الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

آلان باديو مدح الحب



‮ ‬ ت‮: ‬غادة الحلوانى

 ‬دراما الحب هي‮ ‬أكثر الخبرات حدة في الصراع بين الهوية والاختلاف

العدو هو الشخص الذي لن تدعم أي قرار‮ ‬يتخذه بشأن‮ ‬ من شؤونك

لابد من فصل الحب فصلاً‮ ‬تاماً‮ ‬عن السياسة،‮ ‬باعتباره مغامرة فردية في السؤال‮ ‬ عن الحقيقة حول الاختلاف

حبي للمسرح معقد جداً‮ ‬ويعود إلي زمن طويل‮. ‬لعله أكثر قوة من حبي‮ ‬للفلسفة

يجب أن‮ ‬يضع الفيلسوف في‮ ‬اعتباره أنه لا‮ ‬يختلف عن أي‮ ‬شخص آخر في‮ ‬مواجهة ظروف الحياة العديدة‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬إن حدث ونسي،‮ ‬سوف‮ ‬يذكره بقسوة التقليد المسرحي،‮ ‬خاصة الكوميدي‮ ‬منه،‮ ‬بهذه الحقيقة‮. ‬ففي‮ ‬نهاية المطاف‮ ‬يقدم التقليد المسرحي‮ ‬شخصية قديمة وهي‮ ‬الفيلسوف مغرما،‮ ‬الذي‮ ‬تتبخر كلية حكمته الرواقية وعدم ثقته الكاملة في‮ ‬الحب لحظة أن تكتسح امرأة فاتنة مدوخة الغرفة فتعصف به للأبد‮. ‬لقد أدركت هذا منذ زمن بعيد‮. ‬وطرحت أن الفيلسوف‮ ( ‬وتحت هذه الكلمة التي‮ ‬تضمن الحياد،‮ ‬أعني‮ ‬كذلك بديهيا،‮ ‬الفيلسوفة‮) ‬يجب أن‮ ‬يكون عالما بارعا وشاعرا هاو وناشطا‮  ‬سياسيا،‮ ‬بل وعليه أن‮ ‬يقبل حقيقة أن حقل الفكر ليس ممهورا أبدا أمام انقضاضات الحب‮. ‬العالم والفنان والناشط والحبيب،‮ ‬هذه هي‮ ‬الأدوار التي‮ ‬تقتضيها الفلسفة من ممارسها‮. ‬لقد أسميتهم‮  ‬الحالات الأربع للفلسفة‮. ‬ولهذا وافقت فورا حين دعاني‮ ‬نيقولا ترونج إلي‮  ‬عقد حوار عام معه‮  ‬عن الحب،‮ ‬ضمن سلسلة‮  " ‬مسرح الأفكار‮" ‬الذي‮ ‬ينظمها مع مهرجان افينيون‮. ‬بدا لي‮ ‬هذا المزج بين المسرح والجمهور والحوار والحب والفلسفة كوكتيل مُسكِر‮. ‬علاوة علي ذلك،‮ ‬كان من المقرر أن‮ ‬يعقد في‮ ‬14‮ ‬يوليو‮ ( ‬2008‮)‬،‮ ‬وأبهجني‮ ‬أن نحتفل بالحب‮- ‬هذه الطاقة الكوزموبوليتانية والملتبسة والجنسية التي‮ ‬تتخطي الحدود والوضع الاجتماعي‮ ‬معا عوضا عن أن نحتفل بالجيش والأمة والدولة‮. ‬تخايلنا قليلا‮: ‬يلعب نيقولا دور المحاور وأنا ألعب الدور الغامض لفيلسوف الحب،‮ ‬لقد عملنا جيدا معا ونجحنا‮. ‬وأقول بدون‮ ‬تردد‮:  ‬حققنا انتصارا عظيما‮.‬

الحب والسياسة

 ‬لماذا السياسة هي‮ ‬والدة الحب‮. ‬هل لأن السياسة تشمل الأحداث والاعلانات والولاءات كذلك؟

من وجهة نظري‮ ‬تشكل السياسة اجراء حقيقي،‮ ‬لكنه الاجراء الذي‮ ‬يتمركز حول الجمعي‮. ‬أعني‮ ‬أن الفعل السياسي‮ ‬يختبر حقيقة ما‮ ‬يقدر علي انجازه الجمعي‮. ‬علي سبيل المثال،‮ ‬هل تستطيع السياسة‮  ‬تحقيق المساواة؟ هل تستطيع أن تدمج ما هو لامتجانس/متغاير؟ هل تعتقد أنه لا‮ ‬يوجد إلا عالم واحد فقط؟ أشياء من هذا القبيل‮. ‬يمكن تصنيف السياسة في‮ ‬السؤال التالي‮: ‬ماذا‮ ‬يستطيع الأفراد عمله حين‮ ‬يلتقون،‮ ‬وينتظمون،‮ ‬ويفكرون ويقررون؟ في‮ ‬الحب،‮ ‬يتعلق الأمر بمعرفة ما إذا كانا،‮ ‬كشخصين،‮ ‬قادرين علي التعامل مع الاختلاف وجعله خلاقا‮. ‬في‮ ‬السياسة،‮ ‬يتعلق الأمر بمعرفة إذا كان عدد من الناس،‮ ‬كتلة من الناس في‮ ‬الحقيقة،‮ ‬يمكنها الابداع علي قدم المساواة‮. ‬وكما توجد العائلة علي مستوي الحب لكي‮ ‬تمارس اجتماعيا تأثيره،‮ ‬فعلي مستوي السياسة توجد السلطة‮- ‬الدولة،‮ ‬لكي‮ ‬تقمع حماسه‮. ‬يوجد بين السياسي،‮ ‬باعتباره الجمعي‮ ‬الفكري‮-‬العملي‮ ‬وقضية السلطة أو الدولة باعتبارها‮  ‬تنظيم وادارة،‮ ‬العلاقة ذاتها الصعبة التي‮ ‬توجد بين قضية الحب باعتباره ابتكار بدائي‮ ‬لاثنين وبين العائلة باعتبارها النواة الأساسية للملكية والأنوية‮. ‬

أساسا،‮ ‬لو انك تلعب بكلمة‮ " ‬الدولة‮ (‬دال الدهر‮ : ‬انقلب من حال إلي حال‮)  ‬يمكن أن تعرّف العائلة بدولة/حالة الحب‮. ‬فعلي سبيل المثال،‮ ‬حين تشارك في‮ ‬حركة جماهيرية سياسية كبري تختبر التوتر الدال عينه بين السؤال عن‮ " ‬ما الذي‮ ‬يقدر عليه الجمعي؟‮" ‬والسؤال عن قوة الدولة وسلطتها‮. ‬النتيجة هي‮ ‬أن الدولة علي وشك‮  ‬خيانة الأمل السياسي‮ ‬تقريبا‮. ‬هل أنا بحاجة إلي أن أؤكد الأن علي أن العائلة دائما علي وشك‮  ‬خيانة الحب؟ تري أننا‮ ‬يجب طرح هذا السؤال‮. ‬في‮ ‬رأيي‮ ‬أن العائلة لا تتعامل إلا‮  ‬نقطة بعد نقطة وقرارا بعد قرار‮. ‬يوجد نقطة الاختراع الجنسي،‮ ‬ونقطة الطفل،‮ ‬ونقطة الرحلات،‮ ‬ونقطة العمل والأصدقاء وليالي‮ ‬السمر والاجازات،‮ ‬وأيا كان‮. ‬وقصر كل هذه النقاط‮  ‬علي عنصر إعلان الحب ليست مسألة سهلة‮. ‬بالمثل في‮ ‬السياسة،‮ ‬توجد نقاط لسلطة الدولة والجبهات السياسية والقوانين والبوليس وليس سهلا أبدا قصرها علي وجهة نظر سياسية مفتوحة ثورية تعتنق المساواة‮.‬

في‮ ‬الحالتين،‮ ‬لدينا إذن اجراءات نقطة بنقطة وتشكل قاعدة طرحي‮ ‬في‮ ‬مواجهة صديقي‮ ‬المتدين‮. ‬لا تخلط الاختبار مع النهاية‮. ‬فمن المحتمل ألا‮ ‬يتم ادراك السياسة بدون الدولة،‮ ‬لكن هذا لا‮ ‬يعني‮ ‬أن القوة هدفها‮. ‬هدفها هو أن تكتشف ما الذي‮ ‬يقدر عليه الجمعي،‮ ‬وليس القوة ذاتها‮. ‬بالمثل،‮ ‬الهدف في‮ ‬الحب هو اختبار العالم من وجهة نظر الاختلاف،‮ ‬نقطة بنقطة،‮ ‬وليس ضمان فقط انتاج النوع‮. ‬سوف‮ ‬يجد الأخلاقي‮ ‬المرتاب تبريرا لتشاؤمه في‮ ‬العائلة،‮ ‬بأنها دليل علي أن الحب في‮ ‬نهاية المطاف خدعة ببساطة لضمان انتاج النوع وخدعة المجتمع لضمان توارث الميزات‮. ‬لكني‮ ‬لن أقبل فرضيته‮. ‬كما لن أقبل وجهة نظر صديقي‮ ‬بيناروش بأن الخلق الرائع لقوة الاثنين التي‮ ‬يولدها الحب‮ ‬يرتبط بالانحناء أمام عظمة الواحد في‮ ‬النهاية

لماذا اذن لا تستطيع تصور‮ " ‬سياسة الحب‮" ‬كما رسم جاك لاكان خطوط‮ " ‬سياسة الصداقة‮"*‬؟

لا أعتقد أنك تستطيع خلط الحب مع السياسة‮. ‬في‮ ‬رأيي،‮ " ‬سياسة الحب‮" ‬تعبير بلا معني‮. ‬أعتقد أنه حين تبدأ في‮ ‬قول‮ " ‬أحبوا بعض‮"‬،‮ ‬قد‮ ‬يؤدي‮ ‬هذا إلي نوع ما من الأخلاق،‮ ‬لكن لن‮ ‬يؤدي‮ ‬إلي أي‮ ‬نوع من السياسة‮. ‬أولا،‮ ‬في‮ ‬السياسة‮ ‬يوجد أفراد لا‮ ‬يستطيع أحد أن‮ ‬يحبها‮. ‬هذا لا‮ ‬يمكن انكاره‮. ‬لا‮ ‬يستطيع أي‮ ‬شخص أن‮ ‬يتوقع منا أن نحبهم‮.‬

إذن علي عكس الحب،‮ ‬تدور السياسة حول المواجهة بين الأعداء؟

حسنا،‮ ‬تعرف أنه،‮ ‬في‮ ‬الحب،‮ ‬مع الاختلاف المطلق الذي‮ ‬يوجد بين الفردين،‮ ‬احدي أكبر الاختلافات التي‮ ‬يستطيع المرء تخيلها،‮ ‬مع معطي أنه اختلاف لانهائي،‮ ‬يمكن للقاء،‮ ‬والإعلان والولاء أن‮ ‬يحولوا هذا الاختلاف إلي وجود ابداعي‮. ‬لاشيء من هذا القبيل‮ ‬يمكن أن‮ ‬يحدث في‮ ‬السياسة بالنسبة للتناقضات الأساسية،‮ ‬وواقع أنه‮ ‬يوجد في‮ ‬الحقيقة أعداء معينين تعيينا واضحا‮. ‬إحدي القضايا المركزية في‮ ‬الفكر السياسي‮ ‬هي‮ ‬قضية الأعداء،‮ ‬ومن الصعب جدا التعامل معها اليوم؛ جزئيا بسبب الاطار الديموقراطي‮ ‬الذي‮ ‬نشتغل ضمنه‮. ‬إن القضية هي‮: ‬هل‮ ‬يوجد أعداء؟ أعني‮ ‬بهذا أعداء حقيقيون‮. ‬الشخص الذي‮ ‬تقبله،‮ ‬حزينا وممتعضا،‮ ‬الذي‮ ‬يصل إلي السلطة دوريا،‮ ‬لأن الكثير من الناس صوتوا له ليس هو العدو الحقيقي‮. ‬هذا الشخص‮ ‬يزعجك وجوده علي رأس الدولة لأنك كنت تفضل‮ ‬غريمه‮. ‬وسوف تنتظر دورك،‮ ‬خمس سنوات أو عشرة أو أكثر‮. ‬العدو‮: ‬هذا شيء آخر‮! ‬إنه الشخص الذي‮ ‬لن تدعم أي‮ ‬قرار‮ ‬يتخذه بشأن من شؤونك‮. ‬إذن،‮ ‬هل‮ ‬يوجد عدو حقيقي‮ ‬أم لا؟‮  ‬يجب أن‮ ‬يكون هذا السؤال نقطة انطلاقنا‮. ‬في‮ ‬السياسة،‮ ‬هذه قضية هامة للغاية واعتدنا أن ننحيها جانبا سريعا‮. ‬في‮ ‬الحب،‮ ‬تصبح قضية العدو‮ ‬غريبة كلية‮. ‬في‮ ‬الحب،‮ ‬قد تقابل عوائقا،‮ ‬قد تغمرك الدراما الداخلية،‮ ‬لكن في‮ ‬الحقيقة لا‮ ‬يوجد أعداء في‮ ‬الحب‮. ‬قد‮ ‬يعترض شخصا ما قائلا‮: ‬ماذا عن‮ ‬غريمي؟ الشخص الذي‮ ‬يفضلة حبيبي‮ ‬عليّ؟ حسنا،‮ ‬هذه مسألة مختلفة اختلافا كليا‮. ‬في‮ ‬السياسة،‮ ‬يصبح الصراع مع العدو هو الفعل‮. ‬يشكل العدو جزء من جوهر السياسة‮. ‬تعرّف السياسة الحقيقية عدوها الحقيقي‮. ‬من ناحية أخري،‮ ‬يظل الغريم خارجيا تماما،‮ ‬فهو ليس جزء من تعريف الحب‮. ‬في‮ ‬هذه النقطة اختلف جذريا مع هؤلاء الذين‮ ‬يعتقدون أن الغيرة عنصر مكون من عناصر الحب‮. ‬وأكثر من‮ ‬يجسد هذا تجسيدا عبقريا بروست،‮ ‬الذي‮ ‬يري الغيرة مكونا حقيقيا وحادا وشيطانيا في‮ ‬الذات المحبة‮. ‬أعتقد أن هذا الرأي‮ ‬ببساطة هو تنوع‮  ‬لأطروحة الأخلاقيين أصحاب مذهب الشك‮. ‬إن الغيرة طفيلي‮ ‬زائف‮ ‬يتغذي علي الحب ولا‮ ‬يساعد إطلاقا في‮ ‬تعريفه‮. ‬هل‮ ‬يجب علي كل حب تحديد‮ ‬غريم خارجي‮ ‬قبل أن‮ ‬يعلن عن نفسه،‮ ‬قبل أن‮ ‬يبدأ‮. ‬مستحيل‮! ‬العكس هو الحال‮: ‬إن الصعوبات الداخلية للحب،‮ ‬والتناقضات الداخلية لمشهد الاثنين‮ ‬يمكن أن تتبلور حول طرف ثالث،‮ ‬غريم،‮ ‬متخيلا أو حقيقيا‮. ‬إن الصعوبات التي‮ ‬ينطوي‮ ‬عليها الحب لا تنبت من وجود عدو تم تحديده‮. ‬هذه الصعوبات داخلية في‮ ‬سيرورته‮: ‬اللعبة المبدعة للاختلاف‮. ‬إنها الأنانية‮: ‬هي‮ ‬عدو الحب،‮ ‬وليست‮ ‬غريمه‮. ‬يمكن أن نقول‮: ‬إن عدو حبيبي‮ ‬الأساسي،‮ ‬الذي‮ ‬يجب أن أهزمه،‮ ‬ليس الآخر،‮ ‬بل نفسي،‮ ‬إن‮ " ‬نفسي‮" ‬التي‮ ‬تفضل الهوية علي الاختلاف،‮ ‬التي‮ ‬تفضل أن تضع عالمها في‮ ‬مواجهة العالم الذي‮ ‬تمت تنقيته وإعادة بناءه خلال منشور الاختلاف‮.‬

الحب‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون حربا أيضا‮...‬

لابد أن نضع في‮ ‬اعتبارنا أن اجراء الحب،‮ ‬مثل العديد من اجراءات الحقيقة،‮ ‬لايتصف بالسلام دائما‮. ‬يمكن أن‮ ‬يتشكل من شجارات عنيفة،‮ ‬ومعاناة أصيلة وانفصالات قد نتجاوزها وقد لانستطيع‮. ‬يجب أن ندرك أنها خبرة من أكثر الخبرات ألما في‮ ‬الحياة الشخصية لأي‮ ‬فرد‮! ‬لهذا‮ ‬يدعم بعض الناس دعائية‮ " ‬الضمان الشامل‮". ‬لقد ذكرت فعليا أن الناس تموت بسبب الحب‮. ‬يوجد موتي/صرعي الحب ومنتحري‮ ‬الحب‮. ‬في‮ ‬الحقيقة،‮ ‬إن الحب،‮ ‬طبقا لمقياسه،‮ ‬ليس بالضرورة سلميا أكثر من السياسة الثورية‮. ‬إن الحقيقة ليست شيئا ما مشيد في‮ ‬حديقة ورود‮. ‬أبدا‮! ‬فللحب نظامه الخاص به الذي‮ ‬يحمل داخله التناقضات والعنف‮. ‬لكن الاختلاف،‮ ‬نصطدم به،‮ ‬في‮ ‬السياسة،‮ ‬مع قضية العدو،‮ ‬حقا،‮ ‬في‮ ‬حين أنه في‮ ‬الحب‮ ‬يصبح سؤال الدراما‮.  ‬الدراما الباطنية والداخلية التي‮ ‬لا تحدد حقا أي‮ ‬أعداء،‮ ‬لكنها تضع في‮ ‬بعض الأحيان دافع الهوية في‮ ‬صراع مع الاختلاف‮. ‬إن دراما الحب هي‮ ‬أكثر الخبرات حدة في‮ ‬الصراع بين الهوية والاختلاف‮.‬

ومع ذلك،‮ ‬أليس من الممكن أن نجمع الحب والسياسة معا بدون أن نقع في‮ ‬فخ المذهب الأخلاقي‮  ‬لسياسة الحب؟

يوجد مفهومان سياسيان أو فيلسفيان؛‮ ‬يمكن أن نقارنهما علي مستوي شكلي‮ ‬محض بالديالكتيك الموجود في‮ ‬الحب‮. ‬أولا،‮ ‬تشمل كلمة‮ " ‬شيوعية‮" ‬فكرة أن الجمعي‮ ‬قادر علي دمج كل الاختلافات التي‮ ‬توجد خارج مجال السياسة‮. ‬لايجب منع الناس عن المشاركة في‮ ‬العملية السياسية من النوع الشيوعي‮ ‬لأنهم هذا أو ذاك،‮ ‬أو لأنهم ولدوا هنا أو جاءوا من مكان آخر،‮ ‬أو‮ ‬يتحدثون هذه اللغة أو تلك،‮ ‬أو‮ ‬يحملون تلك الثقافة أو‮ ‬غيرها،‮ ‬علي النحو عينه الذي‮ ‬لا تمثل الهويات،‮ ‬داخلهم،‮ ‬عائقا أمام الحب‮. ‬إن الاختلاف السياسي‮ ‬مع العدو،‮ ‬فقط،‮ " ‬متناقض‮" ‬كما‮ ‬يقول ماركس‮. ‬وهذا ليس له معادل في‮ ‬اجراء الحب‮. ‬ثم لدينا كلمة‮ "‬الإخاء‮". ‬إن مصطلح‮" ‬الاخاء‮" ‬هو أكثر مصطلحات شعار الجمهورية‮ ‬غموضا‮. ‬يمكن أن نتناقش حول‮ " ‬الحرية‮"‬،‮ ‬لكننا نعرف ما هي‮. ‬ويمكن أن نقدم تعريفا دقيقا تماما عن ماذا تعني‮ " ‬المساواة"؟ لكن ماذا‮ ‬يعني‮ " ‬الإخاء"؟‮  ‬هذا‮ ‬يمس بلاشك قضية الاختلاف،‮ ‬ووجوده المشترك الودود في‮ ‬العملية السياسية بأن الحدود الأساسية هي‮ ‬مواجهة العدو‮. ‬وهذا مفهوم‮ ‬يمكن أن‮ ‬يغطيه مذهب العالمية؛ فلو أن الجمعي‮ ‬قادر حقا علي تحمل مسؤولية المساواة،‮ ‬هذا‮ ‬يعني‮ ‬أنه‮ ‬يمكن أن‮ ‬يدمج أكثر التباينات حدة،‮ ‬ويسيطر سيطرة صارمة علي‮  ‬قوة الهوية‮.‬

في‮ ‬بداية حوارنا،‮ ‬تحدثت عن المسيحية علي أنها‮ " ‬ديانة الحب‮". ‬فلنركز الآن علي تجسدات الحب في‮ ‬الايديولجيات العظيمة‮. ‬في‮ ‬رأيك،‮ ‬كيف تتدبر المسيحية القبض علي القوي‮ ‬غير العادية التي‮ ‬يتمتع بها الحب؟

في‮ ‬هذا السياق،‮ ‬أعتقد أن البوذية مهدت تماما الطريق للمسيحية‮. ‬إن وجود الحب في‮ ‬العهد القديم دال،‮ ‬علي مستوي التشريعات والوصف علي السواء‮. ‬فأيا كان فحواها اللاهوتي‮ ‬فأغنية الحب التي‮ ‬هي‮ ‬نشيد الأناشيد واحدة من أكثر الاحتفاءات القوية بالحب التي‮ ‬كتبت علي مر الزمن‮. ‬المسيحية في‮ ‬حد ذاتها أفضل نموذج علي استخدام كثافة الحب نحو مفهوم ترانسندنتالية الكون‮. ‬تقول المسيحية‮: ‬لو احببتوا بعضكم،‮ ‬سيقترب هذا المجتمع المحب من الينبوع النهائي‮ ‬لكل الحب الذي‮ ‬هو ترانسندتالية إلهية‮  ‬في‮ ‬حد ذاته‮. ‬إنها تقدم فكرة أن قبول خبرة الحب،‮ ‬خبرة الآخر،‮ ‬النظرة التي‮ ‬تنبثق تجاه الآخر،‮ ‬تساهم إلي هذا الحب الأعلي الذي‮ ‬هو الحب الذي‮ ‬ندين به لله والحب الذي‮ ‬يضعه فينا الله علي السواء‮. ‬وبالطبع،‮ ‬هذه ضربة عبقرية‮! ‬دبرت المسيحية الامساك،‮ ‬باسم كنيستها‮- ‬تجسيدها للدولة‮-‬،‮ ‬بهذه القوة التي‮ ‬خولت لها،‮ ‬علي سبيل المثال،‮ ‬أن تحقق قبول الفرد للمعاناة باسم المصالح العليا للمجتمع وليس فقط باسم بقاء الفرد‮. ‬

فهمت المسيحية بامتياز أن الاحتمالية الظاهرية للحب تحمل عنصرا‮ ‬يحميه من اختصاره إلي هذه الاحتمالية‮. ‬لكن،‮ ‬وهذه هي‮ ‬المشكلة،‮ ‬يرفعه علي الفور إلي مستوي الترنسدنتالية‮. ‬هذا العنصر الكوني‮ ‬الذي‮ ‬أدركه كذلك في‮ ‬الحب أراه عنصرا باطنيا‮. ‬غير أن المسيحية تدبرت بطريقة ما كذلك أن ترفعه وأن تعيد تركيزه في‮ ‬قوة ترنسندنتالية‮. ‬إنها الحركة التي‮ ‬نجدها جزئيا عند أفلاطون،‮ ‬خلال فكرة الخير‮. ‬إنها الاستغلال الأول العبقري‮ ‬لقوة الحب والذي‮ ‬يجب الآن وضعه علي الأرض‮. ‬أعني‮ ‬أننا‮ ‬يجب أن نبين أن الحب‮ ‬يتمتع فعليا بقوة كلية،‮ ‬لكنه ببساطة تامة هو احتمالية أن نجرب خبرة توكيدية وابداعية وايجابية للاختلاف‮. ‬إنه الآخر،‮ ‬بلاشك،‮ ‬لكن بدون‮ " ‬الأخر‮- ‬القدير‮"‬،‮ ‬بدون‮ " ‬الآخر العظيم‮" ‬في‮ ‬الترنسندنتالية‮. ‬في‮ ‬التحليل الأخير،‮ ‬لا تتحدث الأديان عن الحب‮. ‬إنها تهتم فقط به باعتباره مصدر للكثافة،‮ ‬للحالة الشخصية التي‮ ‬يستطيع وحده فقط خلقها،‮ ‬وكل هذا بهدف توجيه هذه الكثافة إلي الإيمان والكنيسة من أجل وضع هذه الحالة الشخصية في‮ ‬مصلحة هيمنة الله‮. ‬إن النتيجة هي،‮ ‬علاوة علي ماسبق،‮ ‬أن المسيحية تقدم عوضا عن الحب النضالي‮ ‬الذي‮ ‬أمدحه هنا‮- ‬الابداع الأرضي‮ ‬لميلاد مختلف لعالم جديد،‮ ‬سعادة ننتزعها نقطة نقطة‮- ‬تقدم المسيحية حبا سلبيا وورعا وخاضعا‮. ‬إن الحب علي ركبتين راكعتين ليس حبا علي الإطلاق بقدر علمي،‮ ‬حتي ولو أنه‮ ‬يبعث عاطفة داخلنا تجعلنا نذعن لمن نحب‮.‬

لقد عملت مع انطوان فيتز،‮ ‬خاصة حين كان‮ ‬يجهز انتاجه الشهير خف ابليس لبول كلوديل‮. ‬هل التأمل الذي‮ ‬قدمه مؤلف استراحة الظهيرة الغارق تماما في‮ ‬المسيحية،‮ ‬لديه مايقوله اليوم للناس الذين لم‮ ‬يعودوا مسيحيين؟

كلوديل كاتب دراما عظيم عن الحب‮. ‬لقد كرس خف ابليس واستراحة الظهيرة كلية لمعالجة هذه الثيمة‮. ‬من ناحية أخري،‮ ‬ما الذي‮ ‬لدي كلوديل‮ ‬يثيرنا الآن لا‮ ‬يثيره مباشرة مجتمع القديسين وثواب العقود الخيرة والخلاص فيما بعد الحياة‮. ‬لا أستطيع إلا أن أفكر في‮ ‬نهاية استراحة الظهيرة‮: " ‬افترقنا،‮ ‬لكن لم نتوقف عن حمل بعضنا،‮ ‬هل‮ ‬يجب أن نحمل عبء أرواحنا الشقية؟‮" ‬لدي كلوديل حساسية،‮ ‬خاصة،‮ ‬تجاه فكرة أن الحب الحقيقي‮ ‬يتغلب علي المستحيل‮:" ‬أصبحنا بعيدين عن بعض،‮ ‬لكن لن نتوقف عن حمل بعضنا البعض‮"... ‬بوضوح تام،‮ ‬الحب ليس احتمالية،‮ ‬علي الأحري،‮ ‬هو تجاوز شيء ما‮ ‬يبدو مستحيلا‮. ‬شيء ما‮ ‬يوجد،‮ ‬لاسبب له،‮ ‬لم‮ ‬يقدم لك أبدا علي أنه احتمالية‮. ‬وهذا سبب آخر كذلك‮ ‬يوضح زيف دعاية الموقع الاكتروني‮ ‬ميتك للمواعيد الغرامية‮. ‬فهو‮ ‬يعمل بناء علي فرضية أنك تفحص كل الاحتمالات وتنتقي‮ ‬الأفضل لكي‮ ‬تستمتع بحب آمن‮. ‬لكن الواقع‮ ‬غير ذلك‮! ‬ليست مثل القصص التي‮ ‬يصطف الخاطبون طابورا‮. ‬إن تجاوز المستحيل‮ ‬يعني‮ ‬بداية الحب؛ وكلوديل شاعر المستحيل العظيم مع ثيمة المرأة المحرمة‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬يحمل الزهر لديه حظا سيئا إلي حد ما،‮ ‬بما أن المستحيل نسبي‮ ‬لأنه أرضي‮. ‬أعتقد أن لديه مشهدين من‮" ‬مشهد من اثنين‮" ‬بدلا من واحد‮. ‬الأول هو خبرة استحالة الحب علي الأرض‮. ‬الثاني‮ ‬حين‮ ‬يتآلف اثنان في‮ ‬عالم الايمان‮. ‬من الرائع أن تتابع آلياته الشعرية الرائعة التي‮ ‬يستخدمها ليغني‮ ‬المشهد الثاني‮ ‬انطلاقا من قوة الأول بلغة رائعة‮. ‬هذه هي‮ ‬المسيحية‮. ‬تقوم دعايتها بالقوة الأرضية للحب بقولها‮: " ‬نعم،‮ ‬توجد أشياء معينة مستحيلة بالرغم من هذه القوة،‮ ‬لكن لا داعي‮ ‬للقلق لأن ما هو مستحيل هنا في‮ ‬الأسفل،‮ ‬ليس كذلك بالضرورة فيما بعد الحياة‮." ‬دعائية أولية جدا لكنها مفحمة‮.‬

إن الرغبة في‮ ‬جلب الحب إلي الأرض،‮ ‬إلي الحركة من الترنسندنتالي‮ ‬إلي الباطني‮-  ‬رغبة مركزية في‮ ‬الشيوعية التاريخية‮. ‬كيف‮ ‬يمكن أن‮ ‬يصبح إعادة تنشيط الفرضيات الشيوعية طريقا لإعادة ابتكار الحب؟

أشرت مبكرا لما أراه في‮ ‬هذه الاستخدامات السياسية لكلمة‮ " ‬حب‮"‬،‮ ‬وكيف‮ ‬يساء استخدامها كاستخدامات دينية‮. ‬من ناحية أخري،‮ ‬نتعامل هنا أيضا مع قوة ترانسدنتالية تفهم قوة الحب‮. ‬لم‮ ‬يعد الله بعد الآن،‮ ‬بل الحزب،‮ ‬وخلال الحزب،‮ ‬قائده الأعلي‮. ‬يلخص تعبير‮ " ‬عبادة الشخصية‮" ‬هذا النوع من الانتقال الجمعي‮ ‬للحب إلي شخصية سياسية‮. ‬وانضم الشعراء كذلك‮: ‬انظر إلي نشيد الأنشاد الذي‮ ‬نظمه اوراد لستالين؛ وترنيمات اراجون عن عودة موريس ثوريز إلي فرنسا بعد مرضه‮.... ‬إن ما‮ ‬يثير اهتمامي‮ ‬أكثر هوعبادة الحزب علي هذا النحو‮. ‬كذلك،‮ ‬نري أراجون قد أصابته الأعراض‮: " ‬أعاد حزبي‮ ‬ألوان فرنسا إلي‮"‬،‮ ‬إلخ‮. ‬نري الحب علي الفور ملطفا‮. ‬فالكلمات متشابهة جدا في‮ ‬مقدر لنا الرحيل و إلي إلزا تريولت‮.  ‬من اللافت للانتباه أن نري كيف أصبح الحزب الذي‮ ‬أعتقدنا أنه ببساطة أداة انتقالية لظهور الطبقات العاملة والشعبية فيتشيا هكذا‮. ‬لا أريد أن أهزأ من أي‮ ‬من هذا‮: ‬لقد كان عصر العاطفة السياسية الذي‮ ‬لا‮ ‬يمكننا الاستمرار فيه،‮ ‬والذي‮ ‬يجب أن نراه الآن بعين نقدية،‮ ‬لكنه كان كثيفا وحصد الملايين ايمانا به‮. ‬ما‮ ‬يجب أن نقوله،‮ ‬بما أن الحب ثيمتنا،‮ ‬لايجب خلط الحب مع العاطفة السياسية‮. ‬إن المشكلة التي‮ ‬تواجهها السياسة هي‮ ‬سيطرة الكره وليس الحب‮. ‬والكره هو عاطفة تمتلك حتميا قضية العدو‮. ‬في‮ ‬كلمات أخري،‮ ‬في‮ ‬السياسة،‮ ‬حيث‮ ‬يوجد قضية العدو،‮ ‬يصبح الدور الوحيد للمنظمة،‮ ‬أيا كانت،‮ ‬هو السيطرة علي الكره وفعليا محو عواقبه‮. ‬هذا لا‮ ‬يعني‮ ‬أنها‮ ‬يجب أن‮ "‬تبشر بالحب‮" ‬لكن،‮ ‬وهذا هو التحدي‮ ‬الفكري‮ ‬العظيم،‮ ‬أن تعطي‮ ‬للعدو السياسي‮ ‬تعريفا أدق وأكثر تحديدا‮. ‬وليس،‮ ‬كما كان الحال خلال معظم القرن الماضي‮ ‬كله تقريبا التعريف الأكثر‮ ‬غموضا وهلهلة‮.‬

هل من الأفضل فصل الحب عن السياسة؟

جزء كبير من عمل المعاصر للفكر المعاصر فصل ما جمع معا خطأ‮. ‬بالطريقة ذاتها الذي‮ ‬يجب السيطرة علي تعريف العدو وتحديده وتقليصه إلي الحد الأدني،‮ ‬لابد من فصل الحب فصلا تاما عن السياسة،‮ ‬باعتباره مغامرة فردية في‮ ‬السؤال عن الحقيقة حول الاختلاف‮. ‬حين أتحدث عن الفرضية الشيوعية،‮ ‬فإنني‮ ‬ببساطة أقول مايلي‮: ‬الأشكال المستقبلية من سياسة التحرير‮ ‬يجب أن تنقش في‮ ‬احياء الفكرة الشيوعية وتوكيدها؛ فكرة عالم لا‮ ‬يستسلم أمام شهية الملكية الخاصة،‮ ‬عالم من الارتباط الحر والمساواة‮. ‬من أجل هذا الهدف،‮ ‬لدينا أدوات فلسفية جديدة وعدد معقول من الخبرات السياسية المحلية،‮ ‬التي‮ ‬شهدت تفكيرا متجددا‮. ‬في‮ ‬هذا الإطار،‮ ‬يصبح الحب طيعا لاعادة ابتكاره أكثر مما لو أحاطه السُعر الرأسمالي‮. ‬ذلك أننا‮ ‬يجب أن نتيقن من أن كل ما هو ايثاري‮ ‬لن‮ ‬يشعر بالراحة في‮  ‬خضم هذا السعار‮. ‬والحب،‮ ‬مثل أي‮ ‬اجراء‮ ‬يبحث عن الحقيقة،‮  ‬أساسا ايثاري‮: ‬تكمن قيمته في‮  ‬ذاته وحدها وتتجاوز المصالح الآنية للطرفين‮. ‬إن معني كلمة‮ "‬شيوعية‮" ‬لا تتعلق مباشرة بالحب‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬تجلب الكلمة معها احتمالات جديدة للحب‮. ‬

يوجد بعد محتمل آخر لتجسيدات الحب في‮ ‬السياسة الشيوعية‮. ‬إنها القصص التي‮ ‬بنيت علي أساس الاضطرابات أو الحركات الاجتماعية‮. ‬تشدد‮ ‬غالبا علي هذا البعد،‮ ‬بما أنه،‮ ‬لوهلة،‮ ‬يسمح بانتهاك الحب ليتحالف مع الانتهاك السياسي‮. ‬ما خصوصية هذه القصص في‮ ‬الصراع؟

أحمل حساسية خاصة لهذا الوجه من الأشياء لأنني‮ ‬كرست جزء كبيرا من كتابتي‮ ‬كروائي‮ ‬وكاتب مسرحي‮ ‬إلي الموضوع‮. ‬في‮ ‬مسرحيتي‮ ‬الايشارب الأحمر،‮ ‬تهتم القصة أساسا بالحب بين أخ وأخت بعيدين عن بعض في‮ ‬كل تجسيدات الحركة السياسية الضخمة التي‮ ‬شملت حروب التحرير والاضرابات والتظاهرات‮... ‬في‮ ‬روايتي‮ ‬مبني هادئ هنا‮- ‬التي‮ ‬يتطابق إطارها الشكلي‮ ‬مع رواية البؤساء لهوجو‮- ‬يغلف التصوير الثوري‮  ‬حب العامل الشيعي‮ ‬أحمد ازماني‮ ‬لارهابية،‮ ‬اليزابيث كاثلي،‮ ‬ثم لطفلها سيمون الذي‮ ‬تبناه بعد موتها،‮ ‬من أجل كلود اوجاساوارا الشاعرة وابنة أحد الرجعيين البارزين‮. ‬في‮ ‬كل هذه اللحظات،‮ ‬لم تكن نيتي‮ ‬تسليط الضوء علي التماثل بين الحب والالتزام الثوري،‮ ‬بل علي الأصداء السرية التي‮ ‬تتولد في‮ ‬أكثر الخبرات الفردية حميمية،‮ ‬بين الكثافة التي‮ ‬تتطلبها الحياة حين نكون ملتزمين مائة بالمائة بفكرة معينة والكثافة المميزة نوعيا التي‮ ‬يولدها الصراع مع الاختلاف في‮ ‬الحب‮. ‬هذا‮ ‬يماثل أداتان موسيقيتان تختلفان كلية في‮ ‬النبرة وحجم الصوت،‮ ‬لكنهما‮ ‬يتقاربان تقاربا‮ ‬غامضا حين‮ ‬يوحد بينهما موسيقي‮ ‬عظيم في‮ ‬العمل ذاته‮. ‬اسمح لي‮ ‬بأن أبوح بسر،‮ ‬لقد نقشت في‮ ‬هذه الأعمال الأدبية تقييما لحياتي‮ ‬في‮ " ‬السنوات الحمراء‮" ‬بين مايو‮ ‬1968‮ ‬وثمانينات القرن الماضي‮. ‬هذه هي‮ ‬الفترة التي‮ ‬طورت أثناءها اعتقادا سياسيا بقيت مخلصا له ومعه اخلاصا عنيدا؛ احدي أسماءه المحتملة‮ " ‬الشيوعية‮". ‬لكنني‮ ‬حينئذ،‮ ‬وعلي قدم المساواة،‮ ‬بنيت حياتي‮ ‬حول سيرورات الحب التي‮ ‬كانت حاسمة‮. ‬ما جاء بعد ذل ك في‮ ‬السياق ذاته أضاءه هذا المصدر واستمراريته‮. ‬فكما ذكرت سابقا،‮ ‬لا‮ ‬يجب أن‮ ‬ينبذ المرء،‮ ‬خاصة،‮ ‬اعتناقه الحب والسياسة‮. ‬لقد كانت تلك اللحظة التي‮ ‬عثرت فيها حياتي‮ ‬علي الوتر الموسيقي،‮ ‬بين السياسة والحب،‮ ‬الذي‮ ‬خلق تناغم ايقاعها‮.‬

الحب والفن

أجده‮ ‬غريبا أنك تشير دائما إلي صمويل بيكيت عند‮ ‬الحديث عن الحب‮. ‬بالكاد أستطيع أن أقول أن أعمال بيكيت تركز علي السعادة‮. ‬كيف تعمل أعماله،‮ ‬الشهيرة‮  ‬بالعدمية والتشاؤم علي‮ " ‬مشهد من اثنين‮" ‬الذي‮ ‬هو الحب؟

كما قلت،‮ ‬يحتوي الأدب القليل عن الحب فيما‮ ‬يخص خبرة استمراريته خلال الزمن‮. ‬أمر‮ ‬يدعو للذهول‮. ‬فلنأخذ المسرح علي سبيل المثال‮. ‬لو شاهدت النصوص التي‮ ‬تعرض صراعات المحبين الشباب في‮ ‬مواجهة استبداد عالم العائلة‮- ‬وهو موضوع كلاسيكي‮ ‬تماما‮- ‬يمكن أن تعطيها كلها عنوان ماريفو الفرعي‮  ‬انتصار الحب‮. ‬تحت هذا النموذج،‮ ‬تحكي‮ ‬العديد من المسرحيات كيف أن هؤلاء الشباب،‮ ‬بمساعدة الخدم أو أي‮ ‬أشخاص أخري متواطئة معهم،‮ ‬يخدعون الآباء الطاعنين في‮ ‬السن،‮ ‬ويحققون في‮ ‬النهاية ما‮ ‬يريدون،‮ ‬وهو في‮ ‬الأساس الزواج‮. ‬إنه انتصار الحب،‮ ‬لكن ليس استمراريته‮. ‬هذا بالضبط ما‮ ‬يمكن أن تسميه حبكة اللقاء‮. ‬بنيت العديد من الأعمال الهامة والروايات العظيمة حول استحالة الحب،‮ ‬واختباره،‮ ‬وتراجيديته،‮ ‬وخفوته،‮ ‬وفراقه،‮ ‬ونهايته،‮ ‬إلخ‮. ‬لكن القليل منها‮ ‬يدور حول توكيد استمراريته‮. ‬يمكن أن نقول حتي أنه لم‮ ‬ينتج عن الحياة الزواجية‮  ‬أعمالا عظيما‮. ‬إنها الحقيقة التي‮ ‬لم تلهم كثيرا الفنانين‮. ‬والآن،‮ ‬نجد،‮ ‬تحديدا،‮ ‬لدي بيكيت الذي‮ ‬نقول عنه كاتب اليأس والمستحيل شيء ما شديد الخصوصية بصدد هذا الموضوع‮: ‬هو أيضا كاتب عناد الحب‮. ‬فلنأخذ علي سبيل المثال عمله أيتها الأيام الجميلة؛ قصة عن زوج عجوز‮. ‬لا نري سوي المرأة والرجل‮  ‬يزحفان خلف المشهد،‮ ‬وكل شيء بالٍ،‮ ‬وهي‮ ‬تغرق في‮ ‬التراب/الأرض،‮ ‬لكنها تقول‮: " ‬كم كانت أيام جميلة‮". ‬وتقول له هذا لأن‮  ‬الحب لازال موجودا‮. ‬الحب هو ذلك العنصر القوي‮ ‬والثابت الذي‮ ‬بني وجودها في‮ ‬مظهر كارثي‮. ‬والحب هو القوة الخفية لهذه الكارثة‮. ‬في‮ ‬نص قصير رائع بعنوان،‮ ‬كفي،‮ ‬يحكي‮ ‬بيكيت تجول زوج عجوز خلال ديكور جبلي‮ ‬وصحراوي‮ ‬في‮ ‬الوقت ذاته‮. ‬والقصة هي‮ ‬قصة حب،‮ ‬استمرارية هذا الزوج العجوز،‮ ‬ولا‮ ‬يخفي‮ ‬علي الإطلاق الحالة الكارثية لجسدهما،‮ ‬وأحادية نغمة وجودهما،‮ ‬والصعوبة المتنامية في‮ ‬ممارسة الجنس،‮ ‬إلخ‮. ‬يسرد النص كل هذا،‮ ‬لكنه‮ ‬يضع القصة ضمن اطار القوة الرائعة،‮ ‬في‮ ‬النهاية،‮ ‬للحب وعناد استمراريته الذي‮ ‬يشكله‮.‬

بما أنك تحدثت عن فن الدراما،‮ ‬أود أن أتوقف عند هذا الحب الخاص جدا الذي‮ ‬لم تتخل عنه منذ طفولتك‮: ‬حب المسرح‮. ‬قبل أن تكتب ثلاثية أحمد،‮ ‬التي‮ ‬تحولت إلي مسرحية معاصرة علي شاكلة سابين لموليير،‮ ‬أنت نفسك لعبت الدور الرئيس في‮ ‬مسرحية موليير‮  ‬في‮ ‬شبابك‮. ‬ما طبيعة هذا الحب الراسخ الذي‮ ‬تحمله للمسرح؟

حبي‮ ‬للمسرح معقد جدا ويعود إلي زمن طويل‮. ‬لعله أكثر قوة من حبي‮ ‬للفلسفة‮. ‬يأتي‮ ‬حبي‮ ‬للفسلفة لاحقا،‮ ‬ببطء‮  ‬وبصعوبة أعظم‮. ‬أعتقد أن ما أبهرني‮ ‬في‮ ‬المسرح،‮ ‬حين كنت شابا ومثلت،‮ ‬الشعور الذي‮ ‬انتابني‮ ‬فورا‮  ‬بأن جزء ما من اللغة والشعر مرتبطين بالجسد علي نحو لايمكن التعبير عنه تقريبا‮. ‬وربما كان المسرح في‮ ‬الأساس بالنسبة لي،‮ ‬استعارة لما قد‮ ‬يكون الحب فيما بعد،‮ ‬لأنه كان اللحظة التي‮ ‬تلاشت فيها الحدود بين الفكر والجسد علي نحو ما‮. ‬فهما مكشوفان لبعضهما بطريقة لا‮ ‬يمكن أن تقول معها‮: " ‬هذا جسد‮" ‬أو‮ " ‬هذه فكرة‮". ‬الاثنان ممتزجان،‮ ‬تحاصر اللغة الجسد،‮ ‬بالضبط مثلما تقول لشخص ما‮: " ‬أحبك‮"‬،‮ ‬إنك تقول ذلك لشخص ما علي قيد الحياة،‮ ‬يقف أمامك،‮ ‬لكنك تخاطب كذلك شيئا ما لايمكن اختصاره إلي هذا الحضور المادي‮ ‬البسيط،‮ ‬شيئا ما‮ ‬يتجاوزه ويتضمنه كلية،‮ ‬في‮ ‬الوقت ذاته‮. ‬هذا هو المسرح،‮ ‬في‮ ‬أصوله؛ إنه الفكرة في‮ ‬الجسد،‮ ‬إنه الفكرة في‮ ‬الجسد‮. ‬يمكن أن أكرر كلمة فكرة مرة أخري،‮ ‬بمعني آخر‮. ‬لأن المسرح،‮ ‬كما نعرف،‮ ‬يعني‮ ‬التكرار‮.  ‬يقول المخرج‮: " ‬فلنكرر المشهد مرة أخري‮". ‬لا تندمج الفكرة بسهولة في‮ ‬الجسد‮. ‬إنها مسألة معقدة‮: ‬علاقة الفكرة بالمكان مع الايماءات التمثيلية‮. ‬لابد أن تكون عفوية ومدروسة في‮ ‬الوقت ذاته‮. ‬هذا ما‮ ‬يحدث في‮ ‬الحب أيضا‮. ‬الرغبة قوة آنية،‮ ‬لكن الحب‮ ‬يتطلب فوق ذلك الاستئناف والرعاية‮. ‬يعرف الحب نظام التكرار‮. " ‬قل مرة ثانية أنك تحبني‮"‬،‮ ‬وكثير جدا‮: " ‬قلها أفضل من هذا‮". ‬وتبدأ دائما الرغبة مرة أخري‮.  ‬يمكن أن نسمع،‮ ‬أثناء الملاطفة،‮ ‬كما لو أن الحب‮ ‬يسكنها‮ " ‬زيدني‮....‬زيدني‮"‬؛ نقطة حيث‮ ‬يعزز الحاجة إلي الحركة اصرار الكلمة،‮ ‬والإعلان الجديد دائما‮.  ‬نحن نعرف تماما أن قضية أداء الحب في‮ ‬المسرح حاسمة،‮ ‬وتدور كلها تحديدا عن مسألة الإعلان‮. ‬ولأنه‮ ‬يوجد،‮ ‬كذلك،‮ ‬مسرح الحب هذا وأداء الحب والصدفة،‮ ‬القويان جدا،‮ ‬علي الأقل بالنسبة لي،‮ ‬أحمل هذا الحب للمسرح‮.‬

إنه كذلك الموقف الذي‮ ‬دعمه المسرحي‮ ‬انطوان فيتز،‮ ‬الذي‮ ‬أخرج عملك الأوبرالي‮ ‬الايشارب الأحمر‮ ‬،في‮ ‬1984،‮ ‬في‮ ‬مهرجان افنيون،‮ ‬ووضع موسيقاه جورج ابريس‮. ‬كتب‮: " ‬هذا ما أردت أن أقدمه مسرحيا دائما‮: ‬أن أعرض القوة العنيفة للأفكار،‮ ‬كيف تلوي‮ ‬الأجساد وتعذبها‮."‬‮ ‬هل تأخذ‮ ‬هذا المنهج في‮ ‬اعتبارك؟

بالتأكيد‮. ‬أنت تعرف،‮ ‬بيسوا،‮ ‬الشاعر البرتغالي‮ ‬يقول في‮ ‬مكان ما‮ " ‬الحب فكرة‮". ‬هذه جملة تنطوي‮ ‬علي المفارقة،‮ ‬ظاهريا،‮ ‬لأن الجميع‮ ‬يقول دائما أن الحب هو الجسد،‮ ‬هوالرغبة،‮ ‬هوالمشاعر،‮ ‬إنه أي‮ ‬شيء آخر سوي أن‮ ‬يكون العقل والفكرة‮. ‬وهو‮ ‬يقول‮ " ‬الحب فكرة‮". ‬أعتقد أنه محق‮. ‬أعتقد أن الحب فكرة وأن العلاقة بين تلك الفكرة والجسد علاقة فريدة تماما ويعلًّمها دائما كما‮ ‬يقول انطوان فيتز العنف الجامح‮. ‬نختبر هذا العنف في‮ ‬الحياة‮. ‬وحقيقي‮ ‬جدا أن الحب‮ ‬يمكن أن‮ ‬يلوي‮ ‬أجسادنا ويثير أقسي أنواع العذابات‮. ‬إن الحب كما‮ ‬يمكن أن نلاحظ،‮ ‬ليس نهرا طويلا هادئا‮. ‬لا نستطيع أن ننسي كلية العدد المرعب من قصص الحب التي‮ ‬أدت إلي الانتحار أو القتل‮. ‬إن الحب في‮ ‬المسرح ليس فقط ولا حتي،‮ ‬أساسا،‮ ‬فارس جنسي‮ ‬أو قصة رومانسية بريئة‮. ‬إنه تراجيديا ورفض وغضب كذلك‮. ‬إن العلاقة بين المسرح والحب هي‮ ‬كذلك علاقة اكتشاف للمتاهة التي‮ ‬تفصل الأفراد ووصف لهشاشة الجسر الذي‮ ‬يرميه الحب بين كيانين منعزلين‮. ‬لابد أن نعود دائما إلي هذا السؤال‮: ‬أي‮ ‬فكرة تتكشف ريحة وجيئة بين جسدين‮ ‬يمارسان الجنس؟ لابد أن نسأل كذلك،‮ ‬وهذا‮ ‬يتصل بسؤالك السابق،‮ ‬ما الذي‮ ‬كان سيقدمه المسرح لو أن الحب‮ ‬غير موجود؟ كان‮ ‬يمكن أن‮ ‬يتحدث وقد فعل مطولا عن السياسة‮. ‬إذن،‮ ‬نستطيع أن نقول أن المسرح هو السياسة والحب و تقاطعهما عموما‮. ‬إن تقاطع السياسة والحب تعريف محتمل للتراجيديا‮. ‬لكن حب المسرح هو،‮ ‬بالضرورة،‮ ‬حب الحب كذلك،‮ ‬لأنه دون قصص الحب،‮ ‬وبدون الصراع من أجل تحرير الحب من قيود العائلة،‮ ‬فلن‮ ‬يضيف المسرح الكثير للحب‮. ‬إن الكوميديا الكلاسيكية مثل مسرحيات‮ ‬موليير تقول لنا أساسا كيف أن الشباب الذين تلاقوا صدفة‮ ‬يجب أن‮ ‬يقللوا من قيمة الزواج الذي‮ ‬رتبه لهم آبائهم‮. ‬أما الصراع الأكثر شيوعا،‮ ‬والأكثر توظيفا علي خشبة المسرح هو صراع حب الصدفة في‮ ‬مواجهة القانون العنيد‮. ‬أما الأكثر براعة فهو صراع الشباب الذي‮ ‬يدعمه البروليتاريا‮ ( ‬العبيد والخدم‮)‬،‮ ‬في‮ ‬مواجهة القديم/العجوز الذي‮ ‬يدعمه الكنيسة والدولة‮. ‬وسوف تقول الآن‮: ‬انتصر الحب،‮ ‬لم تعد الزواجات المرتبة موجودة‮: ‬الزوج هو ابداع نقي‮." ‬لكني‮ ‬لست متأكدا تماما‮. ‬الحرية،‮ ‬أي‮ ‬نوع من الحرية تماما؟ بأي‮ ‬ثمن؟ نعم،‮ ‬هذا سؤال حقيقي‮: ‬ما الثمن الذي‮ ‬دفعه الحب لكي‮ ‬تنتصر حريته الظاهرية؟‮ ‬

ألا‮ ‬يشمل حبك للمسرح كذلك حب الجمهور،‮ ‬والجماعي‮ ‬والتجمع،‮ ‬بما أنك عشت ذات‮ ‬يوم حياة الصحبة المسرحية وسط الممثلين والتقنيين؟ ألا‮ ‬يحمل المسرح الحب الذي‮ ‬ينتمي‮ ‬إلي نظام الأخوة؟

نعم،‮ ‬بالطبع،‮ ‬هذا الحب‮ ‬يوجد‮! ‬المسرح هو الجماعي،‮ ‬هو تعبير جمالي‮ ‬عن الأخوة‮. ‬لهذا أطرح‮  ‬أنه‮ ‬يوجد،‮ ‬بهذا المعني،‮ ‬شيء ما شيوعي‮ ‬في‮ ‬المسرح‮. ‬وأفهم من‮ " ‬شيوعي‮" ‬هنا‮  ‬كل صيرورة تجعل المشترك‮ ‬يسود علي الأنانية،‮ ‬العمل الجمعي‮ ‬علي المصلحة الذاتية الخاصة‮. ‬وإذ نحن نتكلم عنها‮ ‬يمكن أن نقول أن الحب شيوعي‮ ‬بهذا المعني،‮ ‬لو أن المرء‮ ‬يقبل،‮ ‬كما أفعل،‮ ‬أن الموضوع الحقيقي‮ ‬للحب،‮ ‬هو تحقق الزوج وليس الإشباع المحض للفردين الطرفين المكونين له‮. ‬ولايزال‮ ‬يوجد تعريف محتمل آخر للحب‮: ‬الحد الأدني من الشيوعية‮!‬

عودة للمسرح،‮ ‬يدهشني‮ ‬دائما حقيقة أن مجتمع جولة المسرح متقلقل‮. ‬إنني‮ ‬أفكر في‮ ‬الأوقات التعسة حين‮ ‬ينفصم هذا المجتمع‮: ‬كنت في‮ ‬جولة وعشنا معا لشهر،‮ ‬ثم فجأة كل‮ ‬يذهب في‮ ‬طريقه‮. ‬يحتوي‮ ‬المسرح علي خبرة الانفصام هذه‮. ‬تعيش لحظات حزينة عظيمة حين تنفصم الأخوة التي‮ ‬نمت في‮ ‬الأداء التمثيلي‮ ‬والمسرحي‮. " ‬هذا هو رقم جوالي‮. ‬فلنبقي علي اتصال‮. ‬تمام؟‮" ‬تألف هذا الطقس‮. ‬لكن‮ ‬،حقا،‮ ‬لن‮ ‬يتصل أحد‮. ‬إنها النهاية وكل‮ ‬يمضي‮ ‬في‮ ‬طريق مختلف‮. ‬وقضية الانفصام مهمة جدا في‮ ‬الحب بحيث‮ ‬يمكن أن نُعرّف الحب بصراع ناجح في‮ ‬مواجهة الانفصام‮. ‬مجتمع الحب كذلك متقلقلا وتحتاج كذلك أكثر بكثير من رقم الهاتف لتعزيزه وتطويره‮.‬

وكيف هو حب المسرح،‮ ‬من الداخل؛ بمعني من وجهة نظر الممثل الذي‮ ‬كنته‮ ‬يوما ولعلك ترغب أن تصبحه‮  ‬مرة أخري،‮ ‬تؤدي‮ ‬مرة أخري بعض المونولوجات من أحمد البارع أو أحمد الفيلسوف؟

إنه حب فريد‮ ‬يتطلب أن تتنازل عن جسدك فريسة للغة،‮ ‬فريسة للأفكار‮. ‬كما تعرف،‮ ‬كل فيلسوف هو ممثل،‮ ‬بغض النظر عن العداء الذي‮ ‬يشعر به تجاه الألعاب والمحاكاة‮. ‬نحن نتحدث جماهيريا منذ أيام أسلافنا اليونانيين العظماء‮. ‬في‮ ‬الفلسفة‮ ‬يوجد دائما عنصر تعرية الذات وهو البعد الشفهي‮ ‬للفلسفة الذي‮ ‬يقبض عليه الجسد،‮ ‬في‮ ‬فعل انتقالي‮. ‬هذه نقطة محل خلاف مع جاك دريدا الذي‮ ‬يحارب الشفاهة باسم المكتوب،‮ ‬بالرغم من أنه هو نفسه قدم آداءات رائعة‮. ‬انتقد الفلاسفة كثيرا لأنهم سحرة،‮ ‬وآسرون للناس بوسائل صناعية ويقودونهم إلي حقائق‮ ‬غير محببة‮  ‬بوسائل الاغراء‮. ‬

فصول من كتاب بالعنوان ذاته‮ ‬يصدر قريبا عن دار التنوير في مصر

 

منقول من موقع أخبار الأدب

الاثنين، 14 أكتوبر 2013

نوبل‮ ‬2013 آليس مونرو‮ ..‬تشيكوف عصرنا



عندما سئلت‮: ‬لماذا تصر علي كتابة القصة القصيرة وحدها؟

أجابت آليس مونرو‮: "‬إذا كنت بدأت بكتابة القصص،‮ ‬فهذا لأن حياتي لم تترك لي الوقت الكافي لكي أكتب رواية،‮ ‬ولم أغير أبدا نبرتي‮". ‬تلتفت إذن جائزة نوبل هذه المرة لفن‮ ‬يظن الكثيرون أنه في طريقه إلي الانقراض،‮ " ‬القصة القصيرة‮"‬،‮ ‬وأيضا إلي كاتبة ليصبح عدد الكاتبات اللائي‮ ‬يحصلن علي الجائزة ثلاثة عشر كاتبة من بين‮ ‬109‮ ‬كاتب حصلوا علي الجائزة‮. ‬الكاتبة المولودة في‮ ‬10‮ ‬يوليو‮ ‬1931‮ ‬والتي‮ ‬تعد أول كندية تفوز بالجائزة،‮ ‬يطلق عليها النقاد لقب‮ "‬تشيكوف عصرنا‮"‬،‮ ‬واعتبرها بيان الجائزة‮ "‬أعظم من كتب القصة القصيرة في العصر الحالي‮".

ولدت مونرو لوالد مزارع،‮ ‬وأم تعمل في التدريس،‮  ‬بدأت دراسة الصحافة واللغة الإنجليزية سنة‮ ‬1951‮ ‬بجامعة ويسترن أونتاريو،‮ ‬لكنها قطعت الدراسة بعد زواجها،‮ ‬واستقرت للعيش في فيكتوريا‮- ‬كولومبيا البريطانية،‮ ‬بدأت كتابة القصص القصيرة حين كانت في سن المراهقة،‮ ‬إلا أنها نشرت أول مجموعة قصصية لها بعنوان‮ "‬رقص الظلال السعيدة‮" ‬سنة‮ ‬1968،‮ ‬والتي حظيت باهتمام كبير،‮  ‬وكانت قبلها‮  ‬تنشر أعمالها تباعاً‮ ‬في المجلات المختلفة منذ سنة‮ ‬1950،‮ ‬وفي سنة‮ ‬1971‮ ‬بدأ نجاحها المدوي مع نشر مجموعتها القصصية‮ "‬حياة الفتيات والسيدات‮"‬،‮ ‬و لها عدد كبير من الأعمال منها‮: "‬من تظن نفسك‮" ‬1978،‮ ‬و"أقمار المشتري‮" ‬1982‮ ‬و"هروب‮" ‬2004،‮ "‬المشهد من قلعة روك‮" ‬2006،‮ ‬و"سعادة‮ ‬غامرة‮" ‬2009،‮ ‬ومجموعة كتب حملت عناوين‮" ‬الكراهية‮"‬،‮ ‬و"الصداقة‮"‬،‮ "‬التودد‮"‬،‮ ‬و"المحبة‮"‬،‮ ‬و"الزواج‮" ‬التي صدرت سنة‮ ‬2001‮ ‬وأصبحت مصدر إلهام للعديد من الأفلام،‮ ‬خاصة التي قامت بإخراجها سارة بولي،‮  ‬وآخرها مجموع قصصية بعنوان‮ " ‬الحياة العزيزة‮".‬

مونرو معروفة لدي النقاد بدقة سرد التفاصيل الحياتية،‮ ‬علاوة علي تحليل الواقع النفسي،‮ ‬تدور أحداث أعمالها القصصية‮ ‬غالباً‮ ‬داخل بلدات صغيرة،‮ ‬وتناقش‮ ‬غالباً‮ ‬مسألة القبول الإجتماعي بين الفئات المختلفة للمجتمع،‮ ‬التي تحددت نتيجة العلاقات المتواترة والصراعات المتعلقة بالمباديء،‮ ‬والمشاكل النابعة من صراع الأجيال،‮ ‬وصدام اختلاف طموحات الحياة،‮ ‬ويتميز أسلوبها السردي بتصوير تفاصيل الحياة اليومية والطقوس المعتادة في المجتمع مع تسليط الضوء علي لحظات بعينها مما‮ ‬يطرح أسئلة تثري الأحداث ويدفع القارئ لطلب المزيد‮.‬

حصلت أليس مونرو علي عديد من الجوائز منها جائزة الحاكم العام للرواية باللغة الإنجليزية سنوات‮ ‬68،‮ ‬78،‮ ‬86،‮ ‬وجائزة بولو سيلرز المخصصة للكتابة من أجل الفتيات سنة‮ ‬1971،‮ ‬كما حصلت علي جائزة المان بوكر الدولية سنة‮ ‬2009،‮ ‬وكانت قصتها‮ "‬الخادمة الشحاذة‮" ‬أدرجت بالقائمة القصيرة بها سنة‮ ‬1980‮ . ‬وفي‮ ‬أول رد فعل علي‮ ‬فوزها بالجائزة قالت إنها لا تصدق هذا‮.‬

في حوار مع مونرو عن مجموعتها الأخيرة‮ "‬الحياة العزيزة‮"‬

كنا فقراء‮..‬ولكن الكتب كانت حولنا دائما

حوار‮ ‬ديبورا تريسمان

ترجمة‮: ‬أمير زكي


اجرت مجلة نيويورك حوار مطولا مع أليس مونرو بمناسبة صدور آخر مجموعاتها القصصية‮ " ‬الحياة العزيزة‮" ‬،‮ ‬وهي مجموعة تتضمن قصصا عن نساء‮  ‬تلقي عن أكتافها قيود تربيتهن والقيام بشيء‮ ‬غير تقليدي‮ ‬،‮ ‬وربما‮ ‬يُعاقبن علي ذلك من قبل رجال‮ ‬يخونونهم ويهجرونهم في ذروة ضعفهن‮. ‬هذا‮ ‬يحدث في قصص‮: "‬هَجْر مارفلي‮"‬،‮ "‬آموندسين‮"‬،‮ "‬كوري‮"‬،‮ "‬القطار‮"‬،‮ ‬وقصص أخري‮. ‬حتي العمة في قصة‮ "‬الملاذ‮" ‬تدفع ثمن ما‮ ‬يبدو التمرد المحدود ضد ديكتاتورية زوجها‮. ‬وهو الأمر الي اعتبره الصحفي الذي اجري الحوار وكأنه مسار حتمي بالنسبة لمونرو‮: "‬آموندسين‮" ‬تجربة الفتاة الأولي تكون مع رجل أناني تماما‮ ‬،‮ ‬هذا هو النمط الذي‮ ‬يستهويها‮. ‬جائزة تستحق السعي إليها،‮ ‬علي الرغم من أن العلاقة تنتهي بشيء أكثر واقعية،‮ ‬هي تحفظه في عالم الخيال‮. ‬كما أري الأمر.في‮ "‬هَجْر مارفلي‮" ‬عدد معقول من الناس‮ ‬يبحثون عن الحب والجنس‮. ‬يبدو لي أن المُعاقة وزوجها حصلا علي ذلك،‮ ‬بينما حولهما،‮ ‬لا‮ ‬يلتحق العديد من الناس بالركب لأسباب عديدة‮. ‬أنا أعجبت بالفعل بالفتاة التي خرجت،‮ ‬وآمل بالأحري أن تجتمع بطريقة ما مع الرجل الذي ماتت زوجته‮. ‬في‮ "‬الملاذ‮"‬،‮ ‬هناك‮ "‬زوجة مثالية‮" ‬واضحة،‮ ‬تقريبا شخصية كاريكاتورية،‮ ‬كأنها تسير علي خطي مجلات المرأة التي كانت موجودة عندما كنت شابة‮. ‬في النهاية،‮ ‬تشعر بالضجر من ذلك،‮ ‬والله‮ ‬يعلم ما الذي سيؤدي إليه هذا الضجر‮. ‬قصة‮ "‬القطار‮" ‬مختلفة تماما،‮ ‬إنها عن رجل‮ ‬يشعر بالثقة والرضا طالما لا‮ ‬يقف الجنس في طريقه‮. ‬أظن أن امرأة لعوب قد جرحته عندما كان شابا،‮ ‬ولا أظن أنه استطاع أن‮ ‬يفعل مع ذلك شيئا سوي الهروب‮.‬

س‮: ‬في قصصك هناك عادة جرح عند كل فتاة تحاول جذب الاهتمام لنفسها‮ ‬،‮ ‬الفردية،‮ ‬بالنسبة للنساء،‮ ‬يتم رؤيتها كدافع مثير للعار‮. ‬هل احتاج الأمر منك جهد كبير لاختراق ذلك في حياتك،‮ ‬لتأخذي مكانة الكاتبة؟ هل كان من الطبيعي بالنسبة للفتيات القادمين من أونتاريو الريفية أن‮ ‬يلتحقن بالجامعة مثلما فعلت؟

مونرو‮: ‬لقد تربيت علي الاعتقاد أن أسوأ شيء‮ ‬يمكن أن تفعلينه هو أن‮ "‬تلفتي الانتباه لنفسك‮" ‬أو‮ "‬أن تعتقدي أنك ذكية‮". ‬كانت أمي استثناء لهذه القاعدة وعوقبت بالعلامات المبكرة لمرض باركنسون‮. (‬القاعدة كانت تنطبق علي الريفيين مثلنا،‮ ‬لا سكان المدن‮). ‬حاولت أن أمضي في حياة لائقة وخاصة وحصلت علي القبول في معظم الأوقات‮. ‬لا توجد فتيات أعرفهن كن‮ ‬يذهبن إلي الجامعة،‮ ‬والقليل من الأولاد كانوا‮ ‬يفعلون ذلك‮. ‬حصلت علي منحة لعامين،‮ ‬ولكن في هذا الوقت كنت قد حصلت علي فتي أراد أن‮ ‬يتزوجني ويأخذني إلي الساحل الغربي؛ بالتالي كان باستطاعتي أن أكتب طوال الوقت‮. (‬هذا ما كنت أرغب فيه منذ كنت في بيتنا‮. ‬كنا فقراء ولكن كانت الكتب دوما حولنا‮).‬

س‮: ‬لقد كتبت الكثير عن نساء شابات‮ ‬يشعرن أنهن محبوسين بداخل الزواج والأمومة،‮ ‬ويبحثن عن شيء آخر في الحياة‮. ‬أنت أيضا تزوجت في وقت مبكر،‮ ‬وكان لديك ابنتان وأنت في منتصف العشرينيات‮. ‬ما مدي صعوبة موازنة التزاماتك كزوجة وأم وطموحاتك ككاتبة؟

مونرو‮: ‬ليست الأعمال المنزلية أو الأطفال هي التي كانت تشدني للأسفل‮. ‬كنت أقوم بالأعمال المنزلية طوال حياتي‮. ‬إنها نوع من القاعدة الاعتباطية تتعلق بأن كون النساء تحاولن فعل شيء‮ ‬غريب كالكتابة سيجعلهن‮ ‬غالبا مهملات‮. ‬لقد وجدت صديقات بالفعل،‮ ‬نساء أخريات‮ ‬يمزحن ويقرأن خلسة وكنا نقضي أوقاتا طيبة‮. ‬المشكلة هي في الكتابة نفسها،‮ ‬التي عادة ما لا تكون جيدة‮. ‬أعمل في ظروف تعاقد لم أكن أتوقعها،‮ ‬كان للحظ دور في ذلك،‮ ‬كان ذلك في وقت طُرح فيه سؤال‮ "‬أين أدبنا الكندي؟‮" ‬لاحظ بعض الناس نقص العروض التي توجه لي،‮ ‬وساعدوني من ساعتها‮.‬

س‮: "‬الحياة العزيزة‮" ‬تتضمن أربع قصص تصفينها علي أنها‮ "‬ليست قصصا تماما‮... ‬هي بمثابة سير ذاتية من جهة المشاعر،‮ ‬لا‮ ‬يوجد تفكير،‮ ‬غالبا،‮ ‬أو في الحقيقة فالأمر كذلك كلية‮" (‬إحدي القصص‮ "‬الحياة العزيزة‮" ‬تدور في نيويورك كمذكرات وليس قصة‮). ‬هذه القصص تبدو أشبه بالأحلام؛ مجزأة،‮ ‬تسترجع اللحظات‮ ‬غير المذكورة جيدا وغير المفهومة جيدا من طفولتك‮. ‬هل هي منقولة من مذكرات كنت تكتبينها في هذا الوقت؟

مونرو‮: ‬أنا لم أحتفظ أبدا بمذكرات‮. ‬أنا فقط أذكر الكثير لكوني منغمسة ذاتيا أكثر من معظم الأشخاص‮.‬

س‮: ‬تلعب أمك دورا في القصص الأربع‮. ‬قلت في حوار عام‮ ‬1994‮ ‬في باريس ريفيو أنك أمك كانت المادة الرئيسية في حياتك‮. ‬هل هذا حقيقي؟

مونرو‮: ‬أمي كما أفترض هي الرمز الرئيسي في حياتي لأن حياتها كانت حزينة جدا وظالمة لها،‮ ‬وقد كانت شجاعة،‮ ‬ولكن أيضا لأنها كانت مصرة علي جعلي فتاة كنيسة تقليدية،‮ ‬هذا الذي قاومت لرفضه منذ كنت في السابعة تقريبا‮.‬

س‮: ‬فوجئت أن أراك تصفين هذا القسم من الكتاب بأنه‮ "‬الأول والأخير‮" ‬الذي سيدور حول حياتك‮. ‬يبدو أن العديد من قصصك استعانت بعناصر من طفولتك وحياة أبويك،‮ ‬مجموعتك المنشورة عام‮ ‬2006‮: "‬منظر كاسل روك‮" ‬كانت مبنية علي تاريخ عائلتك،‮ ‬أليس كذلك؟

مونرو‮: ‬لقد استعنت بأجزاء من كل تاريخ حياتي،‮ ‬ولكن الأشياء الأخيرة في الكتاب الجديد كانت كلها حقائق بسيطة‮. ‬كان من المفترض أن أقول إن‮ "‬منظر كاسل روك‮" ‬هي قصة عائلتي بقدر ما استطعت الحكي‮.‬

س‮: ‬لقد اكتشفتِ‮ ‬وأنت تبحثين من أجل الكتاب،‮ ‬أنه كان هناك كاتب في كل جيل من أجيال عائلتك‮. ‬هل كان لديك إحساس بهذا عندما كنت في طريقك لتصبحي كاتبة،‮ ‬أم كنتِ‮ ‬ترين طموحاتك علي أنها شيء فريد من نوعه؟

مونرو‮: ‬فوجئت بوجود العديد من الكتاب في العائلة‮. ‬الأسكتلنديون مهما كانوا فقراء فهم‮ ‬يتعلمون القراءة‮. ‬الأغنياء والفقراء والرجال والنساء‮. ‬ولكن بشكل‮ ‬غريب لم‮ ‬يكن لديّ‮ ‬علم بذلك وأنا صغيرة‮. ‬كان هناك سعي منهم لأتعلم فنون الخياطة‮ (‬من قبل عماتي وجداتي وليس أمي‮). ‬وفي مرة صدمتهم وقلت إنني سألقي بكل هذه الأشياء عندما أكبر،‮ ‬ولقد فعلت ذلك‮.‬

س‮: ‬عندما كنت تكتبين في هذه الأيام المبكرة،‮ ‬هل كان هناك كتاب آخرون اعتبرتيهم بشكل واع نموذج لك،‮ ‬كتاب كنت متعلقة بهم؟

مونرو‮: ‬الكاتبة التي أعجبت بها كانت إيدور ويلتي‮. ‬وما زلت أحبها،‮ ‬لم أحاول أبدا أن أقلدها‮. ‬هي جيدة جدا،‮ ‬وتكتب نفسها جدا‮. ‬كتابها الأروع هو‮ "‬التفاح الذهبي‮" ‬علي ما أظن‮.‬

س‮: ‬كيف استقررت علي شكل القصة القصيرة‮ ‬،‮ ‬أم الشكل هو الذي استقر بادخلك؟

مونرو‮: ‬لسنوات وسنوات كنت أفكر أن القصص مجرد تدريب،‮ ‬حتي أصل للوقت الذي سأكتب فيه رواية‮. ‬ثم اكتشفت أن القصة هي كل ما أستطيع فعله،‮ ‬وواجهت الأمر‮. ‬أظن أن محاولتي لأن أضع الكثير من الأشياء في القصص هي بمثابة عزاء لي‮.‬

س‮: ‬عادة عندما أحرر قصة لك،‮ ‬أحاول حذف فقرة تبدو زائدة عن الحاجة جدا في الصفحة الثالثة،‮ ‬ثم عندما أصل للصفحة‮ ‬24‮ ‬أكتشف فجأة أنها كانت أساسية للقصة‮. ‬نقرأ القصص وكأنك تكتبينها بنفس طويل،‮ ‬ولكني أخمن أنك تقضين وقتا طويلا في التفكير في وضع هذه الفقرة هنا أو هناك‮.‬

مونرو‮: ‬أنا أتجول كثيرا جدا مع القصص،‮ ‬أضع الأشياء هنا وهنا‮. ‬أصبح واعية عندما أفكر فجأة أن كل هذا‮ ‬يمضي بشكل خاطيء‮.‬

س‮: ‬هل تجدين الكتابة صعبة،‮ ‬وأن هذه القاعدة،‮ ‬وهل تصبح أسهل مع الوقت؟

مونرو‮: ‬أجد الكتاب صعبة وغير صعبة‮. ‬البداية تكون لطيفة في المسودة الأولي،‮ ‬ثم التألم عند المراجعة،‮ ‬وإعادة الكتابة وهكذا‮.‬

س‮: ‬قلت مرتين في العقد الماضي أنك ستعتزلين الكتابة‮. ‬ثم أجد قصصا جديدة لك علي مكتبي‮. ‬ما الذي‮ ‬يحدث لك عندما تحاولين التوقف؟

مونرو‮: ‬أتوقف بالفعل،‮ ‬من أجل الرغبة الغريبة في أن أكون‮ "‬أكثر طبيعية‮" ‬وأن آخذ الأمور ببساطة‮. ‬ثم تأيني فكرة مثيرة‮. ‬هذه المرة أظن أن الكلام عن الاعتزال حقيقي،‮ ‬أنا في الحادية والثمانين،‮ ‬أنسي الأسماء والكلمات كما هو متوقع‮.‬

س‮: ‬علي الرغم من أن القصص في‮ "‬الحياة العزيزة‮" ‬فيها انفتاح ونزوع متسامح،‮ ‬فتراكم الندم والاغتراب في حيوات شخصياتك‮ ‬يضفي نهاية مريرة بشكل ما‮. ‬قليلة هي قصص حيوات النساء الخالية من الفقد أو الحزن‮. ‬أنا واثقة من أن هذا سؤال مزعج،‮ ‬ولكن هل تعتبرين نفسك كاتبة نسوية؟

مونرو‮: ‬لم أعتقد أبدا أنني كاتبة نسوية،‮ ‬ولكن بالطبع لن أعرف،‮ ‬أنا لا أظن أن كل الأمور تجتمع معا بهذه الطريقة‮. ‬أعتقد أنه من الصعب جدا أن تكون رجلا؛ أفكر كيف‮ ‬يمضي الأمر إن كان عليّ‮ ‬أن أحمل هم عائلة خاصة في السنوات الفاشلة الأولي‮.‬

س‮: ‬هل هناك قصة في‮ "‬الحياة العزيزة‮" ‬تميلين عاطفيا إليها بشكل خاص؟ واحدة تؤثر فيك بشكل أكبر من القصص الأخري؟

مونرو‮: ‬بشكل جزئي أميل الي‮ "‬آموندسين‮" ‬،‮ ‬إنها تؤثر فيّ‮ ‬كثيرا‮. ‬ومشهدي المفضل موجود في قصة‮ "‬الكبرياء‮"‬،‮ ‬عندما بدأ طفل الظربان بالسير علي العشب‮. ‬في الحقيقة،‮ ‬أنا أحب القصتين جدا،‮ ‬علي الرغم من كوني أعلم أنه ليس من المفترض أن أقول ذلك‮. ‬

النيويوركر‮ ‬20‮ ‬نوفمبر‮ ‬2012

نهر منستيونغ

ترجمة‮: ‬أحمد‮  ‬الشيمي

I

أزهار سوسن ودموية،

ونعناع بري،

نجمع ملء الذراعين،

ونرجع جذلين‮. ‬

تقدمات،‮ ‬ذلك هو اسم الكتاب‮.  ‬كُتِب بحروف ذهبية علي‮ ‬غلاف أزرق‮ ‬غامق‮.  ‬أسفل الحروف نُقش الاسم الثلاثي لمؤلفته‮:  ‬ألميدا جويانت روث‮.  ‬كانت الجريدة المحلية‮ " ‬الفيديت‮"  ‬تنعتها‮  ‬بـ‮  ‬شاعرتنا‮.   ‬يبدو أن ثمة مزيجًا من الاحترام والازدراء لمهنتها وجنسها كليهما،‮ ‬أو لما‮ ‬يوحي به الاسم والمهنة من أزمة متوقعة‮.  ‬علي‮ ‬غلاف الكتاب صورة فوتوغرافية،‮ ‬واسم المصور في زاوية،‮ ‬وفي زاوية أخري التاريخ‮:  (‬1865‮).   ‬نُشر الكتاب فيما بعد عام‮ (‬1873‮). ‬

كانت الشاعرة ذات وجه أسيل،‮ ‬وأنف‮ ‬يميل إلي الطول،‮ ‬وعينين بارزتين حزينتين سوداوين،‮ ‬يخيل للناظر إليهما أنهما علي وشك السقوط علي خديها مثل دموع عملاقة‮.  ‬اجتمع بعض من شعرها الأسمر حول وجهها في ضفائر مرسلة،‮ ‬أو ستائر مسدلة،‮ ‬مع وجود خيط‮  ‬من شعر أشيب ظاهر للعيان رغم أنها بدت‮  ‬في تلك الصورة لم تتجاوز الخامسة والعشرين‮.  ‬ليست حسناء ولكنها من ذلك النوع من النساء الذي‮ ‬يعمر طويلا ولا‮ ‬يزداد مع الأيام سمنة‮.  ‬ترتدي فستانًا مزينًا بثنيات ضفيرية من شريط عريض مطرز بحاشية من قماش أبيض،‮ ‬أهداب أو عقد،‮ ‬يؤنس القبٌة عند الرقبة‮. ‬علي رأسها قبعة مصنوعة،‮ ‬علي ما‮ ‬يبدو،‮ ‬من القطيفة ذات اللون الغامق ليضاهي لون الفستان‮.  ‬القبعة عاطلة من الزينة،‮ ‬لا تبعث علي الإعجاب،‮ ‬أشبه بالبيريه ناعم الملمس مما‮ ‬يجعل الناظر‮ ‬يحس بمقاصد فنية،‮ ‬أو علي الأقل‮ ‬غرابة حيية تشي بطبع حرون لـهذه السيدة الشابة ذات الرقبة الطويلة ورأسها المائل للأمام مما‮ ‬يدل علي أنها كانت طويلة القامة ضامرة الجسم تعوزها البراعة‮.  ‬تبدو بدءا من خصرها أشبه بشاب من طبقة النبلاء عاش في قرن سابق،‮  ‬أو لعلـها كانت الموضة‮. ‬

جاء في التصدير لكتابها‮:  " ‬في عام‮ ‬1854‮ ‬جاء أبي بنا ـ أمي وأختي كاثرين وأخي وليام وأنا ـ إلي براري كندا الغربية‮ (‬كما كانت تسمي حينذاك‮).  ‬كان أبي‮ ‬يصنع عدة الحرب للفرس والإنسان‮.  ‬كانت هذه مهنته التي امتهنها،‮ ‬ولكنه كان رجلا مثقفا‮ ‬يحفظ عن ظهر قلب صفحات من الكتاب المقدس،‮ ‬وصفحات من مسرحيات شكسبير،‮ ‬وكتب إدموند بيرك‮.  ‬استطاع أن‮ ‬يحقق نجاحا اقتصاديا بعد وقت قصير من هجرته إلي تلك البلاد الجديدة‮.  ‬أنشأ متجرا كبيراً‮ ‬لبيع السروج والمصنوعات الجلدية‮.  ‬وبعد عام شيد هذا المنزل المريح الذي فيه أقيم الآن‮ ... ‬وحدي‮. ‬كنت في الرابعة عشرة،‮ ‬أكبر إخوتي،‮ ‬عندما جئنا إلي هذه البلاد من كنغستون،‮ ‬تلك المدينة الجميلة التي لم أعد أري شوارعها الأنيقة،‮ ‬بيد أنها لا تبرح الذاكرة‮.  ‬كانت أختي في الحادية عشرة وأخي في التاسعة‮.  ‬وفي الصيف الثالث من إقامتنا الجديدة مرض أخي وأختي فجأة بحمي كانت منتشرة،‮ ‬وقضيا نحبهما لا‮ ‬يفصلـهما إلا أيام قلائل‮.  ‬أما أمي الغالية فلم تستعِد نشاطها وحيويتها بعد تلك الضربة القاصمة لأسرتنا‮.  ‬تدهورت صحتها ووافتها المنية هي الأخري بعد ثلاث سنوات‮.  ‬أصبحت من ثم بمثابة ربة بيت بالنسبة لأبي،‮  ‬وكنت سعيدة أن أساعده في بيته اثنتي عشرة سنة حتي وافاه الأجل فجأة ذات صباح في متجره‮. ‬

منذ نعومة أظافري وأنا متيمة بقرض الشعر‮.  ‬رحت أشغل نفسي،‮ ‬أو قل أسّكِن آلامي التي فاقت،‮ ‬علي ما أظن،‮ ‬آلام البشر جميعا،‮ ‬بمحاولات متعثرة في نظمه‮.  ‬لم أوت براعة‮ ‬يدوية أستغلـها في أشغال الإبرة،‮ ‬وتلك المنتجات الرائعة من أعمال الزخرفة التي‮ ‬يراها المرء هذه‮  ‬الأيام،‮  ‬ذلك الفيض الوافر من سلال الفاكهة والخضراوات التي تزدان برسومات لصبية هولنديين صغار،‮ ‬أو عذاري متقلنسات‮ ‬يقبضن علي كؤوس ملأي بالماء،‮  ‬دليل آخر علي أنها فوق طاقتي‮.  ‬ولذا فإني أقدم،‮ ‬عوضا عن ذلك،‮ ‬ثمار ساعات فراغي،‮ ‬هذه الأبيات،‮ ‬أو قل هذه الزهرات المتواضعات،‮ ‬أو هذه الأغنيات البسيطة،‮ ‬أو الدوبيتات،‮ ‬أو قل هذه التأملات‮. " ‬

وفي ضمن العناوين التي أعطتها لـهذه القصائد‮:  "‬أطفال في لـهوهم‮"  ‬و‮ "‬سوق الغجر‮" ‬و‮ "‬زيارة لأسرتي‮"  ‬و‮  "‬ملائكة من ثلج‮"  ‬و‮ "‬قس عند مصب نهر منستيونغ‮"  ‬و‮ "‬جولة في الغابة القديمة‮"  ‬و‮  "‬لحن الحديقة‮".  ‬وقصائد أخري عن الطيور والزهور البرية،‮ ‬والعواصف الثلجية،‮ ‬وبعض الأشعار الـهزلية عما‮ ‬يجول في خاطر المرء وهو‮ ‬يستمع للمواعظ الكنسية‮. ‬

‮"‬أطفال في لـهوهم‮":  ‬الكاتبة طفلة تلـهو مع أخيها وأختها‮.  ‬من هذه الألعاب لعبة‮ ‬يتجاذب فيها الأطفال ويتوارون في الأركان،‮ ‬ويحاول بعضهم الإمساك بالآخر‮.  ‬كانت تلعب في ظلمة الشفق المتعاظمة حتي جاء‮ ‬يوم وأدركت أنها أكبر سنا من لداتها‮.  ‬لم تزل تسمع الأصوات الطيفية لأخيها وأختها وهما‮ ‬يناديان عليها‮:  ‬تعالي،‮ ‬هلمي،‮ ‬دع‮  ‬ميدا‮  ‬تأت‮.  (‬ربما كانت ألميدا تسمي ميدا بين أفراد الأسرة،‮ ‬ولعلـها اختصرت اسمها ليوافق مقتضي القصيدة‮). ‬

‮"‬سوق الغجر‮":  ‬كان الغجر‮ ‬يقيمون معسكرهم علي أبواب المدينة‮.  ‬سوق‮  ‬يبيعون فيه القماش وأشياء أخري بسيطة‮.  ‬وكانت الكاتبة وهي طفلة تخشي أن‮ ‬يسرقها هؤلاء الغجر من أسرتها‮.  ‬ولكن الأمور جرت علي النقيض،‮  ‬فقد سرقت أسرتها منها،‮ ‬سرقها‮ ‬غجر لا تعرف مكانهم ولا كيف السبيل إلي مساومتهم‮. ‬

‮"‬زيارة لأسرتي‮":  ‬وهي زيارة للمقابر،‮  ‬والقصيدة حديث إلي النفس‮. ‬

‮"‬ملائكة من ثلج‮":  ‬كانت الكاتبة تٌعلِم أخاها وأختها كيف‮ ‬يرسمون ملائكة بالرقود علي الثلج وتحريك الأذرع لتطبع أشكالا علي الثلج أشبه بالأجنحة‮.  ‬كان أخوها‮ ‬ينهض دائما دون أن‮ ‬يكترث تاركا ملاكاً‮ ‬بجناح واحد‮.  ‬هل سيٌمنح جناحه الناقص في السماء؟‮  ‬أم سيطير ببدائلـه؟‮ ‬

‮" ‬قسيس عند مصب نهر منستيونغ‮":  ‬هذه القصيدة تنوه باعتقاد شعبي بعيد عن الصحة بأن المستكشف أبحر صوب الشاطئ الشرقي لبحيرة هورون،‮ ‬واستقر عند مصب النهر الكبير‮. ‬

‮"‬جولة في الغابة القديمة‮" :  ‬عبارة عن قائمة بكل أنواع‮  ‬الأشجار التي تم قطعها من الغابة الأصلية،‮  ‬أسمائها وصفاتها الشكلية واستخداماتها،‮ ‬مع وصف عام للدببة والذئاب والصقور والغزلان وطير الماء‮.‬

‮"‬لحن الحديقة‮":  ‬يبدو أنها دليل أو تكملة لقصيدة الغابة‮ ‬،‮ ‬وتحتوي علي بيان بالنباتات التي جلبت من الأقطار الأوربية مع شذرات من التاريخ والخرافات التي اتصلت بها‮ ‬،‮ ‬وما استنبت منها من نباتات كندية في النهاية‮. ‬

القصائد مكتوبة في رباعيات أو دوبيتات‮.  ‬وثمة محاولتان في السونيتة‮.  ‬القافية بسيطة في الغالب أ ب أ ب أو أ ب ج‮ .  ‬تستخدم القافية المذكرة أي التي تنتهي بمقطع منبور،‮  ‬وقليلا ما تستخدم القافية المؤنثة أي التي تنتهي بمقطع‮ ‬غير منبور‮.  ‬تري هل تستخدم هذه المصطلحات اليوم؟‮  ‬لا وجود للشعر‮ ‬غير المقفي‮.‬

II

أزهار بيضـاء بـاردة كالـثلج

تزدهر حيث‮ ‬يرقد‮ "‬الملائكة‮".‬

هل‮ ‬يكتفين بالرقود تحت الثلج

أم‮ ‬يهمن في ملكوت اللـه؟


في عام‮ ‬1879‮ ‬كانت ألميدا روث لم تزل تعيش في المنزل الذي‮ ‬يقع علي الناصية عند ملتقي شارعي دوفرين وبيرل‮ ‬،‮ ‬المنزل الذي شيده الأب لأسرته‮.  ‬لم‮ ‬يزل قائما هناك حتي‮  ‬اليوم‮ ‬،‮ ‬يعيش فيه الآن مدير متجر لبيع الخمور‮.  ‬والبيت مكسو من الخارج بألواح من‮   ‬الألومنتال‮ ‬،‮  ‬واستبْدل بالشرفة مدخل مسقوف‮.  ‬أما مخزن الخشب والسور والأبواب والمرحاض والزريبة فلم‮ ‬يعد لهم وجود‮.  ‬تظهر هذه الأشياء في مكانها في صورة ترجع إلي ثمانينيات القرن التاسع عشر‮.  ‬يظهر البلي علي البيت والسور حيث‮ ‬يبدو البيت كانه في حاجة إلي طلاء‮.  ‬أو لعل ذلك لشكل الصورة الباهت ذي اللون الضارب إلي السمرة‮.  ‬بدت النوافذ ذات الستائر المصنوعة من‮  ‬شرائط‮ ‬،‮ ‬أشبه بالعيون البيضاء‮.  ‬لا تري العين أثرا لأشجار الظل‮.  ‬والواقع أن أشجار الدردار الطويلة‮  ‬التي كانت تغمر المدينة بالظلال حتي خمسينيات القرن التاسع‮       ‬عشر،‮ ‬كأشجار الجميز التي تلقي الآن بظلالـها القصيرة‮ ‬،‮ ‬أضحت أشجارا صغيرة ضامرة‮  ‬ضرب حولـها سور لم‮ ‬يدفع عنها الأبقار المعتدية‮.  ‬وخارج ذلك الحاجز من الأشجار توجد أفنية خلفية وحبال‮ ‬غسيل وأكوام خشب ومساحات صغيرة من النخيل وحظائر ومراحيض‮ ‬،‮ ‬كلـها مكشوفة عرضة للعوامل الجوية‮.  ‬قليلة هي البيوت التي تهتم بتنمية الزرع حولـها‮.  ‬لا تجد إلا مساحات صغيرة من نبات موز الجنة وكثبان النمل والقاذورات المكومة‮ ‬،‮  ‬وبعضا من نبات البطونيا الذي‮ ‬ينمو في تجاويف جذوع الأشجار المقطوعة‮.  ‬الشارع الرئيس فقط هو المفروش بالحصباء‮ ‬،‮ ‬أما سائر الشوارع فليست إلا طرقات قذرة موحلة‮ ‬يعلوها التراب حسب الفصول‮ .  ‬الأسوار ضربت حول الأفنية لتذود عنها الحيوانات المعتدية‮.  ‬أما الأبقار فقد شد وثاقها بمعاقل في أماكن خالية من العشب‮ ‬،‮  ‬أو تركت لترعي في الأفنية الخلفية‮ ‬،‮  ‬بينما تركت الخنازير وكذلك الكلاب حرة مطلقة السراح تنام بكبرياء علي الجسور الخشبية‮.  ‬لقد استقرت المدينة ولن‮  ‬تزول‮ ‬،‮  ‬بيد أنها لم تزل تأخذ طابع المخيم‮ .  ‬ومثل المخيم أصبحت مشغولة طوال الوقت‮ ‬،‮  ‬تفيض بالناس الذين تراهم‮ ‬يمشون علي أقدامهم أينما وجدتهم‮ ‬،‮ ‬مليئة بالحيوانات التي تترك مخلفاتها في كل مكان؛‮  ‬روث الخيل والأبقار وغائط الكلاب مما‮ ‬يدفع السيدات لرفع أرديتهن تجنبا للأذي‮ .  ‬أصبحت المدينة تعج بالضوضاء التي تصدر من عمال البناء وسائقي العربات الذين‮ ‬يصيحون بجيادهم‮ ‬،‮ ‬والقطارات التي تأتي مرات عدة في اليوم‮ . ‬

قرأت وصفا لتلك الحياة في جريدة‮ " ‬الفيديت‮" ‬المحلية‮.  ‬كان الناس أصغر سنا من اليوم‮ ‬،‮ ‬وربما مما سيكونون في المستقبل‮. ‬الذين تعدوا الخمسين لا‮ ‬يهاجرون إلي البلاد الجديدة‮.  ‬كانت القبور تضم عددا قليلا من الناس سيما من الشباب الذين لقوا حتفهم في حوادث،‮ ‬أو من الأطفال الذين قضوا نحبهم بسبب الأمراض المعدية‮.  ‬يشكل الشباب أغلب سكان المدينة،‮  ‬وأما الأطفال والصبية فإنهم‮ ‬يجولون الأرجاء في جماعات أشبه بالعصابات‮.  ‬الذهاب إلي المدرسة كان إجباريا أربعة أشهر في العام‮.  ‬توجد الكثير من الأعمال المؤقتة التي‮ ‬يستطيع الجميع القيام بها حتي الأطفال الذين تعدوا الثامنة أو التاسعة؛‮  ‬جمع الكتان وربط الخيول‮  ‬وتوصيل البقالة إلي المنازل وتنظيف المعديٌات القائمة أمام المحال التجارية‮.  ‬وكثيرا ما‮ ‬يشغلون الوقت بحثا عن المغامرة‮.  ‬ذات‮ ‬يوم تبعوا سيدة ثملة تدعي كوين آجي‮.  ‬وضعوها علي عربة‮ ‬يد وطافوا بها حول المدينة ثم ألقوا بها في حفرة لإعادتها إلي وعيها‮.  ‬كانوا أيضا‮ ‬يقضون جزءا‮ ‬غير قليل من وقتهم حول محطة السكة الحديد،‮  ‬يقفزون فوق العربات الواقفة،‮ ‬ويندفعون بينها،‮ ‬ويراهنون علي المخاطرة مما كان‮ ‬ينتهي بهم أحيانا إلي العجز أو الموت‮.  ‬كانوا‮ ‬يراقبون الغرباء القادمين إلي المدينة‮.  ‬يتبعونهم ويعرضون عليهم حمل حقائبهم وإرشادهم إلي الفندق لقاء خمس سنتات للحقيبة الواحدة‮.  ‬أما الذين لا‮ ‬يبدو عليهم‮ ‬يسر العيش فكانوا عرضة للمهانة والمضايقة،‮  ‬يحتشد حولهم الصبية مثل أسراب الذباب،‮  ‬ويمطرونهم بالأسئلة أينما ذهبوا‮.  ‬هل جاءوا للبدء في مشاريع جديدة؟‮  ‬أم لإغراء الناس بالاستثمار في مشاريع بعينها ؟‮  ‬أم لبيع الأدوية أو تلك الصناعات الجديدة؟‮  ‬أم‮  ‬للوعظ‮  ‬في أركان المدينة ؟‮  ‬كان ذلك‮  ‬يحدث طوال أيام الأسبوع‮ .  ‬وتنصح الفيديت الناس أن‮ ‬يأخذوا حذرهم هذه الأيام من الانتهازيين والسراق والمومسات والمحتالين والباعة الجائلين والمحامين المشبوهين واللصوص الذين تقابلـهم في الطرقات ولاسيما عند السكة الحديد‮.   ‬كانت صفحاتها تتضمن‮  ‬إعلانات عن سرقات تمت‮ ‬،‮ ‬وأموال أعطيت بقصد الاستثمار ولم ترجع لأصحابها،‮  ‬وبنطلونات سرقت من فوق حبال الغسيل‮ ‬،‮  ‬وأكوام خشب نقصت‮ ‬،‮  ‬وبيض دجاج اختفي من حظائر دواجن‮.  ‬تكثر هذه الأفعال في الطقس الحار‮. ‬

الطقس الحار مجلبة للحوادث أيضا‮.  ‬يزداد عدد الخيول الجامحة التي تقلب العربات وتهيج دون رادع‮.  ‬أيد تدهمها آلات الغسيل‮ ‬،‮  ‬ورجل‮ ‬يقطعه نصفين أحد ألواح الخشب سقط عليه في مخزن الخشب‮.  ‬النوم العميق صعب المنال‮ ‬،‮ ‬الرضع‮ ‬يذبلون بسبب أمراض الصيف‮.  ‬وأصحاب الأجسام اللحيمة لا‮ ‬يقدرون علي التقاط أنفاسهم‮. ‬الموتي‮ ‬يدفنون علي عجل‮.  ‬وذات‮ ‬يوم هام أحد الناس في الشوارع‮  ‬وهو‮ ‬يضرب علي جرس بقرة ويصيح‮ :  ‬التوبة‮ ! ‬التوبة‮ !  ‬لم‮ ‬يكن من الغرباء هذه المرة،‮ ‬كان شابا‮ ‬يعمل عند قصاب‮.  ‬أخذوه إلي منزلـه ولفوه في قماش بارد مبتل وأعطوه بعض المهدئات‮ ‬،‮ ‬ومنعوه من الخروج‮ ‬،‮ ‬وصلوا من أجلـه‮ ‬،‮ ‬وعندما لم‮ ‬يبرأ وضعوه في البيمارستان‮. ‬

يقع منزل ألميدا روث علي ناصية شارع‮  ‬دوفرين‮ ‬،‮  ‬وهو شارع معروف محترم‮.  ‬في هذا الشارع تقع بيوت التجار وبيت صاحب الطاحونة وبيت صاحب مصنع الملح‮.  ‬وأما شارع بيرل الذي تشرف عليه نوافذ بيتها وأبوابه الخلفية فحكاية أخري‮.  ‬هناك تجاورها بيوت العمال،‮  ‬صف طويل من البيوت الصغيرة ولكن المحترمة‮.  ‬إلي الآن والأمور مقبولة‮.  ‬ولكن الأمور تسوء عند نهاية ذلك الصف من البيوت المتلاصقة،‮  ‬وتزداد سوءا في الصف الثاني‮.  ‬لا‮ ‬يسكن هناك‮ ‬غير الفقراء وسيئي السمعة‮.  ‬كانوا‮ ‬يعيشون هناك علي حافة مستنقع‮ ‬يسمي مستنقع شارع‮      ‬بيرل،‮  ‬تم ردمه في ذلك الوقت‮. ‬هناك تنمو الأشجار الكثيفة والنباتات الضارة‮.  ‬هناك أقيمت الأكواخ المؤقتة‮.  ‬هناك أيضا تجد أكوام القمامة والأنقاض وأعدادا‮ ‬غفيرة من أطفال أشبه‮    ‬بالأقزام‮.  ‬هناك‮ ‬يدلق الناس الماء القذر أمام البيوت‮. ‬أجبرت البلدية الناس علي بناء المراحيض،‮ ‬ولكنهم ما لبثوا أن ذهبوا لقضاء حاجتهم في الأدغال القريبة‮.  ‬فئات من الصبية‮ ‬يذهبون إلي هناك بحثا عن مغامرة ويعودون بأكثر مما كانوا‮ ‬يرجون‮.  ‬ويقال إنه حتي مدير شرطة المدينة لم‮ ‬يكن‮ ‬يجرؤ علي النزول إلي شارع بيرل في ليلة الأحد‮.  ‬لم‮ ‬يحدث أن مشت ألميدا أمام تلك البيوت‮.  ‬في أحد هذه البيوت تعيش الفتاة الشابة آني التي تساعد ألميدا في تنظيف المنزل‮.  ‬هذه الفتاة الصغيرة نفسها لم‮ ‬يحدث أن ذهبت إلي المستنقع‮.  ‬فالسيدة المهذبة لا‮ ‬يجب أن تذهب إلي هناك‮. ‬

ولكن هذا المستنقع‮ ‬،‮ ‬وهو‮ ‬يقع إلي الشرق من منزل ألميدا روث‮ ‬،‮ ‬يعد منظرا جميلا وقت الفجر‮.  ‬تنام ألميدا في الجهة الخلفية من البيت‮.  ‬لم تبرح حجرة نومها القديمة التي كانت تشارك فيها أختها كاثرين‮.  ‬لا تفكر في الانتقال إلي حجرة النوم الأمامية الأوسع‮ ‬،‮  ‬حيث كانت أمها تنام طيلة اليوم‮ ‬،‮ ‬وأصبحت فيما بعد مختلي أبيها حتي وفاته‮.  ‬من خلال أحد نوافذها كانت تري الشمس مشرقة تغمر ضباب المستنقع الخفيف بالضياء الكثيف،‮  ‬وتتأمل الشجيرات القريبة تطفو أمام الضباب والأشجار الخلفية وهي ترتد شفافة بيضاء‮.  ‬أشجار البلوط في المستنقع وأشجار الجميز والطمراق والجوز المر‮. ‬


III

هنا حيث‮ ‬يلقي النهر البحر الداخل،

تنشر تنورتها الزرقاء من الخشب المهيب،

أفكر في الطير والحيوان والذين ووروا التراب،

أطلالـهم علي الرمال الشاحبة لم تزل قائمة‮.‬


أحد الغرباء الذين وصلوا إلي محطة السكة الحديد منذ بضع سنوات كان جارفيز بولتر الذي‮ ‬يشغل المنزل المجاور لمنزل ألميدا روث ذ‮ ‬يفصلـه عنه قطعة أرض فضاء تطل علي شارع دوفرين،‮ ‬اشتراها جارفيز فيما بعد‮.  ‬كان البيت أقل زخرفة من منزل روث،‮ ‬لا تحيط به أشجار الفاكهة أو الزهور‮.  ‬وذلك‮ ‬،‮ ‬كما كان الظن؛ لأن بولتر كان عزبا ماتت عنه زوجته ويعيش بمفرده‮.  ‬في وسعه أن‮ ‬يحفظ بيته نظيفا ولكنه لا‮ ‬يهتم بزخرفته خاصة إذا كان هو نفسه حسن الـهيئة متأنقا في ملبسه‮.   ‬ولكن الزواج من شأنه أن‮ ‬يحملـه علي العناية بزخرفة البيت‮  ‬وبالجانب العاطفي من حياته كذلك،‮ ‬ويحميه أيضا من شطط الغريزة ومن البخل والكسل والفساد والنوم الزائد وإدمان الشراب والتدخين وحتي من التجديف في الدين‮. ‬


في الشأن الاقتصادي،‮ ‬يظن أن وجيها جليلا من مدينتنا‮ ‬يواظب علي أخذ المياه من حنفية المدينة العامة،‮ ‬ويكمل مؤو نته من الوقود بجمع الفحم السائب من فوق خط السكة الحديد‮.  ‬تري هل‮ ‬ينوي دفع حق البلدية وهيئة السكة الحديد بكميات مجانية من الملح ؟


كتبت ذلك‮ "‬الفيديت،‮"  ‬جريا علي عادتها في الدعابة الحذرة والتعريض المستتر،‮ ‬أو حتي الاتهام الصريح،‮ ‬وعلي نحو لا تستطيعه جرائد اليوم دون الإفلات من عقوبة‮.  ‬إنهم‮ ‬يتعرضون لجارفيز بولتر بطبيعة الحال،‮  ‬بيد أنهم‮ ‬يتناولونه في مواضع أخري باحترام شديد بوصفه محاميا مدنيا،‮  ‬وصاحب عمل،‮ ‬وعضوا في مجلس الكنيسة‮.  ‬رجل كتوم‮ ‬غريب الأطوار إلي حد ما‮.  ‬لعل ذلك بسبب حالة العزوبة التي‮ ‬يعيشها،‮ ‬فقد ماتت عنه زوجته ويعيش وحيدا الآن؛‮  ‬حتي جلبه الماء من حنفية البلدة العامة و ملء جوالـه بالفحم السائب علي قضبان السكة الحديد كان بسبب وحدته‮.  ‬ولكنه مواطن مهذب ثري متقدم البطن قليلا‮ ‬يرتدي بذلة‮ ‬غامقة وحذاءا نظيفا،‮ ‬تزين وجهه لحية‮ ‬غزيرة،‮ ‬ويشيع‮  ‬برأسه شعر أسود‮ ‬يشوبه خط أشيب نحيل وثؤلول شاحب ظاهر في الشعر الكث وسط أحد حاجبيه‮.  ‬متجهم الوجه واثق النفس‮.  ‬يتحدث الناس عن زوجة شابة حسناء ماتت في أثناء ولادة طفلـها،‮ ‬أو بسبب حادثة مأساوية كاندلاع حريق في المنزل،‮  ‬أو حادثة‮   ‬قطار‮.  ‬ولا‮ ‬يوجد دليل علي ذلك كلـه،‮ ‬إلا أنه كان سببا في إثارة محببة‮.  ‬كل ما قالـه إن زوجته متوفاة‮. ‬

جاء إلي هذا المكان بحثا عن البترول‮.  ‬لقد تم حفر أول بئر بترول في العالم في مقاطعة لامبتون،‮ ‬جنوب هذه المدينة في خمسينيات القرن التاسع عشر‮.  ‬وأثناء الحفر اكتشف جارفيز بولتر الملح وراح‮ ‬يعمل بجد ليستفيد أقصي درجات الاستفادة‮.  ‬في إيابه من الكنيسة مع ألميدا روث كان‮ ‬يحكي لـها عن آبار الملح التي‮ ‬يمتلكها‮.  ‬يقول إنها علي مسافة اثني عشر قدما تحت الأرض‮.  "‬نقوم بضخ الماء الساخن إلي الملح كي‮ ‬يذوب،‮  ‬ثم نرفع المحلول الملحي إلي السطح ونصبه في أوعية ضخمة علي أجهزة تبخير مثبتة علي نيران هادئة حتي‮ ‬يتبخر الماء ويترسب الملح الصافي النقي‮.  ‬إنها سلعة لا‮ ‬يستغني عنها أحد‮."  ‬

‮"‬ملح الأرض‮"   ‬تقول ألميدا‮ . ‬

‮"‬نعم‮"   ‬يقول جارفيز وهو‮ ‬يقطب جبينه‮.  ‬قد‮ ‬يظن أنها تحط من قدره‮.  ‬ولكنها لا تقصد ذلك البتة‮.  ‬يحكي لـها أيضا عن المنافسين في مدن أخري من الذين حذوا حذوه‮ ‬،‮  ‬ويسعون لاحتكار السوق‮.  ‬ولحسن الحظ فإن آبارهم لم تحفر بالعمق المطلوب،‮ ‬وحتي أجهزة التبخير لديهم لا تعمل بالطريقة الفاعلة‮.  ‬الأرض تحتضن الكثير من الملح في باطنها،‮ ‬ولكن ليس من السهل استخراجه كما‮ ‬يظن بعض الناس‮. ‬

تقول ألميدا‮:  ‬ألا‮ ‬يعني أنه كان ثمة بحرٌ‮ ‬هائل في باطن الأرض؟‮ ‬

ويقول جارفيز‮:  "‬جائز جدا،‮ ‬جائز جدا‮."  ‬وراح‮ ‬يحكي لـها عن مشاريعه الأخري‮:  ‬مصنع طوب وفرن لحرق الحجر‮.  ‬ويشرح لـها كيف أن هذه المشاريع تدر أرباحا طائلة،‮ ‬وأين‮ ‬يوجد الطين الجيد‮.  ‬جارفيز‮ ‬يمتلك مزرعتين بهما مساحات من الأشجار الخشبية التي توفر الوقود لـهذه المشاريع‮ .‬


من بين الذين‮ ‬يتمشون قادمين من الكنيسة صباح أيام الآحاد المشمسة،‮ ‬رصدنا ثنائيا‮: ‬وجيه‮ (‬ملحي‮)  ‬و سيدة‮ (‬أديبة‮) ‬،‮ ‬ربما تجاوزا سن الشباب الأول ودلفا الآن إلي مرحلة الكهولة‮.  ‬فهل لنا أن نحدس؟‮  ‬


مثل هذه القفشات تظهر في جريدة‮ "‬الفيديت‮"  ‬المحلية في كل الأوقات‮. ‬

هل‮ ‬يحدسون؟‮  ‬وهل‮ ‬ينطوي مسلك جارفيز علي تودد للسيدة؟‮ ‬

ألميدا روث تمتلك مبلغا قليلا من المال ورثته عن أبيها،‮  ‬ولديها بيتها‮.  ‬ليست بالطاعنة في السن،‮ ‬وفي وسعها أن تنجب طفلا أو طفلين‮.  ‬وهي ربة بيت جيدة،‮ ‬ولـها‮ ‬غرام بعمل الحلوي الجليدية‮ ‬،‮ ‬والتورتة المزخرفة‮.  ‬وهو‮ ‬غرام نشهده‮ ‬غالبا عند الآنسات ذوات الخبرة‮.  ‬جمالـها لا تشوبه شائبة،‮ ‬وهيئتها حسنة لا تتوافر للكثيرات ممن في سنها من المتزوجات‮.  ‬فلم‮ ‬يرهق كاهلـها تربية أولاد أو عناية بزوج‮.  ‬ولكن لماذا تجاهلت‮ ‬يفاعتها الأولي وضربت صفحا عن الزواج في بلد‮ ‬يستغرب فيه الناس امرأة دون شريك وأولاد‮.  ‬كانت فتاة تميل للتشاؤم‮.  ‬ربما كانت هذه هي المشكلة‮:  ‬موت أخيها وأختها ثم أمها التي فقدت عقلـها قبل عام من وفاتها‮ ‬،‮ ‬وكانت تنام علي سريرها وتهذي بما لا تعرف‮.  ‬كل ذلك كان ثقيل الوطأة علي نفسها،‮ ‬وتركها شخصا صعب العشرة‮.  ‬وهل كان‮ ‬غرامها بالقراءة وقرض الشهر إلا دليلا علي حاجتها وهي شابة،‮  ‬وليس عندما اكتهلت،‮  ‬إلي شيء تملأ به فراغها وتؤنس به وحدتها؟‮  ‬لقد مضت خمس سنوات علي نشر كتابها‮.  ‬وربما شجعها أبوها المتفاخر المولع بالكتب‮. ‬

يعتقد الناس أن ألميدا روث تفكر في جارفيز بولتر بعلا‮  ‬لـها،‮ ‬وأنها ستوافق إذا طلب‮ ‬يدها‮.  ‬هي تفكر فيه بالفعل‮.  ‬ولكنها لا تريد أن تشتط في الآمال وتخدع نفسها‮.  ‬كانت تنتظر إشارة منه‮.  ‬فلو كان‮ ‬يذهب إلي الكنيسة في ليالي الآحاد لكانت فرصة لمرافقته هذه المسافة إلي البيت في جنح الظلام‮ .  ‬يحمل هو الفانوس‮ ( ‬لم تكن الشوارع مضاءة في ذلك الوقت‮) ‬ليضئ الطريق عند أقدام الآنسة ويلقي نظرة علي قدميها الـهزيلتين الرقيقتين‮.  ‬وقد‮ ‬يمسك‮ ‬يدها ليعينها علي عبور المعدية الخشبية‮.  ‬ولكنه لم‮ ‬يكن‮ ‬يذهب إلي الكنيسة ليلا‮.  ‬و لم‮ ‬يكن‮ ‬يعرج عليها أو‮ ‬يصحبها إلي الكنيسة صباح الآحاد‮.  ‬فمن شان ذلك أن‮ ‬يكون إعلانا‮.  ‬قد‮ ‬يسير معها وهي في طريقها إلي البيت وعندما تصل إلي باب بيتها‮ ‬يرفع قبعته وينكفئ راجعا‮.  ‬لا تدعوه للدخول،‮ ‬فسيدة تعيش وحدها لا‮ ‬يمكنها أن تفعل ذلك‮.  ‬فما‮ ‬يخلو رجل بامرأة،‮ ‬من أي سن،‮ ‬داخل جدران أربعة حتي‮ ‬يحدث المحظور‮:  ‬الاهتياج الفوري والـهجوم العاطفي والشهوة الحيوانية والزنا وانتصار الحواس‮.  ‬تري ما هي الشواهد التي‮ ‬يراها الرجال والنساء كل في الآخر حتي‮ ‬يخشوا هذه المخاطر؟‮  ‬

عندما تمشي بجواره كانت‮  ‬تشم رائحة صابون الحلاقة والزيت الذي استخدمه الحلاق،‮  ‬ودخان‮ ‬غليونه ورائحة الصوف والكتان والجلد‮  ‬في ملابسه الرجالية‮.  ‬الملابس المضبوطة المرتبة‮.  ‬كانت ملابسه ثقيلة أشبه بملابس أبيها التي كانت تنظفها بالفرشاة والنشادر‮.  ‬تاقت لمهنة الأمومة تقدير الأب وسلطته الغامضة الحنون‮.  ‬إن ثياب جارفيز بولتر ورائحته وحركته تجعل الجانب المجاور لـه من جسدها‮ ‬يستشعر وخز الأمل،‮  ‬ويسبب لـها رعشة تسري في جسدها وتستثير الشعيرات الخفيفة علي ذراعيها‮.  ‬هل هو الحب؟‮  ‬إنها تحلم به داخلا حجرة نومها‮ (‬أو حجرة نومهما‮) ‬في ملابسه الداخلية الطويلة وقبعته‮.  ‬إنها تعلم أن هذه الملابس مثيرة للسخرية‮. ‬ولكنها في الخيال لا تبدو كذلك‮ ‬،‮ ‬ويكون لديه جرأة رجل في الحلم‮.  ‬يدخل حجرتها ويرقد علي الفراش بجوارها ويهم بأخذها بين ذراعيه‮.  ‬يخلع قبعته بثقة‮ ‬،‮ ‬و تأخذها في تلك اللحظة نوبة من الإذعان لـه والتوق الغامر،‮ ‬و‮ ‬يصبح زوجها‮.‬

شئ واحد لاحظته علي النسوة المتزوجات‮:  ‬كيف أن الكثيرات منهن‮ ‬يعمدن لرسم صورة ما لأزواجهن‮.  ‬يبدأن بأن‮ ‬ينسبن إليهم الأشياء المفضلة لديهم ثم الآراء والأساليب السلطوية‮.  ‬تقول الواحدة منهن مثلا‮:  ‬نعم‮ ‬،‮ ‬زوجي أنيق جدا ويدقق في كل شئ‮. ‬لا‮ ‬يلمس اللفت ولا‮ ‬يحب اللحم المقلي‮ (‬أو‮ ‬يحب اللحم المقلي‮).  ‬يحبني أن أرتدي الأحمر‮ (‬أو اللبني‮) ‬طوال الوقت‮.  ‬لا‮ ‬يطيق صوت الأرغن‮ ‬،‮  ‬ولا‮ ‬يحب أن‮ ‬يري امرأة عارية الرأس‮.  ‬يقتلني لو رآني آخذ نفسا من سيجارة‮.  ‬بهذه الطريقة‮ ‬يتحول الرجال ضعاف الشخصية إلي أزواج،‮  ‬أصحاب بيوت‮ . ‬ألميدا روث لا تتخيل نفسها تفعل ذلك‮.  ‬تريد رجلا لا‮ ‬يحتاج إلي من‮ ‬يصنعه من جديد،‮  ‬واثق من نفسه وصاحب رأي ومكتنف بالأسرار‮.  ‬إنها لا تبحث عن مجرد رفيق‮.  ‬الرجال في رأيها ذ فيما عدا أباها ذ مفتقرون للحياة،‮ ‬غافلون‮.  ‬وتري أن هذه صفات لابد منها في الرجال حتي‮ ‬يفعلوا ما‮ ‬يجب أن‮ ‬يفعلوا‮.  ‬فهل كانت ذ لو عرفت أن الأرض تختزن الملح في باطنها ذ تسعي لاستخراجه وبيعه؟‮  ‬أبدا‮.  ‬كانت ستفكر في البحر القديم‮.  ‬وهو نوع من التأمل لا‮ ‬يجد جارفيز بولتر وقتا لـه بأي حال‮ . ‬

بدلا من المرور عليها في بيتها واصطحابها إلي الكنيسة فقد‮ ‬يأتي جارفيز بولتر بمغامرة أوقع‮.  ‬يستأجر حصانا ويأخذها خلفه في نزهة ريفية‮.  ‬عندئذ ستكون سعيدة وحزينة في الوقت نفسه‮.  ‬سعيدة لأنها بجواره،‮  ‬يأخذ بزمامها،‮  ‬وتلقي هذا الاهتمام منه أمام الناس جميعا‮.   ‬وحزينة لأن الريف انتقل إليها‮.  ‬وصفه لـها بحديثه واهتمامه‮.  ‬الريف الذي صورته في قصائدها لا تريده أن‮ ‬يصدر من رؤيته ووصفه‮.   ‬بعض الأشياء تصرف عنها النظر‮:  ‬أكوام السماد ومساحات المستنقعات المليئة بجذوع الأشجار المحروقة،‮  ‬والأكوام الضخمة من الأغصان المقطوعة في انتظار اليوم المناسب لإحراقها‮.  ‬النهيرات المتعرجة التي تم تقويمها وتحولت إلي قنوات صغيرة للري بضفاف موحلة كئيبة‮.  ‬وأخري ضربت حولـها السياج ذات القضبان المتشابكة‮.  ‬الأشجار أعيد‮ ‬غرسها في المساحات المخصصة لزراعة الخشب‮ ‬،‮  ‬وأشجار الغابة كلـها قصيرة جديدة‮.  ‬ولا‮ ‬يوجد علي جوانب الطرق أو الحارات أو حول المزارع شيء خلا القليل من الغرس الحديث كثير الأغصان‮ ‬غض الأوراق‮.  ‬توجد أعداد كبيرة من مخازن الخشب ذ مخازن الخشب الكبري التي ستغمر الريف خلال مائة السنة التالية كانت في بداية الإنشاء‮.  ‬ومخازن الخشب ذات المنظر المزعج‮.  ‬وكل أربعة أو خمسة أميال توجد قرية صغيرة بها كنيسة ومدرسة ومتجر ومحل حدادة‮.  ‬ريف صرف منبت الصلة عن الغابة ولكنه عامر بالناس‮.  ‬كل مائة فدان مزرعة وكل مزرعة بها أسرة وكل أسرة بها عشرة أو اثنا عشر طفلا‮.  ‬ذلك هو الريف الذي سيرسل بموجة بعد موجة من المستوطنين إلي المدينة،‮  ‬وبدأ‮ ‬يرسلـهم فعلا إلي أونتيريو الشمالية والغرب‮.  ‬والحق أنك تستطيع أن تجمع الزهور البرية في الربيع من مساحات الأشجار الخشبية،‮  ‬ولكن عليك أن تسير بين قطعان من الأبقار ذوات قرون طويلة لكي تصل إليها‮.‬


‮      ‬IV

لقد رحل الغجر‮. ‬

أرض مخيمهم أصبحت خاوية‮.‬

فهل لي أن أساوم بجرأة الآن‮ ‬

في سوق الغجر؟‮ ‬

‮ ‬

تعاني ألميدا روث كثيرا من السهاد‮.  ‬وصف لـها الطبيب دواء البروميد وعلاجا للأعصاب‮.  ‬ولكن قطرات البروميد توقظ أحلامها المزدحمة بالصور المزعجة‮.  ‬لذا ادخرت الزجاجة للطوارئ‮.  ‬قالت للطبيب إنها تحس بمقلتيها صلبتين كزجاج ساخن‮ ‬،‮  ‬وتحس بألم في مفاصلـها‮.  ‬قال لـها‮:   ‬قللي من القراءة والدرس،‮ ‬علاجك هو الانغماس في أعمال المنزل وممارسة بعض التمرينات الرياضية‮.   ‬إنه‮ ‬يعتقد أن مشاكلـها ستزول إذا تزوجت‮.  ‬يعتقد ذلك رغم أن جل وصفاته لعلاج الأعصاب تذهب للمتزوجات‮.  ‬ولذا فإن ألميدا تعتني ببيتها‮ ‬،‮  ‬وتساعد في‮  ‬نظافة الكنيسة،‮ ‬وتمد‮ ‬يد العون لصديقاتها اللاتي‮ ‬يغطين جدران منازلـهن بأوراق الحائط أو‮ ‬يستعددن للزواج‮ ‬،‮  ‬وتعد إحدي كعكاتها المشهورة لأطفال المدرسة في نزهة الأحد‮.  ‬وفي‮ ‬يوم سبت حار من أيام أغسطس تقرر عمل حلوي العنب؛‮  ‬عدة قوارير صغيرة من حلوي العنب تنفع هدايا قيمة في عيد الميلاد،‮  ‬أو حتي إعانات للمرضي‮.  ‬ولكنها بدأت في وقت متأخر من النها،‮  ‬والحلوي لا تنضج إذا حل الظلام‮.  ‬وضعت العصير الساخن في كيس قماش الجبن لتصفيته‮. ‬وتناولت ألميدا كأسا من الشاي مع شريحة من الكعك بالزبد الذي كانت تحبه منذ الطفولة‮ ‬،‮ ‬وهو كل طعامها للعشاء‮.  ‬ثم تأخذ حماما سريعا استعدادا ليوم الأحد‮.  ‬تلف ملاءة حول خصرها وتترك النافذة مفتوحة وترقد علي السرير دون أن تشعل المصباح‮.  ‬وتحس بتعب شديد‮.  ‬وتحس بنسيم خفيف‮ ‬يداعب الحجرة‮.  ‬وتحس بشجار خفيف‮. ‬

ولم تلبث أن تستيقظ‮.  ‬وعندما تستيقظ تحس بالليل متقدا بالحر منذرا بالخطر‮.  ‬وترقد من جديد وجسدها‮ ‬ينز عرقا‮.  ‬تحس أن الصخب الذي تسمعه‮ ‬يعمل في جسدها عمل السكاكين والمناشير والفؤوس‮ ‬،‮ ‬كل تلك الأدوات تقطع وتحز وتثقب في رأسها‮.  ‬ولكن الأمر لم‮ ‬يكن كذلك‮.  ‬عندما تكتمل‮ ‬يقظتها تبدأ في التعرف علي مصدر تلك الأصوات التي سمعتها أو التي كانت تسمعها،‮ ‬أصوات الشجار في ليالي الأحد الصيفية في شارع بيرل‮.  ‬عادة ما‮ ‬يصدر الصخب من قتال حقيقي بين السكاري‮.  ‬تسمع احتجاجا وصياحا‮.  ‬تسمع من‮ ‬يهتف‮:   ‬جريمة قتل‮! ‬جريمة قتل‮!  ‬حدثت جريمة قتل ذات‮ ‬يوم‮.  ‬ولكنها لم تكن نتيجة شجار‮.  ‬عثر علي جثة عجوز في بيته أردي طعناً‮.  ‬ربما كان السبب بضع دولارات كان‮ ‬يخفيها تحت المرتبة‮. ‬

وتنهض من فراشها وتذهب إلي المطبخ‮.  ‬كانت سماء الليل صافية‮ ‬غاب عنها القمر وسطعت النجوم‮.  ‬بيغاسوس‮ ‬يطل برأسه علي المستنقع‮.  ‬علمها أبوها كيف تحصي النجوم في تلك المجموعة‮.  ‬وبشكل تلقائي راحت تحصيها‮.  ‬تستطيع أذناها الآن أن تميز بعض الأصوات‮:  ‬إضافات جديدة للمشاجرة‮.  ‬بعض الناس،‮ ‬مثلـها،‮ ‬استيقظ من نومه‮.  ‬تسمع من‮  ‬يصرخ‮:  "‬اخرس‮!  ‬كفوا عن هذا الشجار وإلا نزلت وأشبعتكم ضربا علي مؤخراتكم‮ ‬يا أولاد الـ‮ .... ". ‬

ولكن أحدا لم‮ ‬يتوقف‮.  ‬وكأن كرة من النار تتدحرج في شارع بيرل تقذف الشرر في طريقها‮ ‬،‮ ‬النار هي الجلبة والصراخ والضحك والسباب‮ ‬،‮ ‬والشرر هو الأصوات التي تنطلق‮  ‬نشازا وحيدة‮.  ‬صوتان‮ ‬يتميزان عن‮  ‬باقي الأصوات حتي الآن ويصدران صياحا أشبه بالنباح،‮ ‬وينخفض شيئا فشيئا ويتحول إلي ارتعاش متواصل‮.  ‬ثم تيار من السباب‮ ‬يحمل كل الألفاظ التي تربط ألميدا بينها وبين الخطر والحرمان والرائحة الكريهة والمناظر المقززة‮.  ‬شخص ما‮ ‬ينهالون عليه ضربا ويصيح‮:  "‬اقتلوني‮!  ‬اقتلوني الآن‮!"   ‬إنهم‮ ‬يضربون امرأة وهي تصرخ‮:  "‬اقتلني‮! ‬اقتلني‮!"   ‬ويظهر جانب من فمها مترعا بالدم رغم ما في صوتها من نبرة استخفاف وانتصار‮.  ‬شيء من التصنع في صوتها‮.  ‬الناس حولـهم‮ ‬ينادون‮:  "‬كفي‮! ‬كفي‮!"  ‬ومنهم من‮ ‬يصيح‮:  "‬اقتلـها‮! ‬اقتلـها‮!"  ‬يصيحون في جنون وكأنهم علي خشبة مسرح،‮ ‬أو‮ ‬يشاهدون مباراة مصارعة أو ملاكمة محترفين‮.  ‬أجل،‮ ‬تقول ألميدا في سرها،‮ ‬رأيت ذلك من قبل‮.  ‬لعلـها‮  ‬تمثيلية،‮ ‬أو لون كئيب من محاكاة ساخرة مبالغ‮ ‬فيها‮.  ‬وكأن ما‮ ‬يفعلـه هؤلاء القوم‮ ‬،‮ ‬حتي جرائم القتل‮ ‬،‮ ‬لا‮ ‬يؤمنون به،‮ ‬ولا‮ ‬يطيقون وقفه في الوقت نفسه‮. ‬

الآن تسمع صوت شئ‮ ‬يلقي علي الأرض‮ ‬،‮ ‬مقعد أو لوح خشبي أو صوت كومة من الخشب أو جزء من سور‮ ‬ينهار وكم آخر من الأصوات مباغتة جديدة‮.  ‬صوت جريء،‮ ‬أناس‮ ‬يفرون من الطريق،‮ ‬أصبح الـهرج قاب قوسين أو أدني‮.  ‬هذه هي المرأة‮.  ‬كانت تمسك بشيء مثل عصا خشبية أو لوح من الخشب‮.  ‬وتديرها وتدفعها نحو شخص آخر لامرئي‮ ‬يجري خلفها‮.  ‬وتهتف الأصوات‮:  "‬آه،‮ ‬أسرع،‮ ‬الحق بها‮!  ‬الحق بها واضربها‮ ‬يا رجل‮!"   ‬أناس‮ ‬يقعون علي الأرض الآن‮.  ‬شخص‮ ‬يمسك بتلابيب الآخر،‮  ‬ثم‮ ‬يتباعدان ويسقطان علي سور ألميدا‮.  ‬يصبح الصوت الذي‮ ‬يأتي منها‮ ‬غامضا مشوشا كأنه‮ ‬يصدر من فم مكعوم،‮ ‬ثم صوت تقيؤ ونخير وضرب شديد‮.  ‬يتبع ذلك صوت طويل مرتجف مذبذب،‮  ‬صوت ألم مخنوق ونفس مذلولة أو روح مغادرة‮. ‬

تركت ألميدا النافذة وجلست علي سريرها‮.  ‬تقدح زناد فكرها‮.  ‬أليست هذه الأصوات التي سمعتها جريمة قتل؟‮  ‬ماذا‮ ‬يجري؟‮  ‬ماذا‮ ‬يجب أن تفعل؟‮  ‬يجب أن تشعل مصباحا‮.  ‬يجب أن تترك الدرج وتشعل مصباحا‮.  ‬لابد أن تخرج إلي الفناء‮.  ‬الفانوس‮.  ‬تلقي بجسدها علي الفراش‮.  ‬تضع وسادة علي وجهها‮.  ‬في لحظات‮.  ‬الدرج‮.  ‬المصباح‮.  ‬تري نفسها هناك‮.  ‬في الصالة الخلفية‮.  ‬تحكم رتاج الباب الخلفي‮.  ‬تصبح فريسة لنوم لا‮ ‬يقاوم‮. ‬

وتستيقظ مروعة مع أول أضواء الصباح‮.  ‬تري‮ ‬غرابا كبيرا‮ ‬يجثم علي عتبة نافذتها‮ ‬يتحدث في نبرة مستنكرة وبطريقة‮ ‬غير مستغربة،‮ ‬عن أحداث الليلة المنصرمة‮.  ‬يقول لـها‮  ‬مؤنبا‮: "‬استيقظي وحركي عربة اليد‮."  ‬وتفهم أنه‮ ‬يقصد شيئا آخر بعربة اليد‮.  ‬شيئا بغيضا مجلبة لكرب عظيم‮.  ‬وتستيقظ بالفعل وتعلم أنه لا وجود للطائر‮.  ‬وتنهض علي الفور،‮  ‬وتنظر من النافذة‮ .  ‬وتلاحظ شيئا‮ ‬يستند إلي سور بيتها‮.  ‬شخصا ضخما‮.  ‬جثة‮. ‬

عربــــة‮ ‬يــد


وتضع مئزرها فوق قميص النوم وتنزل الدرج‮.  ‬الحجرات الأمامية لم تزل مظلمة‮. ‬الستارة مسدلة في المطبخ‮.  ‬شئ ما‮ ‬يتحرك محدثا صوتا كصوت شئ‮ ‬يغوص في الماء علي مهل،‮ ‬يذكرها بحديث الغراب‮.  ‬إنه عصير العنب‮ ‬يصفٌي أثناء الليل‮.  ‬تسحب المزلاج‮ ‬،‮ ‬وتخرج من الباب الخلفي‮.  ‬العناكب نسجت شباكها علي المداخل في جنح الظلام‮.  ‬الزهور تخفض رؤوسها مثقلة بالندي‮ ‬،‮  ‬وبجوار السور تغرق في زهور الخطمي المتشابكة وتنظر تحت رجليها وتري‮. ‬

جثة امرأة مكومة هناك،‮  ‬نائمة علي جنبها ووجهها منكفئ علي الأرض‮. ‬لا تستطيع ألميدا أن تري وجهها‮.  ‬ولكن هناك ثديين عاريين متدليين،‮  ‬وحلمة سمراء مشدودة مثل حلمة بقرة،‮  ‬وساقا عارية وردفاً‮ ‬به أثر كدمة في حجم قرص دوار الشمس‮.  ‬أما الجلد الذي خلا من آثار الكدمات فلونه ضارب إلي الرمادي،‮ ‬أشبه بلون نقارة الطبل‮.  ‬ترتدي ثياب نوم،‮ ‬أو ثيابا لكل الأغراض و تفوح منها رائحة قيء وبول وشراب‮. ‬

وتعدو ألميدا في قميص نومها ومئزرها الرقيق‮.  ‬تجتاز الفيراندا وأشجار التفاح،‮ ‬وتفتح الباب الأمامي وتسرع خلال شارع دوفرين إلي منزل جارفيز بولتر،‮  ‬أقرب المنازل إليها‮.  ‬تضرب الباب بكف‮ ‬يدها عدة مرات‮. ‬

وعندما‮ ‬يظهر جارفيز في النهاية تقول لـه‮: ‬

جثة سيدة‮. ‬

كان في بنطالـه الداكن المشدود بحمالتين،‮ ‬وقميصه المزرر نصفه ووجهه‮ ‬غير الحليق وشعره المنكوش‮. ‬

سيد بولتر،‮ ‬سامحني‮ .  ‬هناك جثة سيدة أمام بوابتي الخلفية‮. ‬

‮    ‬ويحدجها بنظرة عنيفة وهو‮ ‬يقول‮ : ‬

ميتة؟‮ ‬

أنفاسه رطبة‮.  ‬وجهه متجعد‮.  ‬عيناه محتقنتان بالدم‮.  ‬وتجيب ألميدا‮: ‬

نعم‮.  ‬أظن أنها ماتت مقتولة‮. ‬

تلمح جزءا من الصالة الأمامية الكئيبة‮.  ‬قبعته معلقة علي مقعد‮.  ‬ثم تضيف وهي تجتهد لتجعل صوتها خفيضا مفهوما‮: ‬

استيقظت في الليل علي أصوات لغط وجلبة في شارع بيرل‮.  ‬سمعت اثنين‮.  ‬رجلا وسيدة‮ ‬يتشاجران‮. ‬

ويلتقط قبعته ويضعها علي رأسه‮.  ‬ويغلق الباب الأمامي،‮ ‬ويضع المفتاح في جيبه،‮  ‬ويسيران علي الممشي الخشبي وتلاحظ أنها حافية القدمين‮.  ‬وينتابها إحساس بأن هناك من سيلقي عليها ببعض المسؤولية‮.  ‬كان‮ ‬يمكن أن تخرج بفانوس‮.  ‬كان‮ ‬يمكن أن تصرخ،‮ ‬ولكن من كان في حاجة إلي مزيد من الصراخ؟‮  ‬كان‮ ‬يمكن أن تضرب الرجل علي رأسه‮.  ‬كان‮ ‬يمكن أن تسرع في طلب النجدة،‮ ‬ساعتها وليس الآن‮.  ‬ويتجهان إلي شارع بيرل بدلا من دخول فناء روث‮.  ‬كانت الجثة بطبيعة الحال منكفئة علي وجهها شبه عارية كما رأتها في البداية‮. ‬

جارفيز بولتر لا‮ ‬يسرع ولا‮ ‬يتردد‮.  ‬يتجه إلي الجثة مباشرة‮.  ‬ويمعن فيها النظر،‮ ‬ويمس الساق بمقدم حذائه مثلما تمس كلبا أو خنزيرا‮.  ‬يكزها مرة أخري وهو‮ ‬ينادي في جرأة ودون أن‮ ‬يرفع صوته‮:   ‬أنت‮.  ‬

وألميدا تحس بطعم الصفراء في أسفل حلقها‮. ‬

‮"‬حية‮!"   ‬يقول جارفيز بولتر‮.  ‬وتؤكد المرأة استنتاجه‮.  ‬إنها تتحرك حركة خفيفة‮.  ‬ويصدر منها شخير واهن‮. ‬

تقول ألميدا‮:  ‬سأحضر الطبيب‮.  ‬ولو أنها لمست المرأة،‮  ‬لو أنها وجدت الجرأة علي لمسها،‮ ‬لما قالت ذلك‮. ‬

قال جارفيز بولتر‮:  ‬انتظري،‮ ‬لنري إذا ما كان‮ ‬يمكن أن تنهض‮ . ‬

وهتف بالمرأة‮:  ‬قومي الآن،‮ ‬هلمي‮! ‬انهضي الآن‮! ‬

ويحدث شيء مذهل‮.  ‬الجثة تقوم علي أربع‮.  ‬ترفع الرأس أولا‮.  ‬الشعر كلـه ملطخ بالدم والقيء،‮ ‬وتبدأ المرأة في ضرب رأسها بعنف علي أوتاد سور ألميدا،‮ ‬ويخرج صوتها أثناء ذلك،‮  ‬ويصدر منها صراخ ملء الفم مثل العواء‮.  ‬صراخ قوي‮ ‬يشي بشيء من بهجة مكروبة‮. ‬

ويقول جارفيز بولتر‮:  ‬أبعد ما تكون عن الموت‮. ‬لا تحتاج حتي لطبيب‮. ‬

وتقول ألميدا حين رفعت المرأة رأسها الملطخ‮: ‬

يوجد دم‮! ‬

‮    ‬ويقول‮ : ‬

الدم من فمها وليس جديدا‮. ‬

ويقترب منها ويمسك شعرها البشع الغريب،‮ ‬ويجذبها بقوة ليمنعها من ضرب نفسها في الجدار وهو‮ ‬يقول‮ : ‬

‮-    ‬كفي عن هذا الآن،‮ ‬كفي‮.  ‬اذهبي لبيتك‮.  ‬اذهبي لبيتك الآن‮!  ‬من أين أنت؟‮ ‬

ويتوقف الصوت القادم من فم المرأة‮.  ‬ويهز رأسها برفق محذراً‮ ‬إياها قبل أن‮ ‬يترك شعرها‮. ‬

اذهبي إلي بيتك الآن‮! ‬

وبعد أن‮ ‬يتركها تندفع المرأة للأمام بشدة‮.  ‬وتنهض علي قدميها،‮ ‬وتشير وتترنح‮  ‬وتتعثر في مشيها في الشارع‮ ‬،‮ ‬وتصدر منها أصوات احتجاج متقطعة حذرة‮.  ‬ويتبعها جارفيز بولتر بنظراته برهة‮  ‬ليتأكد من أنها في طريقها إلي بيتها‮.  ‬ثم‮ ‬يجد ورقة أرقطيون‮ ‬يمسح بها‮ ‬يده ويقول‮ : ‬

ها هي جثتك تسير علي قدمين‮! ‬

‮    ‬كان الباب الخلفي مغلقا‮.  ‬اتجه إلي الباب الأمامي الذي‮ ‬يظل مفتوحا‮.  ‬ما زالت ألميدا تحس بالتعب‮.  ‬بطنها منتفخ وحرارتها مرتفعة وتحس بدوخة‮. ‬

‮ ‬تقو ل بصوت ضعيف‮ : ‬

الباب الأمامي مغلق‮.  ‬لقد خرجت من المطبخ‮. ‬

‮    ‬لو تركها الآن لشأنها لذهبت إلي الحمام مباشرة‮.  ‬ولكنه‮ ‬يتبعها حتي الباب الخلفي والصالة‮.  ‬يتحدث إليها بلـهجة قاسية لم تعرفها منه من قبل‮.  ‬يقول‮: ‬

لم‮ ‬يكن هناك داع‮  ‬لكل هذا القلق‮.  ‬هذه المرأة كانت ثملة‮.  ‬سيدة‮  ‬بنت ناس لا‮ ‬ينبغي أن تعيش بمفردها وسط جيران كهؤلاء‮. ‬

ويمسك بذراعها فوق المرفق بقليل‮.  ‬ولا تستطيع أن تفتح فمها لتكلمه،‮  ‬لتشكره‮.  ‬فلو فتحت فمها لتقيأت‮. ‬

ما‮ ‬يحس به جارفيز بولتر نحو ألميدا في تلك اللحظة هو ما لم‮ ‬يحس به في السابق خلال التمشيات الحذرة وخلال جميع حساباته في عزلته‮.  ‬قيمتها التي لا خلاف عليها،‮ ‬و جدارتها بالاحترام لا شك فيها،‮ ‬وجمالـها مقبول‮.  ‬لم‮ ‬يتخيلـها زوجة من قبل كما‮ ‬يتخيلـها الآن‮.  ‬أثاره شعرها المرسل الذي شاب قبل الأوان،‮ ‬ولكنه كثيف ناعم علي أية حال‮.  ‬وجهها مخضب بحمرة خجل‮ ‬غامضة‮.  ‬ثيابها الخفيفة التي لم‮ ‬يكن‮ ‬ينبغي أن‮ ‬يراها بها أحد‮ ‬غير زوجها‮.  ‬طيشها و تسرعها وطيبتها‮ ...  ‬وحاجتها ؟‮  ‬يقول لـها‮: ‬

سأزورك فيما بعد‮.  ‬سأذهب معك إلي الكنيسة‮.‬


عند ملتقي شارع بيرل بدوفرين صباح الأحد الفائت عثرت سيدة من سكان الحي علي جثة امرأة من قاطني شارع بيرل ظنت أنها ميتة‮.   ‬ولم تكن،‮ ‬كما تبين فيما بعد،‮ ‬إلا ثملة‮.   ‬ولم تستيقظ من نعيمها ذ أو قل سباتها ذ إلا بجهد السيد بولتر الحثيث وهو من قاطني الشارع‮ ‬،‮  ‬ومحام مدني معروف كانت السيدة قد استدعته‮.   ‬ذلك النوع من الحوادث‮ ‬غير اللائق والمزعج والشائن لمدينتنا أصبح في الآونة الأخيرة كثير الوقوع‮ . ‬


V

أجلس في أعماق النوم،

وكأني في قعر البحر‮.‬

وأناس من سكان القاع

تحييني بكرم زائد‮.‬

‮    ‬

وما ذهب جارفيز بولتر وسمعت باب بيتها الأمامي‮ ‬يوصد حتي هرعت ألميدا إلي الحمام‮. ‬ولكنها لم ترتح تماما‮.  ‬وتدرك أن تراكم دم الحيض الذي لم‮ ‬يبدأ في التدفق هو السبب في انتفاخ بطنها والألم الذي تحس به‮.  ‬وتغلق الباب الخلفي بالقفل‮.  ‬ثم،‮ ‬وهي تتذكر كلمات جارفيز بولتر عن الذهاب إلي الكنيسة،‮  ‬تترك لـه ورقة كتبت عليها‮:  ‬لست علي ما‮ ‬يرام‮ ‬،‮ ‬وأرغب في الراحة اليوم‮.  ‬وتثبت الورقة في الإطار الخارجي للنافذة الصغيرة للباب الأمامي‮.  ‬وتغلق الباب بالقفل أيضا‮.  ‬إنها ترتعش وكأنها تعاني من صدمة عصبية أو خطر داهم‮.  ‬ولكنها تشعل النار لتصنع لنفسها كوبا من الشاي‮ .  ‬تغلي الماء وتضع أوراق الشاي في الإبريق الكبير‮.  ‬بخار الشاي ورائحته‮ ‬يزيدان مرضها‮.  ‬وتصب كوبا من الشاي الباهت لتشربه دون أن ترفع ستارة المطبخ‮.  ‬هناك علي الأرض كان كيس الجبن ما زال معلقا بين ظهري المقعدين‮.  ‬وعصير العنب قد صبغ‮ ‬القماش المنتفخ بلون الورد الداكن‮.  ‬ألقت به في الحوض‮.  ‬لا تستطيع أن تجلس وتنتظر شيئا كهذا‮.  ‬وتشرب كأسها‮.  ‬وتضع البراد وزجاجة الدواء في حجرة السفرة‮.  ‬

ولم تزل هناك حتي سمعت وقع حوافر الخيل الذاهبة إلي الكنيسة مثيرة سحابات من التراب تسخن تراب الطريق فيصبح مثل تراب البراكين‮.  ‬وهي في الفيراندا‮ ‬يتناهي إلي مسمعيها صوت الباب‮ ‬يفتح ووقع خطوات واثقة لرجل‮.  ‬كأنها تسمع الورقة وهو‮ ‬ينزعها من النافذة‮ ‬،‮ ‬ويفردها ويقرؤها‮.  ‬وكأنها تسمع رنين الكلمات في عقلـه‮.  ‬ثم تأخذ الخطوات طريقا آخر‮. ‬ينزل الدرج ويغلق الباب‮.  ‬تقفز إلي ذهنها صورة الضريح‮.  ‬تجعلـها تضحك‮.  ‬أضرحة تسير في الشارع بأقدام تنتعل الأحذية،‮  ‬وأجساد طويلة تميل للأمام‮.  ‬علي سحنهم القاسية علامات استغراق‮.  ‬أجراس الكنيسة تقرع‮. ‬

الساعة في الصالة تدق معلنة الثانية عشرة‮.  ‬مضت ساعة‮.  ‬المنزل‮ ‬يتقد‮  ‬بالحر‮.  ‬تشرب كوبا آخر من الشاي تضيف إليه قطرات من الدواء‮.  ‬تعرف أن الدواء‮ ‬يؤثر علي قوتها‮.  ‬إنه المسؤول عن كسلـها الغريب،‮ ‬ولكنه ضروري‮. ‬

أشياؤها التي تحيط بها،‮ ‬في حجرة المائدة فقط،‮ ‬جدران مغطاة بورق حائط أخضر‮ ‬غامق مزين بأكاليل الزهور،‮ ‬ستائر منقوشة بخطوط ملونة،‮ ‬ومائدة عليها مفرش من الكروشيه،‮ ‬وسلطانية تمتلئ بالفاكهة الشمعية،‮ ‬وسجادة رمادية ضاربة إلي اللون القرمزي عليها نقوش باقات من زهور زرقاء وقرنفلية‮ ‬غامقة،‮ ‬وخوان مبسوط عليه أغطية مزخرفة وأطباق وأباريق،‮ ‬وأكواب شاي عليها زخارف شتي‮.  ‬أشياء كثيرة تراها‮.  ‬كل هذه الزخارف تبدو زاخرة بالحياة،‮ ‬علي أهبة التحرك والتدفق والتغير،‮ ‬أو ربما الانفجار‮.  ‬كل شغل ألميدا الشاغل طوال اليوم هو أن تتأمل هذه الزخارف‮.  ‬لا لكي تمنع تغيرها بقدر ما كانت ترصده وتفهمه وتكون جزءا منه‮.  ‬لا تحرك شيئا مما في هذه الحجرة‮ . ‬

وبالطبع لا طاقة لألميدا علي الـهرب من الكلمات‮.  ‬ربما تظن أنها تستطيع أحيانا،‮ ‬ولكن هذا لا‮ ‬يحدث‮.  ‬ذلك التوقد لا‮ ‬يلبث أن‮ ‬يدفع بالكلمات في ذهنها للخروج‮.   ‬قصائد‮.  ‬أجل،‮ ‬مرة أخري قصائد تتضاءل أمامها جميع القصائد التي كتبتها في السابق‮.  ‬تصبح مجرد محاولة وخطأ،‮ ‬أسمالا بالية‮.  ‬النجوم والطيور والأشجار والملائكة علي الثلج والأطفال الذين ماتوا في الغسق‮.  ‬كل هذا لا داعي لوصفه مرة أخري‮ .  ‬عليك الآن بالصخب الفاحش في شارع بيرل،‮  ‬ومقدم الحذاء اللامع الذي‮ ‬يرتديه جارفيز بولتر،‮ ‬وردف المرأة الأملس بالكدمات عليه أشبه بزهور زرقاء‮ ‬غامقة‮.  ‬ألميدا الآن علي مبعدة من العواطف الإنسانية أو المخاوف أو اعتبارات الأسرة الحميمة‮. ‬لا تفكر فيما‮ ‬يمكن عملـه لتلك المرأة،‮ ‬أو في حفظ عشاء جارفيز بولتر ساخنا،‮ ‬أو نشر ملابسه علي حبل الغسيل‮.  ‬فاض عصير العنب وجري علي أرض المطبخ‮ ‬يلطخ الألواح الخشبية ببقع لن تزول‮. ‬

عليها أن تفكر في عدة أمور في وقت واحد‮.  ‬الشرائط المعدنية التي تفصل بين النقوش،‮ ‬الـهنود العرايا،‮ ‬والملح في أعماق الأرض،‮  ‬والمال الذي‮ ‬يجلبه الملح،‮  ‬والسعي لجمع المال الذي تتقنه رؤوس مثل رأس جارفيز بولتر،‮ ‬والعواصف القاسية في الشتاء،‮ ‬والأفعال الخرقاء في شارع بيرل‮.  ‬وعندما تفكر في تقلبات الطقس العنيفة فلا سلام حتي بين النجوم‮.  ‬يمكن احتمال كل هذه الأشياء إذا نظمناها في قصيدة‮.  ‬ونظمناها هي الكلمة المناسبة‮.  ‬لأن القصيدة سيكون عنوانها،‮ ‬أو هو عنوانها في الواقع‮  : " ‬منستيونغ‮ " .  ‬اسم القصيدة هو اسم النهر‮.  ‬كلا،‮ ‬إنها النهر نفسه‮ : " ‬المنستيونغ‮ ".  ‬ذلك هو اسم القصيدة،‮  ‬بكل حفره العميقة وأحواضه الـهادئة تحت أشجار الصيف البهيجة وكتل الثلج المطروحة عقب الشتاء،‮ ‬تحدث صريرا أثناء الحركة،‮ ‬وفيضاناته الربيعية الكئيبة‮.  ‬ألميدا تمعن النظر في قاع نهر عقلـها‮.  ‬وعلي مفرش المائدة زهور الكروشيه الطافية،‮ ‬تبدو ناتئة بلـهاء،‮  ‬تبعث علي الضحك‮.  ‬الورود التي نسجتها أمها‮ ‬يوما لا تبدو مثل الورود الحقيقية‮.  ‬ولكن الجمال كامن في الجهد المبذول،‮ ‬واستقلالـها الزائف،‮ ‬والرضا بنفوسها البسيطة‮.  ‬علامة مفعمة بالأمل‮.  ‬منــســـتيـونـــغ‮ . ‬

وتلزم ألميدا الحجرة حتي الغسق عندما تذهب إلي الحمام وتكتشف أنها تنزف‮.  ‬الدم بدأ‮ ‬يتدفق‮ .  ‬تناولت فوطة وشدتها حول بطنها كنطاق‮ .  ‬لم‮ ‬يحدث من قبل،‮ ‬أيام صحتها،‮ ‬أن قضت الليل في ثياب النوم‮.  ‬لا تحس بقلق خاص بسبب ذلك‮.  ‬في طريقها إلي المطبخ عبر عصير العنب المسكوب‮.  ‬تعرف أنه سيكون عليها أن تزيل البقع‮.  ‬ولكن ليس بعد‮.  ‬ترتقي الدرج إلي الطابق الثاني مخلفة آثار أقدام‮  ‬وردية‮.  ‬تشم رائحة دمها الـهارب وعرق جسدها الذي مكث طوال النهار في الحجرة المغلقة المتقدة‮. ‬

لا داعي للقلق‮ . ‬

لأنها لم تظن أن الزهور المنسوجة‮ ‬يمكن أن تطفو بعيدا،‮  ‬وأن شواهد الأضرحة‮ ‬يمكن أن تسير في الشوارع‮.  ‬لم تحسب أن ذلك كان الحقيقة،‮  ‬وأن أي شئ آخر كان المجاز،‮ ‬وبذلك كانت تعرف سلامة عقلـها‮.‬


VI


أحلم بكم كلما أقبل الليل،

وأزوركم حين‮ ‬يأتي النهار‮.‬

أبي،‮ ‬أمي،

أخي،‮ ‬أختي،

لم لا تجيبون ندائي ؟


22‮ ‬أبريل‮ ‬1903‭.‬‮   ‬في مسكنها‮ ‬يوم الثلاثاء الفائت بين الثالثة والرابعة بعد الظهر رحلت عن دنيانا سيدة ذات موهبة وخلق حسن‮.   ‬أثري قلمها في الأيام الخوالي أدبنا الإقليمي بسفر من الشعر البليغ‮ ‬العذب‮.   ‬وإنها لبلية كبيرة أن‮ ‬يصبح عقل هذه السيدة المهذبة موضع ريبة في السنوات الأخيرة،‮ ‬وسلوكها،‮ ‬نتيجة لذلك مندفعا خارجا عن المألوف حتي نال من مسلكها وعنايتها بتهذيب شخصها فأصبحت في نظر الغافلين الذين لا‮ ‬يعرفون قيمتها وأناقتها السابقة،‮ ‬غريبة الأطوار أو موضع سخرية علي نحو محزن‮.  ‬ولكن هذه الـهنات قد نسيت الآن ولا‮ ‬يذكر لـها‮ ‬غير شعرها الممتاز وخدماتها الماضية في مدرسة الأحد،‮ ‬واهتماماتها الخيرية وعقيدتها الدينية الراسخة‮.   ‬كان مرضها الأخير قصير المدي من رحمة اللـه‮.  ‬أصيبت بالبرد بعد أن‮ ‬غمرها الماء أثناء جولة في شارع بيرل‮.  ( ‬قيل إن بعض الصبية الأشرار طاردوها في المياه،‮ ‬وهذه نتيجة وقاحة وقسوة بعض شبابنا الصغار،‮ ‬واضطهادهم المتعمد لتلك السيدة لدرجة أن السامع لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكذب الحكاية برمتها‮ ) ‬وتطور البرد إلي التهاب في الرئة توفيت علي أثره تحت سمع وبصر إحدي جاراتها المسز بيرت‮ ( ‬آني‮ )  ‬فرايلز التي شهدت نهايتها الـهادئة المحزنة‮. ‬

يناير‮ ‬1904‭.‬‮  ‬أحد مؤسسي مجتمعنا،‮ ‬أحد صناع مدينتنا وباعثي نهضتها،‮ ‬رحل فجأة عن دنيانا صباح الاثنين الفائت بينما كان منكبا علي قراءة بريده في مكتبه بالشركة‮.  ‬السيد جارفيز بولتر الذي كان‮ ‬يتمتع بموهبة تجارية قوية ونشاط ملحوظ مما مكنه من إنشاء عدة مشاريع تجارية محلية جلبت فوائد الصناعة والإنتاجية والتوظيف لمدينتنا‮.‬

بحثت عن ألميدا روث في المقابر‮.  ‬وجدت الضريح الخاص بالأسرة‮.  ‬لم‮  ‬يكن هناك‮ ‬غير اسم واحد مكتوب عليه روث‮.  ‬ثم تنبهت لوجود شاهدين علي الأرض،‮ ‬علي مسافة بضعة أقدام أو ستة أقدام من الشاهد القائم كتب علي أحدهما كلمة‮ "‬بابا‮"  ‬وعلي الآخر كلمة‮  "‬ماما‮".  ‬وعلي مبعدة من هذين الشاهدين وجدت شاهدين آخرين علي الأرض أيضا‮ .  ‬عليهما أسماء وليام وكاثرين،‮ ‬وكان عليٌ‮ ‬أن أزيح ما تراكم عليهما من حشائش نامية وقذارة لأري الاسم الكامل لكاثرين‮.  ‬لا وجود لتواريخ ميلاد أو وفاة‮.   ‬لا وجود لعبارات ثناء أو رثاء‮.  ‬لون فريد من إحياء الذكري لا‮ ‬يأبه بهذا العالم‮.  ‬لا وجود لورود ولا وجود حتي لعلامات علي شجيرات ورود ربما اقتلعت،‮ ‬اقتلعها الحارس لأنه لا‮ ‬يحب هذه الأشياء،‮ ‬أو مصدر ضيق قاطع العشب،‮ ‬لم‮ ‬يجد من‮ ‬يعترضه فاقتلعها‮. ‬

اعتقدت أن ألميدا دفنت في مكان آخر‮.  ‬عندما تم شراء هذه البقعة،‮  ‬عند موت الطفلين،‮ ‬كان‮ ‬يعتقد أنها سوف تعيش وتتزوج وترقد في النهاية بجوار زوجها‮.  ‬لم‮ ‬يعملوا حسابها في مكان بينهم‮.  ‬ثم لاحظت أن الشواهد التي كانت ملقاة علي الأرض إنما سقطت من الشاهد القائم‮.  ‬شاهدان للأبوين وشاهدان للصبيين،‮  ‬ولكن الشاهدين الآخرين وضعا بطريقة تسمح لثالث بينهما لتكملة المروحة‮.  ‬خطوت من شاهد كاثرين عدد الخطوات نفسه حتي أصل من كاثرين إلي‮  ‬وليام‮ .  ‬وعند تلك البقعة رحت أجذب العشب وأزيل القذارة بيدي العاريتين‮.  ‬وما مضت برهة حتي أحسست بالشاهد وأدركت أني كنت علي حق‮.  ‬اجتهدت في الوصول إلي الشاهد كلـه نظيفا وقرأت الاسم‮:  "‬ميدا‮".   ‬كان مع الآخرين‮ ‬يتطلع للسماء‮.  ‬تأكدت من وصولي إلي نهاية‮  ‬الحجر‮.  ‬كان ذلك كل ما كتبته من الاسم ؛‮  ‬ميدا‮.  ‬إذن كان اسمها ميدا في الأسرة،‮  ‬وليس في القصيدة فقط‮.  ‬أو لعلـها اختارت اسمها من القصيدة ليكتب علي ضريحها‮. ‬

كنت أظن أن أحدا لا‮ ‬يعلم ذلك‮ ‬غيري من بين الأحياء جميعا،‮  ‬وأن أحدا لن‮ ‬يستطيع الوصول لـهذا التسلسل في الأحداث‮.  ‬ولكن الأمر ليس كذلك‮.  ‬فالناس مجبولون علي حب المعرفة‮.  ‬أو قل فئة منهم‮.  ‬سيجدون الدوافع دائما لاكتشاف الأشياء‮.  ‬حتي الأشياء التافهة‮.  ‬سوف‮ ‬يضعون الشيء جنب الشيء‮.  ‬ويعرفون أنهم ربما أخطئوا في البداية‮.  ‬ألا تراهم‮ ‬يتجولون‮ ‬يحملون كراسات ويزيلون الأتربة من فوق الأضرحة،‮ ‬و‮ ‬يقرءون الأفلام،‮ ‬لا هم لـهم‮ ‬غير وضوح الرؤية،‮ ‬والعثور علي الأسباب،‮ ‬وإنقاذ شيء،‮ ‬ولو شيء واحد فحسب،‮  ‬من أنقاض الذكري‮.

 منقول من موقع أخبار الأدب