لمذكرات «جيمس واطسون»، والحمض النووي، سر الحياة، وقد أوحى كتاب «شرودنغر» لواطسون بالإلهام للبحث عن الجينات، مما أدى إلى اكتشاف بنية الحمض النووي الحلزوني المزدوج في عام 1953، وبالمثل «فرانسيس كريك»، في كتابه عن السيرة الذاتية له، وكتاب ما هو جنون السعي؟ وصف كيف كان متأثراً بمضاربات شرودنغر حول الكيفية التي يمكن أن يتم بها تخزين المعلومات الجينية في جزيئات.
نظرية الكم القديمة
لقد أصبح «شرودنغر» أكثر اطلاعاً على أفكار نظرية الكم في السنوات الأولى من حياته المهنية، والتي طورت من خلال أعمال «ماكس بلانك»، و«ألبرت آينشتاين»، و«نيلز بوهر»، و«أرنولد سمرفيلد»، وغيرهم، وقد ساعدته هذه المعرفة في العمل على بعض المشكلات في الفيزياء الإحصائية، ولكن العالم النمساوي في ذلك الوقت لم يكن مستعداً بعد للتخلي عن الطرق التقليدية في الفيزياء الكلاسيكية.
كانت المنشورات الأولى لشرودنغر حول النظرية الذرية ونظرية الأطياف التي بدأت تنتشر وتظهر منذ بداية عام 1920، وذلك بعد معرفته الشخصية مع «سمرفيلد» و«ولفجانج باولي» وانتقاله إلى ألمانيا. في يناير عام 1921، أنهى «شرودنغر» مقالته الأولى حول هذا الموضوع، حول إطار تأثير «بوهر-سمرفيلد» من تفاعل الإلكترونات على بعض الملامح من الأطياف من الفلزات القلوية والتي كانت ذات أهمية خاصة بالنسبة له حيث كانت مقدمة من الاعتبارات النسبية في نظرية الكم.
وفي خريف 1922 قام بتحليل مدارات الإلكترون في الذرة من وجهة النظر الهندسية، وذلك باستخدام الأساليب التي وضعها عالم الرياضيات «هيرمان ويل» فيما بين عام (1885 وحتى 1955).
وقد أوضح هذا العمل مدى ترابط مدارات الكم مع بعض الخصائص الهندسية، والتي كانت خطوة مهمة في توقع بعض الميزات لميكانيكا الموجة في وقت سابق من العام نفسه ابتكر معادلة شرودنغر لتأثير دوبلر النسبية لخطوط الطيف، استناداً إلى فرضية كمية أو حصة الضوء واعتبارات الطاقة والزخم.
اختراع أو ابتكار ميكانيكا الموجة
في يناير عام 1926، نشر «شرودنغر» مقاله عن حوليات الفيزياء، التكميم «كمشكلة معامل التحول الخطي» على الميكانيكا الموجية، مقدماً للعالم ما يعرف الآن باسم «معادلة شرودنغر»، ففي هذه الورقة قد أعطى «الاشتقاق» من معادلة الموجة للأنظمة المستقلة الوقت وأظهر أنه يعطي التقييم الصحيح للطاقة للهيدروجين مثل القنبلة الذرية، وقد تم الاحتفال عالمياً بهذا العمل باعتباره واحداً من أهم إنجازات القرن العشرين الذي خلق ثورة في ميكانيكا الكم، بل في جميع فروع الفيزياء والكيمياء. وقد ألحقها بورقة ثانية بعد أربعة أسابيع فقط والتي قدمت حلاً لمذبذب الكم التوافقي، الدوار الثابت في الماكينة الكهربائية، ومشاكل الجزيء ثنائي الذرة، وقدم الاشتقاق الجديد لمعادلة شرودنغر وقدم الورقة الثالثة في مايو والتي أظهرت المساواة في معادلة نهجه مع معادلة «هايزنبرغ» والتي قدمت الحل أو العلاج لمشكلة تأثير ستارك الصلب، وبعدها أظهرت الورقة الرابعة التي تعد الأبرز في هذه السلسلة كيفية التعامل مع مشاكل تغييرات النظام مع مرور الوقت، كما هي الحال في مشاكل الانتشار أو التسريب، وقد اعتبرت هذه الأوراق الإنجازات المركزية، وقد اعترف بها مرة واحدة لأهميتها الكبيرة كإرث لمجتمع الفيزياء.
ومن المعروف حتى يومنا هذا أن شرودنغر هو والد فيزياء الكم، وقد سميت حفرة شرودنغر الضخمة، على الجانب الآخر من القمر من بعده تمجيداً لاسمه، وتم تأسيس معهد «إروين شرودنغر» الدولي للفيزياء الرياضية في فيينا في عام 1993.
وأطلق اسمه على مبنى بأكمله في جامعة ليميريك، في ليميريك، إيرلندا.

منقول من مجلة العربي العلمي




















الخميس، 28 نوفمبر 2013

دوريس ليسينج في حوارها الأخير: أعرف أشخاصاً حصلوا علي نوبل ولم يفعلوا شيئاً



حوار‮:‬‮ ‬أمير زكى‮ ‬ ترجمة‮ : ‬نيجيل فارنيجيل‮ ‬

قبل أيام تم إعلان وفاة الكاتبة البريطانية وصاحبة نوبل دوريس ليسينج. حازت ليسينج علي نوبل في العام 2007، لتصبح المرأة رقم 11 التي تحصل علي هذه الجائزة. من أعمالها "الشعب يغني" و"الإرهابية الطيبة". ننشر هنا مقتطفات من حوارها الأخير مع صحيفة التليجراف

عندما قابل نيجيل فارنديل دوريس ليسينج في أبريل 2008، وهي في عمر الثامنة والثمانين، وجدها ما تزال غاضبة؛ من الشيوعيين، والسيدة تاتشر، و"السويديين الملعونين" الذين قدموا لها جائزة نوبل.

لا يستغرق الأمر مع دوريس ليسينج سوي أربع دقائق للتحدث عن شيء غير متوقع إن لم يكن جدليا بشكل كبير. تتحدث عن هتلر وتقول إنها تتفهمه، كعضوة سابقة في الحزب الشيوعي. (تركته عام 1956، العام الذي خطب فيه خروشوف في اجتماع الكونجرس العشرين، وأنكر فيه ستالين). عليّ أن أشرح أننا كنا نتحدث عن إريك ماريا ريمارك، مؤلف كتاب "كل شيء هاديء في الجبهة الغربية". كانت قد قرأت مؤخرا واحدا من كتبه، عن ثلاثة جنود ألمان عادوا ذ مثل هتلر ذ من الحرب العظمي ليجدوا الفوضي الاقتصادية في جمهورية فايمار. "رأوا الناس ينقلون العديد من الماركات في عربات يدوية، ولأنهم رفاق قدامي وقفوا بجانب بعضهم البعض. وأنت تقرأ هذا تتفهم هتلر فجأة".

هي بالطبع لا تتسامح مع هتلر، هي فقط تشرح شعبيته المبكرة. أذكر هنا تعليقها الذي يظهر شجاعتها المحببة مع اللغة؛ هي لا تهتم بما يمكن أن يفكر فيه الناس، لقد تجاوزت مرحلة الاهتمام، وهناك عظمة في تجاوز الاهتمام بالناس. علي سبيل المثال كم عدد الناس الذين يبلغون الثامنة والثمانين ويصبحون ظاهرة عالمية علي اليوتيوب؟ هي كانت كذلك في العام الماضي، عندما ذهبت الصحافة إلي المنزل الذي عاشت فيه الثلاثين سنة الماضية في ويست هامبستيد، المنزل الذي نجلس فيه الآن، حيث خرجت من تاكسي أسود مع ابنها بيتر، قيل لها إنها فازت بجائزة نوبل للأدب وطلب منها التعليق. كانت هذه أول مرة تسمع الخبر، إلا أنها لم تتأثر بشكل بطولي، قالت وهي تتجاهل الأسئلة: "يا يسوع المسيح"، مضيفة: "أنا لا يمكنني الاهتمام كثيراً.. لقد حصلت علي كل الجوائز في أوروبا، كل جائزة لعينة".

كانت أكثر لطفا لاحقا، قالت كل الأشياء الطيبة، ولكن الآن عندما أسألها عن لحظة نوبل تعود وتقول "من هؤلاء الناس؟ إنهما مجموعة من السويديين الملعونين".

يقول بيتر: "إنهم يبيعون كميات كبيرة من الديناميت".

تقول: "بيتر ابني" وكانت إشارتها غير ضرورية.

يضيف بيتر: "ابنها الآخر مات". وهذا أيضا كان غير ضروري. (ابنها الأكبر جون، مزارع في حقول البن في زيمبابوي. مات بأزمة قلبية عام 1992).

تقول: "المسألة كلها نكتة. تدير جائزة نوبل مجموعة ذاتية مستديمة. يصوتون لأنفسهم ويجعلون صناع النشر في العالم يسيرون علي نغمتهم. أعرف عدة أشخاص حصلوا علي نوبل ولم يفعلوا شيئا لسنة سوي نوبل. وهذا يجلب لي ضيقات جديدة لي. بالأسفل هناك 500 شيئا عليّ أن أوقعه".

عندما توجهت للمنزل، كنت قد مررت بالفعل بالعديد من الكراتين في طريقي إلي السلم. كنت قد رأيت بيتر أيضا في نهاية الممر، يجلس علي طاولة المطبخ ببيجامته. وبلا مبالاة ولا كلمات أشار بإبهامه إلي غرفة الجلوس. حيث وجدت أمه، طولها خمس أقدام، وبوجه لطيف ومجعد، محاط بخصلات شعر كانت تتهرب من تسريحتها.

بالمناسبة، كانت الغرفة تشبه كل شيء تأمل أن تراه في غرفة جلوس عملاق أدبي: كانت فوضوية بشكل رائع، كمتجر للسلع الرخيصة. قال أحدهم مرة أن ليسينج تبدو وكأنها تعسكر في منزلها. هناك أكوام من الكتب، بعضها مائلة وغير مستقرة، شكل للكرة الأرضية، صينية للعرض، أقنعة أفريقية، لوحات زيتية، أبسطة مطوية علي الأرضية. تعيش هنا الآن، تنام علي الكنبة الحمراء بسبب آلام ظهرها إذ تعاني من هشاشة العظام، هذا يجعل من الصعب عليها أن تنام علي سرير. يشاركها علي الكنبة قط ضخم تسميه يوميوم، الاسم المتخذ من أوبرا ميكادو. تقول وهي تربت علي قطها: "يوما ما سأسقط علي يوميوم وسيكون عليهم أن يحملوني إلي المستشفي".

الكاتبة الأكثر إنتاجا وغيرالتقليدية كتبت رواية تزعم أنها ستكون الأخيرة (كتبت أكثر من خمسين كتابا وتقول إن "هذا كاف") النصف الأول من كتاب "ألفريد وإيميلي" هو رواية قصيرة عن كيف يمكن أن تتغير حياة والديها لو لم تكن الحرب العالمية الأولي قد اندلعت. الجزء الثاني هو سيرة ذاتية عن والديها. كانت أمها ممرضة أثناء الحرب. تقول ليسينج: "كان قلبها دافئا ولكنها لم تكن حساسة. من المحتم أن تمريض المجروحين كان أشبه بالجحيم. يصلون بعربة لوري، وبعضهم مات فعليا. المحتم أن هذا مزقها".

كان أبوها جنديا في معارك الخنادق. كادت الشظايا أن تقتله عام 1917. كان يرتدي قدما خشبية ويتذكر معركة باشانديل، المعركة التي قتل فيها بقية رفاقه. تقول ليسينج "كان أبي يتحدث عن الرجال الذين عرفهم وماتوا في معركة باشنديل حتي اليوم الذي مات فيه. كان يتساءل دوما إن كان من الأفضل أن يموت معهم، ولكن علي الرغم من ذلك لم يجعل الإصابة تعيقه. كان يفعل كل شيء". مات في سن الثانية والستين. "كان من المفترض أن يكتب في شهادة وفاته أن سبب الموت هو الحرب العظمي".

تعتقد أن شخصيتها تربت علي الحروب، عن طريق والديها. بدونها ربما لم تكن لتصير كاتبة، ولن يكون لديها ما قال جراهام جرين أنه يجب أن يكون لدي كل الكتاب: قطعة من الثلج في القلب. "حسنا، لقد فكرت كثيرا في هذا. لقد ولدت عقب الحرب العالمية الأول. وغضب أبي من الخنادق سيطر عليّ عندما كنت صغيرة ولم يتركني أبدا. وكأن الحرب القديمة كانت في ذاكرتي وضميري. أعطتني إحساسا رهيبا بالنذير، اعتقادا بأن الأشياء لا يمكن أن تكون عادية ومنظمة، إنها ملعونة دوما. جثمت الحرب العظمي علي طفولتي. الخنادق كانت حاضرة

أمامي أكثر من أي شيء أراه. ولم يفوت أبواي فرصة ليجعلوني أشعر بالبؤس من الماضي. أجد أن الحرب تثقل عليّ كلما كبرت. كيف كان من الممكن أن نسمح بهذه الحرب الوحشية؟ لم نظل نسمح بالحروب؟ نحن انزلقنا الآن في العراق في موقف مستحيل. سأكون سعيدة حينما أموت، هذا سيجعلني أتوقف عن القلق من كل هذه الحروب". لا يمكنك أن تخمن من عيني ليسينج الصغيرتين والطيبتين أنها كانت تكره أمها، توضح: "لقد كرهنا بعضنا. كنا نتشاجر من البداية، هي لم تخترني كابنة، لقد سقطت عليها. من المؤكد أنني أغضبتها. فكرت أن كل شيء أفعله هو أنني أضايقها. كان لديها قدرة غير عادية علي التوهم الذاتي".

هل تساعدها الكتب علي فهم أهلها أكثر، أن تتعاطف معهم؟ "لأن أبي فقد قدما في الحرب، تصرف وكأنه الوحيد الذي له الحق في المعاناة، في حين أن أمي كانت تعاني أيضا؛ زعمت أن حبيبها الحقيقي غرق في سفينة، ولكني لم أكن متأكدة أبدا من ذلك، لأن الصورة الوحيدة التي كانت لديه لها كانت من جريدة، هناك شيء زائف في هذا. لم ليس لديها صورة أفضل؟" بدأت ليسينج في احتقار أمها، نقطة التحول في علاقتهما بدأت عندما زعمت أمها أنها تعاني من أزمة قلبية. "جمعت أولادها وقالت: أمكم بائسة، أمكم بائسة جدا. كنت في السادسة وكرهتها بسبب ذلك. هذه المرأة تئن علي سريرها وتشكو مرضها. كيف يمكن للممرضة أن تقول كلاما فارغا عن قلبها؟ من المفترض أن تعرف أنها نوبة قلق وليس أزمة قلبية، لقد اختلقت الأمر. ماتت أمي برضا من جلطة في السبعينيات من عمرها".

ولكنها لم تمت قبل أن تبدأ في إرسال خطابات إلي ابنتها لتتهمها بأنها عاهرة. بعد فترة، ستمزق دوريس خطابات أمها لحظة وصولها. في النهاية ستجبر علي زيارة طبيب نفسي لبحث هذه العلاقة العجيبة. تقول ليسينج: "أبي وأمي لم يكن من المفترض أن يتزوجا، كان هو حالما جدا وجنسانيا، بينما كانت هي نشيطة جدا وماهرة وعنيدة. لم يفهما بعضهما أبدا. كانت تسخر دوما من الجنس، لم تكرهه، بقدر ما كانت تعتبره غير موجود. كانت تتحدث عن الجنس وكأن شخصا مزعجاً مصاب بالبرد يضايقها".

ولدت ليسينج في فارس (كما كانت تسمي ساعتها) عام 1919، دوريس ماي تايلر (كما كانت تسمي ساعتها) نشأت فيحقل ذرة في روديسيا المستعمرة (زيمبابوي الآن)، هاجر أبواها إلي هناك بعد الحرب. كانت تقرأ بشراهة: كانت تُرسل لها الكلاسيكيات الأدبية من ناد أدبي بلندن. ولكنها لم تكن طفلة سعيدة، وكانت تهرب من آن لآخر. كانت تراودها أيضا توهمات عن وزنها وبدأت حمية من زبدة الفول السوداني والطماطم. لم تأكل شيئا آخر لشهور، ونجح الأمر. تركت المنزل والمدرسة عندما كانت في الخامسة عشر وتزوجت فرانك ويسدام وهي في التاسعة عشر، الذي قابلته وهي تعمل في سنترال في سالزبري. كان موظفا مدنيا أكبر منها بعشر سنوات. أنجبت طفلين وبدأت في القفز علي - ما وصفته بشكل قوي - "جبال هيمالايا الضجر" بالنسبة لأم شابة.

عام 1945، في عمر السادسة والعشرين، هجرت أسرتها وتزوجت من جوتفريد ليسينج، شيوعي وكان عنصرا أساسيا في نادي الكتب اليساري. طلقا بعضهما بعد أربع سنوات، عام 1949. ظلت محتفظة باسم زوجها الثاني، هذا الذي يبدو شيئا غريبا علي امرأة نسوية، ولكن ليسينج لم تكن أبدا نسوية تقليدية. لم تكن تقليدية علي الإطلاق.

هاجرت إلي إنجلترا مع بيتر هي ومسودة كتابها الأول "العشب يغني"؛ الذي يدور في روديسيا ويصف مزارعا أبيض فقيرا تدخل زوجته في علاقة مع خادم أفريقي، نُشر عام 1950، عندما كانت في الحادية والثلاثين، وأشار إلي نجمة قادمة، امرأة مستعدة لتحدي التقاليد العنصرية. كشف الكتاب أيضا أنها ستكون روائية ذات مواهب طبيعية كبيرة وسيطرة تقنية. علي الرغم من أن الكتاب كثيف بروائح ومناظر المروج، فتقنيته تعتمد بشكل كبير علي الروائيين الروس الذين كانت تلتهمهم، خاصة دوستويفسكي وتولستوي. ولكن حياة الكاتب عنت أنه كان عليها أن تصير أنانية. تقول: "لا أتسامح مع العواطف لأنها مشاعر زائفة". للسنوات الخمس التالية كانت تدفع لعائلة في الريف لتأخذ طفلها الصغير لأسبوعين كل مرة حتي تستطيع الكتابة. تقول: "لا يمكن لأحد أن يكتب وهناك طفل موجود، هذا ليس أمرا سليما، هذا سيضايقك".

بدأت تختلط بالمشهد الأدبي الراقي والعظيم في لندن: ضمت دائرتها جون برجر، جون أوزبورن، برتراند راسل، آرنولد ويسكر. وفقا لويسكر: "كانت طباخة جيدة وكانت تقيم حفلات غداء رائعة، إذ كنا نأخذ الطعام من مجموعة من الأطباق ونجلس واضعين ساقا علي ساق ونحن نأكلها. كانت مثلها مثل أفضل شخصياتها: مهتمة بالأصدقاء، ذكية بشكل كبير، لا تهتم بالتفاهات. كانت لا تصبر علي الكلام الفارغ والتظاهر. إن لم تكن تتصف بهذه الأشياء، يتم الترحيب بك في العائلة".

كتابها الأكثر تأثيرا "المفكرة الذهبية" نشر عام 1962 واعتبر حتي يومنا هذا عملا نسويا كلاسيكيا. هذه الممارسة التي تميل للتجريب في السرد ما بعد الحداثي تدور حول الحياة الداخلية لآنا وولف، يستكشف الكتاب ما الذي يعنيه أن يكون الإنسان ذكيا وغاضبا وامرأة. يبدأ من افتراض أن حيوات النساء متصلة بشكل حميمي بقصص عن أنفسهم يسمح المجتمع لهم أن يقدموها. هذه الرؤية غيرت شكل الرواية نفسها، فقد قسمت حياة آنا إلي مفكرات متعددة الألوان: الأسود للكتابة، الأحمر للسياسة، الأزرق للحياة اليومية، والأصفر للمشاعر. تمثل "المفكرة الذهبية" ما تطمح إليه آنا ذ اللحظة التي ستحضر كل ذواتها المتعددة إلي كل واحد.

تجد المؤلفة الآن أشياء أكثر لتناقشها عن العمل الذي كتبته في شبابها أكثر من النسويات الذي رفعوه إلي مكانة مقدسة. تقول عن الرواية إنها كانت عقبة في طريقها وتأسف لأن النقاد فشلوا في تقدير بنية الرواية، مركزين الاهتمام فقط علي رسالتها النسوية، وموضوعها عن الانهيار العقلي كوسيلة للشفاء وتحرير النفس من الأوهام. الغضب الظاهري من الكتاب ربما يتعلق بالمعجبين، خاصة النسويات من أمريكا وألمانيا، الذين اعتادوا علي الوقوف عند بوابة منزلها في الصيف. تقول: "لقد أصبح المنزل ملك للنسويات، إلا أن الكتاب في الأصل كان سياسيا، اعتدت أن أضجر من حاجتي للشرح للقراء في السبعينيات ما الذي عناه خطاب خروشوف في اجتماع الكونجرس السوفييتي العشرين بالنسبة للشيوعية العالمية. هذا هو ما يعطي للكتاب طاقته حقا. في هذا الوقت كان الرفاق ينكرون أن خروشوف ألقي هذا الخطاب، قائلين إنه اختلاق من الصحافة الرأسمالية. اختنق الرفاق بعد ذلك من اليأس".

تبدو هذه الأيام رافضة تماما لحركة التحرر النسائية، تقول: "لقد تم الانتصار في كل المعارك، باستثناء المقابل المتساوي للعمل المتساوي". ويبدو أن هذا عزل بعض تلاميذها السابقين. تبدو ليسينج أنها تستمتع بالثقل الأكبر الذي تمثله آراءها بعدما أصبحت فائزة بنوبل. تصريحها بعد فوزها بنوبل لجريدة إل باييس الإسبانية كانت إحدي الحالات، قالت: "11 سبتمبر كان حدثا بشعا، ولكنا إن عدت بالتاريخ إلي الجيش الجمهوري الأيرلندي، فالأمر ليس بهذه البشاعة". هذا أحدث غضبا في أمريكا، بدت ملتذة بذلك. ولكونها لا تساوم وذات عقل منفرد، فهي تعتبر نفسها مخالفة محترفة.

في كتابها الأخير عادت ليسينج إلي الأصل، إلي روديسيا حيث طفولتها. هناك فصل مؤثر تصف فيه العودة كامرأة عجوز للبلد الذي أحبته من قبل، لتجده ممزقا بسبب حكم موجابي الطاغي. تقابل شخصا أسود بغيضا سكيرا لا يسمح لها برؤية مزرعة أبيها القديمة. كانت مدافعة كبيرة عن حكم السود. سألتها إن كان هذا اللقاء قد غير رأيها؟ "هل كنت سأهاجم السود لو كنت أعرف ما الذي سيحدث؟ الإجابة هي لا. ومجددا فلم يكن المجتمع الذي نشأت فيه جذابا. كان قبيحا في الحقيقة. لكن إن كان من الممكن قول شيء عن الأمر فهو أنني سأدعمك فقط إن تصرفت بشكل سليم حينما تحصل علي السلطة، بدلا من التحول إلي وحش دموي مثل موجابي. علي كل حال، نحن مخطئون بشكل جزئي لأننا تصورنا أنه حين يحصل السود علي السلطة سيتصرفون مثل فيليب توينبي مثلا. لم افترضنا هذا؟ بدلا من ذلك أصبح لدينا موجابي؛ رجل كريه. أنا لا أفهم ما الذي حدث له، كل من عرفه قاله إنه كان ذكيا. كم هو منافق حين يلقي بالبيض خارجا رغم قوله إنه لن يفعل. والآن أنظر إلي المكان، مجاعة، مرض، فساد، مستوي أقل من الحياة، شيء بشع".

هل لديها أي مشاعر عنصرية؟ "بالطبع لديّ، لقد نشأت محاطة بعنصريين بطريقة لا أحد يتوقع الآن إنها كانت موجودة، ولكنها ليست مسألة عنصرية. إنه أمر يشبه وجود الرومان في بريطانيا، لقد وجدونا همج وتركونا همج، ولكن بعد بضعة قرون نحن متحضرون الآن".

بالطبع كانت تختلف سياسيا مع زوجها الثاني. تقول: "لم يكن يعامل كتابتي بجدية، لأنه كان شيوعيا ويعتقد أنني برجوازية وفرويدية وكل هذه الأوصاف. أجد أنه من المستحيل تصديق أن ظل شيوعيا طوال حياته. لقد قتل في كمبالا، في كمين. كان في سيارة مع زوجته الثانية وساقها نحو تنزانيا، هذا كان أمرا مجنونا، ألقوا عليه النيران، وكان موتا بشعا، وهذا أثر علي ابنه، بيتر ممزق بسبب هذا. نعتقد أن الشيوعيين هم من فعلوا هذا لأنهم سموا شارعا باسمه. هذه هي الطريقة التي يتصرفون بها". هي تؤمن الآن أن الشيوعيين "قتلة بضمير مستريح". ولكنها أخذت وقتا طويلا لتصل لهذا الاعتقاد. "نعم لقد وصفت الشيوعية بأنها أجمل الأحلام في أحد كتبي. ثم اكتشفت أنها أشبه بكمية من الجوارب القديمة. أنا لا أصدق الان أنه هناك أناس أذكياء يؤمنون بها".

كنت أعرف عقلها القلق وعدم قدرتها علي مقاومة فرصة لتصدمك. سألتها إن كانت تعتبر مارجريت تاتشر بطلة لأنها واجهت الاتحاد السوفييتي وأنهت الحرب الباردة. لم يكن حظ تاتشر حسنا، قالت: "هل انتهت الحرب الباردة؟ هذا أمر جيد، أنا لم اكن أطيقها

منقول من موقع أخبار الأدب

الأحد، 10 نوفمبر 2013

100‮ ‬عام علي مولده‮:‬ البير كامو كاتب الظل النور



.

من هو الثوري؟‮ ‬يسأل ألبير كامو‮..‬

ويجيب‮: ‬رجل‮ ‬يقول لا‮.‬

ربما تلخص هذه الإجابة البسيطة سيرة حياة الفنان والفيلسوف الفرنسي الذي‮ ‬يحتفل العالم هذه الأيام بذكري ميلاده المائة‮. ‬كامو لم‮ ‬يكن نموذجا فقط لأديب فرنسي‮ (‬ولد في الجزائر‮)‬،‮ ‬بل أيضا نموذجا للكاتب كما‮ ‬ينبغي أن‮ ‬يكون‮..‬المتمرد الدائم‮..‬الأبدي‮!‬

كانت حياته سلسلة من المفارقات،‮ ‬ثوري‮ ‬يتساءل دائما عن معني الحياة وجدواهاومعاناة الإنسان فيها وحيرته من أمرها،‮ ‬هو نفسه عاشق للحياة‮...‬يري أننا‮ " ‬لا‮  ‬ننشد عالماً‮ ‬لا‮ ‬يُقتَل فيه أحد،‮ ‬بل عالماً‮ ‬لا‮ ‬يمكن فيه تبرير القتل‮" ‬وهو العالم الذي كان‮ ‬يبحث عنه في الحياة التي‮ ‬غادرها مبكرا بعد أن حصل علي جائزة نوبل وكان في الثلاثينيات‮ ...‬

هنا محطات في عوالم كامو‮ ..‬كاتب الظل والنور‮ ...

 خطوات في دروب كامو

 

دينا مندور
.

يعد كامو،‮ ‬وفقاً‮ ‬لمواقفه،‮ ‬فيلسوفا من نوع خاص،‮ ‬فقد اعتبر منذ أيامه الأولي كصحفي أن الصحافة عمل فلسفي مكتمل الأركان،‮ ‬كما أنه عرف الصحفي‮ " ‬الناقد‮" ‬بأنه‮ " ‬مؤرخ‮ ‬يوم بيوم

الاثنين،‮ ‬4‮ ‬يناير‮ ‬1960‭.‬‮ ‬كانت السيارة ماركة فاسيل فيجا تجري علي الطريق بين سون وفونتانبلو،‮ ‬يركب بها ألبير كامو،‮ ‬وميشيل جاليمار‮( ‬صاحب دار النشر الأشهر جاليمار وصديق كامو‮)‬،‮ ‬وزوجته جانين،‮ ‬وابنته آن‮. ‬اصطدمت السيارة بحاجز،‮ ‬فانقلبت وتدحرجت علي الأرض العشبية علي جانب الطريق‮. ‬مات كامو علي الفور‮. ‬وفي حقيبته السوداء كتاب العلم المرح لنيتشة،‮ ‬ونسخة فرنسية من نص‮ " ‬عطيل‮" ‬ومخطوطة‮ ‬غير مكتملة من‮ ‬144‮ ‬صفحة،‮ ‬والتي عرفت فيما بعد بالرجل الأول‮.   ‬في هذا اليوم لم‮ ‬يكن كامو‮ ‬يبلغ‮ ‬من العمر سوي‮ ‬46‮ ‬عاماً‮! ‬كم ننسي إلي أي حد مات كامو شاباً‮! ‬إذ‮ ‬يري الكثيرون أن مسيرة أخري كانت تنتظر الكاتب والفيلسوف،‮ ‬مسيرة عنوانها‮ "‬صاحب نوبل في الآداب‮". ‬وآخرون تمنوا لو شهد كامو استقلال الجزائر‮(‬1962‮)‬،‮ ‬ليروا ما سيكون عليه رد فعله،‮ ‬خاصة وهو المعروف بموقفه الجدلي من تلك القضية‮. ‬وربما انبري الصحفيون والمتابعون للساحة الثقافية في تصور تعليق كامو عند رفض صديقه اللدود سارتر تسلم جائزة نوبل‮(‬1964‮)‬،‮ ‬متعللاً‮ ‬بأسباب سياسية وأيديولوجية،‮ ‬فيما‮ ‬يعلم الخبثاء أن رفضه لم‮ ‬يأت إلا اعتراضاً‮ ‬علي منح الجائزة لمنافسه الأهم،‮ ‬قبل ترشحه لها بسبع سنوات كاملة‮. ‬كان‮ ‬ينقصه الكثير ليشهده‮. ‬ولكن انتهت حياته في ذاك اليوم،‮ ‬دون أن‮ ‬ينتهي الجدل حول أفكاره ومواقفه،‮ ‬جدل‮ ‬يتراوح بين القبول والرفض،‮ ‬وبين سماحة التأويل وعنف الإتهام‮. ‬

‮ ‬لم‮ ‬ينشغل كامو بقيم كما انشغل بالحقيقة والحرية،‮ ‬ويقول موجزاً‮ ‬مكانة الكاتب‮ : "‬أحببت أن أعيد الكاتب إلي مكانته الحقيقية،‮ ‬بلا أية ألقاب،‮ ‬سوي تلك التي‮ ‬يتشاركها مع زملائه في النضال،‮ ‬مغلوب علي أمره وعنيد،‮ ‬غير عادل ومفتون بالعدالة،‮ ‬يكتب أعماله بلا خجل ولا‮ ‬غرور،‮ ‬وعلي مرأي ومسمع من الجميع‮"‬،‮ ‬هذا التعبير البليغ‮ ‬القصير‮ ‬ينضم إلي باقي كتابات كامو وتوصيفاته للإنسان والتاريخ والحرب والحق والحب والصداقة،‮ ‬مانحاً‮ ‬للقراء متعة مقابلة الذات واكتشافها عبر لغة فريدة ومختلفة،‮ ‬تتسم بالتجسد من فرط وضوحها،‮ ‬وحروف نابضة بتثمين حقيقي للحياة،‮ ‬واحتفاء دائم بها‮. ‬

بضدها تتمايز الأشياء‮... ‬هذا التثمين والاحتفاء بالحياة،‮ ‬له ما‮ ‬يفسره؛ إذ أن درب الكاتب لم‮ ‬يكن ممهداً‮ ‬علي أي مستوي من مستويات الحياة‮. ‬فألبير كامو ولد في‮ ‬7‮ ‬نوفمبر‮ ‬1913،‮ ‬في مدينة‮ " ‬موندوفي‮" ‬القريبة من مدينة عنبة الحالية في الجزائر الفرنسية،‮ ‬محافظة القسطنطينة،‮ ‬أبوه هو لوسيان أوجستان كامو،‮ ‬الذي ولد هو الآخر في الجزائر،‮ ‬وينحدر من عائلة تنتمي للفرنسيين الأول الذين استوطنوا الجزائر،‮ ‬المستعمرة الفرنسية آنذاك،‮ ‬وأمه هي كاترين سينتي‮. ‬مات أبوه في معركة مارن في بريطانيا،‮ ‬تاركاً‮ ‬الأم بلا مورد ومعها طفلاها‮ (‬لوسيان،‮ ‬وألبير‮). ‬لتعود الأم إلي بيت والدتها وتعيش مع طفليها في‮ ‬غرفة من‮ ‬غرف المنزل مع الجدة والخال‮. ‬إذن لم‮ ‬يعرف كامو عن أبيه سوي بعض الصور وحكاية ذات دلالة تتلخص في شعور الأب بالقرف أمام مشاهد الإعدام التي كانت تنفذ في الحرب‮. ‬لم تكن الأم تسمع تقريباً،‮ ‬وبالطبع لا تقرأ ولا تكتب‮. ‬ولم تكن تفهم ما‮ ‬يقوله محدثها إلا عند الإمعان في حركات شفتيه‮. ‬وعن ذلك كتب كامو‮: "‬كانت هناك امرأة،‮ ‬أضحت فقيرة بسبب موت زوجها،‮ ‬تاركاً‮ ‬إياها مع طفليها‮. ‬عاشت عند والدتها،‮ ‬التي كانت فقيرة هي الأخري،‮ ‬مع أخ لها،‮ ‬عامل‮. ‬كانت تعمل لتكسب قوت‮ ‬يومها،‮ ‬كانت تنظف البيوت،‮ ‬تاركة تربية أولادها لأمها‮ . ‬القاسية،‮ ‬والمتكبرة،‮ ‬والمسيطرة،‮ ‬والتي ربتهم بقسوة شديدة‮".‬

الأم‮.. ‬يزخر تاريخ الأدب بنماذج الأمهات‮. ‬ولكن ما من أم تشبه الأخري‮. ‬إلا أننا مع كامو نتوقف أمام نمط خاص؛ ونموذج فريد‮. ‬فأم الكاتب الكبير لم تكن تكتب‮. ‬وصاحب اللغة الفريدة،‮ ‬لم‮ ‬يسمع لغة أمه‮! ‬حيث تقتصر مفرداتها علي عدد‮ ‬يسير من الكلمات والذي لا تستخدمه إلا في أشد حالات الإحتياج للنطق‮! ‬كما أنها لم تكن تسمع تقريباً‮! ‬وظل الإبن لا‮ ‬يعرف ما إذا كانت هذه الحالة قد إنتابتها بسبب مرض التيفود الذي عانت منه في مراهقتها،‮ ‬أم أن صدمة خبر وفاة الزوج‮ (‬في‮ ‬11‮ ‬أكتوبر1914،‮ ‬في بريطانيا أثناء الحرب،‮) ‬هي التي سببت لها هذا الثقل اللغوي‮. ‬كما‮ ‬يروي أنه حين شاهد صورتها وهي تمسك بصورته وتنظر إليها بحنان،‮ ‬هب صارخاً‮ : " ‬إذن فهي تحبني‮... ‬نعم تحبني‮." . ‬كانت علاقته بأمه شديدة الخصوصية،‮ ‬إذ لم تنطو علي تبادل لغوي،‮ ‬ولكن انطوت علي الكثير من الحنان والعطف الذي‮ ‬يشعر به ابن‮  ‬إزاء أم محدودة الإمكانيات‮ ( ‬مادية،‮ ‬وجسدية،‮ ‬وذهنية‮) ‬ومسئولة عن نفسها وعن ابنيها،‮ ‬وبين أم رأت في الابن الواعد ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يعوضها عن فقد الزوج وعن سنوات الألم‮ ‬،‮ ‬دون أن تمتلك الوسيلة للتعبير له عما‮ ‬يدور بنفسها‮. ‬وعنها قال كامو‮ : " ‬أمي‮... ‬هي أكثر قضية آمنت بها في الوجود‮." ‬كما‮ ‬يذكر أنه حين كان‮ ‬يستيقظ من النوم ولا‮ ‬يجدها في المنزل،‮ ‬كان‮ ‬يخرج إلي الشرفة ويبحث عنها بعينين متلهفتين عبر الشرفات المحيطة،‮ ‬عله‮ ‬يجدها تعمل في إحدي بيوت الجيران،‮ ‬وإذا وجدها تابعها في صمت إلي أن تعود‮.     ‬

‮ ‬في خدمة الحقيقة والحرية‮... ‬أحياناً‮ ‬ما‮ ‬يعرّف الفيلسوف،‮ ‬تعريفا أوليا،‮ ‬علي أنه من‮ ‬يصنّع المفاهيم ويوفقها مع بعضها البعض،‮ ‬وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذا التعبير،‮ ‬فإننا لا نستطيع أن ننكر عن كامو هذه المهمة وهذا الإنشغال والموهبة،‮ ‬بل،‮ ‬والتقنية‮. ‬ولنتأمل مثالاً‮ ‬واحداً‮ ‬دالاً‮: ‬مثال‮" ‬التاريخانية‮"‬،‮ ‬والذي كان محور كتابه‮  ‬الإنسان المتمرد،‮ ‬وعن سؤال ما‮ " ‬التاريخانية"؟ أجاب كامو‮: "‬هي الحالة الذهنية لأولئك الذين‮ ‬يستجيبون للتاريخ‮. ‬أو بالأحري‮: ‬هو سلوك تلك الفئة الخاصة جداً‮ ‬من العبيد الذين‮ ‬يرون في التاريخ سيداً‮ ‬لهم،‮ ‬ويعتبرونه التجسيد للمطلق والقانون‮. ‬بل هي الميتافيزيقيا،‮ ‬ضمنية كانت أو صريحة،‮  ‬التي تعد مصدراً‮ ‬للحلول،‮ ‬الممنوحة لعالم أصبحت فيه‮ "‬العلامات‮" "‬أهدافا‮"‬،‮ ‬وتبدل فيه مفهوم‮ " ‬فيما وراء‮" ‬ب‮" ‬فيما بعد"؛ ولا‮ ‬يُعتّد بالقيم فيه إلا حين تنتصر‮".   ‬‮ > > > ‬

حياة نكتبها‮... ‬وكتب نحياها‮... ‬يعد كامو،‮ ‬وفقاً‮ ‬لمواقفه،‮ ‬فيلسوفا من نوع خاص،‮ ‬فقد اعتبر منذ أيامه الأولي كصحفي أن الصحافة عمل فلسفي مكتمل الأركان،‮ ‬كما أنه عرف الصحفي‮ " ‬الناقد‮" ‬بأنه‮ " ‬مؤرخ‮ ‬يوم بيوم‮" ‬حيث‮ " ‬ينبغي أن‮ ‬يكون همه الأول هو الحقيقة‮". ‬وهو فيلسوف‮ ‬يري في الكتابة الروائية،‮ ‬الطريق الملكي،‮ ‬لتقديم الفلسفة،‮ ‬فكتب في عام‮ ‬1936،‮ ‬في الجزء الأول من‮ ‬يومياته‮: " ‬في هذه الحالة،‮ ‬لا نفكر إلا من خلال الصورة،‮ ‬إذا أردت أن تكون فيلسوفاً‮ ‬فإكتب روايات‮." ‬ثم أضاف في عام‮ ‬1938‮ "‬الرواية ليست إلا فلسفة في هيئة صور‮". ‬ثم في الجزء الخامس من‮ ‬يومياته‮: " ‬أنا لست سوي فنان‮: ‬والفنان بداخلي هو الفيلسوف؛ وذلك لسبب واحد بسيط وهو أنني أفكر وفقاً‮ ‬للكلمات،‮ ‬وليس وفقاً‮ ‬للأفكار‮"... ‬إذن هو فيلسوف فنان‮. ‬بل‮ ‬،‮ ‬وفيلسوف لم‮ ‬يفصل‮ ‬يوماً‮ ‬حياته الشخصية عن مغامراته الفكرية،‮ ‬ودائماً‮ ‬ما مارس اللعبة المزدوجة لحياة‮ ‬يكتبها،‮ ‬وكتب يحياها‮. ‬هذا النوع من الفلاسفة هو نوع‮ ‬يبتكر سلوكاً‮ ‬وأسلوباً‮ ‬في الوقت الذي‮ ‬يؤلف فيه عملاً‮ ‬أدبياً‮. ‬

الغريب‮... ‬هي أول رواية منشورة لألبير كامو،‮ (‬1942‮)‬،‮ ‬والتي مثـّلت حدثاً‮ ‬أدبياً‮ ‬حال ظهورها‮. ‬وتعد من أهم كلاسيكيات الأدب العالمي،‮ ‬قُرئت في العالم أجمع،‮ ‬وتُرجمت إلي كل اللغات تقريباً،‮ ‬بل وأحياناً‮ ‬ما ترجمت أكثر من مرة إلي نفس اللغة‮ (‬لها أربع ترجمات إلي العربية،‮ ‬علي سبيل المثال‮) ‬وتتنافس هي وروايته الطاعون‮ (‬1947‮) ‬علي لقب‮ "‬أفضل أعماله الروائية‮" ‬إذ‮ ‬ينقسم القراء بين هاتين الروايتين‮. ‬فأنصار الطاعون،‮ ‬يرون أنها تقدم طاقة إيجابية للقراء،‮ ‬نص‮ ‬يموج بالتفاؤل والأمل،‮ ‬فيما‮ ‬يري أنصار الغريب أنها الأولي باللقب لما أحدثته من صدمة فكرية حين قدم كامو اللامبالاة الناعمة،‮ ‬وسوء الفهم المستقر في قلب الحالة الإنسانية،‮ ‬وفي العلاقة بين الإنسان وواقعه،‮ ‬من خلال بطل الرواية الذي‮ ‬يشعر أنه‮ ‬غريب عن العالم المحيط به،‮ ‬ثم‮ ‬يجد نفسه قاتلاً‮ ‬بالصدفة،علي إثر‮  ‬سلسلة من‮ " ‬الظروف‮" ‬،‮ ‬ويستمر في الشعور اللامبالاة حيال قضيته ومصيره‮. ‬فلا‮ ‬يختار المستقبل علي حساب الحاضر،‮ ‬ولا‮ ‬يحتفي بالمشاعر بل بالحواس‮. ‬

‮" ‬اليوم ماتت أمي‮. ‬أو ربما أمس،‮ ‬لا أعرف‮" ‬دشّنت تلك العبارة اللامبالية والصادمة في آن،‮ ‬مشروعاً‮ ‬أدبياً‮ ‬وفكرياً‮ ‬أكثر إتساعاً‮ ‬مما تمثله رواية الغريب في مجملها،‮ ‬هذا المشروع الذي وعي له كامو مبكراً‮ ‬جداً‮ ‬،‮ ‬بل وقسمه إلي مراحل كما أوجز هو شارحاً‮ ‬من خلال كلمته في ستوكهولم حين تسلم جائزة نوبل للآداب ديسمبر‮ ‬1957‮ : " ‬كانت لدي خطة محددة حين بدأت الكتابة‮: ‬أردت أولاً‮ ‬أن أعبر عن العدمية‮. ‬من خلال ثلاثة أشكال؛ روائي‮: ‬الغريب،‮ ‬ومسرحي‮ : ‬كاليجولا،‮ ‬وفكري‮: ‬اسطورة سيزيف‮. ‬كما أنني بشرت بالإيجابية من خلال ثلاثة صور أيضاً‮ : ‬روائي‮: ‬الطاعون‮. ‬ومسرحي‮: ‬العادلون‮. ‬وفكري‮: ‬الإنسان المتمرد‮. ‬ثم أدخلت علي الخطة مرحلة ثالثة تدور حول موضوع الحب‮." ‬ولكنه هو الموضوع الذي عاشه أكثر مما استطاع التعبير عنه،‮ ‬إذ لم‮ ‬يمتلك الوقت الكافي بعد هذه الليلة لإستكمال مشروعه الفكري‮.           ‬تعبر الغريب عن كاتب متمكن من بنية السرد،‮ ‬وكتابة ذات شكل وأسلوب خاص وفريد؛ ويلاحظ النقاد أن فنه قد نضج من خلال الإنغماس في تأملاته الإنسانية والفلسفية،‮ ‬بل ومن خلال حياته اليومية،‮ ‬ومن اقترابه من معاصريه نساء ورجالاً،‮ ‬ومن قراءاته المستمرة للنقد الأدبي‮. ‬

ومع تصفح أوراق كامو ومذكراته نجد بعض تفاصيل رواية‮ " ‬الغريب‮" (‬1942‮) ‬مكتوبة في‮ ‬يومياته في ربيع‮ ‬1938‮ ‬،‮ ‬فمثلاً‮ ‬،‮ ‬في أعقاب زيارة قام بها لحماة أخيه لوسيان في دار المسنين الموجودة في مارنجو‮ (‬وهي نفس الدار التي تحدث عنها في روايته ذاكراً‮ ‬موت أمه فيها‮)‬،‮ ‬فكتب في نوفمبر‮ ‬1938‮ "‬اليوم ماتت أمي‮" ‬علي الرغم من أنه لم‮ ‬يكن قد شرع‮  ‬في كتابة الرواية نهائياً،‮ ‬والتي بدأ كتابتها في ديسمبر‮ ‬1939‭.‬‮ ‬كما أفضي لفرانسين فور،‮ ‬التي تزوجها فيما بعد،‮ ‬بأنه بعد أن بدأ في كتابة الرواية،‮ ‬توقف،‮ ‬وأنه‮ ‬يتقدم أكثر في كتابه الفكري‮: ‬أسطورة سيزيف معللاً‮ : " ‬أنه أكثر نضجاً‮ ‬بداخلي من الرواية‮". ‬ولم تبدأ الخطة الفعلية لكتابة الغريب إلا فيما بين‮ ‬يناير ومارس‮ ‬1940،‮ ‬بين الجزائر ووهران،‮ ‬إلا أنه انطلق في كتابتها بعد انتقاله للعيش في باريس والعودة للعمل الصحفي هناك‮. ‬كتب في مايو‮ ‬1940‮ ‬في خطابه إلي فرانسين فور‮: " ‬لقد أنهيت الرواية لتوي‮. ‬ولكن عملي لم‮ ‬ينته،‮ ‬بلا شك‮. ‬فمازال أمامي بعض التفاصيل التي سأراجعها‮ ‬،‮ ‬وأخري سأضيفها،‮ ‬وأخري سأعيد كتابتها‮. ‬ولكن المهم أنني انتهيت،‮ ‬وأنني خططت آخر عبارة‮... ‬إنني أحملها منذ سنتين،‮ ‬وتأكدت من خلال الطريقة التي كتبتها بها،‮ ‬أنها كانت محفورة بداخلي‮."‬

وفي إحدي فقرات مذكراته نجد عبارته الرنانه،‮ ‬التي كتبها في‮ ‬21‮ ‬فبراير‮ ‬1941‮: " ‬أنهيت سيزيف،‮ ‬اكتملت ثلاثية العبث،‮ ‬إذن،‮ ‬تبدأ الحرية‮."        ‬‮ ‬


كامو‮- ‬سارتر‮.. ‬كيف بدأت القطيعة؟

 

.

يصعب علي الباحثين والكتاب المرور بحياة كامو،‮ ‬دون الاصطدام بعلاقته الشائكة التناقضية‮ : " ‬كامو‮- ‬سارتر‮" ‬وهي التي تثير أحياناً‮ ‬مثيلاتها التاريخية‮: "‬راسين‮- ‬كورناي‮"  ‬و"فولتير‮- ‬روسو‮" . ‬حيث احتل الكاتبان،‮ ‬في أعقاب الحرب العالمية الثانية ساحة الجدل الفكري،‮ ‬واهتم كل المتابعين بالحلقات المتوالية بين الكاتبين.في الأصل كانت الصداقة هي التي تجمعهما،‮ ‬ولكن سريعاً‮ ‬ما‮ ‬غيرت المنافسة بينهما طبيعة العلاقة‮. ‬وفي نهاية سنوات الأربعينيات اتسعت المسافة بينهما،‮ ‬وكان كل منهما‮ ‬يعلن إنتماءه‮  ‬لليسار،‮ ‬مع احتفاظ كل منهما بمفهوم مختلف عن الأدب الملتزم‮. ‬

ثم كتب كامو الانسان المتمرد‮ (‬1951‮ ) ‬،‮ ‬بما‮ ‬يتضمنه من نقد شديد للماركسية والإشتراكية‮. ‬هنا بدأت القطيعة،‮ ‬علي إثر مقال عنيف كتبه فرانسي جانسون بناءً‮ ‬علي طلب من سارتر رئيس تحرير مجلة‮ " ‬لو تومب مودرن‮" ‬التي نشر فيها هذا المقال،‮ ‬والذي رد عليه كامو وفنّده نقطة بنقطة‮. ‬ولا‮ ‬يفوتنا الإشارة إلي أن كامو قد وجه رده إلي سارتر وليس إلي كاتب المقال،‮ ‬علماً‮ ‬منه بأن سارتر هو من‮ ‬يقف وراء مقال كهذا،‮ ‬وبالطبع هو من جذب سارتر نحو حلبة الصراع العلني،‮ ‬فوجد سارتر نفسه مجبراً‮ ‬علي الرد مرة أخري بمقال‮ ‬يحمل اسمه،‮ ‬استهله بعبارة‮: "‬عزيزي كامو‮"‬،‮ ‬كما فعل جانسون الشيء ذاته،‮ ‬متهمين كامو بعدم كفاءته الفلسفية،‮ ‬وإفراغه التاريخ من محتواه،‮ ‬وتصدير فكرة إستحالة الثورة‮. ‬فيما حاول آخرون أمثال جورج باتاي تفهم توجه كامو ومسيرته الفكرية حول الثورة الروسية والإشتراكية‮. ‬

‮     ‬كتب كامو الرد تحت عنوان‮: ‬رسالة إلي رئيس التحرير،‮ ‬واستهله بكلمات رسمية‮: " ‬سيدي رئيس التحرير‮" ‬ثم أضاف‮: " ‬لقد انتهزت فرصة مقال،‮ ‬عنوان ساخر،‮ ‬نشر في مجلتكم‮ ‬،‮ ‬لأوضح للقراء بعض الملحوظات‮  ‬التي تتعلق بفكر وسلوك هذا المقال‮. ‬السلوك،‮ ‬الذي لا ترفضه أنت بالطبع،‮ ‬وأنا علي‮ ‬يقين من ذلك،‮ ‬بل،‮ ‬كنت داعم له،‮ ‬ولكن ما‮ ‬يذهلني في الواقع هو الضعف الواضح في مستوي المقال‮". ‬مستمراً‮ ‬في إضافة عباراته القوية المباشرة،‮ ‬التي لا تحمل أي مواربة‮. ‬

فيما رد سارتر،‮ ‬تحت عنوان‮" ‬رداً‮ ‬علي كامو‮" : " ‬عزيزي كامو‮... ‬علي الرغم من أن صداقتنا لم تكن سهلة إلا أنني أتحسر عليها كثيراً‮. ‬وإذا كنت تقطع صداقتنا اليوم،‮ ‬فلابد لها أن تنتهي‮. ‬لقد جمعتنا أشياء كثيرة،‮ ‬وفرقتنا أشياء قليلة‮. ‬ولكن هذا القليل هو كثير في حد ذاته‮: ‬فالصداقة،‮ ‬هي الأخري،‮ ‬قد تكون شمولية‮." ‬مسهباً‮ ‬ومستخدماً‮ ‬ألعابه اللفظية،‮ ‬وعباراته اللاذعة في توجيه أقسي الإتهامات إلي كامو‮. " ‬

والمنافسة بين سارتر وكامو لم تتوقف علي الإنتاج الأدبي،‮ ‬بل امتدت إلي الصعيد الإنساني والعاطفي،‮ ‬أي منافسة الرجل للرجل،‮ ‬وليس المفكر والمفكر فحسب‮. ‬فقد كتب سارتر،‮ ‬في‮  ‬رسائل إلي كاستور‮ : ‬لا أطيق رؤية هذا‮ " ‬المتشرد الجزائري‮" ‬،‮ ‬الذي‮ ‬يجذب ويغوي كل امرأة تقابله في طريقه‮! " ‬إذن المنافس] أيضاً‮ ‬امتدت لمجال وارد بين الرجال عامة،‮ ‬ولا‮ ‬يستثني منه الكتاب والمفكرون‮. ‬وإلي جانب المعلن،‮ ‬كان بينهما الكثير من‮ " ‬المسكوت عنه‮" ‬سياسياً‮. ‬ولكن بعد مرور السنوات،‮ ‬وجد العديد من أنصار سارتر،‮ ‬يعترفون أنه ربما كان كامو علي حق،‮ ‬وربما كان هو الأكثر رؤية للحقيقة،‮ ‬والأكثر بصيرة‮. ‬

‮    ‬وبعد ذاك اليوم،‮ ‬الإثنين‮ ‬4‮ ‬يناير‮ ‬1960،‮ ‬بعده بثلاثة أيام،‮ ‬نعي سارتر صاحبه،‮ ‬في‮ "‬لانوفال اوبسرفاتوار‮" ‬داعياً‮ ‬المجتمع الثقافي إلي عدم اعتبار منجزه الأدبي منجزا "غير مكتمل‮"‬،‮ ‬بل اعتباره‮ "‬مجملاً‮". ‬فاستهل مقاله قائلاً‮: " ‬منذ ستة أشهر كنا نتساءل فيما بيننا،‮ ‬ماذا عساه سيفعل؟ كان ممزقاً‮ ‬بين متناقضات،‮ ‬توجب عليه إحترامها،‮ ‬فاختار الصمت‮. ‬ولكنه كان من اولئك الرجال النادرين،‮ ‬الذين نستطيع إنتظارهم،‮ ‬لأنهم‮ ‬يختارون علي مهل،‮ ‬ويظلون أوفياء لاختياراتهم‮."  ‬


نحن ورثة تاريخ فاسد

 

ترجمة‮:‬‮ ‬عاصم عبدربه
.

نص الخطاب الذي ألقاه كامو أثناء استلامه جائزة نوبل‮ (‬1957‮) ‬عن ترجمة‮ "‬الغريب‮" ‬التي صدرت مؤخراً‮ ‬في هيئة قصور الثقافة‮ - ‬سلسلة المائة كتاب‮.‬

ومن اختار مصيره كفنان،‮ ‬لأنه‮ ‬يشعر أنه مختلف،‮ ‬سوف‮ ‬يدرك سريعاً‮ ‬أنه لن‮ ‬يشري فنه ويعزز تفرده إلا من خلال اعترافه بالتشابه مع الجميع‮. ‬فالفنان‮ ‬يتشكل خلال رحلات الذهاب والعودة الدائمة بينه وبين الآخرين

لا‮ ‬ينفصل دور الكاتب عن واجبات وتبعات ثقيلة‮.. ‬وبالتحديد،‮ ‬فإنه لايمكنه اليوم أن‮ ‬يضع نفسه في خدمة من‮ ‬يصنعون التاريخ‮: ‬إنه في خدمة من‮ ‬يرزحون تحت نيره‮. ‬أو إن لم‮ ‬يفعل،‮ ‬فسوف نراه وحيداً‮ ‬معزولاً‮ ‬ومحروماً‮ ‬من فنه

كل جيل‮ ‬يعتقد أنه مكلف ومنذور لإعادة بناء العالم‮. ‬غير أن جيلي‮ ‬يعرف جيداً‮ ‬أنه لن‮ ‬يقوم بذلك،‮ ‬لكن دوره ربما كان أكثر أهمية‮. ‬إنه‮ ‬يقوم علي منع العالم من أن‮ ‬يتفسخ وينهار

سيدي،‮ ‬سيدتي،‮ ‬أصحاب السمو الملكي،‮ ‬سيداتي،‮ ‬سادتي‮:‬

بقدر ما كان امتناني عميقاً،‮ ‬بحصولي علي هذا التقدير الذي شاءت مؤسستكم الحرة تشريفي به،‮ ‬بقدر ما رأيت إلي أي حد كانت هذه الجائزة تفوق إمكانياتي الشخصية‮. ‬إن كل رجل،‮ ‬وبالأحري كل فنان،‮ ‬يود أن‮ ‬يكون مشهوداً‮. ‬وأنا أيضا أرغب في ذلك لكن بالنسبة لي،‮ ‬لم‮ ‬يكن ممكناً‮ ‬أن أتلقي قراركم دون أن أجري مقارنة بين أهميته وآثاره وبين ما أنا عليه في حقيقة الأمر‮. ‬كيف‮ ‬يمكن لرجل‮ ‬يكاد‮ ‬يكون شاباً،‮ ‬لايملك إلا ظنونه ومشروعاً‮ ‬أدبياً‮ ‬ما‮ ‬يزال قيد الإنشاء،‮ ‬معتاد علي العيش في عزلة العمل أو في خلوات الصداقة،‮ ‬ألا‮ ‬يتلقي بشيء من الذعر قراراً‮ ‬ينقله فجأة من حالة رجل وحيد ومقتصر علي ذاته،‮ ‬إلي بؤرة ضوء باهر؟ وبأي قلب أيضاً‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يتقبل هذا التكريم،‮ ‬في الوقت الذي‮ ‬يرغم فيه كتاب آخرون‮ - ‬من بين أهم الكتاب في أوروبا‮- ‬علي أن‮ ‬يلوذوا بالصمت،‮ ‬وفي نفس الوقت الذي‮ ‬يمر فيه وطنه الأم بفاجعة لاتنتهي؟

لقد مررت بهذه الحيرة،‮ ‬وعرفت هذا الارتباك الداخلي‮. ‬ولكي أستعيد الطمأنينة،‮ ‬تعين علي،‮ ‬باختصار،‮ ‬أن أؤدي ما علي تجاه قدر كان شديد السخاء معي‮. ‬ونظراً‮ ‬لأنني لا أستطيع أن أضاهيه معتمداً‮ ‬علي قدراتي وحدها،‮ ‬فلم أجد ما‮ ‬يدعمني في ذلك إلا ما دعمني طوال حياتي،‮ ‬وفي أكثر ظروفها تبايناً‮: ‬إنها الفكرة التي كونتها عن مهنتي وعن الدور‮  ‬المنوط بالكاتب‮. ‬لعلكم تسمحون لي فقط أن أشرح لكم،‮ ‬بكل الحب والامتنان،‮ ‬وبأبسط ما‮ ‬يمكن،‮ ‬ماهية هذه الفكرة‮.‬

بصفة شخصية،‮ ‬فلم أكن لأستطيع أن أحيا بدون مهنتي وفني،‮ ‬لكنني لم أنصب هذا الفن أبداً‮ ‬فوق كل شيء‮. ‬بالعكس،‮ ‬فهو‮ - ‬إن كان ضرورياً‮ ‬بالنسبة لي‮ - ‬فذلك لأنه لاينفصل عن أحد،‮ ‬ويتيح لي أن أعيش كما أنا،‮ ‬في مستوي الجميع‮. ‬الفن‮ - ‬من وجهة نظري‮ - ‬ليس ابتهاجاً‮ ‬شخصيا،‮ ‬تسلية فردية‮. ‬إنه وسيلة لتحريك مشاعر أكبر عدد ممكن من البشر،‮ ‬عبر تقديم صورة متميزة للأفراح والأتراح المشتركة‮. ‬وعليه،‮ ‬فإنه‮ ‬يجبر الفنان علي ألا‮ ‬ينفصل عن ذاته،‮ ‬إنه‮ ‬يخضعه للحقيقة الأكثر بساطة وشمولية‮. ‬ومن اختار مصيره كفنان،‮ ‬لأنه‮ ‬يشعر أنه مختلف،‮ ‬سوف‮ ‬يدرك سريعاً‮ ‬أنه لن‮ ‬يشري فنه ويعزز تفرده إلا من خلال اعترافه بالتشابه مع الجميع‮. ‬فالفنان‮ ‬يتشكل خلال رحلات الذهاب والعودة الدائمة بينه وبين الآخرين‮. ‬في وسط الطريق بين الجمال الذي لايمكنه أن‮ ‬يستغني عنه،‮ ‬وبين الجماعة التي لا‮ ‬يمكنه أن‮ ‬ينتزع نفسه منها‮. ‬هذا هو السبب في أن الفنانين الحقيقيين لا‮ ‬يغفلون الاهتمام بأي شيء إنهم‮ ‬يلزمون أنفسهم بالاستيعاب بدلاً‮ ‬من التخمين وإبداء الآراء‮. ‬وإن كان عليهم أن‮ ‬ينتصروا لشيء في هذا العالم،‮ ‬فلابد أن‮ ‬يكون انتصارهم،‮ ‬كما تقول عبارة نيتشه الخالدة،‮ ‬لمجتمع لن‮ ‬يكون القاضي هو السيد فيه‮... ‬وإنما المبدع،‮ ‬سواء كان عاملاً‮ ‬أو مفكراً‮.‬

في نفس الوقت،‮ ‬فلا‮ ‬ينفصل دور الكاتب عن واجبات وتبعات ثقيلة‮.. ‬وبالتحديد،‮ ‬فإنه لايمكنه اليوم أن‮ ‬يضع نفسه في خدمة من‮ ‬يصنعون التاريخ‮: ‬إنه في خدمة من‮ ‬يرزحون تحت نيره‮. ‬أو إن لم‮ ‬يفعل،‮ ‬فسوف نراه وحيداً‮ ‬معزولاً‮ ‬ومحروماً‮ ‬من فنه‮: ‬ولن تنزعه من وحدته كل جيوش الاستبداد،‮ ‬بالملايين من رجالها،‮ ‬حتي،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬إن قبل أن‮ ‬يتبع خطاهم‮. ‬لكن صمت سجين مجهول‮ ‬يعاني من المذلة والمهانة،‮ ‬في الطرف الآخر من هذا العالم،‮ ‬يكفي لإخراج الكاتب من منفاه الاختياري في كل مرة،‮ ‬علي الأقل،‮ ‬يتمكن فيها من ألا‮ ‬ينسي هذا الصمت،‮ ‬وسط نعيم الحرية،‮ ‬وأن‮ ‬يحل محله حتي‮ ‬يجعله‮ ‬يتردد عبر الوسائل الفنية‮.‬

ما من أحد منا كبير بما‮ ‬يكفي للقيام بدور مماثل‮. ‬لكن في كل ظروف حياته،‮ ‬مغموراً‮ ‬كان أو مشهوراً‮ ‬بصورة عابرة،‮ ‬مقيداً‮ ‬في سلاسل الطغيان،‮ ‬أو حراً،‮ ‬بصورة مؤقتة،‮ ‬في التعبير عن نفسه،‮ ‬يستطيع الكاتب أن‮ ‬يتعرف علي شعور جماعة حية،‮ ‬سوف تقبل به،‮ ‬شريطة أن‮ ‬يقبل بقدر ما‮ ‬يمكنه،‮ ‬بالنهوض بالمهمتين اللتين تصنعان أهمية مهنته‮: ‬أن‮ ‬يكون في خدمة الحقيقة وفي خدمة الحرية‮.‬

ولأن رسالته هي أن‮ ‬يوحد بين أكبر عدد ممكن من البشر،‮ ‬فإنها لايمكن أن تتوافق مع الكذب والاستعباد،‮ ‬اللذين‮ ‬يزيدان من عزلة الكتاب أينما وجد‮.‬

ومهما كانت أوجه عوارنا الشخصية،‮ ‬فإن نيل مهنتنا سوف‮ ‬يترسخ دائماً‮ ‬في التزامين من الصعب التمسك بهما والحفاظ عليهما‮: ‬رفض الكذب بشأن ما نعرفه‮" ‬ومقاومة الاستبداد‮.‬

وخلال أكثر من عشرين عاماً‮ ‬من تاريخ أخرق،‮ ‬مفقود بلا حيلة،‮ ‬وشأن كل أقراني من البشر،‮ ‬في تقلبات الزمن،‮ ‬كان ما ساعدني،‮ ‬هو ذلك الشعور المبهم بأن الكتابة اليوم كانت شرفاً،‮ ‬لأن فعل الكتابة هذا كان‮ ‬يجبر ويحتم ألا تكون مجرد كتابة‮. ‬كان‮ ‬يجبرني بصورة خاصة علي أن أحمل،‮ ‬بنفسي‮ - ‬وكما أنا،‮ ‬وتبعاً‮ ‬لقدراتي،‮ ‬مع كل من‮ ‬يعيشون نفس القصة‮- ‬الآلام والآمال التي نتقاسمها،‮ ‬إن هؤلاء الرجال المولودين مع بداية الحرب العالمية الأولي،‮ ‬الذين وصلوا إلي العشرين من عمرهم في الوقت الذي أقيم فيه النظام الهتلري،‮ ‬وأقيمت أولي الدعاوي الثورية،‮ ‬التي سوف تتواجه بعد ذلك،‮ ‬لتكمل خبراتها الثقافية،‮ ‬في حرب إسبانيا،‮ ‬في الحرب العالمية الثانية،‮ ‬في عالم المعتقلات،‮ ‬في أوروبا التعذيب والسجون،‮ ‬هؤلاء الرجال عليهم اليوم أن‮ ‬يقوموا بتربية أبنائهم،‮ ‬والقيام بأعمالهم في عالم‮ ‬يهدده الدمار النووي‮. ‬وأظن أن أحداً‮ ‬لايمكنه أن‮ ‬يطلب منهم أن‮ ‬يكونوا متفائلين‮. ‬وأنا أري أن علينا حتي أن نتفهم،‮ ‬دون أن نتوقف عن مقاومتهم،‮ ‬خطأ هؤلاء الذين‮ - ‬مزايدة في اليأس‮ - ‬قد طالبوا بالحق في وصم أنفسهم بالعار،‮ ‬واندفعوا بقوة إلي عدمية هذه الحقبة،‮ ‬لكن‮ ‬يبقي أن‮ ‬غالبيتنا،‮ ‬في بلادي أو في أوروبا،‮ ‬قد رفضوا هذه العدمية،‮ ‬وشرعوا في البحث عن مشروعية ما كان عليهم أن‮ ‬يصنعوا لأنفسهم طريقة للعيش في ظرف كارثي،‮ ‬ليولدوا مرة أخري،‮ ‬ويناضلوا‮ - ‬بعد ذلك في أعمالهم وبلا أقنعة‮ - ‬غريزة الموت في دنيانا‮.‬

ولاشك أن كل جيل‮ ‬يعتقد أنه مكلف ومنذور لإعادة بناء العالم‮. ‬غير أن جيلي‮ ‬يعرف جيداً‮ ‬أنه لن‮ ‬يقوم بذلك،‮ ‬لكن دوره ربما كان أكثر أهمية‮. ‬إنه‮ ‬يقوم علي منع العالم من أن‮ ‬يتفسخ وينهار‮. ‬إنه وريث تاريخ فاسد،‮ ‬تختلط فيه الثورات الخائبة،‮ ‬بالتقنيات،‮ ‬التي أصابها‮  ‬الجنون،‮ ‬بالآلهة التي ماتت والمذاهب الفكرية التي خارت قواها،‮ ‬حيث تستطيع أنظمة حكم مبتذلة أن تدمر كل شيء،‮ ‬مع أنها لم تعد قادرة علي الإقناع،‮ ‬حيث انحط العقل الإنساني إلي حد أن‮ ‬يجعل من نفسه خادماً‮ ‬للكراهية والاستبداد‮. ‬ولابد لهذا الجيل من أن‮ ‬يستعيد،‮ ‬في ذاته،‮ ‬وفيمن حوله،‮ ‬وبدءاً‮ ‬من سلبياته وحدها،‮ ‬شيئاً‮ ‬مما‮ ‬يخلق كرامة المحيا والممات‮. ‬وإزاء عالم‮ ‬يتهدده التشقق والانشطار،‮ ‬حيث‮ ‬يجازف قضاة محاكم التفتيش الجدد بأن‮ ‬يقيموا ممالك الموت دائماً،‮ ‬يعرف هذا الجيل أن عليه،‮ ‬فيما‮ ‬يشبه سباقاً‮ ‬مجنونا بعكس عقارب الساعة،‮ ‬أن‮ ‬يخلق بين الأمم سلاماً،‮ ‬لايكون سلام العبودية،‮ ‬وأن‮ ‬يوفق من جديد بين العمل والثقافة،‮ ‬وأن‮ ‬يبني مع كل البشر جسراً‮ ‬يربط بينهم‮. ‬ليس من المؤكد أنه‮ ‬يستطيع الوفاء بهذه المهمة الهائلة،‮ ‬لكن من المؤكد أنه‮- ‬في كل مكان في العالم‮- ‬قد قيل فعلا برهانه المزدوج علي الحقيقة والحرية،‮ ‬وفي الوقت المناسب،‮ ‬يعرف كيف‮ ‬يموت بلا كراهية لذاته‮. ‬يستحق هذا الجيل أن نحييه وأن نشجعه في كل مكان نجده فيه،‮ ‬وخاصة هناك،‮ ‬حيث‮ ‬يضحي بنفسه‮. ‬إلي هؤلاء الرجال،‮ ‬أود علي كل حال،‮ ‬وأنا متأكد من موافقتكم الكاملة،‮ ‬أود أن أرد التكريم الذي أوليتموني إياه لتوكم‮.‬

في الوقت نفسه،‮ ‬الذي تحدثت فيه عن نبل مهنة الكتابة،‮ ‬لعلي أعدت الكاتب إلي مكانته الحقيقية،‮ ‬حيث لايمتلك أية مؤهلات وصفات أخري سوي تلك التي‮ ‬يتقاسمها مع رفاق النضال،‮ ‬رهيف لكنه عنيد،‮ ‬جائر ومولع بالعدالة،‮ ‬يبني عمله الفني بلا خجل أو‮ ‬غطرسة علي مرأي من الجميع،‮ ‬موزع دائماً‮ ‬بين الجمال والألم،‮ ‬مكرس في النهاية كي‮ ‬يستخرج من كيانه المزدوج الإبداعات التي‮ ‬يحاول بلا هوادة أن‮ ‬يجعل منها قدوة لحركة التاريخ الهدامة‮.  ‬فمن‮ ‬يستطيع،‮ ‬بعد كل هذا،‮ ‬أن‮ ‬يأمل منه حلولا جاهزة وأمثلة أخلاقية جذابة؟ إن الحقيقة‮ ‬غامضة،‮ ‬مراوغة،‮ ‬يجب السعي وراءها دائماً‮. ‬والحرية خطرة،‮ ‬صعبة المعشر وقاسية،‮ ‬بقدر ما هي مثيرة للحماس‮. ‬وعلينا أن نسير صوب هاتين الغايتين،‮ ‬في صعوبة ومشقة،‮ ‬لكن بإصرار‮  ‬وثبات،‮ ‬واثقين سلفاً‮ ‬من أننا سوف نواجه عثرات علي طريق بمثل هذا الطول‮. ‬فأي كاتب كان سيتجاسر إذن،‮ ‬بحسن نية،‮ ‬علي أن‮ ‬يجعل من نفسه داعياً‮ ‬للفضيلة؟ أما بالنسبة لي،‮ ‬فعلي أن أقول‮ - ‬مرة أخري‮ - ‬إنني لست شيئاً‮ ‬من كل ذلك‮. ‬إنني لم أستطع مطلقاً‮ ‬أن أتنازل عن النور،‮ ‬عن سعادة الوجود،‮ ‬عن الحياة الحرة الطليقة التي نشأت وكبرت فيها‮. ‬وبالرغم من أن اشتياقي الحزين إلي تلك الأرض‮ ‬يفسر الكثير من أخطائي وزلاتي،‮ ‬فقد ساعدني بلا ريب علي أن أفهم مهنتي بشكل أفضل،‮ ‬ولا‮ ‬يزال‮ ‬يساعدني علي التماسك والثبات،‮ ‬بالقرب من كل هؤلاء الرجال الصامتين،‮ ‬الذين لايتحملون الحياة التي قدرت لهم في هذا العالم،‮ ‬إلا من خلال الذكري أو عودة تلك الهناءات العابرة القصيرة والحرة‮.‬

عائد‮. ‬والحال كذلك‮- ‬إلي ما أنا عليه في الحقيقة،‮ ‬إلي حدودي،‮ ‬إلي ما أنا مدين به،‮ ‬مثل ما أنا مردود إلي عقيدتي الصعبة،‮ ‬أشعر بأنني تحررت‮" ‬أكثر،‮ ‬من أن أوضح لكم في النهاية مدي أهمية وسخاء هذا التقدير الذي منحتموني الآن،‮ ‬أكثر تحرراً‮ ‬من أن أقول لكم أيضا انني‮: ‬كنت أود لو تلقيته كتكريم موجه إلي كل من خاضوا معي هذه المعركة،‮ ‬ولم‮ ‬يحظوا بأية ميزة،‮ ‬بل علي العكس،‮ ‬قد لاقوا العنت والاضطهاد والشقاء‮. ‬يبقي علي إذن أن أشكركم عليه،‮ ‬من أعماق قلبي،‮ ‬وأن أقطع أمامكم علنا وعلي الملأ،‮ ‬كشهادة شخصية علي امتناني،‮ ‬نفس الوعد القديم بالوفاء،‮ ‬الذي‮ ‬يتعهد به لنفسه كل فنان حقيقي،‮ ‬دون أن‮ ‬يعلن ذلك‮.‬


التمرد في مواجهة العبث

 

أحمد عثمان
.

في عام‮ ‬1939،‮ ‬تحت عنوان‮ "‬بؤس بلاد القبائل‮"‬،‮ ‬وقع كامو سلسلة من المقالات التي أثارت فضيحة مدوية‮. ‬مواقفه المؤيدة للمسلمين لن تمر مرور الكرام‮. ‬بعد اعلان الحرب،‮ ‬منعت‮ "‬الجزائر الجمهورية‮" ‬من الصدور

استقلاله الذهني الحاد قاده للبعيد‮ : ‬علي الرغم من نشوة النصر،‮ ‬كان قادرا علي توبيخ المنتصرين‮. ‬حينما ألقيت القنبلتان الذريتان علي هيروشيما ونجازاكي،‮ ‬انفجر سخطه‮. ‬كان الوحيد الذي تجرأ علي الانتقاد‮.‬

‮ ‬التقي آلبير كامو والعبث منذ طفولته،‮ ‬حينما استدعي والده،‮ ‬العامل في معمل الخمور بقسطنطينة،‮ ‬للتوجه الي الحرب علي بعد آلاف الكيلومترات،‮ ‬في مستنقعات المارن ــ حيث‮ ‬يموت في بداية خريف‮ ‬1914‮ ‬لم‮ ‬يكن آلبير قد بلغ‮ ‬وقتها‮  ‬سوي بضعة أشهر‮. ‬بقول آخر لا‮ ‬يحتفظ بأدني ذكري عن الوجه الأبوي‮. ‬أو بالأحري،‮ ‬لا‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يذكر الا‮ ‬غيابه‮. ‬لآلبير أخ أكبر،‮ ‬لوسيان،‮ ‬الذي‮ ‬يكبره بثلاثة أعوام بالكاد‮. ‬كاترين،‮ ‬أمهما،‮ ‬التي وجدت نفسها برفقة طفلين وهي لم تزل صغيرة السن،‮ ‬غادرت مزارع الكروم الي المدينة واستقرت لدي أمها،‮ ‬في الجزائر العاصمة‮. ‬

‮   ‬الحياة شاقة‮. ‬يتقاسم الطفلان،‮ ‬الأم،‮ ‬الجدة،‮ ‬وأيضا الخال،‮ ‬اتيان،‮ ‬الأبكم الي حد ما،‮ ‬شقة صغيرة من ثلاث‮ ‬غرف،‮ ‬في شارع ليون،‮ ‬بالحي الشعبي ببلكور،‮ ‬حيث تهتز الجدران مع مرور عربات الترام‮.‬

‮   ‬لا تعرف كاترين القراءة ولا الكتابة‮. ‬حقق آلبير احدي معجزاتها حينما حاز علي شهادة التعليم الأولي من المدرسة الحكومية‮ : ‬حياة،‮ ‬قدر‮. ‬بعد سنوات طويلة،‮ ‬يتذكرها الكاتب حينما‮ ‬يهدي معلمه في الجزائر،‮ ‬السيد لوي جرمان،‮  ‬خطابه الذي قاله أمام أعضاء أكاديمية نوبل‮. ‬ولكن في دار السينما‮ "‬لو موسيه‮"‬،‮ ‬أكبر محل للجذب في الحي،‮ ‬قام آلبير،‮ ‬التلميذ النجيب عن أخيه،‮ ‬بفك شفرات المشاهد الدخيلة التي تتلاحق علي الشاشة بين الأخبار المصورة والفيلم‮. ‬وأنشأ‮ ‬يكتشف رويدا رويدا الخزي الذي‮ ‬يحيط بالفقر‮...‬في عام‮ ‬1930،احتفالات‮  ‬بالجزائر الفرنسية منذ مائة عام‮. ‬بلبلت الاحتفالات بمئوية الغزو أفكاره‮. ‬محموما،‮ ‬نافثا دما من فمه،‮ ‬يصاب بداء السل‮. ‬يرقد في مصحة مصطفي علي اعتبار أنه‮ ‬يتيم الأمة في حالة سيئة‮...‬

‮   ‬بدأت أولي خطواته الأدبية بعد عامين،‮ ‬في عام‮ ‬1932،‮ ‬في مجلة‮ "‬سود‮" (‬جنوب‮). ‬قصائد،‮ ‬مقالات قصيرة،‮ ‬مقالات نقدية‮. ‬نبرة تتحرر تدريجيا‮ : ‬البداية الاحتفالية‮.‬

‮   ‬لدي ماكس-بول فوشيه التقي كامو وسيمون هييه‮ : ‬وجه بيضوي،‮ ‬عينان بنيتان واسعتان،‮ ‬ساقان طويلتان تسبقها سمعة فتاة‮ "‬متحررة‮" ‬قبل الأوان‮. ‬الرجلان،‮ ‬وآخرون بالتأكيد،‮ ‬يغازلونها‮. ‬ارتبط كامو بها‮. ‬بهر العاشقان أصدقاءهما‮. ‬يتزوجان سريعا،‮ ‬غير أن البعض ذكر أنهما تزوجا في عام‮ ‬1934‭.‬

‮   ‬في العشرين من عمره،‮ ‬كان لكامو هذا العبوس الذي‮ ‬يعبر عن حزمه‮. ‬في‮ ‬يده شهادة في الفلسفة وعمل في الصحافة‮. ‬يحسم مزاجه الكثير من الانشغالات،‮ ‬الأدبية والجمالية علي وجه الخصوص،‮ ‬التي‮ ‬يجابهها‮. ‬ولكن مع الوقت تنفتح حياته علي بعد آخر‮ : ‬السياسة‮. ‬

‮   ‬لم‮ ‬يتأخر الصخب الذي‮ ‬يعصف بأوروبا عن اللحاق بركب المستعمرات‮. ‬لاقامة سد أمام الفاشية،‮ ‬اتحدت قوي اليسار بمختلف دول القارة العجوز مؤسسة الجبهة الشعبية‮. ‬بين القوي المختلفة،‮ ‬انتسب كامو الي الحزب الشيوعي‮. ‬لكن الشعبة الجزائرية من الحزب الشيوعي الفرنسي انحرفت نوعا ما عن الخط الذي حددته الدولة الأصلية‮. ‬بينما كان العدو في باريس هو ألمانيا الهتلرية وايطاليا الموسولينية،‮ ‬كان العدو في الجزائر هو باريس،‮ ‬أو بالأحري،‮ ‬الامبريالية الكولونيالية،‮ ‬التي نظر الشيوعيون الجزائريون اليها علي كونها الطور الأعلي للرأسمالية،‮ ‬علي حد مساواة مع الفاشية‮. ‬تذكر كامو عمال بلكور،‮ ‬من فرنسيين و"أولاد البلاد‮"‬،‮ ‬الذين‮ ‬يدخنون نفس السجائر في المشارب أو في مركبات الترام،‮ ‬وبذلك جذب من هذا الماضي أعدادا من الجزائريين المنتمين الي التزامه اليساري،‮ ‬وكذا بداية العقيدة‮ : ‬ضد الشر،‮ ‬أي الظلم،‮ ‬الذي لن‮ ‬يمحيه الا التضامن الانساني العالمي‮. ‬في نفس الوقت،‮ ‬قادته الكتابة عن سان أوغسطين في ذكراه الي أن‮ ‬يعزز رأيه عن النزعة التشاؤمية الميتافيزيقي‮. ‬التزام وتشاؤم‮ : ‬هكذا نشأت المفارقة الكاموية‮.‬

‮   ‬هل السياسة والجمالية قابلان للتوفيق بينهما ؟ ظل هذا السؤال‮ ‬يلاحق كامو‮. ‬بدون شك،‮ ‬في محاولة للرد علي هذا السؤال أسس‮ "‬مسرح العمل‮"‬،‮ ‬حيث الاسم نفسه برنامج‮. ‬الهدف ؟ عرض المسرحيات الكلاسيكية والمعاصرة علي أكبر عدد من الجمهور‮. ‬في البداية،‮ ‬لم‮ ‬يكن سوي دراماتورجيا‮ ‬يهتم بالمسرح‮. ‬كانت الوظائف التي‮ ‬يشغلها عديدة‮ : ‬مدير،‮ ‬مخرج،‮ ‬معد،‮ ‬ممثل‮... ‬ولكن لم‮ ‬يحن الوقت بعد كي‮ ‬يكون مؤلفا‮. ‬

‮   ‬كان عاما‮ ‬1936‮ ‬و1937‮ ‬عامين مفصليين‮. ‬في بادئ الأمر،‮ ‬انفصل كامو عن زوجه‮. ‬كمدمنة علي المخدرات،‮ ‬أمضت سيمون فترة من الزمن في مصحة للتخلص من سمومه‮. ‬بين علاجين،‮ ‬كانت اللحظات النادرة التي تمضيها بصحبة كامو تنتهي بالمشاجرة ذ وهكذا انفصل الزوجان‮. ‬فضلا عن ذلك،‮ ‬طالبه الحزب الشيوعي الفرنسي بتعديل بعض مواقفه،‮ ‬غير أنه رفض وغادر الحزب‮. ‬ولكن في عام‮ ‬1937‮ ‬صدر له‮ "‬الظهر والوجه‮"‬،‮ ‬وكذا مقالات مكرسة تحديدا عن حي بلكور‮. ‬أقام كامو لدي بعض الأصدقاء أو استأجر‮ ‬غرفا بأسعار زهيدة،‮ ‬غازل فتيات،‮ ‬وكتب‮. ‬متحررا من هذين الالتزامين،‮ ‬السياسي والعائلي،‮ ‬اللذين أصاباه بقلق عنيف،‮ ‬استسلم لنفسه في شوارع الجزائر‮.‬

‮   ‬علي الرغم من تسويده للعديد من الصفحات البيضاء،‮ ‬لم‮ ‬ينظر كامو بعد الي نفسه ككاتب‮. ‬بالمقابل،‮ ‬ارتضي بكونه صحافيا‮. ‬في عام‮ ‬1938،‮ ‬لم‮ ‬يتردد عن ملاقاة باسكال بيا،‮ ‬الذي أسس لتوه صحيفة‮ "‬الجزائر الجمهورية‮". ‬كناقد أدبي،‮ ‬كان معجبا أساسا بجيد‮ (‬آندريه‮) ‬ومالرو‮ (‬آندريه‮). ‬

‮   ‬ومع ذلك،‮ ‬لمع جيدا في المجال السياسي‮. ‬في عام‮ ‬1939،‮ ‬تحت عنوان‮ "‬بؤس بلاد القبائل‮"‬،‮ ‬وقع كامو سلسلة من المقالات التي أثارت فضيحة مدوية‮. ‬مواقفه المؤيدة للمسلمين لن تمر مرور الكرام‮. ‬بعد اعلان الحرب،‮ ‬منعت‮ "‬الجزائر الجمهورية‮" ‬من الصدور‮.‬

‮   ‬كان العالم بأسره علي طريق الجنون والرعب‮. ‬كامو،‮ ‬بلا عمل،‮ ‬ارتحل بين الجزائر ووهران،‮ ‬حيث‮ ‬يحيا حبه الكبير،‮ ‬وليس الحصري‮ : ‬فرانسين فور‮. ‬سريعا،‮ ‬أضجرته وهران،‮ ‬وعلي وجه الخصوص التعطل‮. ‬معالجا من داء السل،‮ ‬كان‮ ‬يعرف بأنه لن‮ ‬يتوجه للقتال‮. ‬أخبره باسكال بيا،‮ ‬الذي رجع الي باريس بعد منع‮ "‬الجزائر الجمهورية‮"‬،‮ ‬بأنه وجد له مكانا في‮ "‬باريس-سوار‮". ‬كان الانفصال عن فرانسين مؤلما‮. ‬

‮   ‬في‮ ‬16‮ ‬أكتوبر‮ ‬1940،‮ ‬وصل كامو الي باريس،‮ ‬خلال الفترة التي حفظها التاريخ تحت اسم‮ "‬غرابة الحرب‮". ‬كانت الرقابة تسيطر علي صحافة العصر،‮ ‬وقد أفرغت المهنة من كل معني،‮ ‬مما أفضي بكامو الي الاتجاه نحو الأدب‮. ‬بينما كانت الصحافة تؤكد أن الجيش الفرنسي في أفضل حالاته وأن علي الألمان أن‮ ‬يلبثوا مكانهم،‮ ‬شرع آلبير كامو في كتابة‮ "‬الغريب‮"‬،‮ ‬رجوعا الي المدونات،‮ ‬المقاطع والفصول المبعثرة التي كتبها في الجزائر‮. ‬بعد أيام،‮ ‬قبل أن تشن ألمانيا هجومها الشامل،‮ ‬كتب الي فرانسين فور‮ ‬يعلنها بأن روايته انتهت‮. ‬منهكا ومحرضا،‮ ‬كان‮ ‬يشعر بأنه انتهي من عمل الكاتب الحقيقي‮.‬

‮   ‬بيد أن التاريخ أنشأ‮ ‬يكتب في هذه اللحظة،‮ ‬لحظة المعركة‮. ‬كانت‮ "‬باريس-سوار‮" ‬والصحف الباريسية الأخري‮ ‬متفائلة الي حد كبير،‮ ‬ولكن كان الاندحار العسكري‮. ‬في يونيو،‮ ‬فرت الحكومة من باريس‮. ‬فريق‮ "‬باري‮-‬سوار‮" ‬تبعها‮. ‬وهنا طلب الماريشال بتان الهدنة‮.‬

‮   ‬خلال هذا الهدوء،‮ ‬قدمت فرانسين للقاء آلبير في ليون،‮ ‬حيث استقرت هيئة تحرير‮ "‬باري‮-‬سوار‮". ‬يتزوجان‮. ‬لسوء الحظ،‮ ‬الصحيفة،‮ ‬وقد فقدت جانبا كبيرا من قرائها،‮ ‬تخلصت من عدد من محرريها‮. ‬وهنا فقد كامو بدوره وظيفته‮. ‬كانت وهران ذ حيث تستطيع عائلة فرانسين استضافة الزوجين‮ - ‬طوق نجاة الزوجين‮. ‬

‮   ‬مرة أخري وهران،‮ ‬مرة أخري السأم‮... ‬كامو،‮ ‬للوقوف علي قدميه،‮ ‬أنشأ‮ ‬يعتقد في عمله أكثر فأكثر‮. ‬تراسل مع باسكال بيا،‮ ‬الذي بقي في ليون‮. ‬

‮   ‬باسكال بيا،‮ ‬الذي أحب كامو كأب له،‮ ‬بحث له مرة أخري عن عمل في فرنسا‮. ‬ولم‮ ‬يجد‮. ‬غير أنه قدم له خدمة‮ : ‬عمل علي تنشيط معارفه لكي‮ ‬يساعده في نشر‮ "‬الغريب‮" ‬لدي‮ ‬غاليمار‮. ‬

‮   ‬عاده المرض ثانية‮. ‬نصحه الأطباء بالاقامة شتاء في الجبل،‮ ‬بالأحري في أوروبا‮. ‬بقليل من المال الذي أتاه من‮ ‬غاليمار ومن راتب فرانسين تمكن الزوجان من الرحيل‮. ‬استقرا في البداية في شامبون-سور-لينيون‮ (‬في‮ "‬الهوت-لوار‮"). ‬ثم رجعت فرانسين الي وهران،‮ ‬تاركة زوجها وحيدا في فرنسا‮. ‬منخرطا في حركة‮ (‬وصحيفة‮) "‬كومبا‮" (‬معركة‮)‬،‮ ‬قام باسكال بيا باخطار كامو بمجريات المقاومة‮. ‬ولكن،‮ ‬وقتذاك،‮ ‬كان الكاتب لا‮ ‬يفكر الا في كسب الجزائر‮. ‬وبما أنه أمر مستحيل،‮ ‬كتب‮ "‬الطاعون‮"... ‬

‮   ‬عام‮ ‬1943‮ ‬وفاة جون مولان خلال ترحيله الي ألمانيا،‮ ‬وهبوط الحلفاء في صقلية‮. ‬مع استقراره في باريس،‮ ‬أصبح كامو قارئا للنصوص في‮ ‬غاليمار،‮ ‬حيث بدأ‮ ‬يربح عيشه بصورة طيبة‮. ‬وعلي وجه الخصوص،‮ ‬استعاد عمله الصحافي‮. ‬في المقاومة السرية،‮ ‬في‮ "‬كومبا‮"‬،‮ ‬حيث لم‮ ‬يزل باسكال بيا مرشده‮. ‬قاوم كامو بالقلم،‮ ‬بالقلم وحده‮. ‬لم‮ ‬يلمس السلاح‮. ‬علي مدار هذه المرحلة،‮ ‬صادق جون بول سارتر وعقد علاقة مع الممثلة ماريا كاساريس‮. ‬كما جري طوال حياته،‮ ‬لم‮ ‬يكف المرض السابق بالسل عن التدخين ولم‮ ‬يهجر كذا الشراب‮. ‬بعد سنوات،‮ ‬كتب في احدي كراساته،‮ ‬أن الشراب حقق له نشوة خادعة وأنه أصبح مع الوقت زاهدا‮... ‬

‮   ‬مع التحرير،‮ ‬كامو،‮ ‬الذي لم‮ ‬يكن‮ ‬يسعي لكي‮ ‬يكون بطلا،‮ ‬أصابه القلق من عمليات التطهير ومن هؤلاء المثقفين الذين‮ ‬يعتبرون أقل بطولة منه بيد أنهم‮ ‬يظهرون أكثر صلابة‮. ‬استقلاله الذهني الحاد قاده للبعيد‮ : ‬علي الرغم من نشوة النصر،‮ ‬كان قادرا علي توبيخ المنتصرين‮. ‬حينما ألقيت القنبلتان الذريتان علي هيروشيما ونجازاكي،‮ ‬انفجر سخطه‮. ‬كان الوحيد الذي تجرأ علي الانتقاد‮.‬

‮   ‬بداية العصر الذهبي لحي سان-جرمان-ديه-بريه‮. ‬وبرغم من أنه ليس من أعمدة‮ (‬مقهي‮) "‬الفلور‮"‬،‮ ‬صداقته مع سارتر احدي صور هذه المرحلة‮. ‬عن الأخ الذي‮ ‬يصغره بثماني سنوات،‮ ‬قدم سارتر هذا الوصف‮ : "‬اتصال رائع بين رجل ونتاجه‮". ‬وذات مساء،‮ ‬قال له باسما،‮ ‬بنبرة ودية‮ : "‬أنا أكثر ذكاء منك‮". ‬لم‮ ‬يعارضه كامو مطلقا‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬اذا كان سارتر مقتنعا بذلك،‮ ‬فهل كان‮ ‬يحتاج الي تنبيهه ؟ أو الي طمأنته ؟

‮   ‬استعاد كامو الصلة مع احدي محبوباته‮ : ‬المسرح،‮ ‬مسرحية‮ "‬كاليجولا‮" ‬التي حققها جيرار فيليب،‮ ‬التي شغلت ذهنه منذ عام‮ ‬1938‮ ‬والتي لم‮ ‬يكف عن التفكير فيها خلال الحرب‮.‬

‮   ‬لم‮ ‬يزل أحد وساوسه القديمة‮ ‬يلاحقه‮ : ‬كيف‮ ‬يتم التوفيق بين السياسة والجمالية،‮ ‬الابداع والالتزام ؟ كان هذا السؤال‮ ‬يثير جميع معاصريه‮. ‬حتي أنه طرحه في خطاب نوبل‮. ‬في هذا الصدد،‮ ‬كان سارتر متمسكا بموقفه‮ : ‬وهكذا تبدي مفترق طرق لوجهات النظر بين الرجلين‮. ‬بدون أن‮ ‬يدافع عن نفسه اعلاميا،‮ ‬رفض كامو مع ذلك الاشارة اليه‮ "‬بالوجودي‮" ‬التي عمل البعض علي تصنيفه بها‮. ‬في عام‮ ‬1951،‮ ‬صدر كتاب‮ "‬الانسان المتمرد‮". ‬وتبعه مقال لفرانسيس جونسون‮ ‬ينتقده لرجعيته‮. ‬نشر المقال في‮ "‬الأزمنة الحديثة‮"‬،‮ ‬المجلة التي‮ ‬يديرها سارتر‮. ‬متجاهلا كاتب المقال،‮ ‬كتب كامو مباشرة الي صديقه،‮ ‬الذي نشر تعليقه في العدد التالي،‮ ‬مرفقا برد صارم‮. ‬ما هي الجملة القاتلة ؟‮ "‬أخلاقك تحولت في البداية الي نزعة أخلاقية،‮ ‬واليوم ليست الا أدبية‮".‬

‮   ‬لم‮ ‬يكن سؤال العلاقة بين الفن والسياسة بعيدا‮. ‬في نفس هذا الرد،‮ ‬رجع سارتر الي الطفولة الفقيرة لكامو،‮ ‬متهمه بكلمات‮ ‬غير صريحة بكونه ذريعة اليسار‮. ‬خلف تواضع ظاهر،‮ ‬كامو السريع التأثر،‮ ‬شعر بكونه قد جرح‮. ‬لم‮ ‬يعد الرجلان‮ ‬يتحدثان‮.‬

‮   ‬كانت حرب الجزائر آخر التزام لآلبير كامو‮. ‬وآخر مواجهاته مع سارتر‮. ‬بينما كان الأخير‮ ‬يعظم الاستقلال الخالص والبسيط،‮ ‬كان كامو لا‮ ‬يري الي أن الأرض التي شهدت ولادته تكون أرضا‮ ‬غريبة‮. ‬حقق هذان الموقفان شيئا من الحيرة وعدم الفهم‮. ‬الدم الذي‮ ‬يروي الجزائر مثل دمه‮. ‬عاني كامو من هذا الصراع،‮ ‬الذي اعتبره كصراع الأخوة‮. ‬هل خففت جائزة نوبل،‮ ‬التي تلقاها في عام‮ ‬1957،‮ ‬المصاحبة بتحيات فرانسوا مورياك وويليام فوكنر،‮ ‬عن أحماله ؟ من المحتمل‮. ‬مكنته من شراء منزل في البروفانس،‮ ‬بلورمارين،‮ ‬قرب بحر متوسط طفولته،‮ ‬تحت هذه الشمس الدافئة التي تنقصه دوما‮. ‬هذا الشراء لم‮ ‬يجلب له الحظ‮. ‬في‮ ‬4‮ ‬يناير‮ ‬1960،‮ ‬بدلا من أن‮ ‬يسافر الي باريس من لورمارين بالقطار،‮ ‬عرض ميشال‮ ‬غاليمار عليه أن‮ ‬يستقل سيارته‮. ‬وعلي بعد مئات من العاصمة،‮ ‬ولسبب‮ ‬غير معروف،‮ ‬انحرفت السيارة عن طريقها‮. ‬ويموت‮ ‬آلبير كامو تحت وقع الحادثة‮.‬


‬من وإلي جان دانيال
رسائل كامو

ت‮: ‬أحمد عبداللطيف

شاهدان من القرن العشرين‮ ‬يتبادلان المراسلات خلال سنوات‮. ‬هنا نجد كامو العنيد والحريص علي الشكليات لكنه أيضاً‮ ‬المتيقظ،‮ ‬الذي‮ ‬يقدم عملاً‮ ‬أو مساعدة لصديق من أجل إطلاق سراح بعض السجناء‮. ‬كما نجد جان دانيال الحنون والمشغول بأزمة صديقه‮. ‬مفكران كبيران ‬فرنسيان من أصل جزائري،‮ ‬وجهاً‮ ‬لوجه‮. ‬مراسلات أخرجها هذا العام،‮ ‬في عامه الثالث والتسعين،‮ ‬جان دانيال،‮ ‬وبشكل حصري لجريدة الكولتورال الإسبانية التي احتفلت بكامو عبر نشر هذه الرسائل‮.‬


كابري،‮ ‬26‮ ‬فبراير‮ ‬1950

‮ ‬أشكرك لأنك أرسلت لي نسخة‮  ‬من كاليبا‮ ‬]مجلة ثقافية أسسها دانيال[ التي تضم‮ "‬العادلون‮". ‬الطبعة جيدة بصدق،‮ ‬لكنني لا أستطيع أن أقول نفس الشيء عن النصوص المنشورة‮. ‬الحقيقة أن العدد في مجمله بدا لي مغرضاً،‮ ‬لقد ركز علي الجانب السلبي من القضية فقط‮. ‬وبعد أن قرأت النصوص،‮ ‬بدا لي أنكم تنصحون الناس أن‮ ‬يبقوا في البيت مكتوفي الأيدي‮. ‬الأمر ليس أنني أعرف إن كان‮ ‬يتحتم قتل الحارس مع وجود أطفال ثم الهروب ‬بل هل‮ ‬يتحتم قتل أبناء الحارس أيضاً‮ ‬لتحرير السجناء‮. ‬القضية هامة‮. ‬زمننا لا‮ ‬يجيب بنعم أو لا‮. ‬أنا لم أقترح الموضوع،‮ ‬غير أنني اخترت أن أحيي من اقترحوه،‮ ‬واستخدمتهم ووقفت خلفهم مختبئاً‮. ‬حقيقي أيضاً،‮ ‬مع ذلك،‮ ‬أن إجابتك ليست‮: ‬حتمية البقاء بالبيت،‮ ‬بل‮ ‬1‮) ‬هناك حدود والأطفال حد‮ (‬من بين حدود أخري‮) ‬2‮) ‬يمكن قتل الحارس‮. ‬3‮) ‬لكن من الضروري أن‮ ‬يموت الشخص نفسه‮. ‬أما الإجابة الضمنية للفترة التي نعيشها فعلي العكس‮: ‬1‮) ‬ما من حدود‮. ‬الأطفال بالطبع،‮ ‬لكن في حسابات موجزة‮.. ‬2‮) ‬لنقتل كل العالم إن كان ضرورياً‮. ‬3‮) ‬لنرفع شعار الشرف‮.  ‬
تدخلي الوحيد‮ ‬يكمن في عرض الدراما،‮ ‬إبراز كيف تتطور والقول‮:‬فكروا فيه‮. ‬نحن علي مسافة من مشكلة الرعاية التي تمزق القلب والتي اراد البعض أن‮ ‬يراها في‮ "‬العادلون‮" ‬والتي‮ ‬يبدو أن حضرتك تستحضرها من جديد‮. ‬بالطبع ‬لم أكن لأكلف نفسي عناء الرد إن لم‮ ‬يكن الأمر متعلقاً‮ ‬بمجلة كاليبا‮. ‬لكنني أعرف أنه في حالتك وحدها‮ ‬يمكنني التحدث عن إهمال ما،‮ ‬وبالتالي ما من شيء أفضل من التحدث بصراحة‮. ‬أما ما‮ ‬يخص الأمور الأخري،‮ ‬فربما أكون مخطئاً‮. ‬
رغم هذا،‮ ‬فالعدد‮ ‬يبدو لي ممتازاً‮. ‬كنت محقاً‮ ‬تماماً‮ ‬بنشر‮ ‬سيد وخادم ‬لتولستوي ‬فهي عمل عظيم‮. ‬هل فكرت في أدولف‮ (‬بي‮. ‬كونستانت‮) ‬وهي عمل آخر عظيم؟
مودتي
كامو
ملحوظة‮: ‬احتفظ بما قلته لك سراً،‮ ‬بالطبع ‬ولا تلوم أحداً‮ ‬من مساعديك ولو كان لوماً‮ ‬ناعماً‮.‬



ألبير كامو إلي جان دانيال
٢٥‮ ‬أغسطس‮ ‬1954

عزيزي دانيال
أكتب لك كلمات سريعة لأقول لك علي الأقل إنني حزين لطريقة تقديم مقالي‮. ‬اسمي في الغلاف والإشارة الغامضة في نهاية المقال،‮ ‬جعلاني أستحضر جريدة‮ ‬L Express. هذه ليست القضية‮ ‬فأنا لم أقرر بعد وعندما أقرر سأفعل بشكل عملي‮. ‬لكن قمة الكوارث خطأ مطبعي نقل كلمة‮ ‬حرية‮ ‬في عبارة عن أورتيجا إلي جاسيت‮. ‬طالع سييء،‮ ‬لكنني كنت أريد أن أخبرك برد فعلي،‮ ‬ما لا‮ ‬يمنع احترامي لحضرتك‮.‬
ألبير كامو

جان دانيال إلي ألبير كامو‮ (‬ورقة عليها لوجو فندق سان جورج بالجزائر،‮ ‬ربما في عام‮ ‬1957‮)‬

عزيزي ألبير كامو
لا أعرف إن كنت ستتلقي هذه الرسالة وأنت في باريس أم لا‮. ‬أتمني ذلك،‮ ‬لأنك‮ ‬يجب أن تعرف أنني لم أشتق لصداقتك مثل الآن وأن هذا العام الحزين ترك علامته في نفسي،‮ ‬وكان بعدنا سبباً‮ ‬من بين أسباب أخري لحزني‮. ‬ربما أنا المسؤول عن هذا ‬ربما‮. ‬لكن ذلك لم‮ ‬يجعل العاقبة القاسية محل قبول من جانبي‮. ‬
سبب آخر كان العام الجزائري‮. ‬هنا أري،‮ ‬رغم كل انتصارات السماء التي تعرفها حضرتك،‮ ‬مشاهد مبغضة‮. ‬نحمل للجزائر جرحاً‮. ‬ففي الجزائر العاصمة،‮ ‬حيث نتمني أن نسعد بعودة الهدوء إليها،‮ ‬تمحو الاعتقالات والتعذيبات كل ما‮ ‬يثير في العالم العربي الفخر بالنصر‮. ‬شيء فظيع‮ ‬يا ألبير كامو‮ ‬ما‮ ‬يعيشه هنا بلدنا،‮ ‬شيء فظيع لا‮ ‬يمكن احتماله‮. ‬هذه المرة عليك أن تنصت لي‮ ‬وعليك أن تنصت لي بالثقة التي أري بها الأشياء من خلال حساسيتك الخاصة‮. ‬انتهيت من قراءة‮ ‬الضيف‮ ‬التي هي‮ "‬السيد والعبد‮" ‬الجزائرية‮. ‬إنها تقدم أفضل كامو‮. ‬والإهداء أثار عاطفتي،‮ ‬كما أثار عاطفة أصدقائك‮  ‬الحميمين‮.‬
المخلص
جان دانيال



جان دانيال
ألبير كامو إلي جان دانيال
باريس،‮ ‬18‮ ‬يوليو‮ ‬1952



عزيزي دانيال
أكتب لك هذا الخطاب لضرورة قصوي‮. ‬ومنذ عدة ساعات وأنا أحاول أن أطلعك علي وضع ربما‮ ‬يهمك‮. ‬
الأمر كالتالي‮: ‬بلوخ ميشيل‮ ‬]جان بلوخ ميشيل،‮ ‬كاتب فرنسي ومن أصدقاء كامو[ قام بحوار مع بريت،‮ ‬الذي تعرفه حضرتك،‮ ‬علي ما أظن،‮ ‬والذي‮ ‬يدير وكالة أنباء‮ ‬يعمل بها بلوخ ميشيل‮. ‬بريت قال له إنه‮ ‬يريد أن‮ ‬يوسع عمله،‮ ‬وكما قد علمت فحضرتك متاح،‮ ‬وبما أنك تشعر بألفة مع مجلة كاليبان فقد تحب أن‮ ‬يرحبوا بك في فريق عملهم‮. ‬لقد حدثني ميشيل في الأمر في الليلة السابقة علي انصرافك،‮ ‬وهاتفتك في الثانية عشرة والنصف ليلاً،‮ ‬ولأنك لم ترد،‮ ‬فكرت أنك انصرفت منذ الصباح،‮ ‬بحسب ما قلته لي‮. ‬أندريه بينيكوه‮ ‬]صحفي فرنسي{ صحح لي خطأي وأعطاني عنوانك‮. ‬لكن لم نخسر شيئاً‮. ‬أبسط شيء أن تقوم حضرتك بزيارة بريت دون تأخير،‮ ‬وأن تخبره أن ميشيل قد أخبرك بنيتهم وتسأله ماذا‮ ‬يمكن أن تفعل‮. ‬
يجب أن أقول لك إنني أتمني من كل قلبي أن توفق في هذا الامر،‮ ‬لأنك بذلك ستعود من جديد لتكون بيننا‮.‬
أضغط علي‮ ‬يدك بكل ود‮.‬



جان دانيال لألبير كامو 1951

عزيزي ألبير كامو
لدي ما‮ ‬يكفيني من دماء متوسطية لأخشي عادات الأدباء-هذا التجسيد للتدهور الباريسي‮- ‬ولا أريد أن أشكرك أن أرسلت لي مخطوط كتابك‮. ‬لكنني انتهيت في التو من‮ ‬الرجل المتمرد‮ ‬وأحب أن تسمح لي،‮ ‬قبل أي شيء،‮ ‬أن أعبر عن إعجابي وتقديري الحار‮. ‬لقد انتهيت من الكتاب قبل أن تظهر المقالات النقدية ورغم أنني كنت مقتنعاً‮ ‬بأهمية الكتاب التي لا جدال فيها،‮ ‬إلا أنني لم أكن متأكداً‮ ‬من عدم تصويب سلاح القضاة المتخصصين إليك‮. ‬حسناً،‮ ‬سواء عبروا عن رأيهم بمديوكرية أم لا‮ ‬كلهم استقبلوا عملك كحدث‮. ‬وأنا شعرت بسعادة كثيفة وعميقة كأنني بطريقة ما أشارك في نجاح حضرتك‮. ‬ولأنني أشاركك،‮ ‬أطلب منك أن تصدق صداقتي المخلصة والكلية،‮ ‬واسمح لي أن تكون صداقة أخوية‮.‬



ألبير كامو
جان دانيال إلي ألبير كامو


عزيزي ألبير كامو
شكراً‮ ‬لرسالتك‮: ‬لمحتواها،‮ ‬لاهتمامك الذي توليه لي،‮ ‬لما‮ ‬يرمز إليه فعلك،‮ ‬في بيئة تمنحني كل أنواع الألم،‮ ‬أو أغلبه‮. ‬لا أضجر من قول إن نفس الأشياء،‮ ‬نفسها،‮ ‬التي كانت نبعاً‮ ‬للسرور صارت نبعاً‮ ‬للضيق‮. ‬حتي ماء البحر قد‮ ‬يغير ملمسه‮. ‬شيء فظيع‮. ‬اعذرني إن استفضت،‮ ‬فالذنب ذنبك‮: ‬فكل ما تفعله لي أفعال صديق‮.‬
‮  ‬كتبت في الحال إلي بريت،‮ ‬الذي أعرفه بالفعل‮ (‬إنه أحد القلائل في اليونيسكو الذي ساعدني بشكل فعال وبحسن تصرف‮). ‬إن عاودت لقاء بلوخ ميشيل،‮ ‬أيمكن أن تشكره نيابة عني؟‮  ‬
قبل أن أتلقي خطابك كنت قد قررت الكتابة لك‮. ‬الموضوع متعلق بهذه الأزمة التي تمر بها والتي لا أتجرأ علي تحليلها،‮ ‬وكنت أحاول أن أقول لك إن شيئاً‮ ‬واحداً‮ ‬فقط‮ ‬يمكن ويجب أن‮ ‬يخرجك من أزمتك‮: ‬احتياجي لك وبشدة،‮ ‬احتياج الآخرين لك وبشدة‮. ‬ربما تكون هذه حقيقة وحيدة تناهض الغرور‮. ‬لا تنظر لهذه الكلمات علي أنها ربما تكون وقحة،‮ ‬بل تعبر صدقاً‮ ‬عن تقديري لشخصك ولكتابتك‮.   ‬
جان دانيال‮ ‬


جان دانيال لألبير كامو‮ ( ‬رسالة عليها لوجو مجلة
L Express)
باريس،‮ ‬الثاني من ديسمبر‮ ‬1958


عزيزي ألبير كامو
أكدوا لي أن تدخلاً‮ ‬من جانبك‮ ‬يمكن أن‮ ‬يحقق،‮ ‬في هذه اللحظة الدقيقة،‮ ‬إطلاق سراح أو التخفيف من وضع السجناء المذكورين في القائمة التي أرفقها لك‮. ‬فقط أريد أن أدافع عن الاهتمام بهؤلاء السجناء،‮ ‬وبعضهم أصدقاء لي،‮ ‬وليس لدي نية لعمل أي دعاية من أي نوع لاقتراحي الذي أقدمه لك وما‮ ‬يمكن أن تقوم به من إجراءات‮. ‬لكنني أعرف أن السيد باتين،‮ ‬رئيس لجنة حماية الحريات والحقوق الفردية سيتحدث حول قضية عدد من المسلمين المعتقلين وأعرف أنه لن‮ ‬يتجاهل طلباً‮ ‬من جانب حضرتك‮. ‬الأمر عبارة عن مجموعة من القوميين القادرين علي فعل تأثير سياسي وقوي في دائرتهم‮.  ‬أنا سعيد بمكالمتك التليفونية‮. ‬هدفي لم‮ ‬يكن العودة لرؤيتك،‮ ‬بل استئناف صداقتنا‮.‬
جان دانيال
‮(‬استطاع كامو،‮ ‬كما‮ ‬يظهر ذلك في رسالة أخري،‮ ‬أن‮ ‬يساهم في إطلاق سراح السجناء‮)‬



منقول من موقع أخبار الأدب 


‬اليَقِينُ‮ ‬طريقُ ‮ ‬طـــه حســـين ‮ ‬إلي‮ ‬الشَّك‮.. صـلاح بوسـريف



‮ ‬طـــه حســـين

1
"ليس من الضروري أن تكون مُسْلِماً‮ ‬حتي تتمتَّع بالقرآن‮ ‬الكريم وتتذوَّق قِيَمَه،‮ ‬وليس من الضروري أن تكون مسيحياً‮ ‬كي تتمَتَّع بالكتاب المُقَدَّس،‮ ‬وليس من الضروري أن تكون يهودياً،‮ ‬وإنَّما يكفي أن تكون إنسانا‮".‬
2
الكلام لطه حسين‮. ‬قِراءَتي لأعماله،‮ ‬وكتاباتِه،‮ ‬بشكل دائِمٍ،‮ ‬ومُتَواصِل،‮ ‬كما أفعل مع مَنْ‮ ‬لهم أثَرٌ‮ ‬معرفي كبير في نفسي،‮ ‬مِنَ‮ ‬العرب،‮ ‬ومن‮ ‬غير العرب،‮ ‬من المفكرين والمبدعين والفنانين الكبار،‮ ‬أتاحَتْ‮ ‬لي أن أَكْتَشِفَهُ‮ ‬باستمرار،‮ ‬وأتعرَّفَ‮ ‬عليه،‮ ‬وعلي مواقفه التي طالما كانتْ‮ ‬مُحْرِجَةً‮ ‬للكثيرين،‮ ‬وكانت عَلامةً‮ ‬فَارِقَةً‮ ‬في حياتِه هو نفسه‮. ‬فبقدر ما هاجَمَ‮ ‬اعُلماءب الأزهر،‮ ‬وانتقد طُرُق ومناهج التدريس،‮ ‬في هذه الجامعة الدينية العتيقة،‮ ‬بقدر ما انْتَقَدَ‮ ‬التَّعليم االحديثب نفسه،‮ ‬الذي لم يكن في مستوي ما رَغِبَ‮ ‬فيه،‮ ‬باعتباره،‮ ‬كاتباً،‮ ‬ومُفَكِّراً‮ ‬مشغولاً‮ ‬بالمستقبل،‮ ‬وبنهوض مصر،‮ ‬التي كانت،‮ ‬آنذاك،‮ ‬في عنفوان حراكها،‮ ‬الفكري والثقافي،‮ ‬الذي بدا واضحاً‮ ‬في صراعِ‮ ‬وتَجاذُباتِ‮ ‬أطْرافٍ‮ ‬مختلفة،‮ ‬لتكريس نفسها،‮ ‬باعتبارها البديل الفكري،‮ ‬الذي سيضمن نهضةَ‮ ‬الأمة،‮ ‬ويخرج بها من براثن التخلُّف والانحطاط‮. ‬
3
ضمن هذا الصِّراع الفكري،‮ ‬كان طه حسين يعمل علي‮ ‬مُراجَعَة أُسُسِ‮ ‬المعرفة العربية،‮ ‬التي كانت،‮ ‬بكل تَمَظْهُراتِها،‮ ‬وأشكالها التعبيرية،‮ ‬تحت هيمنة التقليديين أو المُحافِظين،‮ ‬ممن اعتبروا هذا التراث الفِكْرِيَّ‮ ‬والإبداعِيَّ،‮ ‬تُراثاً‮ ‬لا يقبل المُراجعَة،‮ ‬فهو مُحْكَم البناء،‮ ‬ومعرفتُه تقتضي السَّيْر في طريقه،‮ ‬أو اتِّباعه،‮ ‬فهو مصدرٌ‮ ‬للمعرفة،‮ ‬وطريقةٌ‮ ‬في النظر للأشياء،‮ ‬وفَهْمِها‮.‬
هذه المراجعة التي سَلَكَها طه حسين،‮ ‬فيما كان يكتبُه،‮ ‬وما كان يقوله لطلبته في الجامعة،‮ ‬هي ما جعل من خُصومِه يعتبرونه تَغْرِيبِياً،‮ ‬ينتصر للثقافة الفرنسية،‮ ‬بشكل خاص،‮ ‬وللمناهج الغربية،‮ ‬عُموماً،‮ ‬في مقابل الثقافة العربية‮ »‬الأصيلة‮« ‬كما كانوا يتصوَّرُونَها،‮ ‬ويدعون لها،‮ ‬أو يُكَرِّسُونَها،‮ ‬من خلال ما يكتبونَه،‮ ‬ويُرَوِّجُونَه من أفكار‮.‬
4
فكتاب‮ » ‬في الشِّعر الجاهلي‮«‬،‮ ‬الذي خرج فيه طه حسين عن السِّياقِ‮ ‬العامِّ،‮ ‬لِما كان معروفاً‮ ‬من أفكار،‮ ‬وما كان يأخذه الطلبة عن مُدَرِّسِيهم،‮ ‬وأساتذتِهم،‮ ‬لم يكن مُهِمّاً‮ ‬من حيث النتائج التي وصل إليها،‮ ‬بقدر ما كانت أهَمِّيَتُه في المنهج الذي قرأ به هذا الشِّعر،‮ ‬أو وَضَعَ،‮ ‬من خلاله،‮ ‬هذا الشِّعر،‮ ‬كاملاً‮ ‬موضع‮ »‬شَّكٍ‮«‬،‮ ‬بما يعنيه هذا الشَّك من مراجعة جذرية،‮ ‬فاحِصَة،‮ ‬وعميقة،‮ ‬في التراث الشِّعري العربي،‮ ‬الذي بدا لطه حسين أنَّه‮ ‬غارقٌ‮ ‬في المُسَلَّمات واليقينيات،‮ ‬ولا أحدَ‮ ‬فكَّر في مُوَاصَلَة ما كان بَدَأَه بعض القُدَماء من شَكٍّ،‮ ‬وما كان أثاره بعض دارسي هذا الشِّعر من المستشرقين‮.‬
5
لستُ‮ ‬في حاجَةٍ‮ ‬للعودة لهذا الكتاب الذي سبق أن كَتَبْتُ‮ ‬عنه،‮ ‬فأنا،‮ ‬بِنَاءً‮ ‬علي ما بدأْتُ‮ ‬به من كلام لطه حسين،‮ ‬في مقدمة هذا النص،‮ ‬أريدُ‮ ‬أن أتكلَّمَ‮ ‬عن كتاب آخر،‮ ‬له أهمية خاصَّة في هذا السياق،‮ ‬هو كتاب اعلي هامش السيرةب بأجزائه الثلاثة،‮ ‬الذي لم يُقْرَأ من قِبَل كثير ممن اعتبروه كتاباً‮ ‬في سيرة الرسول،‮ ‬وفقاً‮ ‬لِما عَرفُوه من مَرْوِياتٍ‮ ‬لهذه السيرة،‮ ‬في بعض مصادرها القديمة،‮ ‬ربما طبيعة المرحلة التي كتب فيها طه حسين هذا الكتاب‮ ‬[1933]،‮ ‬لم تكن في صالح طه حسين،‮ ‬خصوصاً‮ ‬علي المستوي الفكري العام،‮ ‬الذي كان طه حسين لا يزال يعيش فيه علي وَقْعِ‮ ‬ما أثاره عليه كتاب‮ »‬في الشِّعر الجاهلي‮« ‬من مشاكل،‮ ‬لم تقتصر علي خُصومه التقليديين،‮ ‬بل شملت خُصومَه السياسيين،‮ ‬رغم ما سيجده من دَعْمٍ‮ ‬من قِبَل بعض هؤلاء،‮ ‬الذين حاولوا امتصاص هذا اللَّغَط،‮ ‬ووضعه خارج الصراعات،‮ ‬والمُزايدات السياسية،‮ ‬التي لا علاقة لها بالشِّعر،‮ ‬ولا بما كان يتوَخَّاه طه حسين من هذا العَمَل النقدي المُهِمّ‮.  ‬
6
هذا الكتاب،‮ ‬بأجزائه الثلاثة،‮ ‬كما صَدَرَتْ‮ ‬في طبعة دار المعارف،‮ ‬قَرَأْتُه أكثر من مَرَّةً،‮ ‬ليس رغبةً‮ ‬في قراءة السيرة،‮ ‬في ذاتها،‮ ‬وهذا هو موضوع الكتاب،‮ ‬بل في معرفة ما تَمَثَّلَه طه حسين من هذه السيرة،‮ ‬أي من المصادر التي عاد إليها،‮ ‬وفي الطريقة التي سَلَكها في كتابة هذه السيرة‮. ‬والسؤال‮: ‬هل كان طه حسين‮ ‬غير مُقْتَنِعٍ‮ ‬بما كُتِبَ‮ ‬من سِيَرٍ‮ ‬سابِقةٍ،‮ ‬وعمله هذا هو كتابة فيها ما يمكن اعتباره إضافةً‮ ‬واختراقاً؟ هل خامَرَهُ‮ »‬الشَّكّ‮«‬،‮ ‬فيما جاء في بعض هذه السِّيَر،‮ ‬أو فيها كاملةً،‮ ‬رغم ما قَدَّمَه من دُفوعات في مقدمة الكتاب،‮ ‬حول ما يتعلَّق بالنبي وبالدِّين،‮ ‬بشكل خاص ؟ هل أراد بهذا العمل أن يُغازل خصومه من المُحافظين،‮ ‬ممن واظبوا علي مهاجمته،‮ ‬دون كَلَل،‮ ‬للتَّخفيف من حدَّة التَّوتُّرات التي خَلَّفَها كتاب‮ »‬الشِّعر الجاهلي«؟ أم أنَّ‮ ‬الأمر يتعلَّق بعودة طه حسين للتاريخ،‮ ‬الذي كان بين أهم ما أسَّس به معرفتَه،‮ ‬في الأدب،‮ ‬بشكل خاص،‮ ‬ولِما كتبَه في ما سَمَّاه بـ‮ »‬الإسلاميات‮«‬،‮ ‬وهو الذي كان أكَّدَ‮ ‬ما للتاريخ من أهَمِّيَة في فهم ومعرفة كثير من مشكلات النص الشِّعري،‮ ‬والسياق الفكري للثقافة العربية القديمة،‮ ‬أو للتراث إجمالاً؟

7
مَنْ‮ ‬يقرأ‮ »‬علي هامش السيرة‮«‬،‮ ‬بانتباه،‮ ‬وبتَجَرُّد،‮ ‬سيري كيف أنَّ‮ ‬طه حسين لم يكن يكتب التاريخ،‮ ‬بقواعد هذا العلم،‮ ‬وما يتطلبه من تَتبُّع للوقائع والأحداث،‮ ‬وفق ما جَرَتْ‮ ‬به،‮ ‬فهو منذ الجزء الأول،‮ ‬اخْتَارَ‮ ‬أن يحكي السيرة تَخْييلاً،‮ ‬لا أن يُسَايِر السِّيرَةَ،‮ ‬بنفس التحقيب والترتيب الذي سار عليه كُتَّاب السيرة‮. ‬

وهذا في ذاته،‮ ‬له أكثر من معنًي عند طه حسين،‮ ‬أو ما يمكن أن نتأوَّلَه في المنهج،‮ ‬أو في الطريقة التي اختار أن يُعيد بها سَرْد السيرة‮. ‬
يعرف من قرأوا ما وَصَلَنا من سِيَرٍ،‮ ‬أنَّ‮ ‬سيرة الرسول لم تُكْتَب إلاَّ‮ ‬بعد مرور قرنٍ‮ ‬علي وفاته،‮ ‬تقريباً،‮ ‬وهو ما حدث حتي بالنسبة للحديث،‮ ‬ما جعل السيرة،‮ ‬في روايتها الأولي لابن اسحاق،‮ ‬لا تُقْبَل،‮ ‬لِما دخَل فيها من خيال،‮ ‬أو ما حدث فيها من تناقُضات،‮ ‬أو ما اعتبره بعض اللاَّحِقين عليه شوائبَ‮ ‬شَابَتِ‮ ‬الكتابَ،‮ ‬رغم أنَّه سيظل هو الوثيقة التي عاد إليها من كتبوا السيرة بعد ابن هشام،‮ ‬بمن فيهم ابن هشام نفسه‮. ‬

8
هذا التخييل الذاتي،‮ ‬أو السيرة التخييلية،‮ ‬رغم ما فيها من وقائع وأحداث وتواريخ،‮ ‬هي نفسُها ما نجده عند ابن سعد وعند الطبري وعند ابن هشام‮ ‬،‮ ‬كان لحظةَ‮ ‬الوَهَن في ما يوجد في السيرة من أبعاد تخييلية أسطورية،‮ ‬وهي ما سَيَعْمَدُ‮ ‬طه حسين لاستعماله،‮ ‬بنوعٍ‮ ‬من التَّوَسُّع،‮ ‬في إعادة تَخَيُّل بعض هذه الوقائع،‮ ‬أو كما يقول ا وأُحِبُّ‮ ‬أن يَعْلَمَ‮ ‬الناس‮..‬أنِّي وَسَّعْتُ‮ ‬علي نفسي في القصص،‮ ‬ومنحتُها من الحُرِّيَةَ‮ ‬في رواية الأخبار واخْتِراع الحديث ما لم أجد له بأساً،‮ ‬إلاَّ‮ ‬حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي،‮ ‬أو بنحو من أنحاء الدين،‮ ‬وإنما التزمْتُ‮ ‬ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث،‮ ‬ورجال الرواية،‮ ‬وعلماء الدين‮. ‬حاول طه حسين من خلال،‮ ‬هذا الاستدراك،‮ ‬تبرير ما قاله قَبْل كلامه هذا،‮ ‬عن‮ »‬كَلَف الشعب بهذه الأخبار،‮ ‬وجده في طلبها،‮ ‬وحرصه علي قراءتها والاستماع إليها‮«. ‬وهو يقصد بالشَّعْب هنا،‮ ‬عامة الناس،‮ ‬ممن يأخذون الدِّين بما يُرْوَي،‮ ‬ويُقال،‮ ‬لا بالبحث،‮ ‬والتأمُّل،‮ ‬والتمحيص،‮ ‬كما يفعل هو نفسُه،‮ ‬أو كما فعل فيما كتبه في الشعر الجاهلي،‮ ‬وفي حديث الأربعاء،‮ ‬ومُقَدِّمَة كتاب‮ »‬في الشِّعر الجاهلي‮« ‬كافية،‮ ‬لتفكيك مقدمة‮ »‬علي هامش السيرة‮«‬،‮ ‬وفَضْح هذا‮ »‬الشك‮« ‬الذي فضَّل طه حسين،‮ ‬هذه المرة،‮ ‬أن يضعه في‮ ‬غلاف من‮ »‬اليقين‮«‬،‮ ‬الذي يدعو لمزيد من الشك فيما دخل علي السيرة من روايات،‮ ‬لا يمكن أن تَصْمُد أمام العقل‮. ‬ثمَّة،‮ ‬من الباحثين المعاصرين،‮ ‬من يري أنَّ‮ ‬الاستراتيجية الثقافية لطه حسين،‮ ‬هي استراتيجية نخبوية،‮ ‬ولم يكن مُنْشَغِلاً‮ ‬بتوصيل الثقافة إلي الجماهير،‮ ‬أو‮ »‬الشعب‮« ‬بتعبير طه حسين نفسه،‮ ‬فالشعب لا يمكنه أن يستوعبَ‮ »‬المنهج الفلسفي الذي اسْتَحْدَثَه ديكارت عن حقائق الأشياء‮«‬،‮ ‬خصوصاً‮ ‬حين يكون هذا المنهج،‮ ‬قائماً‮ ‬علي تَجَرُّد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل،‮ ‬وأن يستقبل،‮ ‬أو يقتحم موضوع بحثه خالِيَ‮ ‬الذهن من كل شيء‮.‬

9
من يقرأ كتاب‮ »‬الطَّبقات الكُبْرَي‮« ‬لابن سَعْد،‮ ‬سيلاحظ أن هذه السيرة،‮ ‬هي المصدر الأكثر استعمالاً،‮ ‬وتوظيفاً‮ ‬من قِبَل طه حسين،‮ ‬أو هي التي وجد فيها ما يسمح له بكتابةِ‮ ‬سيرةٍ‮ »‬حَديثَةٍ‮«‬،‮ ‬فيها مراجعة للمرويات القديمة،‮ ‬رغم استعماله لتاريخ الطبري،‮ ‬وسيرة ابن هشام،‮ ‬لكن،‮ ‬دون دَرْسٍ،‮ ‬أو تحليل،‮ ‬مُبَاشِرَيْن،‮ ‬بل بوضع الأحداث والوقائع،‮ ‬ذاتها،‮ ‬في مواجهة قارئها،‮ ‬أو وضع القاريء،‮ ‬بالأحري،‮ ‬في مواجهة هذه الوقائع،‮ ‬وفي تمييزِها،‮ ‬أي في تمييز التاريخي فيها عن الأسطوري،‮ ‬الذي هو ما يذهب إليه‮ »‬الشعب‮«‬،‮ ‬لأنه‮ »‬يَجِدُّ‮ ‬في طلبه‮«‬،‮ ‬بعكس ما قد يذهب إليه الباحث،‮ ‬الفاحِص،‮ ‬أو المُؤَرِّخ الذي يَحْتَكِم في عمله للوثائق والمعطيات،‮ ‬أو لِما يصل إليه من خلال عملية فَحْصٍ‮ ‬دقيقة ومتأنِّيَة لهذه الوثائق والمعطيات‮. ‬أو كما يقول فيليب.م‮. ‬جونز‮ »‬إنَّ‮ ‬أوَّل مهمة يؤدِّيها الناقد هي أن يُوَضِّحَ‮ ‬لنا المُبْهَمَ‮ ‬فيما نقرأ،‮ ‬وأن يُنَظِّمَ‮ ‬النص تنظيماً‮ ‬يُخْرِجُه من الفوضي التي كانت تسودُه نتيجةً‮ ‬لِبُعْد العَهْد الذي كُتِب فيه،‮ ‬وكثرة الآراء التي تضاربتْ‮ ‬في أصله وتفسيره‮«. ‬

10
لا أتصَوَّر أنَّ‮ ‬طه حسين أراد كتابةَ‮ ‬سيرة،‮ ‬بالمعني‮ ‬الأسطوري التخييلي،‮ ‬فقط،‮ ‬لِشَدِّ‮ ‬القاريء إليه،‮ ‬أو ترغيبه في قراءة سيرة الرسول،‮ ‬ما كان يريدُه طه حسين هو تأكيد البُعْد الأسطوري في بعض مفاصل السيرة،‮ ‬التي أضاف لها الرواة المختلفون،‮ ‬وغيرهم ممن استعملوا شخصية النبي فيما كتبوه،‮ ‬لإخراج النبي من السياق الدُّنْيَوي،‮ ‬ووضعه في سياق المُقَدَّس،‮ ‬أو الغيبي،‮ ‬رغم ما أكَّد عليه القرآن،‮ ‬نفسه،‮ ‬من أنَّ‮ ‬مُحَمَّداً‮ ‬بَشَرٌ‮ ‬مثل جميع البشر،‮ ‬يأكُل ويمشي في الأسواق‮. ‬
المقدس في شخص النبي،‮ ‬هو طبيعةُ‮ ‬الرسالة التي كُلِّفَ‮ ‬بحَمْلِها،‮ ‬واختياره لتبليغ‮ ‬الرسالة،‮ ‬دون‮ ‬غيره من فتيان قريش،‮ ‬أو ممن كانوا ينتمون للطبقة الأرستقراطية،‮ ‬من تُجَّار مكة المُتَنَفِّذِين‮. ‬هذا التَّكْليف،‮ ‬هو ما سيكون الخط الفاصل،‮ ‬الذي سيجعل من التاريخي،‮ ‬يحتمل الإضافة،‮ ‬والتَوَسُّع في إضفاء الغيبي علي المعلوم،‮ ‬أو المُقَدَّس علي الدنيوي‮.‬

11
حين قرأْتُ‮ ‬ما كان كتبه الشَّاعِر العراقي سعدي يوسف عن كتاب اعلي هامش السيرةب،‮ ‬يعتبره كتاباً‮ ‬عظيماً،‮ ‬وسعدي،‮ ‬كما يعرف الجميع،‮ ‬هو االشيوعي الأخيرب،‮ ‬كما كتب عن نفسه في أحد أعماله الشِّعرية،‮ ‬فَهِمْتُ‮ ‬القَصْدَ‮ ‬من كلام سعدي،‮ ‬الذي،‮ ‬هو،‮ ‬فيما أعْتَقِد،‮ ‬نفس ما أذهبُ‮ ‬إليه في فهمي لدافع طه حسين في كتابة هذا العمل،‮ ‬الذي لا بُدَّ‮ ‬أن نعود لقراءته من جديد،‮ ‬وفي ضوء ما تُتِيحُه لنا الدراسات الحديثة التي وَعَتْ‮ ‬المسافة الفاصلة في قراءة الدِّين،‮ ‬أو ما له علاقة بالدِّين،‮ ‬بين الوعي التاريخي،‮ ‬المبني علي المعطيات والوقائع،‮ ‬واختبار هذه المعطيات وفَحْصِها،‮ ‬والوعي الأسطوري،‮ ‬الذي يُضْفِي علي الواقع ما يُفارِقُه،‮ ‬ويَنْبُو عنه،‮ ‬أو يخرج به إلي التَّزَيّد،‮ ‬والتَّقْوِيل،‮ ‬والتَّبْدِيل‮.‬
‮                ‬
12
إنَّ‮ ‬كتاب‮ »‬علي هامش السيرة‮«‬،‮ ‬هو كتابةٌ‮ ‬للسيرة،‮ ‬بنفس‮ ‬المنهج الذي به كتب طه حسين افي الشِّعر الجاهليب،‮ ‬فقط،‮ ‬أنَّ‮ »‬الشَّك‮«‬،‮ ‬في الكتاب الأوَّل،‮ ‬لم يكن شَكّاً‮ ‬في شخص النبي،‮ ‬ولا في حقيقة الوحي،‮ ‬بل فيما دَخَل علي هذه السيرة من زياداتٍ،‮ ‬وإضافاتٍ،‮ ‬تخرج عن سياق الواقع،‮ ‬وهي نوع من تقديس المُقَدَّس،‮ ‬أو تشييده علي الغيب،‮ ‬بما لا يحتمله الغيب نفسُه،‮ ‬حين يوضَعُ‮ ‬أمام آلة االشَّكب،‮ ‬الذي عَمِل طه حسين،‮ ‬هذه المرَّة،‮ ‬علي إخْفائهِ،‮ ‬حتي لا تعود الأمور إلي ما عرفَتْه من قبل،‮ ‬أو ألْبَسَ‮ ‬الشَّك قَمِيص اليقين،‮ ‬رغم ما قاله عن العقل في مقدمة الكتاب،‮ ‬مِمَّا لا يمكن الاطمئنان له،‮ ‬خصوصاً‮ ‬في وضع كاتِبٍ‮ ‬ومفكر،‮ ‬مثل طه حسين،‮ ‬وهذا،‮ ‬ربما،‮ ‬ما كان أزْعَجَ‮ ‬محمد أركون الذي اعتبر ما كتبه طه حسين في هذا الكتاب،‮ ‬لا يَتَّسِق مع فكر طه حسين،‮ ‬الذي هو فكر نقدي يحتكم للعقل،‮ ‬ويتحرَّر من قيود واأغلال النص المنقولب‮.‬

13
هذا الذي ذَهَبْتُ‮ ‬إليه هنا،‮ ‬له علاقة بما بدأتُ‮ ‬به‮. ‬فاستفراد‮ »‬المسلمين‮« ‬بالقرآن،‮ ‬باعتباره كتاباً‮ ‬لا يمكن أن يتمتَّع،‮ ‬أو يستمتع،‮ ‬ويَسْتَلِذَّ‮ ‬بقراءته‮ ‬غير المسلمين،‮ ‬أمْرٌ‮ ‬غير صحيح في نظر طه حسين،‮ ‬وهو ما يَسْرِي علي المسيحيين واليهود،‮ ‬أيضاً،‮ ‬فيما يتعلَّق بالكتاب المقدَّس،‮ ‬بِعَهْدَيْه‮. ‬في المعرفة،‮ ‬والرغبة في المعرفة،‮ ‬لا يمكن أن يكون الدِّين خَطّاً‮ ‬فاصِلاً‮ ‬بين المسلم وغير المسلم،‮ ‬فالإنسان،‮ ‬مهما يكن انتماؤه العقائدي،‮ ‬قادر،‮ ‬بما له من عقل،‮ ‬وما له من خيال،‮ ‬علي أن يقرأ هذا الإرث الديني،‮ ‬أو هذه الكُتُب،‮ ‬كما يقرأ‮ ‬غيرها،‮ ‬وهي كتبٌ،‮ ‬بالتالي تتوجَّه للإنسان،‮ ‬أو لجميع الناس،‮ ‬القرآن مثلاً،‮ ‬فيه من هذه الصيغة ما يكفي لتأكيد ما يقوله طه حسين‮. ‬نحن اليوم في حاجة لوضع هذه الكُتُب في علاقة مع بعضها،‮ ‬وقراءتها مع بعضها،‮ ‬لنعرف،‮ ‬علي الأقل،‮ ‬ما يجمع بينها،‮ ‬وما قد يكون خطّاً‮ ‬فاصلاً‮ ‬فيها بين هذا الكتاب،‮ ‬وذاك،‮ ‬لا أن نمنع المسلم من قراءة التوراة والإنجيل،‮ ‬ونمنع المسيحي واليهودي من قراءة القرآن،‮ ‬أو نعتبر قراءتَه تدنيساً‮ ‬للكتاب،‮ ‬رغم ما قد يذهب إليه البعض،‮ ‬في الآية،‮ ‬بالتأكيد علي‮ »‬المُطَهَّرِين‮«‬،‮ ‬التي تحتاج لِفَحْصٍ،‮ ‬حتي في شأن من يدَّعُون الإسلام،‮ ‬فيما نراه ونسمعه اليوم،‮ ‬من أفكار،‮ ‬حَرَّفت الدِّينَ‮ ‬نفسَه،‮ ‬وخرجَت به عن الغرض الذي جاء من أجله‮.‬

14
البُعْد الإنساني في المعرفة،‮ ‬اعتبره طه حسين حَلاًّ‮ ‬يُبْعِدُنا عن هذا التَّشَاحُن،‮ ‬والتَّطَاحُن الذي هو أساس ما نعيشه من أعطاب في كل شيء‮. ‬فكتابة طه حسين لـ‮ »‬علي هامش السيرة‮« ‬لننتبه لتعبير هامش،‮ ‬في العنوان،‮ ‬وتداعياته في الكتاب بأجزائه الثلاثة،‮ ‬كان تأكيداً‮ ‬علي البُعْد الإنساني في شخصية النبي،‮ ‬وفي الدِّين نفسه،‮ ‬حين ننظر إليه خارِجَ‮ ‬ما قد يَحُفُّه من شوائب،‮ ‬أو ما يعْلَق به من طبقات تُخْفِي فيه هذا البُعْد الذي يصبح فيه الإنسان مُجَرَّد كائِنٍ‮ ‬بلاصوت،‮ ‬ولا حق له في التفكير والنظر‮.‬


منقول من موقع أخبار الأدب