الثلاثاء، 15 يوليو 2014


" القناع persona "

كان اليونانيون يرتدون الأقنعة في العروض المسرحية لكي تعبر عن الشخصيات التي يؤدونها وكأن وجوههم غير قادرة على ذلك مع أننا – بني البشر – كما رأى يونج فيما بعد نرتدي أقنعة عدة تتفق وبشكل قوي مع كل الأدوار الإجتماعية التي نلعبها وبغض النظر عن إتفاقنا أو إختلافنا مع هذا إلا أن الحقيقة الواضحة والجلية أن وجوهنا قادرة على أن تصبح أقنعة تتلون كالحرباء بين لحظة وأخرى والأسئلة المهمة هنا لما نرتدي تلك الأقنعة ؟.. وما الذي نخفيه بإرتداءها ؟.. ولما نخشى أن تظهر وجوهنا الحقيقية في العلن ؟ .

الرمز :

ذكرت في مقال سابق أن العقل مرآة رمزية للعالم مليئة بالحروف والأرقام فهو يحاول وبشكل حثيث أن يفهم هذا الكون الذي يحمل مثيرات كثيرة ومعقدة ومبعثرة وأن يجمعها في نسق يحوي رؤيته المعرفية عما يحيط به  وكل ما عليه فعله هو أن يضع المنطق السليم في مكانه السليم على حسب القضية التي يفكر فيها الرمز أذن فكرة عقلية تحمل تصوراً ما حتى وأن كنا نحن من نبتدعه بناءاً على تصورات سابقة - فالعلاقة هنا ديناميكية - كالأفعال غير اللفظية في المجتمع والفنون التشكيلية على سبيل المثال لا الحصر ففي النهاية يتم التعبير عن الرموز والدلالات التي ترمز إليها بصورة لفظية تعبر عن أفكار تحمل دلالات معينة .

هنا يبرز السؤال التالي هل هناك حقيقة منفصلة عن إدراكنا أم أن الحقيقة هي مجرد رؤيتنا للعالم الذي يحيط بنا وأنها ليست موجودة من الأساس كما ترى البنيوية وما بعدها والتوجهات العديدة في فترة ما بعد الحداثة ؟.. أعتقد أنه حتى وأن كنا لا نستطيع أن نعي الحقيقة بشكل كامل أو أن ندرك كافة أبعادها في قضية ما لا يعني بأي حال من الأحوال انها غير موجودة أو أنها غير منفصلة عن أدراكنا فالكون لا يمكن ان لا يكون نسقاً واحداً – حتى وأن أحتوى على مجموعة من الأنساق النسبية التي يكمل كل منها الآخر – وإلا أختل توازنه وبالتبعية أنهار أو لنقل لم يكن لُيبنى من الأساس وفي هذه الحالة تصبح الحقيقة = العدم .

والأمر هو هو بالنسبة لحياتنا الإجتماعية فلو لم تكن هناك معاير للتتميز بين الصواب والخطأ وبالتبعية قيم ومباديء ثابته لتحول المجتمع إلى مجرد غابة يحكمها الأقوياء ويفعل كل فرد فيه ما يشاء وكيف شاء وفي الوقت الذي يريده – وأنا هنا أتحدث عن حقيقة القيم والمباديء لا الحياة الإجتماعية المختلة نتيجة للإغتراب عن هذه القيم والمباديء – هذا بالإضافة إلى أنه أن لم يكن هناك حقيقة في الدين والأيدولوجيات - الرؤية الحقيقية للوجود وخالقه - فمن سيعاقب على ماذا أذن في الحياة الآخرة والعقاب ضروري لإستقامة الحياة على الأرض من الأساس فالمرء يدرك أنه حتى وأن أفلت من عقاب الدنيا فلن يفلت من عقاب الآخرة  وهنا أيضاً تصبح الحقيقة أما ان تكون أو لا تكون وبالتبعية = العدم وهذا لا يعني أنه ليس هناك ضرورة للتعايش والتعارف بين الأمم المختلفة – حتى وأن كان لأحدهم تصور حقيقي والآخر غير حقيقي عن الحقيقة - وهي قيمة أيضاً تخلينا عنها فدخلنا في دوائر لا متناهية من الصراع وأن لا يدعي أحد إحتكارها بل كل ما عليه فعله أن يقدم البراهين اللازمة لوصول البشرية إليها لكن هذا  لا يعني أيضاّ أن للحقيقة قلوب عدة فللحقيقة قلب واحد ووجوه عدة توصل إلى ذلك القلب .

فالحقيقة أذن لا يمكن أن تكون نسبية فلا نسبية في المشترك الإنساني وهي جزء محوري فيه وضروريُ للتمييز بين الصواب والخطأ الحق والباطل الوجود والعدم الخير والشر مان نحن عليه وما يجب أن نكونه فالنسبية لا تكون إلا فيما هو مختلف بين البشر كالرغبات والميول والقدرات الخاصة وبعض المظاهر الثقافية والحضارية للمجتمعات البشرية المختلفة .

الرمز \ القناع :

للرموز صور ظاهرة وصور خفية تقف وراء  " الأقنعة " إلا أن هذه الرموز الخفية – والتي لا تكون إلا في الحياة البشرية بطبيعة الحال – هي المعبرة بشكل قوي عن الإغتراب البشري لأنها ببساطة  تنبع من رغبة ملحة في إخفاء شر كامن في النفس البشرية للوصول لأغراض تشبع أهوائنا الجشعة بصورة مقبولة إجتماعياً .

ولكن ما الداعي إلى ذلك أعتقد ان السر يكمن في ان البشرية قد تخلصت من الإغتراب عن القيم والمباديء الإنسانية– بصورة نظرية بطبيعة الحال– ولو بقدر معين كما انها على مدار تاريخها لم تتخلى عن قيم ومباديء راسخة لا يمكن أن يخرج عنها أي في فرد في المجتمع مع إستمرار النفس البشرية على حالها فمنا من يسعى إلى ان يصبح من الملائكة ومنا من هو أستاذ للشياطين إلا أن الأخير يسعى ولا زال دائماً إلى أن يكون مقبولاً إجتماعياً تجنباً للنبز والصراع الإجتماعيين وبالتبعية فأن الحكومات تتبع نفس الآلية فالديكتاتور في العصور الوسطى يدعي بأنه يحكم بامر الله والديكتاتور في العصر الحديث يدعي بأنه حاكم ديمقراطي يحترم الدستور والقانون وجاء بإنتخابات حرة ونزيهة وهنا يبرز العقد الإجتماعي الخفي .

العقد الإجتماعي الخفي ما بين أرسطو وبريخت :

ذكرت في مقال سابق أن الوعي الجمعي قادر على إدراك الحقيقة لا أبعادها – معرفة الأسباب والنتائج – مما يجعله عرضة للتلاعب والتضليل من قبل السلطة فالشعب يدرك بان هذا الحاكم ديكتاتوراً لكنه لا يعرف الأسباب التي أدت إلى ذلك وكيفية التخلص منه الأمر الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى أن يكون عرضة لتضليل أسطورتي إنهيار الدولة وبالتبعية عدم توفر الامن والخبز أو لنقل إنتفاء الوجود الإنساني من الأساس والمنقذ من الإنهيار " الحاكم \ النظام " هاتين الأسطورتين اللتين تضمنان وجود النظام وإستمراريته وأن الحل يكمن في الوصول إلى وعي جمعي ناقد قادر على معرفة الأسباب والنتائج لكي ينال الحرية والأمن والخبز .

هنا تبرز ما هية الأقنعة فالقناع لا يكون مقنعاً للشعب ولا يكون الحاكم ممثلاً على مسرح أرسطي قديم كما أننا وفي الوقت نفسه لا يمكن أن نكشف الشر الكامن ورائها بصورة كاملة لعدم قدرة الوعي الجمعي على إدراك أبعاد الحقيقة – الاسباب والنتائج – وبالتبعية لا يستطيع بريخت أن يكسر الحاجز الرابع " الوهم " وان يُخرج الناس ولو بين الحين والآخر من تاثير الدراما المميت فالأقنعة هنا شفافة لكنها لا تزال تخفي بعض الحقيقة وللاسف الشديد الجزء الأسوء منها .


هنا فقط يبرز العقد الإجتماعي الخفي " الحقيقي " بين الحاكم والمحكومين فلكي أنال الأمن والخبز علي أن اتخلى عن حريتي وأن أسعى بكل قوة إلى عدم زحزحت اركان النظام القائم ونظراً لأني لم أصل إلى مرحلة الوعي الناقد التي ترى أنه بدون الحرية لا يمكن أن أضمن الحصول على الأمن والخبز لأني في هذه الحالة ساكون تحت سطوة وسيطرة من يعطيهما لي وبطبيعة الحال يكون قادراً على منعهما في أي وقت نظراً لأني لم أصل إلى هذه المرحلة من الوعي سأظل في منطقة البرزخ بين إدراك الحقيقة الكاملة وعدم إدراكها وستظل المصلحة هي الحاكمة للحياة البشرية بين طرفين مغتربين تلك العلاقات الإنسانية المشوهة التي تبدأ بالعلاقات المتعددة بين الأفراد مروراً بالحاكم والمحكومين وتنتهي بالعلاقات الدولية في قريتنا الصغيرة .
الإغتراب أذن هو السمة المميزة لتاريخ البشرية فلكي نفعل ما نهوى وما نشاء علينا أن نغترب عن الحقيقة ولكي نغترب عن الحقيقة علينا أن نستبدلها بميثولوجيا ننسج خيوطها بايدينا – وهي نسق عقائدي يتصف بصفتين الخيال الأبستمولوجي ( الوهم المعرفي ) المرتبط بالإغتراب عن أصول وآليات وحقيقة المعرفة وإضافة قدرات غير حقيقية وخارقة لشخص ما أو شيء ما " 1 " – لكي نبني حقيقة مغايرة تتفق مع رغباتنا واهوائنا ولكي تصبح تلك الميثولوجيا أسلوب حياة علينا أن نرتدي أقنعة توحي بانها الحقيقة المطلقة لكي نفهم المجتمعات البشرية أذن علينا ان نكتشف مقدار إغترابها ولكي نكتشف مقدار إغترابها علينا ان نبحث بدقة متناهية عن الميثولوجيا والأقنعة .

" 1 " أنظر مقال ميثولوجيا القرن الواحد والعشرين .