الثلاثاء، 19 يونيو 2012

شاعر وزجال ومطرب ومقريء ‮ ‬وجوه‮ ‬عبد الهادي الجزار داخل‮ ‬غرفة العمليات

محمد حسان
الكورس الشعبى‮ ‬1948

حياة الفنان عبد الهادي‮ ‬الجزار حياة ثرية علي المستويين الشخصي‮ ‬والإبداعي‮ . ‬تترافق منعطفاتها مع ما مرت به مصر من ثورتها المستمرة للتحرر من الاستعمار البريطاني‮ ‬وسطوة الملكية ثم قيام ثورة‮ ‬يوليو ومحاولاتها لإعادة نهضة مصر وإقرار شخصيتها المستقلة المتفردة.حياته القصيرة مارس‮ ‬1925‮  ‬إلي مارس‮ ‬1966‮  ‬تسير إبداعه في‮ ‬خطوط متوازية مع مسيرة الوطن‮  ‬وكذلك مسيرة حياته الشخصية وكأنه مرآة عاكسة‮  ‬لأحلام وطموحات ومعتقدات مصر, بل وشخصية مصر في‮ ‬ثرائها وفي‮ ‬تنوعها‮. ‬علي مدي واحد وأربعين عاماً‮ ‬هي‮ ‬فترة حياة الفنان عبد الهادي‮ ‬الجزار قدم ابداعات متفردة في‮ ‬مجالات ابداعية عديدة كلها جديرة بالاحترام والتقدير والإعجاب‮: ‬مصورا،‮ ‬صانع جداريات،‮ ‬شاعرا وزجالا،‮ ‬ناقداً‮ ‬ومنظر في‮ ‬فلسفة الفنون،‮ ‬كاتبا للقصة القصيرة والمقال والمحاضرات،‮ ‬مطربا‮  ‬وقارئا للقرآن‮.‬
لم‮ ‬يتوقف الجزار عند موهبته التي‮ ‬تنبه لها كبار النقاد الفنيين وهو في‮ ‬السادسة عشرة من عمره وما منحه من الدراسة المجانية في‮ ‬كلية الطب بل دأب طوال حياته علي التزود بما‮ ‬يفيده كإنسان مبدع‮ ‬ مهموم بالشأن المصري‮ ‬فدرس الي جوار الطب الذي‮ ‬هجره الي دراسة الفنون الجميلة ثم دراسة الآثار الفرعونية بالقسم الحر ثم دراسة الهندسة ليستطيع رصد حركة بناء السد العالي‮ ‬بالإضافة لحصوله علي ما‮ ‬يوازي‮ ‬درجة الأستاذية في‮ ‬الفنون من أكاديمية روما‮ .‬
وتعد المسيرة الإبداعية للجزار بجلاء تعبيرا ابداعيا عن روح الشخصية المميزة لمصر بثرائها وبهمومها وبطموحاتها‮ ‬, فنجد أول لوحة حاز عنها الجائزة الأولي وهو في‮ ‬سن السادسة عشرة عن أهمية الاعتناء بالصحة والنظافة لدي عموم الشعب والتوعية بها وتلك اللوحة أهلته للحصول علي الدراسة المجانية في‮ ‬كلية الطب‮.‬
أما لوحته الأولي التي‮ ‬عرضها في‮ ‬معرض مشترك مع أستاذه حسين أحمد أمين
فكان اسمها‮ ‬ الكورس الشعبي‮ ‬أو طابور الجوع وعنونها الجزار نفسه وهو مازال تحت العشرين من عمره باسم رعاياك‮ ‬يا مولاي‮ ‬مما عرضه للسجن لشهر كامل هو واستاذه المناضل الفنان حسين أحمد أمين مما دعا الفنان الرائد محمود سعيد بيك‮ ‬ نسيب الملك فاروق لتوجيه استعطاف موجه للملك فاروق فتم الافراج عن الجزار وعن أستاذه دون تمام مدة السجن‮.‬
ثراء عالم الجزار لم‮ ‬يتوقف عند البعد الاجتماعي‮  ‬أو التوعوي‮ ‬السياسي‮ ‬بل تجاوزه لآفاق جديدة جعلته في‮ ‬موقع الحلقة الوسيطة بين محاولات الرواد الذين سبقوه في‮ ‬عالم الفن التشكيلي‮ ‬وبين مجايليه ومن جاءوا بعده‮.‬
فلم‮ ‬يقع الجزار في‮ ‬شرك النقل التصويري‮ ‬الفوتغرافي‮ ‬المتقن للأجواء الشعبية مثل الموالد الشعبية أو الزار أو رصد السلوكيات الشبيه المرتبطة بالمعتقدات الضاربة في‮ ‬عمق الشخصية المصرية مثل شخصيات قارئ الكف أو الأحجبة‮  ‬بل تجاوز حالة المشدوه المنبهر بالعوالم الشعبية لكونه واحد من تلك البيئة‮ ‬غائصاً‮ ‬فيها بل وأحياناً‮ ‬مؤمناً‮ ‬بمعتقداتها‮.‬
وفي‮ ‬إحدي قصائده‮ ‬يقدم نفسه كواحد ممن‮ ‬يعتقدون في‮ ‬السحر الذي‮ ‬يتجاوز مفهومه كمصطلح محدود‮ ‬يرتبط بأعمال شريرة بل‮ ‬يتجاوزه الي إيمان بالخيال كحل وكقوة فاعلة في‮ ‬الحياة‮ :‬
دعني‮ ‬أعيش في‮ ‬السحر الذي‮ ‬أحبه‮ ‬
فأني‮ ‬لا أريد أن أعرف ما هي‮ ‬الأشياء‮ ‬
فإن الحياة مع المعرفة لا أستطيع احتمالها‮ ‬
لأن المعرفة شيء لا‮ ‬يعرف إلا في‮ ‬اللاوعي
وتلك المعرفة وعالم اللا وعي‮ ‬التبسا الجزار ذاته الذي‮ ‬عاش مشحوناً‮ ‬بما تشربه منذ مولده في‮ ‬حي‮ ‬القباري‮ ‬بالإسكندرية المتاخم لحي‮ ‬الجمرك ومشاهداته اليومية لعوالم شبحية لأناس‮ ‬يعيشون علي حافة الحياة حافة الفقر لكنهم أحياء, وكذلك ما كان‮ ‬يتلقاه من جرعات دينية من والده العالم الأزهري‮ ‬وتعمقت ثقافة الجزار الشعبية المصرية بعد انتقاله لمنزل متاخم لمقام السيدة زينب مما دفعه للالتحام بالعالم الشعبي‮ ‬كواحد منه وظل معتزاً‮ ‬بانتمائه للإسكندرية ولحي‮ ‬السيدة زينب حتي بعد انتقاله بعد الزواج لحي‮ ‬المنيل‮. ‬ولم تنقطع زياراته ولا تأملاته للمكانين الأثيرين الي عقله وقلبه وابداعه‮.‬
ولا‮ ‬يتوقف ابداع الجزار عند التصوير في‮ ‬حدود الرمز بل‮ ‬يستجمع كل مخزونه الشعبي‮ ‬والفلسفي‮ ‬والعلمي‮ ‬فنجده كما‮ ‬يستخدم الألوان الشعبية المصرية الزاهية والخطوط الرفيعة التي‮ ‬لا تحدد معالم الوجوه بقدر تقديم الحالة النفسية والمعنوية لشخوص اللوحة ويتعمق ذلك في‮ ‬اللوحة التوأم للوحة طابور الجوع أو الكورس الشعبي‮ ‬في‮ ‬لوحة الماضي‮ ‬والحاضر والمستقبل التي‮ ‬يحتفي‮ ‬فيها بثورة‮ ‬يوليو قبل قيامها بعام كامل ويتنبأ بها فيقول عن اللوحة‮ :‬
تاريخ هذه اللوحة‮ ‬يرجع الي عام‮ ‬1951‮ ‬وفي‮ ‬هذه الأثناء كانت عهود الإرهاب تدمي‮ ‬الذكريات وتضفي‮ ‬عليها لوناً‮ ‬قاتماُ‮ ‬رهيباً, ولكن هذا لم‮ ‬يمنع من أن تصمد العزمات وتهيئ نفسها للغد حيث تستطيع أن تتأثر جميع هوامل الماضي‮ ‬الكريه وكانت اللوحة الماضي‮ ‬والحاضر والمستقبل‮.‬
أما الماضي‮ ‬فهو واضح من الجو الخلفي‮ ‬للوحة وهو بين أسوار السجن وقد أطل منه سجين علي جنازة تسير كما أطلت امرأة بيدها طفل‮ ‬, والسجين والمرأة والطفل‮ ‬يمثلون جميعاً‮ ‬الحياة الحبيسة المضطربة التي‮ ‬تلتصق بخيال الحاضر‮.‬
أما الحاضر فهو الوجه الكبير الواضح وتبدو فيه عناصر القوة والعزم والإصرار وشرود الذهن في‮ ‬ماضِ‮ ‬كريه والتفكير في‮ ‬غد باسم جميل؟ وبدت شعبية الحاضر في‮ ‬الأحجبة والأقراط‮  ‬المدلاة من أذن الحاضر والمعلقة علي صدره‮.‬
بقي‮ ‬المستقبل وهو واضح من المفتاح الموضوع أمام الحاضر ولعل المفتاح‮ ‬يعطي‮ ‬فكرة عن المستقبل وما فيه من أسرار وخبايا خفية‮ ...  ‬
هذه اللوحة لعلها لا تحتاج إلي رؤية قصتها فإن عهد كل مصري‮ ‬بالحياة المصرية‮ ‬1951‮ ‬قريب‮.‬
لقد مرت البلاد بفترة من أحلك فترات حياتها فعاش عدد كبير من شبابها في‮ ‬السجون لأنهم رفعوا رأسهم في‮ ‬وجه الطغيان والفساد ولأنهم جرأوا علي‮ ‬،‮ ‬يبدوا رأيا أو‮ ‬يقولوا حقا وكانت الأنفاس مكتومة والحريات مقيدة والخطوات مغلولة وكل شيء حبيس ارادة حكام لا‮ ‬يرعون الله في‮ ‬الشعب ولا‮ ‬يحسون بما تعانيه الجماعات ولقد أردت أن تنوب اللوحة في‮ ‬التعبير عن إحساسات‮ ‬الناس وقتها‮  - ‬ولعلها فعلت‮.‬


عاشق من الجن1953

يتجاوز الجزار رواد فن التصوير المصريين في‮ ‬التعامل مع البيئة الشعبية كمجرد راصدين لها أو كعابري‮ ‬سبيل‮ ‬يرون الشعب من عليائهم إلي كونه روحا مصرية خالصة منغمسا في‮ ‬الحياة الشعبية متنقلاً‮ ‬بين أسرارها وفي‮ ‬إجابته علي أحد أسرار‮  ‬صديقه وزميله في‮ ‬جماعة الفن المعاصر حبيب عازار في‮ ‬سؤال للإذاعة الفرنسية‮ ‬يجيب عن نشأته السكندرية وعلاقته بالبيئة الشعبية فيقول‮ : ‬ولدت في‮ ‬الإسكندرية وعشت في‮ ‬حي‮ ‬من أحيائها الشعبية‮ (‬القباري‮) ‬فكان لذلك أكبر الأثر في‮ ‬إنتاجي‮ ‬بعد ذلك لأن ذلك هو حي‮ ‬العمال والطبقات الفقيرة فكانت عيني‮ ‬منذ الصغر تقع علي عمال أرصفة الفحم وهم من أهالي‮ ‬الصعيد النازحين إلي الإسكندرية وكنت أراهم وهم‮ ‬يفرغون شحنات الفحم داخل المراكب والصنادل كما كنت أراهم وهم عائدون إلي الحي‮ ‬وقد كست وجوههم طبقات الفحم السوداء وكانوا‮ ‬ينظرون كالأشباح الضامرة وهم‮ ‬يحملون المقاطف‮.‬

وكنت ألاحظ عمال الملح بين أكياس الكيماوي‮ ‬والأرض تبرق من تحتهم وبجانبهم البحر والصيادون وقد لفحت الشمس بشرتهم فصار لونها أحمر قاتما ولكن الشرايين تجري‮ ‬من تحتها مملوءة بالدماء وكنت أري‮ ‬علي وجوههم علامات الصبر وقصة الكفاح الطويل مع البحر و مع البشر ومع القدر وظهر ميلي‮ ‬بعد ذلك إلي التعبير عن الكتل البشرية في‮ ‬المراحل الأولي ومنها صورة المجتمع الأول‮ (‬سنة‮ ‬1946‮ ) ‬في‮ ‬الرسومات بالحبر الشيني‮ ‬التي‮ ‬تمثل الإنسان داخل الأعشاش معلقة علي الشجر بيوت من أعواد الغاب‮ ( ‬البوص‮ ) ‬أو داخل وبجانب القواقع وكأنهم حشرات تلد وتتكاثر ثم تفني ليأتي‮ ‬غيرها‮.‬
‮ ‬وكانت تبدو في‮ ‬نظراتهم الشرود وكان تجوالي‮ ‬في‮ ‬أنحاء الإسكندرية في‮ ‬جهة الملاحة والجبال الغربية للصيد وملازمتي‮ ‬البحر من الصغر أكبر الأثر في‮ ‬ربط تلك المجموعات البشرية بالعناصر الطبيعية‮ ‬ كما كان لذلك أكبر الأثر أيضا في‮ ‬الإحساس بنغم الطبيعة والفورم وتحديده‮ ( ‬كما في‮ ‬صورة الرجل والقوقعة سنة‮ ‬1948‮) ‬وعلي العموم قد كانت تلك الفترة التي‮ ‬عشتها في‮ ‬طفولتي‮ ‬في‮ ‬الإسكندرية هي‮ ‬المصدر الأول الذي‮ ‬حدد اتجاهاتي‮ ‬وميولي‮ ‬في‮ ‬إنتاجي‮ ‬الحالي‮ ‬مثلما تشتف الأحلام صورها من الأزمنة الأولي للطفولة والرواسب التي‮ ‬يدفعها العقل الباطن إلي الظهور‮... ‬لابد قبل الكلام عند توضيح العوامل والمؤثرات التي‮ ‬تكيف إنتاجي‮ ‬الفني‮ ‬وتطبعه بطابع خاص هو الطابع الشعبي‮ ‬لابد أن نذكر الحياة الشعبية ونوضح طابعها وما هو المقصود بكلمة‮ ( ‬الشعبية‮ ) ‬هنا‮. ‬فالمقصود بالحياة الشعبية هي‮ ‬تلك الحياة التي‮ ‬يحياها السواد الأعظم من الشعب الذين‮ ‬يعيشون بطريقتهم الخاصة وهي‮ ‬أقرب إلي الفطرة المرئية الحديثة وأساليبها العلمية‮ ‬ وهذه الحياة الشعبية نجدها في‮ ‬القري والأرياف كما نجدها في‮ ‬المدن الصغيرة والكبيرة في‮ ‬مصر وهي‮ ‬واحدة في‮ ‬جوهرها وأن اختلفت في‮ ‬مظهرها وأثر تلك الحياة الشعبية في‮ ‬الإنتاج الفني‮ ‬بتقسيمه قسمين‮..‬
من الملاحظ دائما أن العناصر الشعبية وتركيبها هو مكيف ومصنوع بطريقة عمليةتتفق مع الحياة التي‮ ‬يحياها ذلك الرجل الشعبي‮ ‬ فنجدها راسخة رسوخ عقائدهم فالكراسي‮ ‬الشعبية التي‮ ‬نجدها في‮ ‬القهوة الشعبية ومقابض العصي‮ ‬والسكاكين والدكك والمركوب والهون والعربة وبناء الحوائط والشبابيك والسلالم كل ذلك متميز بالثقل والمتانة والذوق الذي‮ ‬يتفق مع إحساساتهم وقد تأثر إنتاجي‮ ‬الفني‮ ‬بذلك‮. ‬
إن الحياة الشعبية مملوءة بالمعاني‮ ‬الإنسانية والمتناقضات التي‮ ‬تخلق من الرجل الشعبي‮ ‬خاضعا تحت تأثير عاملين أحدهما مادي‮ ‬والآخر ديني‮ ‬روحاني‮ ‬ولكل من هذين العاملين تأثير في‮ ‬الآخر لكي‮ ‬يعيش هو وأسرته في‮ ‬حدود وإمكانيات مجتمعه ومنهم من‮ ‬يعجز عن ذلك فيتخذ من الدين والعقائد طريقا‮ ‬يعيش منه فالناحية الاقتصادية والناحية الدينية هما اللذان‮ ‬يحددان موقف الرجل الشعبي‮ ‬من مجتمعه ولنضرب مثلا الناحية الاقتصادية‮. ‬توجد في‮ ‬القاهرة كثير من أضرحة الأولياء في‮ ‬الأحياء الشعبية وغير الشعبية ولكننا لا نسمع عن احتفال ديني‮ ‬أو مولد‮ ‬يحتفل به الجهة الغير شعبية وذلك طبيعي‮ ‬لان أهل الحي‮ ‬الشعبي‮ ‬يشعرون بتبادل المنفعة الاقتصادية في‮ ‬حيهم من وسائل النقل وأقامه الزينات وبيع الحلويات وغيرها‮. ‬أما من الناحية الروحة فبعضها عقائد متوارثة من الدين وغير الدين وبعضها رموز روحانية‮ ‬يخلقونها لأنفسهم لكي‮ ‬يشعروا بأنهم‮ ‬يعيشون في‮ ‬عالمهم المستقل وأنهم بهذه الرموز‮ ‬يستطيعون أن‮ ‬يصلوا إلي حل مشاكلهم التي‮ ‬لم‮ ‬يجدوا طريقا آخر لحلها لأنهم‮ ‬يعرفوا العلم وأساليبه فهم‮ ‬يستطيعون أن‮ ‬يحلوا بعض العقد النفسية بواسطة الزار كما أنهم‮ ‬يستطيعون شفاء بعض الأمراض عن طريق السحر وهكذا‮..  ‬
هذا عن الحياة الشعبية في‮ ‬حد ذاتها أما عن أثر تلك الحياة في‮ ‬إنتاجي‮ ‬فهو شيء آخر‮ ‬يختلف تمام الاختلاف فقد هذه‮ ‬الحياة منذ طفولتي‮ ‬وكان لابد أن‮ ‬يتأثر إنتاجي‮ ‬بها ولكن هناك فارقا بين أن أكون فنانا شعبيا وأن‮ ‬يكون إنتاجي‮ ‬فنا شعبيا وبين أن أكون محللا للحياة الشعبية ودوافعها فالفنان الشعبي‮ ‬هو ذلك الفنان الذي‮ ‬يرسم بالفطرة كتلك النقوش التي‮ ‬نجدها علي جدران المنازل الشعبية من رسم المحمل والحج ورسم البقر علي دكان اللبان ورسم الأسماك والصيد علي دكاكين السمك وغيرها‮ ‬ وفارق بين أن أنظر إلي تلك الحياة الشعبية من خلال منظار آخر هو التعبير عن الحياة الشعبية خلال المعاني‮ ‬الفلسفية الإنسانية فالفنان لا‮ ‬يأخذ من الواقع إلا القدر الذي‮ ‬يمكنه من الحصول علي ماده للتعبير عن نفسه وهو امتزاج الناحية الموضوعية بالناحية الذاتية فالحياة الشعبية من ناحيتها الروحية فيها جانب عاطفي‮  ‬وفيها جانب دراماتيكي‮  ‬ويظهر بوضوح في‮ ‬الحركات والانفعالات النفسية حتي في‮ ‬النواحي‮ ‬التي‮ ‬يبدو فيها المرح والزهور نجد في‮ ‬قرارها العميق رواسب كثيفة من المآسي‮ ‬والعقد الذي‮ ‬يغلفها ذلك المنظر حتي تبدو لنا في‮ ‬تعدد الألوان الصارخة والتركيبات الغامضة والعقائد الموروثة والمستوي المعيشي‮ ‬المرهق للأعصاب‮ .  ‬
وما علاقة ذلك بالغموض في‮ ‬الفن؟ إن الرمز الفني‮ ‬ليس كالرمز الرياضي‮ ‬أي‮ ‬أننا لا نستطيع أن نقارن الرمز الذي‮ ‬له مدلولات معترف بها بذلك الرمز الذي‮ ‬يمس محور الوجود والحياة؛ ولو أن الرموز الفلسفية‮ ( ‬وخاصة في‮ ‬الفنون الحديثة‮ ) ‬ولا‮ ‬ أقصد هنا الرمز بمعني الأشكال التي‮ ‬تمثل في‮ ‬الطبيعة ولكن الأشكال التجريدية أيضا قبل الخط واللون والمساحة‮ ‬ يمكن إيجاد مدلولات ومعادلات لها تماما كما في‮ ‬الجبر والهندسة وخاصة بعد أن تمكن علم النفس من الكشف عن كثير من النظريات التي‮ ‬توضح سلوك الإنسان وامكان اضطراد ذلك الكشف بالتعاون بين الناقد والفنان.ولكن تلك المدلولات الفنية الفلسفية تصبح قرينا مشابها ومماثلا للرمز الرياضي‮ ‬الذي‮ ‬يتناول الجزيئات في‮ ‬الحياة بينما الفن الرمزي‮ ‬يتناول الوجود كل مرتبط بالكيان والفكر الإنساني‮ ‬ويصبح الرمز الفني‮ ‬في‮ ‬هذه الحالة‮ ‬يحوي‮ ‬لتلك الرموز الجزئية منها الرياضيات وغيرها من التجارب والعلم وقد نشأ الغموض في‮ ‬الفن الحديث وهو‮ ‬غموض‮ ‬يتعلق بالوجود الأصلي‮ ‬للكائنات جميعها بالحياة والموت بالخير والشر بالمادة والروح ومن هنا كان إنتاجي‮ ‬يحوي‮ ‬رموزا شعبية في‮ ‬قالب ذلك المعني الفلسفي‮ ‬الذي‮ ‬تحدثنا عنه‮.‬
كما‮ ‬يضيف الجزار محللا الغموض في‮ ‬أعماله, ولماذا اتجه إليه‮: "‬إن الغموض في‮ ‬إنتاجي‮ ‬يحوي‮ ‬خلال تلك الأعمال التحليل‮ ‬ لأن الحياة الشعبية هي‮ ‬ذلك القالب الذي‮ ‬أفرغ‮ ‬فيه ذاتي‮ ‬لتتخذ ذلك الشكل الجديد‮ ‬ ليس فيه الوصف الصحفي‮ ‬أو السينمائي‮ ‬وإنما هو تحطيم الواقع إلي جزيئات وهذه الجزيئات تتخذ داخل الذات الخالقة لتبني‮ ‬نوعا جديدا وتركيبا آخر مثل‮ ‬غاز الأيدروجين الذي‮ ‬يتصاعد من تفاعل حامض الايدروكلوريك عند وضعه علي الرخام فهو موجود في‮ ‬المادة أصلا ولكنه شيء جديد له خواص أخري‮. ‬فأنا عندما أعيش في‮ ‬الحياة الشعبية بين ثناياها وأقلب صفحاتها وأفكر مع أفكارها تكون الذات مثل الأله التي‮ ‬تختزن فيها الزوايا الموافقة ويحصل نوع من التصفية ثم اندماج مع العقل الباطن حتي تتكون تلك الصورة الجديدة في‮ ‬ثوبها الرمزي‮ ‬الذي‮ ‬يشبه الغموض أما عن الغموض في‮ ‬الحياة الشعبية ذاتها فهو شيء في‮ ‬الحقيقة لا وجود له لأن كل فترة أو كل رمز أو كل عقيدة في‮ ‬الحياة الشعبية لابد أن لوجودها سببا ما ولابد أن لها أصولا ترد وحينئذ فلابد أن ذلك الغموض هو عند من لم‮ ‬يعرف خفايا الحياة الشعبية‮. ‬فمثلا الأحجبة التي‮ ‬تعلق علي الصدور أو الجباه إذا فتحتها وجدت بداخلها بعض آيات من القرآن تحوي‮ ‬معاني‮ ‬تتصل بالدعاء لمنع الشر‮ (‬مثل ومن شر حاسد إذا حسد‮) ‬أو بعض الرموز‮ (‬الخمسة وخميسة‮ ) ‬والخميسة هي‮ ‬تصغير للخمسة والتصغير للتأكيد في‮ ‬المفعول والقول والرقم خمسة له أصل في‮ ‬المثيولوجي‮ ‬القديم فهو‮ ‬يمنع الشر والحسد من الشر‮. ‬فهي‮ ‬أذن تمنع الشر‮. ‬والرقم‮ (‬7‮) ‬له اتصال بالعالم العلوي‮ ‬من‮ (‬السبع سماوات طباقا‮) ‬ولذلك فهم‮ ‬يستبشرون بالرقم‮ ‬7‮ ‬ وعادة وضع‮ (‬المنيعة‮) ‬السائلة وتصليبها علي عتبة الدار‮ ‬يمنع مفعول السحر لان السحر هي‮ ‬من الأشياء التي‮ ‬يمارسها‮ (‬كما‮ ‬يعتقدون‮) ‬الكافرون بالله فعندما‮ ‬يتخطي إنسان ذلك العلامة فكأنه قد داس علي مفعول السحر فلا‮ ‬يمتد أثره إلي داخل الدار وعادة‮ (‬حرق الأثر‮) ‬فهم عندما‮ ‬يحصلون علي قطعة من ثياب شخص ما‮ ‬يعزمون علية ببعض الكلمات فيذهب مفعول الشر الذي‮ ‬كان‮ ‬يضمره الحاسد أو‮ ‬غيرة‮ ‬ والمسألة أولا وقبل كل شيء بالتأثير النفساني‮ ‬الذي‮ ‬يتخذه من حقائق وتجارب مادية‮..‬
وكثير من هذه العقائد تتصل بمسائل روحانية صرفه أي‮ ‬أنها لا دخل لها بالدين مثل اعتقادهم في‮ ‬تناسخ الأرواح وهم‮ ‬يستعينون بالزار والضحايا لطرد الأرواح الشريرة التي‮ ‬تسبب الأمراض والعقد النفسية‮.                                    ‬
ويتبدي مفهوم الجزار هذا عن البيئة الشعبية وتفهمه لها في‮ ‬أعمال كثيرة امتزج فيها الإبداع النثري‮ ‬بالشاعري‮ ‬باللوني‮ ‬مثل لوحة‮ :‬عاشق من الجن التي‮ ‬تبدو كجدارية فرعونية مصرية قبطية اسلامية في‮ ‬تمازج فريد‮:‬

عاشق من الجن تايه في‮ ‬بحور ويصن
يغسل ذنوبه في‮ ‬تراب العمر
طالع ع الفاضي
وتحت منه بير
نصه الفوقاني‮ ‬جبس
مزروع في‮ ‬وادي‮ ‬النوم
نوم الصبايا ويا وحيد القرن
نوم التروس جوه عروق الزان
وجلد راسه قحف
ولع بنار الصبر
وجنب منه‮ ‬غفير
ربي‮ ‬صغار وكبار
فايه ورا فايه
يرموا علي‮ ‬سلام
دار السلام في‮ ‬سلام
عليها ألف سلام
وكذلك في‮ ‬لوحة مواليد عرايا

مواليد عرايا
مواليد عراي‮ ‬وعذاري‮ ‬بتتخلق
سندس قفاطينة محبوكة شراشيبها
كوالين شفايفة تتعشق في‮ ‬أنفاسة
خرجه من الجوف بتتغربل براكينة
يفضل‮ ‬يبك الروح أزاي‮ ‬منين الروح جايه
شغل الكلام‮ ‬يا سلام عليه محسوب
اللي‮ ‬اتجمع سر الوجودله وجود
داير علي القلب والسمع حبه وعاش





ويتنقل الجزار بقدرة إبداعية وبفهم ووعي‮ ‬أولاً‮ ‬لأدواته التي‮ ‬يبدع بها وكذلك ببيئته التي‮ ‬يعيد إنتاجها في‮ ‬أعمالها والتي‮ ‬هي‮ ‬أيضاً‮ ‬البيئة التي‮ ‬ينتج لها إبداعه فنجده في‮ ‬النثر كما في‮ ‬الزجل كما في‮ ‬الشعر كما في‮ ‬رصد الأحلام مبدعاً‮ ‬علي قدر كبير من التمكن والوعي‮ ‬برسالته كفنان دونما الوقوع في‮ ‬أسر التنظير أو التعقيد بل تتسم أعماله بالبساطة الشديدة ومن ثم الوضوح‮ ‬

1
أخذت أجري‮ ‬وراء طائر صغير أبو فصادة وأقذفه بالحجارة لأقتله ولكنه كان في‮ ‬كل مرة‮ ‬يطير ويختبئ وأخيرا تربصت له وراء شجرة إلي‮ ‬أن اقترب هذا الطائر من سور حديقة منزل وقذفته بحجر لا أدري‮ ‬إذا كانت أصابته أم لا ولكنني‮ ‬هجت عليه و أمسكته بيدي‮ ‬وهو طائر وضغطت عليه حتي كاد‮ ‬يتهشم في‮ ‬قبضتي‮ ‬وقد قدم إليه أخي‮ ‬محمد طعاما ذرة فكان هذا الطائر‮  ‬الذي‮ ‬كبر حجمه مثل الدجاجة‮ ‬يأكل بينهم وقد لاحظت أن رقبته مقطوعة ولكنه مع ذلك كان‮ ‬يأكل‮ .‬

2
كنت أستحم في‮ ‬بحر مع عدد من الناس تحيط بي‮ ‬الصخور والأعشاب وفجأة وجدت بعض الناس‮ ‬ وهم‮ ‬يبعدون عني‮ ‬بمسافة كبيرة مشغولون بالبحث عن شخص‮ ‬غريق‮ ‬ وشعرت بعدم الرغبة في‮ ‬البحث معهم وخرجت من الماء مهرولا وأخذت أجري‮ ‬و أجري‮ ‬وكان‮ ‬يطاردني‮ ‬كلب متوحش مثل الذئب‮  ‬وكنت أضربه وأخيرا دخلت في‮ ‬كوخ وأحكمت‮ ‬غلق الباب والمنافذ حتي لا‮ ‬يدخل علي‮ ‬أحد وبينما أنا منشغل في‮ ‬تغيير ملابسي‮ ‬إذا بالشخص الغريق‮ ‬يدخل علي‮ ‬فجأة ويقول أنا الذي‮ ‬كنت‮ ‬غريقا

3
كنت أستحم في‮ ‬بحر مع عدد من الناس تحيط بي‮ ‬الصخور والأعشاب وفجأة وجدت بعض الناس‮ ‬ وهم‮ ‬يبعدون عني‮ ‬بمسافة كبيرة مشغولون بالبحث عن شخص‮ ‬غريق‮ ‬ وشعرت بعدم الرغبة في‮ ‬البحث معهم وخرجت من الماء مهرولا وأخذت أجري‮ ‬و أجري‮ ‬وكان‮ ‬يطاردني‮ ‬كلب متوحش مثل الذئب‮  ‬وكنت أضربه وأخيرا دخلت في‮ ‬كوخ وأحكمت‮ ‬غلق الباب والمنافذ حتي لا‮ ‬يدخل علي‮ ‬أحد وبينما أنا منشغل في‮ ‬تغيير ملابسي‮ ‬إذا بالشخص الغريق‮ ‬يدخل علي‮ ‬فجأة ويقول أنا الذي‮ ‬كنت‮ ‬غريقا

4
كنت أجلس في‮ ‬حجرة بها أزهار ملونة كثيرة وهي‮ ‬مجموعات‮ ‬وكانت تجذبني‮ ‬فيها المجموعة البنفسجية وكانت توجد أختي‮ ‬أمنية بنفس الحجرة وقد نبهتها عندما كانت تمشي‮ ‬بالحجرة لئلا تدوس بقدمها في‮ ‬قارب الفول الثابت الذي‮ ‬كان موضوعا علي‮ ‬الأرض ولكن رغم ذلك التنبيه انغمس كعب قدمها في‮ ‬هذا الطبق‮ .‬



محمد حسان
ابن الكلاب‮ ‬1953

ابن الكلاب النحس

ابن الكلاب النحس
ابن العبيد الحمر
واطي‮ ‬الجبين والخد
رمز لزمانه ندل
عايش لنفسه بس
ماسح بزروه كبش
عامل لنفسه عرش
فوق الترعة والزرع
نازل في‮ ‬دينه حرق
سبع شواشي‮ ‬سود
زي‮ ‬الغراب النوح
تنعي‮ ‬الخير في‮ ‬البر
أما سليم الكف
واخد علي‮ ‬عهد
نطوي‮ ‬عهود الظلم


البين

كويت ايدي‮ ‬بايدي‮ ‬لما دريت بالنار
شط البحور مرقدي‮ ‬والموج بنالي‮ ‬دار
من صغر سني‮ ‬وأنا ريس علي‮ ‬الأبحار
أشخلع مع الموج وألعب مع التيار
البين عملي‮ ‬جمل وإندار عمل جمال
لوي‮ ‬خزامي‮ ‬وشيل تقلي‮ ‬الحمال
قولتلوا‮ ‬يا بين هو الحمل التقيل‮ ‬ينشال
قالي‮ ‬يا جدع أمشي‮ ‬خطاوي‮ ‬خطاوي
وكل عقده لها عند الكريم حلال


خايف أموت

كتبت كتابات من‮ ‬غير حبر بمعاني
ومدحت في‮ ‬الزين جيتني‮ ‬الناس بمعاني
وسافرت في‮ ‬الغيب لا زاد ولا مي
والرزق بالله لا بعشرة ولا بمية
أنا خايف أموت‮ ‬يموت الفن قبلية
تحزن عليا الظنايا الكل بمعاني




الماضى والحاضر والمستقبل‮ ‬1951‮ ‬

دكان الحلاق

دخلت دكان الحلاق بعد أن‮ ‬غبت عنه هذه المرة أكثر من شهر حتي طال شعر رأسي‮ ‬من الجانبين ومن القفا لدرجة ملحوظة‮. ‬وكان محمد صبي‮ ‬الأسطي‮ ‬الحلاق هو الذي‮ ‬يعرف سر شعري‮ ‬واتجاه المقص بداخله حتي‮ ‬يعيده إلي‮ ‬حالته الطبيعية وجلست أنتظر دوري‮ ‬وأهش الذباب الذي‮ ‬تراكم عند باب الدكان بمجلة الصباح التي‮ ‬رماها إلي‮ ‬الصبي‮ ‬لأقتل بها الوقت وأخذت أقلبها في‮ ‬كسل لعلي‮ ‬أعثر فيها علي خبر مهم‮ ‬يذهب عني‮ ‬مضايقة الذباب ورائحة الزبائن‮.‬
ووقع بصري‮ ‬علي‮ ‬هذه الجملة‮ (‬مسابقة القصة‮) ‬وقرأت تفاصيلها في‮ ‬غير اهتمام ودارت في‮ ‬رأسي‮ ‬فكرة الاشتراك في‮ ‬المسابقة ولكن قلت لنفسي‮ ‬أنت لست كاتبا أو قصاصا إنك رسام وفنان بالألوان والخطوط وطريقة تعبيرك هي‮ ‬الصورة لا الكتابة‮ ‬ والكتابة لها خبازوها كما أن التصوير والرسم والموسيقي‮ ‬كل له مبدعه الذي‮ ‬تخصص فيه فمن العبث أن تحاول الكتابة وتضحك الناس عليك وأي‮ ‬كتابة ؟‮! ‬إنها قصة وليست كتابة خطاب إلي‮ ‬صديق أو مذكرة بشأن طلب ترقية من وزارة المعارف فارم عنك هذه الفكرة ولا تزج بنفسك فيما لا‮ ‬يعنيك‮. ‬وحينئذ انتهي‮ ‬زبون وجلس زبون آخر بعد أن عزم علي‮ ‬فقطع حبل تفكيري‮ ‬في‮ ‬موضوع المسابقة ولكن الأمر كان هينا فهذا زبون‮ ‬يريد تنظيف ذقنه فقط من شعرها الكثيف وعاودتني‮ ‬فكرة المسابقة وكتابة القصة فقلت لماذا لا‮ ‬يكون الإنسان كاتبا ورساما ولماذا لا‮ ‬يكون أكثر من ذلك موسيقيا مثلا أو شاعرا أو‮ ‬غيره ولماذا لا‮ ‬يجمع صفات معينة داخل نفسه،‮ ‬أليست كل الفنون مرتبطة ارتباطا وثيقا ببعضها البعض؟
أليست منابع الإلهام الفني‮ ‬واحدة في‮ ‬كل الأشياء ؟ وهل الإنسان خلق وعليه ختم أحمر أو أزرق بنوع موهبته إذا كانت هناك موهبة ؟
فلماذا لا تحاول هذه المرة؟
وبفرض إنك أخفقت فماذا ستخسر ؟ لا شئ أما إذا كان لك حظ وأنت من الفائزين فسوف‮......‬
وعندئذ انتهي‮ ‬الزبون الثاني‮ ‬وجاء دوري‮.‬
فقلب الصبي‮ ‬الوسادة وحرك المقعد ودخلت فيه ثم استدار وفرش الفوط حول رقبتي‮ ‬وجسدها فوق‮  ‬صدري‮ ‬وأخذت أنظر في‮ ‬المرآة إلي‮ ‬شكلي‮ ‬لعلي‮ ‬أجد فيه شيئا جديدا ولكن للأسف لم أجد شيئا‮.‬
وكل مرة‮ ‬ينظر فيها الإنسان لا‮ ‬يجد شيئا جديدا ولكن من أين إذا هذا التغير الذي‮ ‬طرأ علينا منذ أن كنا أطفالا صغارا ننظر في‮ ‬المرآة حتي صارت لنا هذه الذقون وهذه التجاعيد‮.‬
آه إنه الزمن الذي‮ ‬لا نحس به‮. ‬فالذي‮ ‬لا‮ ‬ينظر في‮ ‬المرآة أبدا هو الذي‮ ‬لا‮ ‬يشعر بالزمن أما الذي‮ ‬ينظر دائما في‮ ‬المرآه فسوف لا‮ ‬يحس بالزمن لأن سحنته تتغير تغيرا بطيئا والتغير البطيء لا وجود له في‮ ‬الحالة النفسية عند الإنسان والحيوان ولكن له وجود في‮ ‬العقل وعند العلماء والتجار والمشتغلين بالسياسة‮. ‬وقطع الصبي‮ ‬حبل تفكيري‮ ‬عندما سألني‮ ‬عن كمية الشعر التي‮ ‬أريد إزالتها فقلت له هذه مهنتك وأنت حر تصرف في‮ ‬رأسي‮ ‬كما شئت ولكن بشكل فني‮ ‬أليس هذا هو اختصاصك؟
وعاودتني‮ ‬فكرة المسابقة مرة أخري‮ ‬وكيف أنني‮ ‬كنت في‮ ‬هذه المرة أفكر في‮ ‬الحظ عندما أفوز في‮ ‬المسابقة وينشر اسمي‮ ‬وقصتي‮ ‬ويقرؤها آلاف الناس ويستمتعون بها ويتعجبون لها ليس هذا فقط وإنما حتما سأحصل علي‮ ‬فوائد مادية وعندئذ أستطيع أن أجمع هذا المبلغ‮ ‬وأضعه علي‮ ‬العشرين جنيها التي‮ ‬اقتصدتها في‮ ‬ثلاثة أعوام من مرتبي‮ ‬كمدرس بالفنون‮.‬
إذن فهو مهر كامل أستطيع الزواج به وكنت في‮ ‬كل مرة أفكر فيها في‮ ‬الزواج تنتابني‮ ‬حمي‮ ‬شديدة من المهر وأتراجع حتي‮ ‬يعدلها المولي‮ ‬الكريم إذن فهي‮ ‬فرصتك فتقدم بالقصة‮. ‬ودخل زبون جديد وقال نعيما مقدما فقلت أنعم الله عليكم‮ ‬يا سيدي‮. ‬وجلس الزبون في‮ ‬ركن وتناول مجلة الصباح التي‮ ‬كنت قد وضعتها بجانبي‮ ‬وأخذ‮ ‬يقلبها وينظر إلي‮ ‬صورة الممثلة التي‮ ‬علي‮ ‬الغلاف‮. ‬أه إنها جميله ولكن دمها ارد وألقي‮ ‬بالمجلة ثم أخذ‮ ‬يهش الذباب ويلعن الصبي‮ ‬لإهماله وعدم تنظيف الدكان بالماء‮ (‬والفنيك‮) ‬وانتهي‮ ‬الصبي‮ ‬من رأسي‮ ‬وأخذ‮ ‬يلطخ الصابون علي‮ ‬صدغي‮ ‬وذقني‮ ‬وسن الموس ويقلبه علي‮ ‬شريط من الجلد وعاودتني‮ ‬فكرة القصة وقلت لنفسي‮ ‬هذه المرة تشجع وأكتب قصتك‮.‬
وأخذت أفكر أي‮ ‬قصة سأكتب لقد جاءت القصة وأخذت صور كثيرة من الحياة تمر أمام خاطري‮ ‬بعضها واقعي‮ ‬لدرجة الخيال وبعضها خيالي‮ ‬لدرجة الحقيقة‮. ‬أأكتب عن الناس ونفوسهم وعلاقاتهم وطبائعهم أأكتب عن الحياة ومآسيها حلوها ومرها‮.‬
هل‮ ‬يستطيع إنسان أن‮ ‬ينسي‮ ‬ما‮ ‬يدور داخل البيوت والمستشفيات والمصالح الحكومية‮. ‬هل‮ ‬يقدر بطل أن‮ ‬يتحدي المدنية التي‮ ‬يعيش فيها ويفر إلي‮ ‬الصحراء لينجو من فوضي‮ ‬المواصلات‮. ‬إن العالم‮ ‬يدور والحرب الباردة لا تبرد بين الكتلتين والدول الصغيرة تريد أن تحنو عليها وتدثرها حتي لا‮ ‬يصيبها هذا البرد‮ ‬ أين العاطفة والإنسانية أين الرجولة والكرامة‮ ‬ أين الديموقراطية الحقة أين الوعود أين‮... ‬أين‮ ‬
أين القصة‮.‬
نعيما هكذا واستيقظت علي‮ ‬هذه الكلمة
أنعم الله عليكم
ودفعت له الحساب وذهبت إلي‮ ‬منزلي‮ ‬وأنا أفكر في‮ ‬القصة وتذكرت أنها لا بد أن تكون قصة وطنية ترمز إلي‮ ‬التضحية وإنكار الذات وفي‮ ‬هذه اللحظة ركبني‮ ‬شعور‮ ‬غريب أخذ‮ ‬يتسلل إلي‮ ‬سراديب نفسي‮ ‬وضحكت ولكن من داخل عظامي‮ ‬وشراييني‮ ‬ولو اجتمع علماء النفس من جميع بقاع الأرض ليفسروا هذا الشعور ومعني‮ ‬هذه الضحكة لباءوا جميعا بالفشل‮. ‬ولكن الحقيقة هو أنني‮ ‬أحسست في‮ ‬تلك اللحظة معني‮ ‬الوطنية وإنكار الذات‮.‬
أحسست هذا المعني‮ ‬ولكن من عمق وتجريد‮. ‬أدركت أن الوطنية وإنكار الذات هما أن‮ ‬يكون الفرد إنسانا والإنسانية هي‮ ‬أن‮ ‬يحب الإنسان كل ما حوله من جماد ونبات وحيوان وإنسان‮. ‬أدركت أن الإنسان خلق في‮ ‬هذا الوجود ليحب لا ليكره ويبغض وهذا الحب مقرون بالعمل والإخلاص من أجل الواحد من أجل الله سبحانه وتعالي‮.‬




الجزار وهو‮ ‬يرسم لوحة الماضى والحاضر والمستقبل

وينتقل قلم وريشة الجزار معه في‮ ‬كل مكان حتي في‮ ‬نومه وفي‮ ‬أحلامه وفي‮ ‬غرفة العمليات حيث‮ ‬يصور ماحوله قبل دخوله لإجراء عملية دقيقة بالقلب‮:‬

جمعتنا نحن الخمسة‮ ‬غرفة أو عنبر واحد في‮ ‬قسم الجراحة بمستشفي الجمعية الخيرية عندما دخلت كان لا‮ ‬يوجد منهم الا اثنان فقط أخذا‮ ‬يحملقان وينتظران التحية،‮ ‬فادركتهم بالسلام عليكم
ولم أتفرس في‮ ‬شخصهما لحين استعدادي‮ ‬لاتخاذ سرير في‮  ‬الركن
كان أحدهما طاعن في‮ ‬السن وأسود والآخر طاعن في‮ ‬الاسمرار وصغير
واخذت مكاني‮ ‬علي السرير وأخذت أقلب الصحيفة وألاحظهما من جنب ومن أعلي حافة‮  ‬الجريدة ورأيت عم علي‮ ‬يلف حول رأسه الأسود عمامة بيضاء ذات شال أبيض طويل‮ ‬يتدلي علي كتفيه بعد أن أخذ جملة حلقات حول رأسه ورقبته وكان‮ ‬يضع عصاه التي‮ ‬يتعكز عليها علي حافة السرير‮.‬
ورأيته وهو‮ ‬يمسك قدمه الملفوفة ويتألم ويتأوه محركا ساقيه في‮ ‬الهواء وضاربا كفا علي كف تارة ومطوحا برأسه ذات اليمين وذات الشمال مثل بندول الساعة تارة أخري
وقد ظهرت علي عينيه المصفرتين وعلي أنفه الأفطس دلائل الألم وهو‮ ‬يأخذ نفسه وينفخه علي طرف قدمه الملفوف ويجر جسمه تارة في‮ ‬ركن من السرير وتارة أخري‮ ‬يعكس وضعه بالنسبة للسرير ويجعل قدميه تحت الوسادة حتي لا‮ ‬يجعل نفسه‮ ‬يشعر بالألم من جراء الوضع الطبيعي‮ ‬تمام كما‮  ‬تفعل النعامة عندما تدفن رأسها في‮ ‬الرمال‮.‬
وسألت عم علي‮ ‬ماذا بك فانفجر‮ ‬يتكلم بلغة قناوية اخذت التقط منها ما هو شائع واخذ‮ ‬يتمتم ويقول عملية في‮ ‬الصباع ده ستة شهور‮. ‬
الدكتور الهجان وعامر و و و وأخذ‮ ‬يعد أسماء بعض الاطباء الذين قاموا باجراء هذه العملية له ثم قال‮ : ‬أصله نقطة دفشت في‮ ‬العضم‮  ‬وخلاص‮ ‬
وأخذ‮ ‬يسير ملوحا اصبعه من بعيد علي قدمه الملفوف‮ ‬
كان نشف‮ ‬ شال القشرة‮ ‬ الدكتور كب عليه الدوا قام شعوطه
يابا‮ ‬يابا‮ ‬يابا
واستمر علي هذه الحال طول الليل ولم‮ ‬ينم الا عندما حضرت الممرضة وحقنته بمخدر‮- ‬أما المريض الثاني‮ ‬فراقبته مطروحا علي الفراش ولا‮ ‬يكاد‮ ‬يظهر له حس سوي عينين براقتين وسط وجهه‮ .‬
أما الرجل نفسه فقد حضر من طرف الشركة لتجري له عملية في‮ ‬العينين ولم‮ ‬يدفع شيئا لأنه تابع للشركة والمستشفي‮ ‬يحاسب الشركة‮.‬
أما أنا فموظف في‮ ‬الحكومة واضطررت لدفع خمسة جنيهات في البداية ودفعت ثمن العملية وجميع أثمان الأدوية وندبت حظي اذ لم أكن موظفا في‮ ‬شركة حتي أعالج مجانا‮.‬
وقد كان عم علي‮ ‬أيضا خفير شركة بالسويس ولذلك فهو لم‮ ‬يدفع مليما واحدا،‮ ‬وفي‮ ‬الساعة السادسة صباح‮ ‬يوم الأحد حضر تمورجي‮ ‬،‮ ‬قمت باجراء عملية‮ ‬غسيل للبطن استعدادا للعملية،‮ ‬وحضرت نقالة،‮ ‬وقلت للتمورجي‮ ‬إنني‮ ‬أستطيع أن أمشي‮ ‬علي قدمي‮ ‬لغاية‮ ‬غرفة العمليات ولكنه رفض،‮ ‬واستلقيت علي النقالة بعد أن أخذت محفظتي‮ ‬التي‮ ‬بها النقود في‮ ‬جيب البيجامة ومنديل ومشط،‮ ‬وعند مروري‮ ‬بباب العنبر حقنتني‮ ‬احدي السسترات بحقنة في‮ ‬الذراع علمت فيما بعد انها لتنشيف الريق،‮ ‬وصعدنا للدور الثاني‮ ‬داخل المصعد وأنا ممدد فوق النقالة،‮ ‬وطلب مني‮ ‬التمورجي‮ ‬وهو‮ ‬يدفع النقالة الي‮ ‬غرفة العمليات أن أسلمه الساعة والمحفظة،‮ ‬التي‮ ‬في‮ ‬جيبي‮ ‬فقلت له إن بها فلوس العملية وسأعطيها للدكتور أما الساعة فقد سلمتها اليه ونظرت الي‮ ‬يدي‮ ‬فوجدت أن جلد الساعة لا‮ ‬يزال له أثر ربطة علي الجلد وتاركا مكانا أبيض حول معصم اليد‮ ‬،‮ ‬وفي‮ ‬الردهة وجدت دكتور البنج الذي‮ ‬اختبرني‮ ‬قبل ذلك بيوم لمعرفة مدي احتمال القلب لتأثير المخدر وقاس ضغط الدم أيضا وكان دكتورا ظريفا‮ .‬ منقول من أخبار الأدب