الثلاثاء، 21 أغسطس 2012

دكــــــان الـــتبــــغ " فرناندو بيسوا " ترجمة: المهدي أخريف


(( 1  ))
لا أساوى شيئاً
ولن أكون ابداً لا شيء .
لا أستطيع أن أرغب في أن أكون لا شيء
عدا هذا ، أملك كل أحلام العالم في دخيلتي  ..
نوافذ غرفتي،
غرفة واحد من هؤلاء الملايين في العالم
لا أحد يعرف منه
( وحتى لو عُرف ، ماذا سيُعرف عنه ؟ )
نوافذ مطلة على غوامض شارع يجتاز هالناس باستمرار
تطل على شارع يصعب على الفكر ارتياده
واقعي ، واقعي حتى الاستحالة ، واضح بطريقة لا تخطر على البال
بغوامض الأشياء تحت الأحجار والكائنات
بغوامض الموت الذي يُخزّز الحيطان
ويزرع البياض في شعورالرجال
بالمصير الذي يقود الكل في عربة اللاشيء
أنا اليوم مهزوم كما لو كنت أعرف الحقيقة
صاح كما لو كنت على وشك الموت
لا أخوة مع الأشياء لدى أكثر من
أخوة وداع فيما هذا المنزل وذلك الجانب من الشارع
يغدوان صفاً من عربات قطار
صفارة ممتدة داخل جمجمتي
رجة في أعصابي وطقطقة
في عظامي لحظة الإقلاع
أنا اليوم مبلبل الخطر كمن فكّر فوجد ثم نسى كل شيء ؛
أنا اليوم موزع بين انحيازي
للطبكيرية المقابلة كشيء واقعي من الخارج
وبين الإحساس بأن كل شيء هو مجرد حلم
بوصفه شيئاً واقعياً من الداخل
أخفقت في كل شيء
ولما لم يكن عندي أي هدف من أي نوع فقد بات كل شئ
غير ذي قيمة لدى
ما لقنوني إياه
قذفت به من النافذة الخلفية.
لقد ذهبت إلى الحقول تحدوني غايات كبيرة
وجدت أشجاراً وأعشاباً فحسب
والناس الذين كانوا هناك كانوا مثل الآخرين.
أترك النافذة مفتوحة وأجلس على كرسي .. فيم ينبغي أن أفكر ؟
ماذا أستطيع أن أعرف عما سأكون أنا الذي لا أعرف من أكون ؟
أن أكون ما أفكر فيه ؟ أفكر أن أكون أشياء عديدة  !
وهناك الكثيرون يفكرون أن يكونوا ذلك الشيء نفسه الذي لا يمكن للكثيرين أن يكونوه.
أعبقري أنا ؟ في هذه اللحظة ثمة
مئة ألف دماغ تؤمن مثلي بأحلام عبقرية
ومن يدرى هل سيحفظ التاريخ حلماً واحداً منها
وهل سيبقى غير الزبل للعديد من الغزوات المستقبلية
كلا .. لا أومن بنفسي
في كثير من المارستانات يوجد مجانين كثيرون ذوو يقينيات كثيرة
وأنا الذي لا أملك أيا منها . أأكثر تأكداً من الأشياء أم أقل ؟
كلا ، لا أومن بنفسي
أليس ثمت في كثير من غرف السطوح وغيرها
نبغاء لأنفسهم في هذه الساعة يحلمون ؟
كم من تطلعات رفيعة ونبيلة وصاحية
-  إن كانت حقاً رفيعة ونبيلة وصاحية  - 
ربما قابلة للتحقيق
لن ترى أبداً نور الشمس الفعلية ولن تصل إلى آذان الناس ؟
العالم مخلوق لمن ولدوا كي يمتلكوه
لا لمن يحلم بأنه قادر على امتلاكه ،
ولو كان على صواب
لقد حلمت بأكثر مما حلم به نابليون نفسه
ضممت إلى صدري المفترض إنسانيات
أكثر مما ضم المسيح
شيدت في السر فلسفات أكثر من كل ما كتب أي كانط.
لكن كنت وسأكون دائماً مجرد ساكن غرفة في سطح
ولو لم أعش فيها ..
سأبقى دائماً من لم يُخلق لذلك
سأبقى دائماً ذلك الذي امتلك بعض المزايا
سأكون دائماً ذلك الذي توقع أن يفتحوا له باباً في جدار بلا باب
والذي غنى ترنيمة اللانهائي في  خُم الدجاج
الذي سمع صوت الله في بئر مغلقة.
....
(( 2 ))
أوَ أومن بنفسي ؟ لا بنفسي ولا بأي شيء
لتسكب  الطبيعة
 شمسها ومطرها على رأسي المتقد
ولتكنس ريحها شعري
وما تبقى ليأت ِ
إذا كان لا بد أن يأتي
أولا يأتي أبداً .
عبيد قلبيون للنجوم نحن
نفتح العالم قبل نهوضنا من السرير
نستيقظ فإذا هو صفيق
نخرج إلى الشارع فإذا هو غريب عنا
وهو الأرض بأكملها والنظام الشمسي ودرب التبانة
وما لا يحدد ..
( كلي الشوكولاته يا صغيرة
كلى الشوكولاته  !
سترين لا توجد ميتافيزيقا تُضاهي الشوكولاته
سترين كل الديانات لا تُعلّم أكثر مما تعلمه المِقشدة
كُلي أيتها الصغيرة القذرة كلي  !
ليتني أستطيع أكل الشوكولاته بمثل اليقين الذي به تأكلينها
غير أنني أفكر لدى نزع اللفافة الفضية التي هي ورقة من قصدير
في أن أقذف إلى الأرض بكل شئ مثلما فعلت بحياتي نفسها )
لكن تبقى على الأقل مرارة ما لن أكونه أبداً
الخط السريع لهذه الشعار
بوابة منكسرة على المستحيل
إنني على الأقل أمحض نفسي ازدراءً بلا دموع
نبيلُ على الأقل بفعل الحركة الجنتلمانية التي أرمى بها في تيار الأشياء
الثياب القذرة التي هي أنا
لأبقى في بيتي من غير قميص .
(  أنت التي تواسين وليس لك وجود  لذلك تواسين
إلهةً يونانية كنتِ ، مثل تمثال وُهب الحياة
أو نبيلة رومانية ، مستحيلة ومشؤومة
أميرة تروبادوريين ، مركيزة زاهية من القرن الثامن عشر
لطيفة جداً وملونة ذات لباس مكشوف وبعيدة
عاهرة شهيرة من زمن أجدادنا ، أو من شيء حديث لا أستطيع حتى أن أتخيله
كوني كل ذلك كيفما كان ، وإذا كان هذا هو الإلهام فلتلهميني !
...
قلبي دلو مقلوب
مثل مُحضّري الأرواح
أستحضر روحي فلا يظهر شيء
أدنو من النافذة وأنظر إلى الشارع بوضوح مطلق
أرى المتاجر ، الرصيف ، أرى السيارات التي تمر ، أرى الأحياء بملابسهم يتقاطعون
أرى الكلاب الموجودة بدورها
وكل هذا يثقل على مثل حكم بالنفي
كل هذا ، لا يمت بصلة إليّ ، مثل كل شيء )
لقد عشتُ ، أحببت بل وآمنت حتى
واليوم لا يوجد متسول لا أحسده على حاله ، فقط لأنه ليس أنا ..
في كل شخص أرى الأسمال ، القرحة والكذب .
وأفكر : ربما ما عشت قط ولا أحببت ولا آمنت
( إذ من الممكن أن نغير واقع هذا كله بدون أن نفعل أي شيء منه )
ربما كنت موجوداً بالكاد مثل سحلية بتروا لها الذنب
فالذنب وحده ينط وينط ، مفصولاً عن الجسد
فعلت بنفسي ما لم أكن أعرفه
وما كان بإمكاني أن أفعله بي لم أفعله
القناع الذي ارتديته لم يكن قناعي الأفضل
وفوراً حسبوني ذلك الذي لم أكنه ، لم أفند حسبانهم  وضيعت نفسي
عندما أردت نزع القناع
التصق بوجهي
عندما نظرت في المرآة
كنت قد شخت
ثملاً كنت ، لم أعد أعرف وضع القناع الذي لم أنزعه
طوحت به
وفى خزانة الثياب نمتُ
مثل كلب مُعتنى به
لكونه غير مؤذٍ
لسوف أكتب هذه الحكاية لأبرهن على نبلي  .
(( 3 ))
يا جوهر موسيقى أشعاري اللامجدية
هل أقدر أن ألقاك كشيء يخصنى ، كشيء أنا صانعه
بدلاً من أن أبقى قبالة الطبكيرية
حيث أدوس وعيي بأنني موجود
مثل بساط يتعثر فوقه سكير
أو حصير سرقه غجر وهو لا يساوي حبة خردل .
لكن صاحب الطبكيرية ظهر بالباب ولبث واقفا هناك
أنظر إليه بضيق من يحمل رأساً في وضع غير مريح
بضيق فهم سيء للروح .
سيموت هو وأموت أنا
هو سيترك يافطته وأنا سأخلف أشعاري
بعد حين ستتلاشى اليافطة وأشعاري ستغيب
بعد ذلك سيموت الشارع حيث كانت اليافطة
ثم تموت اللغة التي بها كتبت تلك الأشعار
فيما بعد سوف يتلاشى الكوكب السيار الذى حدث فيه هذا كله ..
في كواكب أخرى لمجموعات أخرى سوف تواصل كائنات
شبيهة بالبشر
وضع أشياء تشبه الأشعار
تشبه العيش تحت يافطة متجر
دائماً شيء ما قبالة شيءٌ آخر
دائماً شيءٌ لا جدوى منه تماماً مثل آخر
دائماً ما هو مستحيل وما هو واقعي في البلادة سواء
دائماً سرُ العمق أكيد مثل غوامض السطح
دائماً هذا الشيء أو دائما ذاك أو لا هذا ولا ذاك
لكن هناك رجلاً دخل الطبكيرية ( ألشراء التبغ؟ )
فإذا الواقع المعقول يهوي بغتة على مرة واحدة
أنتصب بحيوية ، مقتنعاً ، إنسانياً
وأبدأ في كتابة هذه الأبيات التي سأقول فيها العكس
أشعل سيجارة لدى التفكير في كتابة الأبيات
وأتذوق في السيجارة حرية الانعتاق من كل أشكال التفكير
أدخن وأتابع الدخان كما لو أنه مساري الخاص
وأتلذذ في لحظة إحساس
بالتحرر من كل التأملات
واعياً أن الميتافيزيقا إنما هي نتيجة لمزاج متعكر
وبعد هذا كله أتراجع فوق مقعدي
وأتابع التدخين
سأتابع طالما القدر يتيح ذلك لي
 ( لو تزوجت ابنة غسالتي لربما كنت سعيداً الآن ) 
أغادر مقعدي ، ما دام الأمر كذلك ، أتجه صوب النافذة
لقد خرج الرجل من الطبكيرية ( أَوَدسّ بقية النقود في جيب البنطلون )
آه  إنني أعرفه ، إنه إستيبا الذي بلا ميتافيزيقا
 ( صاحب الطبكيرية يعود إلى باب دكانه )
مدفوعاً بغريزة إلهية ، إستيبا استدار
ولمحني   :
حياني بيده فصحت به !  وداعاً إستيبا
...
وإذا الكون
يتشيد من جديد في داخلي
بدون مثل أعلى ولا أمل
وصاحب الطبكيرية يبتسم.


15يناير 1928


منقول من موقع ألف

الأحد، 19 أغسطس 2012

سنة أولى إبداع احتفالية الشاعر الكبير محمود درويش


سنة أولى إبداع احتفالية الشاعر الكبير محمود درويش

يحتفل صالون شريف العجوز الأدبي في السادس من شهر سبتمبر لهذا العام بذكرى مرور سنة على تأسيسه
ويقول شريف العجوز مؤسس الصالون الأدبي أن الصالون جاء امتدادا للنشاط الذي كان قد أنشاءه داخل جامعة القاهرة عام 2007 تحت أسم إتحاد كتاب جامعة القاهرة و الذي اختتم أنشطته رسميا عام 2009 .
و أضاف أن هذه الرابطة كان الهدف الرئيسي منها نبش التراب عن الشباب المبدع لإتاحة الفرصة لهم على الساحة الثقافية لاسيما بعدما والى عصر القائد الواحد و أصبح الجميع مسئول عن بناء هذه البلد .

و يأتي محاولة إعادة طبقة المثقفين و الأدباء للظهور وتشكيل الوعي العام للشعب المصري من الأهداف الأساسية للصالون .
و يشير إلى أن الصالون يؤكد على حرية الإبداع ويأتي شعار الصالون " فكر .. إبدع .. أكتب حتى أراك معبرا عن هذا الأمر .
و أضاف أن الاحتفالية ستكون باسم الغائب الحاضر الشاعر الفلسطيني محمود درويش تزامنا مع ذكرى وفاته هذه الأيام تخليدا لذكراه .
و على الهامش تم إطلاق مسابقة أدبية في القصة و الشعر على نطاق أوسع من الذي يطلقه الصالون كل شهر ليتسع لمشاركة عدد اكبر من الشباب المبدعين ، غير أنه فؤجىء بمشاركة عدد كبير من المبدعين الشباب في الدول العربية حيث قد شارك حتى الآن جمع كبير من " تونس ، لبيا ، السودان ، المغرب ، الجزائر ، الأردن ، سوريا الحرة أملا في أن تكون هذه الاحتفالية خطوة أولى نحو مشاركة الشباب بصورة كبيرة في صنع الثقافة العربية بعد إن استحوذ عليها مسميات ثابتة لا تتغير .
و أشار العجوز أن الاحتفال سيكون بحضور لفيف من المبدعين الشباب و الكبار وقد أعُدد لهذا اليوم برنامج ممتاز و سيلقى إعجاب الجميع بإذن الله .
و أشار أخيرا إلى أن الفترة القادمة ستشهد مبادرات كبيرة وكثيرة تصب في أهداف الصالون التي قام من أجلها
منقول من مدونة أحمد طوسون

السبت، 18 أغسطس 2012

أَنســى قبـــل أن أتذكّــــر ... أنسي الحاج

أَنســى قبـــل أن أتذكّــــر يرقص حولها الهواء كما ترقص هي حول القلب. ينقبض الصدر لغيابها كما ينقبض لحضورها، الأوّل خوفاً من الوقت والآخر اكتئاباً من ضآلة الوقت. يقول جسدها الطافر إلى الحياة: أنا أنسى قبل أن أتذكّر...
■ ■ ■
هل كنتِ تنامين على البحر؟ أنتِ، موج الغارق، هل تسبحين في غير زرقة النَّزَق؟ خُلِق النداء للعينين أكثر ممّا خُلق للصوت، وللجسد كلّه حين يصير كالشجرة، ملتمّاً على ذاته كحجرٍ شريد، كحجرٍ معروضٍ للصواعق، ينادي من أعماق خَرَسه، ينادي كذئبٍ يتيم، كدار تحترق، يطير صراخه من كلّ أرجائه، تحطّ عليه عصافير المساء ولا تدري أنّها غصون الصحراء. خُلق النداء ولم يُخلق معه مناداه. خُلقت الموجة تلو الموجة ولم تُخْلَقا متقابلتين. والأجنحة خُلقت لتطير قليلاً ثم تمزّقها الرياح. وبعضها يتمزّق قبل أن يطير. «عصفور، عصفور صغير، صغير، عصفور طار وحطّ. ما يستطيع عصفورٌ صغير؟». قالها شاعرٌ هُزِم لصديقٍ لم يُهْزَم. اعتذاراً لا استدراراً للشفقة.
واستدراراً للشفقة.
■ ■ ■
يا خجلي من الناس! البلاد تتساءل إنْ كانت ذاهبة إلى فتنة، وهذا شخص ينشغل بمرآته!
لكنّ حربي تستفردني وحروب الخارج مشتركة...
■ ■ ■
أريد أن أتراجع فلا أفلح إلّا في الإمعان.
قلْ كذباً ولا تقل غضباً. انكسِرْ ولا تنفجر، ما أطيب عنب الانكسار! ما أغدر الصدق! ما أغدر الصدق!
ولا يُحتمل الندم على الغضب. ولا يُمحى. بعضُ الكلام، من قوّة وَقْعه، يُرْجَع أمامه إلى الوراء...
تسكتين بلاغةً. أتخيّلكِ تقولين: «يجب أن يكفيك كونك سمحتَ لنفسكَ بأن تتوهّم!». أسمعكِ تقولين، إذا عوتبتِ على الإفصاح: «لفرطِ ما أَسْمَعُ أفكّرُ أنّي أحكي!».
أجل تَسمعين، وتختمين على الجرح بمباركةِ المهزوم.
■ ■ ■
الفتنة؟ وما من فتنةٍ تستحقّ اسمها أكثر من تلك المستيقظة في الحالمين.
■ ■ ■
... من زاويةٍ انفعاليّة، يبدو المنحرفون الوحيدين الناجين من الرتابة. تأمّل حولك، اعمل مراجعة.
ليست هذه دعوة إلى الانحراف، أكيداً، بل ضربةُ فرامل للتساؤل: أيّ حياةٍ هذه التي تدور بين دفّتي النظام؟ لا أحبّ المثليين ولا السفّاحين، ولكنّي أشعر بعطف على المصابين بشواذاتٍ لطيفة، معتبرة إجمالاً حالات نقصٍ لا حالات زيادة.
مثلاً: عُبّاد الأشياء المتعلّقة بالأشخاص (الفيتيشيست) والملامسون (فرولور) والمتلصّصون (فوايوريست). أجناسٌ جوهرها النعومة. حاجاتهم أقلّ القليل. عكس الاغتصابيين. هل هناك أشنع من الاغتصاب؟ العلاقة الطبيعيّة تكاد تكون اغتصاباً فكيف إذا كانت بالإكراه؟ الاغتصاب الأوحد الممكن القبول وأحياناً الواجب الحصول هو الاغتصاب الأدبي والفنّي: إحداثُ تجديدٍ بخرقِ التقاليد وانتهاك المقدَّسات المصطنعة. وبعد حين يتّضح أنه كان تطوراً طبيعيّاً ليس فيه من الاغتصاب غير مخالفة العادات والمجازفة بالخَلْق.
ما دمنا في نطاق الذهن فكل المعارك حلال. الدم الذي يُسفَك هنا رسومٌ متحرّكة لا أكثر. وهذا الدم العاقر هو الأخصب. وها نحن نعود إلى موّالنا: الفكر هو أبو الجسد، أبو الأرض والسماء، وكلُّ ما يدور خارجه حطبٌ في موقده.
كنتِ تنامين في قاع الرأس...
■ ■ ■
يُعطى المرءُ أن يبكي فلمَ ينوح؟ ويعطى أن ينزوي فلمَ يَظْهر؟ لا يُجيب إلّا مَن لا يُسأل ولا يَسأل إلّا مَن لا يُجاب. يُعطى الكاتب قلماً قبل أن يولد عوض أن يعطى حياةً قبل أن يكتب.
لا محلّ للبراكين بين الناس كما لا محلّ للناس بين البراكين. دعه يضحك هذا الجار، لن تراه بعد اليوم. أنت أيضاً تضحك وكثيراً تضحك فلمَ تنشر هذا الجوّ القاتم؟ يعطى الكاتب أن يسلّي فلمَ يُصلّي؟
يُعطى الجمال أن يُحيي فلمَ يُميت!؟
■ ■ ■
لكلّ دورٍ من أدوارها قناع، وأخطر الأقنعة عيناها: صافيتان صافيتان، ولكنْ مهما انفتحتا لن تخبّرا عمّا يدور في غرفةٍ بين حناياها للعواصف السريّة، عينان مهما بادلتاك النظر تظلّان محميّتين بغمامٍ لا محلّ لكَ معه على كلّ حال.
يهدر رأسها بأحلامٍ ترمي القمح للطيور، طيور لست أنت بينها على كلّ حال.
يشعّ منها الإغراء كما يتدفّق الحليب من ثدي المرضع، إغراءٌ مُبهَم لا هدف له، إغراءٌ بلا إرادة، بلا منافسة، إغراءٌ لا يصطاد ولا يُصاد. لا تستلطف مَن يتغزّل بها وتُغازل مَن ليس بحاجة. تَعْبر بالقرب من قَدَرها ولا تنتبه: تمضي في الطيش السعيد.
تَهْرب من مواجهة الفشل وتتفادى النجاح. تجد نفسك أمامها غلاماً وعجوزاً، أحمق ويائساً، تجعلك دون قصد منها مجنون حالك كنحلةٍ وقعتْ في مصيدةِ الكوب الفارغ تَخْبط فيه خَبْطَ اختناق.
ليس هناك أقلّ منها اكتراثاً وليس هناك أكثر منها شَغَفاً. وَحْشَةٌ ويمامة. وسيفترسك الندم يومَ تكتشف أنّكَ لم تفهم شيئاً ولا كان لكَ وجودٌ في السياق.
وها هي تدخل من جديد في فصل التحوّل. وسيكون لها في جديدها قناعٌ كما سيكون لها سفور. وستبقى دائماً تُضلّل حُرّاسها.
يُعطى الكائن الحرّ أن يُحرّر الآخرين معه، فلمَ يجعله القَدَر يخنقهم؟!
■ ■ ■
يرقص حولها الهواء كما ترقص هي حول القلب. يقول جسدها الطافر إلى الحياة: أنا أَنسى قبل أن أتذكّر...
■ فيروز وزياد
كان عاصي الرحباني مسكوناً بحالات التغيير ثم أصبح مسكوناً بحالات التأليف. زياد بدأ بالتأليف وانتقل إلى التغيير واستقرّ على الاثنين معاً يتناوبان ويتداخلان ويتصارعان كصديقين لدودين.
في جميع الحالات فيروز هي فيروز. فيروز البيروتيّة أمس كانت زياديّة جديدة. وزياد الفيروزي كان زياداً جديداً أضاف الحنان إلى التمرّد والحنين إلى الحداثة وبُعداً كان مجهولاً إلى صوت فيروز.
أمّ وابنها. أمّ وأبوها. أمّ وتتمّة أقدارها.
تَفَيْرَزَ الجميع مع فيروز، من الأخوين رحباني إلى فيلمون وهبه ومحمد عبد الوهاب. بل ما قبل الأخوين رحباني. زياد بدوره تَفَيْرَز (تدريجيّاً) ولكن فيروز هي أيضاً تَزَيْدَنَتْ، وليس تدريجيّاً. عادت مع الابن إلى الصِبا التجريبي الذي كان لها مع الأخوين. الابن العاصي الأصيل المتعامل الوحيد مع الصوت الساحر بدون أن يدع السحر يستحوذ على لبّه.
مهما قيل في العائلة المالكة يظلّ ناقصاً. هم مسكونون بأقدارهم ونحن مسكونون بهم.


منقول من موقع ألف

الخميس، 16 أغسطس 2012

تضمن حواراً مع الشاعر الدنماركي نيلس هاو : عدد جديد من مجلة "أبابيل" الشِعرية



image



قصائد لسيلفيا بلاث وشارلز بوكوفسكي ومصطفى محمد
وقراءة في قصيدة الورقة الأخير لأمل دنقل



عن دار أبابيل للطباعة والنشر(www.ebabil.net)، صدر العدد الجديد (56) من مجلة "أبابيل"الشهرية المتخصصة والتي تعنى بالشِعر، ويترأس تحريرها الشاعر السوري عماد الدين موسى، هذا العدد (21حزيران2012) جاء مزيناً بلوحات الفنان السوري منير الشعراني، وتضمنحواراً مع الشاعر الدانماركي نيلس هاو:أجراه نزار سرطاوي، ومما جاء فيه: "الاقتصاد العالمي في أزمة وهذا يؤثر أيضاً على الشِعر بطبيعة الحال"، "الكلمات تومض في العقل كالسمك في أعماق البحر، وتغيّر ألوانها باستمرار"، "إذا كنت تريد أن تكون كاتباً فعليك أن تكون قارئاً أولاً وأخيراً"، "روح الدعابة ضرورية في التعامل مع الشِعر"،"المترجمون كيميائيون يبذلون جهوداً بطولية: إنهم يفعلون المستحيل".
افتتاحية العددوالتي كتبها سعيد السوقيلي (من المغرب)، بعنوان "الشاعر مستشاراً جمالياً".
وتضمن باب أشجار عالية قصائد من الشاعر الأمريكي شارلز بوكوفسكي (ترجمة: عاشور الطويبي)، وأخرى من الشاعرة سيلفيا بلاث (ترجمة: محمد رضا)، وأخرى من لمجموعة من الشعراء(ترجمة: محمد حلمي الريشة)، وأخرى من الشاعر الراحل مصطفى محمد (1979-2006م).
كما تضمن باب قوارب الورق مقالات ودراسات توزّعت بين: زكريا محمد (حول ضريح محمود درويش)، سعيد بكور (قراءة في قصيدة – الورقة الأخيرة/الجنوبي- للشاعر المصري الراحل أمل دنقل)، راسم المدهون (قراءة في ديوان –قل للعابر أن يعود، نسي هنا ظله- للشاعر اللبناني وديع سعادة)، سعيد بوعيطة (ثالث الأثافي في ديوان – ينام الليل في عينيك- للشاعرة المغربية رشيدة بوزفور)، رولا حسن (قراءة في كتاب– نصوص وجدتها في الغسالة– للشاعر السوري بريء خليل)، هاني حجاج(بهجة الشعراء).
في حين تناول باب إصدارات مجموعة من الكتب والدوريات الجديدة: العدد التاسع من مجلة الشعر النيوزلندي الجديد، مرايا الجسد الشرقي للناقد والأكاديمي العراقي ناظم عودة، رجل مشحون بالندم للشاعر السوري محمد عبيدو، ما يضر الكون لو أبقى حيّاً للشاعر الفلسطيني سعيد الشيخ.
كما تضمن باب عائلة القصيدة قصائد لكل من: صلاح حسن، محمود خيرالله، رنا زيد، عبدالله عيسى، ياسين عدنان، فاديا الخشن، هادي دانيال، أحمد الدمناتي، فاتنة الغرة، جمال الجلاصي، عقيل اللواتي، محمد عريقات، أنور محمد، هدى أشكناني، سوزان خليل وراهيم حساوي (نص مشترك)، وائل الناصر، غمكين مراد، سيبان حوتا.
ليختتم العدد بزاوية "أحوال" التي يكتبها رئيس تحرير المجلة، الشاعر السوري عماد الدين موسى، وجاءت بعنوان: النهر.

يتم توزيع أبابيلمن خلال مكتبة نيل وفرات وموقعها على الشبكة: www.neelwafurat.com

  للمشاركة: imadmusa1@gmail.com
image
 
منقول من موقع مجلة النرد

الثلاثاء، 14 أغسطس 2012

بين الأسطورية والتاريخية مأساة أوديب.. وقصة أخناتون ... صقر أبو فخر - كاتب وباحث من فلسطين


الأسطورة، في الأساس، حكاية مقدّسة، أبطالها من الآلهة أو من أنصاف الآلهة. وهي نص أدبي جميل كان يُتلى في المعابد أو يُمثّل على المسارح القديمة. وكلمة «أسطورة» ذات أصل آرامي (سرياني) من فعل «سطر» أي كتب، ومنها كلمة «سطّر» بالعربية. أما في الإغريقية فهي (Istoria) وتعني «أخباراً تاريخية»، ومنها جاء مصطلح (History). غير أن للأسطورة بعداً معرفياً أيضاً، هو أنها محاولة لاستكشاف خفايا الكون وغرائبه الكثيرة، وهي، في الوقت نفسه، محاولة لتفسير أسرار الكون المتشابكة. وتنتمي الأسطورة، زمنياً، إلى مرحلة حضارية سبقت نشوء الفلسفة وبدايات العلوم، فكانت تفسَّر بطريقة أولية، وربما بدائية أحياناً، ظواهر الكون والطبيعة، ولا سيما مظاهر التغير في السماء والأرض. فأسطورة «برسيفوني» تفسّر، إلى حد ما، تعاقب الفصول الأربعة. وأسطورة الثالوث المصري «إيزيس وأوزيريس وحورس» حاولت أن تقدم تفسيراً لظاهرة الخصب تبعاً لجريان نهر النيل وفيضانه، أي ثالوث الموت والانبعاث والخلق، أو الخير والشر والانتقام. فاتحاد النيل بالأرض ثم بدء عملية الإنبات هو تماماً مثل اتحاد إيزيس وأوزيريس وإنجاب حورس.
فأوزيريس هو إله الخضرة (الخضر = جريس) ابن الإله «رع» إله الشمس. وهذا الإله اتخذ أخته إيزيس زوجة له فأنجبت حورس وساعدته على القضاء على عمه الشرير «ست»(1) الذي قتل والده أوزيريس. وحورس هنا هو المنتقم لأبيه من عمه. وإيزيس المصرية هي قرينة لفظية وتبادلية مع «العزى» العربية، مثلما أن أوزيريس (أوزير) هو نفسه «العُزير» العربي. وفي أي حال فإن التثليث كان شائعاً في معظم الحضارات المائية والزراعية القديمة ولا سيما في مصر وسورية واليونان وشبه الجزيرة العربية. فاللات ومناة والعزى، الآلهة الثلاث الإناث، نجدها في شبه الجزيرة العربيـة. والأعداد 1 و 2 و 3 لدى اليونان حيث العدد يبدأ من الواحد لا من الصفر، أي من الوجود لا من العدم، وحيث الواحد هو الأول، أي الله الذي لا ينقسم (Atom)(2)، والاثنان هو زوج الواحد، ومن حاصل زواج الواحد والاثنين (1 + 2) جاء الثلاثة. ومن هذه(الأعداد الثلاثة ولدت الأعداد اللاحقة حتى التسعة، وجميعها من مضاعفات الأعداد الثلاثة الأولى؛ فالأربعة مضاعف العدد اثنين أو حاصل جمع الواحد والثلاثة... وهكذا حتى العدد 7 الذي لا ينقسم إلا على نفسه، وهو ليس حاصل جمع أي أعداد سابقة، لهذا صار رقماً مقدساً. وعلى هذا المنوال ظهر ثالوث العقل والنفس والكلمة في اليونان أولاً، ثم لدى بعض الحركات الباطنية الإسلامية في ما بعد كالإسماعيلية. وظهر ثالوث الاسم والمعنى والباب (الشمس وقرص الشمس ونور الشمس) أي محمد وعلي وسلمان لدى العلويين، أي وحدة أقانيم الخليقة التي كان تعبيرها الأرقى في الثالوث المسيحي في سوريا التاريخية، أي الأب والابن والروح القدس أو عقيدة الموت والقيامة والتجسد.
التماثل الأسطوري
لم ينفصل التاريخ عن الأسطورة إلا في زمن متأخر نسبياً، مثل انفصال وظائف زعيم القبيلة في المجتمعات القديمة. فزعيم القبيلة هو الرئيس، وهو الكاهن، وهو الطبيب، وهو الساحر معاً. ثم راحت هذه الوظائف ينفصل بعضها عن بعض بالتدريج كلما تقدم المجتمع في تنظيم شؤونه اليومية والدينية، ولا سيما مع انتقال ذاك المجتمع من النسق البدائي إلى النسق القبلي، ثم إلى النسق الحضري الزراعي. وقد وجدت العلوم الإنسانية الحديثة في الأساطير مناجم معرفية غنية بالرموز والإشارات التي كثيراً ما حجبت خلـف غلالاتها الرقيقة حقائق تاريخية شتى، فاتجهت هذه العلوم، ولا سيما الأنثروبولوجيا، إلى كشف معاني تلك الرموز، والى إماطة النقاب عنها. وهكذا ظهر ميدان جديد من ميادين المعرفة هو «الميثولوجيا». لكن الثورة العلمية الحديثة كادت، في إحدى مراحلها، أن تقضي على الأسطورة، خصوصاً بعد أن حوّلتها إلى مجرد حكاية مسلية. لكن القرن التاسع عشر جلب معه ثورة فنية وجمالية أعادت إلى الأسطورة مكانتها الرفيعة كشكل من أشكال التعبير الفني والأدبي. فالحركة الرومانسية، على سبيل المثال، رأت في الأسطورة أصلاً للفن والدين والتاريخ. وكانت هذه الرؤية في منزلة الرد على جفاف العلم وعلى العقل البارد الذي سيطر على أوروبا طوال ثلاثة قرون. وفي سياق هذه الرؤية ظهر كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر في سنة 1900.
شُغل العرب، مثل غيرهم من الشعوب، باكتشاف الكون، وبمحاولة تفسير ظواهره. وتحتوي المصادر العربية القديمة، ولا سيما الشعر والنصوص الأدبية والتواريخ، أخباراً متفرقة عن معتقدات العرب ودياناتهم قبل الإسلام. لكن هذه الأخبار، أو ما بقي منها بعد إبادة معظمها في العهود الإسلامية اللاحقة، لا ترقى إلى مرتبة الأسطورة على الإطلاق. والغريب أننا لا نعثر على نماذج أسطورية كاملة لدى العرب. فقصة الزير سالم مثلاً، أو تغريبة بني هلال، أقرب إلى الملاحم لا إلى الأساطير. ويمكن الافتراض أن العرب عرفوا الأساطير، لكن هذه الأساطير راحت تندثر، بالتدريج، بعد الإسلام الذي لم يفسح في المجال للأسطورة كي تعيش وتزدهر، فاعتبرها كثير من الفقهاء والمتكلمين نصاً مخالفاً للعقيدة. والفارق بين الملحمة والأسطورة هو أن الملحمة حكاية طويلة تدور أحداثها على الأبطال من البشر، بينما تدور أحداث الأسطورة على الآلهة والبشر معـــاً. وفي تاريخ الملاحم العربية كانت الملحمة الأبرز «مأساة إبليس(3)، التي كثيراً ما اقتربت في بنيتها الأساسية من التراجيديا، خصوصاً أن البطلين الرئيسين هما الرب وكبير الملائكة. وعنصر التراجيديا هنا يتمثل في التمرد على الرب ومواجهة القدر. لكن هذه التراجيديا تعتبر تراجيديا ناقصة لأنها لا تنتهي بالمصالحة، أو بالحل الوسط بين إرادة الإله ورغبة البشر المعاكسة لها. غير أن بعض الجماعات العقيدية في بلادنا كالإيزيدية مثلاً تقول إن يوم الدينونة سينتهي إلى غفران خطايا إبليس بعد أن يملاء سبع جرار بدموع عينيه، ثم يلقيها على نار جهنم فيطفئها. وفي تراثنا الملحمي قصة «المنتقم لأبيه» المسطورة في حكاية «الزير سالم أبو ليلى المهلهل»، حين يقتل جساس بن مُرّة ابن عمه كليب بن ربيعة (مُرّة أخو ربيعة)، فيقوم الجرو ابن كليب أو الهجرس (لاحظ التوافق اللفظي مع حورس) بقتل خاله جساس ثأراً لوالده. وقصة «المنتقم لأبيه» هذه تشبه مسرحية «هاملت» المنتقم لأبيه الملك من عمه كلاوديوس الذي قتل أخاه (أي والد هاملت)، وتزوج الملكة غيرترود (أم هاملت)، ونصّب نفسه ملكاً.وتشبه أيضاً ملحمة أوريست ابن أغاممنون الذي قتل أمه كليتمنسترا، زوجة أغاممنون، حاكم مسينا، الذي عاد من حرب طروادة ليلقى مصرعه على يد عشيق زوجته إيغستوس(4).وفي ما بعد قام أوريست بقتل الأم وعشيقهـا انتقاماً لأبيه، وبتحريض من أخته إلكترا(5). وقد استند سيغموند فرويد إلى هذه الأسطورة لاستخراج «عقدة إلكترا»، مثلما استند إلى أسطورة أوديب لاستخراج «عقدة أوديب».
 تروي الأسطورة أن إلكترا بنت أغاممنون استنفرت أخاها أوريست وحرضته على الانتقام من أمها وعشيقها، تماماً مثلما فعلت اليمامة بنت كليب حين راحت تحث عمها الزير سالم على الثأر مــن جساس بن مُرة قاتل أبيها كليب (وفي ما بعد سيظهر الفتى هجرس بن كليب ليكمل عملية الانتقام). وكليتمنسترا زوجة أغاممنون تشبه تماماً الجليلة بنت مُرة زوجة كليب الذي غزا اليمن وقتل ملكها التبع حسان. وكــان أغاممنون غزا طروادة وقتل ملكها بريام وولده باريس الذي كان خطف هيلانة وأشعل حرب طروادة. ومع أن جساس قتل كليب، إلا ان زوجته الجليلة انحازت إلى أخيها القاتل، أي إلى قومها، تماماً مثلما انحازات كليتمنسترا إلى إيغستوس عشيقها.
إن هذا التماثل الهائل في التفصيلات يدعونا إلى التأمل طويلاً في الطراز الأسطوري أو الملحمي المتنقل بين الحضارات، أو في النماذج الأسطورية التي ظهرت في حضارات معينة، لكنها تطورت واكتست عناصر جديدة، ثقافية وعقيدية، وتخللتها حكايات عن حروب وتواريخ من حضارة أخرى، حتى يمكن المجازفة بالاستنتاج أحياناً أن أسطورة بعينها ليس بالضرورة أن تكون قد نشأت في البلد الذي ازدهرت فيه، بل ربما يكون منشؤها في بلد آخر ومختلف عن الأول تماماً. وهذا هو مقصدنا في بحث عناصر التماثـل بين أسطورة أوديب اليونانية وقصة أخناتون المصرية مثل التماثل بين قصة المسيح وقصة كريشنا الهنــــدي على سبيل المثال(6).
قصة كتابين
في أوائل سبعينيات القرن العشرين قرأنا كتاب «موسى والتوحيد» لفرويد، فقَلَب رؤوسنا التي اعتادت قصص الأنبياء التقليدية الباهتة، وزحزح استقرار معتقداتنا الموروثة. ثم وقع بين أيدينا كتاب خطير لإيمانويل فلايكوفسكي عنوانه «أوديب وأخناتون»، فسحرنا بعدما فتل عقولنا من مواقعها. وبحسب فرويد في كتابه «موسى والتوحيد» الذي نشره في سنة 1939، فإن موسى مصري لأن اسمه عبارة عن لاحقة لفظية مصرية مثل «تحوتموس» أو رعموس». ويرى فرويد، في هذا الكتاب، أن الأصل المصري لموسى يمكن أن تبرهنه الشواهد التالية:
1 ألزم موسى العبرانيين (اليهود لاحقاً) إتباع عادة الختان، وهي عادة مصرية إفريقية، وليست كنعانية.
2 فرض عليهم عدم أكل لحم الخنزير، وهي عقيدة مصرية قديمة ترى أن إله الشر يتجسد أحياناً في هيئة خنزير.
3 عدم قدرته على التحدث بالعبرية، ولذلك اتخذ هارون مترجماً له. وهذا يدل على أن لغته الأم، أي المصرية، هي غير لغة قومه، أي العبرية.
يؤكد فرويد أيضاً أن موسى كان أحد كبار قادة بلاط الفرعون أخناتون. وبعد إقصاء أخناتون بانقلاب كبير، التجأ موسى إلى قبيلة العبرانيين التي كان أفرادها يعيشون شرق الدلتا، ونقل إليهم عبادة الإله «أتون»، وأخرجهم من مصر، وصار زعيماً لهم. وقد انضمت إلى هذه الجماعة عناصر بدوية من شمال شبه الجزيرة العربية كانت تعبد الإله «يهوه» (إله البراكين(7). وفي قادش اجتمع الفريقان : المصريون (اللاويون) والساميون (أهل شمال جزيرة العرب)، وهناك تقبلوا على يدي موسى العبراني (وهو غير موسى المصري الذي قُتل) اسم الإله «يهوه»، وحل محل الإله المصري «أتون»، أي إله الشمس والنار. ومن سخرية المصادفات أن أوديب وأخناتون كانا بطلين لكتاب فرويد «موسى والتوحيد»، وهو لم يدرك تماثلهما الوثيق، وإنما رأى في أوديب مثالاً للزاني المجرم، بينما رأى في أخناتون مثالاً للقديس، واعتبره أول الموحدين في تاريخ البشرية.
 لكن فلايكوفسكي يطيح هذه النتيجة من أساسها، ويبرهن أن أخناتون ليس قديساً وإنما مجرم. وهو يتوصل إلى هذا الاستنتاج استناداً إلى تحليل صورة له يقود فيها أمه «تاي» من يدها وهي شبه عارية، وقد وُجدت هذه الصورة في مقبرة والدها «يويا». وعلى هذه الصورة بنى فلايكوفسكي اعتقاده أن أخناتون تزوج أمه «تاي» وأنجب منها ابنة، تماماً مثلما فعل أوديب حين تزوج والدته جوكاستا.
 المعروف أن فلايكوفسكي عالم فيزياء روسي ويهودي معاً. ولد سنة 1895، ودرس في جامعة موسكو، وتابع دروسه في جامعات برلين وفيينا وأدنبره، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة في سنة 1939، وعاش فيها إلى أن مات سنة 1980(8)، وقد كرس جهده للبرهان على أن موسى سابق لأخناتون. وحين أصدر كتابه الخطير «عصور في فوضى» سنة 1952، قامت ضده قيامة المؤرخين، وظهر أن نزاهته العلمية مشكوك فيها كثيراً. وكانت الغاية من هذا الكتاب حل لغز عدم وجود أي إشارة في الآثار المصرية إلى دخول بني إسرائيل إلى مصر، أو إلى خروجهم منها، وإلى عدم وجود أي ذكر لقبيلة إسرائيل أو للشخصيات المشهـورة في التوراة أمثال داود وسليمان وشاوول، في النقوش المصرية القديمة(9). ولهذا قام بإعادة ترتيب وقائع التاريخ المصري القديم بطريقة تمنح اليهود مكانة ما في هذا التاريخ. وجوهر نظريته أن هناك 600 سنة اختفت من التاريخ اليهودي، وتكررت في تاريخ مصر. وترتب على ذلك، بحسب فلايكوفسكي، اختلاف التزامن الصحيح للحضارات القديمة. فكان أن عمد إلى ترتيب أحداث 1200 سنة من التاريخ المصري القديم بطريقة تتيح له تفسير الحوادث الكبرى الواردة في العهد القديم بوقائع طبيعية وجيولوجية حدثت في مصر مثل التغيرات الكونية والكوارث الطبيعية. فالضربات العشر الواردة في التوراة يخرجها فلايكوفسكي من إطار «المعجزة الإلهية» إلى دائرة الكوارث. والخروج العبراني من مصر ليس معجزة البتة، وإنما هو كارثة طبيعية سببها اصطدام ذيل أحد المذنبات بالأرض، أي أنه حاول تفسير الدين بالعلم، وليس نقض الدين بالعلم.
قصة أخناتون
أخناتون هو الفرعون أمنحوتب الرابع ابن أمنحوتب الثالث من زوجته الثانية «تاي» ابنة وزيره «يويا». وكان أمنحوتب الثالث تزوج، أول مرة أخته «ست أمون» وله منها ابن يدعى تحوتمس وكان مثليّ الهوى. وكانت التقاليد تقضي بأن يكون وارث العرش هو الابن البكر تحوتمس. لكن أمنحوتب الثالث أراد أن يكون ابنه أمنحوتب الرابع هو الفرعون بعده، وليس ابنه تحوتمس، فأنكر الكهنة هذا الأمر. وخافت «تاي» على ابنها من الكهنة، فتركت مدينة «منف» بالقرب من سقارة وذهبت إلى العيش في مدينة «زارو» القريبة من القنطرة اليوم، ثم أرسلته إلى بلاد الميتانيين في شمال سوريا(10). ولما كبر أمنحوتب الرابع وبلغ السادسة عشرة جاء إلى «طيبة»، بعدما اختفي شقيقه تحوتموس في أحوال غامضة، وراح يشارك والده الحكم، ويعلن مبادئه الجديدة القائمة على عبادة الإله المتجسد في قرص الشمس (أتون) الذي لا يمكن حجبه، وهي مبادئ معاكسة لعبادة (أمون) الذي يعني اسمه «المختبيء» أي الذي لا يُرى.
اتخذ أمنحوتب الرابع اسم «اخناتون»، وشاد معبداً في الكرنك للإله أتون(11). وتحت ضغط كهنة أمون اضطر إلى مغادرة قصر والده في طيبة إلى تل العمارنة وغير اسمه نهائياً إلى أخناتون. ولما تـوفي والده صار هو الحاكم لأرض مصر كلها. وهنا بدأت المشكلة؛ فالكهنة وقفوا ضد عقيدة أخناتون، والحاكم الجديد يريد أن يفرض عقيدته على الشعب، وأن يلغي عبادة «أمون».
 كان أمون رع في نظر كهنة مصر هو القوة الشاملة والإله غير المنظور الذي يتجسد في عدد من الآلهة، بينما «أتون»، بحسب أخناتون، هو إله منظور (قرص الشمس)، لكنه غير متجسد في أي إله آخر. والعبادة الأمونية تُعنى بالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب مثل المسيحية والإسلام في ما بعد، ومثل العبادة الأوزيرية، بينما العبادة الأتونية لا تعنى بذلك كله، وهي، في هذا الشأن تشبه، اليهودية. ومهما يكن الأمر، فلم يدّعِ أخناتون أنه إله أو ابن إله، وعكف على بناء مدينة جديدة للإله «أتون» هي مدينة «اخيتاتون» (أي تل العمارنة)، وأقام فيها بعد أن تزوج أخته نفرتيتي، وراح يمحو أسماء أمون واسم والده أيضاً من المعابد (محو الاسم يعادل القتل) لأن اسم والده (أمنحوتب الثالث) يتضمن كلمة أمون. وأمام رفض الكهنة هذه العقيدة الجديدة جرى الاتفاق بين خمسة من القادة هم «آي» (خال أخناتون) وحورمحب ورمسيس وسيتي ونختامين، علاوة على رجل إضافي هو «مايا»، على القيام بانقلاب في القصر الملكي، وإرغام أخناتون على التنازل عن العرش لمصلحة ابنه توت عنخ أمون(12). وبعد هذا الانقلاب نُفي إلى سيناء، وعاش قريباً من المكان الذي يقوم عليه اليوم دير سانت كاترين، وتوفي في سنة 1358 ق.م. بعد أن حكم مصر سبعة عشر عاماً. وبوفاته زالت عقيدته تماماً من مصر.
قصة أوديب
تعتبر هذه التراجيديا أعظم التراجيديات اليونانية، ويُعتبر نص سوفوكليس أفضل النصوص التي وصلت إلينا، وهو النص الكامل لهذه المأساة. والمعروف أن اسخيلوس كتب مأساة أوديب قبل سوفوكليس،وأن يوربيدس كتبها بعده. لكن معظم ما كتبه اسخيلوس ويوربيدس ضاع، وبقي نص سوفوكليس الذي ألهم كثيرين جاؤوا بعده، بمن فيهم سيغموند فرويد الذي صاغ نظريته في عقدتي «أوديب» و «إلكترا» من هذه التراجيديا الإنسانية الباهرة.
ولد سوفوكليس في قرية «ديموس» القريبة من مدينة «كولونا» اليونانية سنة 496 ق.م.، وتوفي في سنة 406 ق.م.. وكان والده من أثرياء اليونان المعروفين. عاصر هيرودوت وسقراط، وكتب عدداً من المسرحيات والنصوص المسرحية أشهرها: أنتيغونا، إلكترا، أوديب ملكاً، أوديب في كولونا، بنات تراخيس. وقد تعاقب على كتابة «أوديب» كل من الشاعر سينيكا قبل الميلاد بنحو خمسة أعوام, وكورناي (1656) وفولتير (1718) وأندريه جيد (1930) وجان كوكتو (1934). وغزل على منوالها من الأدباء العرب توفيق الحكيم (1936) وعلي أحمد باكثير ووليد إخلاصي (1981). وكان أول من ترجم «أوديب ملكاً» إلى العربية،على الأرجح، علي حافظ، وصدرت في «سلسلة المسرح العالمي» في الكويت (آب 1972)، وهي ترجمة سقيمة. ثم ترجمها محمد صقر خفاجة وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في سنة 1974، وترجم المسرحية أيضاً طه حسين سنة 1946(13). وحكاية أوديب كانت معروفة قبل سوفوكليس واسخيلوس، وقد تناقلها الشعراء الجوالون والمغنون قبل أن يصوغها سوفوكليس في نص تراجيدي أخاذ. وفي العادة يضيف الشعراء الجوالون كثيراً من الأحداث والحوارات والشخصيات إلى القصة الأصلية للتشويق، حتى يمكن القول إن الحكاية الأصلية اختفت تحت طبقات من الإضافات المتراكمة عبر السنين(14).
مهما يكن الأمر فإن قصة أوديب، كما وصلت إلينا في صيغتها النهائية، يمكن إيجازها كالتالي: رزق الملك لايوس، ملك طيبة، وزوجته جوكاستا ولداً. وقبل أن يطلق عليه اسماً محدداً جاءته نبوءة من الإله أبولو أن هذا الطفل سيقتل أباه ويتزوج أمه. عند ذلك كان لا بد من القضاء على هذا الطفل. لكن الملك لايوس لم يقتله فوراً، بل سلمه إلى راعٍ، وأمره أن يُلقي بالطفل عند سفح جبل «سيثرون» النائي، بعدما يقوم بتجريح قدميه بمسمار كي ينزف ويموت. لكن الراعي رق قلبه للطفل، وبدلاً من أن ينفذ أوامر الملك لايوس، أخذه إلى مدينة كورنثيا البعيدة عن طيبة، وأودعه لدى راعٍ آخر يخدم لدى بوليبوس ملك كورنثيا. وكان بوليبوس بلا أطفال فكفله ورباه كأنه ابنه، وأطلق عليه اسم «أوديبوس»، أي ذو القدم المتورمة. وعندما بلغ أوديب مبلغ الرجال علم بنبوءة أبولو، وكي لا يتيح للقدر أن يحقق النبوءة فر من قصر والده، وهام على وجهه بعيداً عن بوليبوس وزوجته ميروب اللذين اعتقد أوديب أنهما والداه الحقيقيـان(15). وقادته قدماه إلى طيبة التي كانت تقاسي تسلط أبو الهول (سفينيكس) الجاثم عند باب المدينة. وأبو الهول هذا عبارة عن أسد مجنح له رأس امرأة وذيل أفعى، وقد أرسلته الآلهة «هيرا»(16) من إثيوبيا عقاباً للملك لايوس لأنه عشق فتى يدعى خريسبوس من مدينة بيزا. وكان أبو الهول يسد طريق الناس إلى طيبة ويعرض عليهم السؤال التالي: ما هو الكائن الذي له صوت واحد ويمشي على أربعة ثم على قدمين ثم على ثلاثة، ويكون وهو أضعف حالاً كلما كانت أقدامه أكثر. وعندما يعجز الداخل إلى طيبة عن الإجابة كان أبو الهول يبتلعه على الفور.
للمصادفة القدرية، وبينما كان أوديب متجهاً إلى طيبة مرت به عربة الملك لايوس، وداست عجلاتها قدميه، فثارت ثائرته ورمى سائق العربة بالرمح فقتله. وعندما أراد الملك لايوس أن يقف على ما جرى لسائقه قتله أوديب أيضاً من غير أن يدرك أن لايوس هو والده الحقيقي. وعلى مشارف طيبة واجه أبو الهول وأجاب عن سؤاله بالقول: إنه الإنسان الذي يبدأ حياته بالزحف على أربعة أطراف، ثم يقف على قدميه، وفي شيخوخته يمشي متكئاً على عصا. فاغتاظ أبو الهول لهذا الجواب الصحيح، وانتحر بإلقاء نفسه في الوادي من قمة جبل «فيسيوم». وقد فرح أهل طيبة بهذا القادم الذي أنقذ مدينتهم، ونادوا به ملكاً عليهم، ثم تزوج الملكة الأرملة جوكاستا من غير أن يعلم أنها أمه. ونتيجة لهذه الخطيئة الجديدة حل الطاعون بمدينة طيبة. وعند ذلك شرع أوديب في استشارة المنجمين والعرافين وأصحاب الرؤى، فاكتشف هؤلاء أن هناك شخصاً قتل أباه وتزوج أمه وهو يتربع على عرش طيبة. وأدرك أوديب أن قدره قد نفذ، وأنه لم يستطع الهروب من قدره، ففقأ عينيه بدبوس، وانتحرت أمه جوكاستا شنقاً، ونفي نفسه إلى مدينة كولونا التي عاش فيها بقية عمره منبوذاً (17).
أوديب بين التاريخية والأسطورية
هل أسطورة أوديب قصة خيالية لا تستند في منشئها إلى أي أحداث تاريخية واقعية؟ هل إن حكاية أوديب وأمه جوكاستا ووالده لايوس مجرد فيض شعري، أم أن ثمة أحداثاً جرت بالفعل تشبه وقائع تراجيديا أوديب؟
إن جميع الحفريات في اليونان والجزر الهيلينية فشلت في العثور على أي أثر لأوديب أو لبيـــت لايوس، وهذا ما عزز عدم تاريخية قصة أوديب(18). فإذا كان من المحال العثور على الأصل التاريخي لهذه الأسطورة في اليونان، فهل من الممكن العثور عليه في مصر مثلاً، ولا سيما أن هناك إشارات مصرية كثيرة في ثنايا القصة مثل «طيبة» و «أبو الهول»؟
نحن، إذاً، أمام مفتاحين: أبو الهول الذي هو على صورة امرأة ذات أجنحة، ومدينة طيبة في اليونان، يقابلهما أبو الهول، ومدينة طيبة التاريخية في مصر. وهذان المفتاحان ربما يعبدان الطريق للسير في منهج المقارنة بين البيئة التي ازدهرت فيها هذه الأسطورة، والبيئة التي نشأت فيها في الأصل. فمدينة طيبة اليونانية ذات الأبواب السبعة تحمل بعداً سورياً هو العدد سبعة المقدس. وأبو الهول الأنثى الذي يحرس مدينة طيبة اليونانية كان معروفاً في مصر في عهد أمنحوتب الثالث، والد أخناتون، وهو يمثل زوجته الملكة تاي.
يروى أن قدموس هو الذي بنى مدينة طيبة اليونانية في مقاطعة بيوتيا(19). وربما كان قدموس هو نفسه الملك «نكميد»، ملك أوغاريت الذي فرّ إلى اليونان من ميناء جبيل بعد أن غزا الأشوريون الساحل السوري، وجعل من الكتابة المسمارية حروفاً دُعيت «الحروف الأبجدية». أما أبو الهول، الأسد المجنح، فهو نقش أشوري في الأصل، وكان منتشراً في سوريا. وكان الهكسوس السوريون الذين حكموا مصر بين 1730 و 1570 قبل الميلاد يستخدمون هذا الرمز كثيراً في نقوشهم. ولعل هؤلاء حين انتقلوا إلى اليونان بعد إزاحتهم عن مصر على يدي أحموس الذي استباح عاصمتهم الزاهرة «أفاريس»، نقلوا معهم رموزهم، ومنها الأسد المجنح(20). والمأنوس أن زوجة «نكميد» ملك أوغاريت (أي قدموس) كانت مصرية. وفي أي حال، فإن حكاية الملك القاتل والزاني انتقلت من مصر إلى اليونان إما من خلال السوريين القدماء، واما من خلال اليونانيين الذين طردهم الأشوريون من المدن السورية.واللافت أن يوربيدس أطلق اسم «الفينيقيات» على إحدى مسرحياته التي تتناول مصير ابني أوديب. وفي مسرحية «أوديب» لسوفوكليس تتضـرع أنتيغوني قائلة» «وأنتِ يا أرض طيبة المقدسة الزاخرة بعرباتك الحربية، أنتِ أخيراً ستشهدين على حالي»(21).
طيبة المصرية هي التي تزخر بالعربات الحربية، وليست طيبة اليونانية. هنا, وعند هذا الحد، بات من الممكن الانتقال إلى المغامرة في الاستنتاج أن أصل قصة أوديب، أي النموذج الأسطوري، يمكن العثور عليه في مصر أولاً. ومع انتقال هذا النموذج من مصر إلى سوريا ثم إلى اليونان، تسربت إليها،عناصر حكائية شتى، وأكسبتها ملامح جديدة، يونانية وسورية. لكن النموذج الأسطوري الأولي ظل هو هو في صيغته المصرية (22).
 لنتذكر أن جريمة لايوس والد أوديب هي أنه اختطف شاباً يدعى خريسبوس بعد أن عشقه. لكن بلاد اليونان لم تكن تنظر إلى الحب الذكري على أنه جريمة، بينما اعتبرته مصر أمراً محرماً. وجريمة أوديب أنه قتل والده وتزوج أمه. لكن زواج الابن من الأم لم يكن جريمة في مصر. لنتذكر أيضاً أن لأمنحوتب الثالث والد أخناتون صوراً تظهره بالملابس النسوية، الأمر الذي يعني في نظر بعض الدارسين أنه مثليّ الهوية الجنسية، وقد ابتُلي بالعشق الإغريقي. لكن الحب الذكري لم يكن أمراً قبيحاً أو بغيضاً في بلاد اليونان، بينما كان قبيحاً في سورية ومصر. لهذا يمكن أن نجد أصل خطيئة لايوس، أي حبه للفتى خريسبوس، في مصر وليس في بلاد الإغريق، وفي مدينة طيبة المصرية بالتحديد، وأن أرض الإغريق ليست هي الأرض التي ولدت فيها مأساة أوديب أول مرة(23).
 ليست مأساة أوديب، بحسب فلايكوفسكي، مجرد حكاية خيالية، بل هي قصة واقعية جرت حوادثها لا في مدينة طيبة اليونانية التي بناها قدموس الأوغاريتي بعدما سافر من جبيل(24) إلى اليونــان، بل في مصر، وفي مدينة طيبة المصرية التي كتب عنها نجيب محفوظ روايته المشهورة «كفاح طيبة»(25). إنها قصة أخناتـون.
أوديب وأخناتون: مقارنة القصة نفسها
الشواهد الأولى التي وردت سابقاً تبدو، أحياناً، غير مقنعة تماماً، والبرهان فيها غير قوي أو غير كافٍ. لكن، ثمة شواهد كثيرة غيرها من شأنها أن تدعّم متانة الافتراض أن قصة أوديب وأخناتون، أي مأساة الزاني والقاتل، هي نفسها، لكنها وصلت إلينا في سياقين مختلفين. أما البدايات فهي أن مصر في عهد أخناتون راحت تتفكك نتيجة للصراعات الدينية الداخلية ولثورات الأقاليم. وادعى كهنة أمون أن خطيئة حلّت بالبلاد وجلبت إليها الكوارث، وألقوا باللائمة على أخناتون نفسه الذي ارتكب جريمة مزدوجة هي إلغاء عبادة أمون و «قتل» والده أمنحوتب الثالث بمحو اسمه من النقوش، لأنه يحتوي كلمة أمون. وكانت اليونان في العصر المفترض لأوديب قد أصابها الوهن بعد حروب طروادة، وادعى الكهنـــة أن خطيئة كبرى ارتُكبت في طيبة الأمر الذي دفع الإلهة «هيرا» إلى إرسال أبو الهول المجنح (سفينكس) إلى محاصرة طيبة، ومعاقبة ملكها لايوس الذي ارتكب خطيئة عشق الفتى خريسبوس واختطافه ومواقعته.
إذا أوغلنا أكثر في المقارنة سنكتشف ما يلي: إن كلمة أوديب تعني باليونانية «ذو القدم المتورمة». وتصور رسوم تل العمارنة، وهي المدينة التي بناها أخناتون وأطلق عليها اسم «أخيتاتون»، أخناتون نفسه بفخذين منتفخين، الأمر الذي دفع الباحث جيمس برستيد إلى القول إن أخناتون كان يعاني تشوهاً طبيعياً في أطرافه(26). ثم إن كلمة أمنحوتب، وهي اسم أخناتون الأصلي، يمكن أن تتحول إلى أمنحوديب باستبدال الدال بالتاء. وأمنحوديب تصبح، بتحريف قليل، أوديب. وأخناتون أطلق على نفسه لقب «ذلك الذي عاش طويلاً»، وهو لقب غامض إلى حد ما. أما أوديب الذي كان مقدراً له أن يموت طفلاً بعد ثقب قدميه، فقد عاش بالفعل طويلاً. وحادثة البقاء في قيد الحياة، على الرغم من الكوارث والمصائب والأهوال، تعتبر شأناً حاسماً في سيرة البطل الأسطوري. وهذه المعجزة هي نموذج أسطوري يتكرر مع معظم الأبطال الأسطورييـن الخارقين(27)
لم يظهر أمنحوتب الرابع (أخناتون) قط في الرسوم الكثيرة لوالده، لأنه عاش، على الأرجح، في بلاد الميتانيين في سوريا(28). لكن، بعد موت والده، وبعد أن تقلدت أمه «تاي» العرش، ظهر ابنها فجأة على مسرح الأحداث، وتسلم مقاليد السلطة، وتزوج أمه، ثم حدثت ضده ثورة من داخل القصر، وتولى ابناه العرش قبل أن يقتتلا ويقتل احدهما الآخر بالتناوب. وهذا ما حدث بالتمام مع أوديب الذي عاش بعيداً عن والديه، ثم تولت أمه جوكاستا الحكم بعد موت زوجها لايوس، ثم جاء أوديب ليتسلم الحكم بعدما أنقذ سكان طيبة من شرور أبو الهول المجنح، ويتزوج أمه. وبعد انكشاف النبوءة، يُقصى عن المُلك، ويعيش أعمى بقية حياته بعدما تنازع ابناه العرش واقتتلا وقتل واحدهما الآخر جراء اللعنة التي حلّت عليها لأنهما طردا والدهما من قصره، فتنتحر جوكاستا بعد أن تشاهد بعينيها ولديها قتيلين(29).
تزعّم «آي» أخو الملكة الذي تمتع بنفوذ قوي في طيبة المصرية بعد موت أمنحوتب الثالث، الثورة ضد أخناتون، وتحالف لهذا الغرض مع كهنة أمون، كأنه هو نفسه «كريون» أخو جوكاستا الذي تمتع بنفوذ قوي في طيبة اليونانية بعد موت لايوس، وهو الذي تزعم الثورة ضد أوديب بالتحالف مع ابني أوديب بولينيكيس وإثيوكليس. وقد اتفق الابنان على تداول الحكم، فحكم بولينيكيس أولاً، ثم تنازل لأخيه راجع مسرحية «الفينيقيات» ليوربيدس، ومسرحية «مأساة طيبة» لراسين. وجوكاستا في هذا الموقف هي المرأة البائسة التي أ نجبت من زوجها زوجاً لها، وأنجبت من ابنها أبناءً لها. إثيوكليس. وحين جاء دور الأول ثانية ليتولى الحكم رفض إثيوكليس ذلك الأمر وتحصّن في طيبة. عند ذلك تحالف بولينيكيس مع سبعة ملوك وهاجم طيبة(30). وتقاتل الأخَوان وقُتلا معاً وتولى السلطة بعدهما كريون نفسه. وقد دُفن إثيوكليس بمراسم ملكية، بينما حرّم كريون دفن بولينيكيس بطريقة لائقة، لأنه خان بلده وتحالف مع الأغراب. لكن أخته أنتيغوني تدفنه سراً على الرغم من أوامر كريون، فعاقبها كريون بالسجن في كهف. وقد كانت لها علاقة محرمة بشقيقها بولينيكيس.
هذه الوقائع مطابقة تماماً لقصة أخناتون. فبعدما أقصي أخناتون عن العرش حكم ابنه سمنقرع عاماً كاملاً، ثم تولى العرش ابنه الثاني توت عنخ أمون بدعم من الكاهن آي الذي أصبح حاكماً بعد موت توت عنخ أمون. وقد دُفن سمنقرع بلا أي احترام في كهف تعمه الفوضى،(31) وقامت أخته «ميريتاتن» بدفنه، علماً بأنها كانت زوجته في الوقت نفسه. وعلى الأرجح أن سمنقرع رفض التنازل عن العرش فقُتل، ثم أزيح تـوت عنخ أمون(32) ليتسنى للكاهن آي تولي العرش، بعدما تزوج شقيقة توت عنخ أمون واسمها «أنخس أمون».
عاش أوديب بعد إقصائه عن عرش طيبة كرجل أعمى؛ فقد اقتلع عينيه ما إن علم أنه قتل والده وتزوج أمه، وبقي فترة قصيرة سجيناً في قصره، ثم نفاه ابناه من مدينة طيبة. وقد وجد نقش على حجر طيني في مصر يقول:»يا أمون، إن شمس الذي لم يقدرك قد غابت. إن فناء ذلك الذي هاجمك يسبح في ظلام دامس، بينما يسبح العالم كله في ضوء النهار». ويعتقد فلايكوفسكي أن كلمة «فناء» يجب أن تُترجــم إلى «عين»، لأنها هكذا وردت منقوشة بالهيروغليفية، بحيث يصبح النص على النحو التالي: «إن عين ذلك الذي هاجمك تسبحان في ظلام دامس»، الأمر الذي يعني أن أخناتون صار في نهاية حياته أعمى مثل أوديب.
في قصة أوديب كان للعرّاف «تيريسياس» شأن خطير في إسقاط أوديب عن عرشه. وفي قصة أخناتون تولى الحكيم «أمحوتب بن حابو» هذا الدور تماماً. أما الخلاف الوحيد، ربما، بين حكاية أوديب وحكاية أخناتون فهو أن أوديب تزوج أمه جوكاستا وأنجب منها وهو غير عالم بأنها أمه، بينما أخناتون تزوج أمه «تاي» وأنجب منها وهو عالم تماماً أنها أمه.
نظم أخناتون «نشيد التوحيد » على لسان إلهه «أتون» الذي يقول في أحد شطوره:
«دّبرتُ لكل إنسان ما يحتاج إليه
وجعلتُ لكل منهم أيامه المعدودة
لقد تفرقت ألسنتهم باختلاف لغاتهم
كما اختلفت أشكالهم وألوان أجسادهم»
هذه المعاني الشعرية ستطرق أسماع العرب بعد نحو ألفي سنة، لكن بصيغة جديدة هذه المرة، أي بلسان نبي العرب محمد بن عبد الله الذي راح يعلم الناس أن «الله يرزق من يشاء بغير حساب» (البقرة: 212)، وأن «ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم» (الروم: 22)، ويؤكد ما قاله أخناتون قبل عشرين قرناً أن ما من أنثى تحمل أو تضع «إلا بعلمه، وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب» (فاطر: 11)... وهكذا.
إذا كانت إحدى القصص التاريخية المصرية (قصة أخناتون) قد انتقلت إلى اليونان في الزمن الغابر على أيدي الهكسوس السوريين، وتحولت في بيئتها الجديدة إلى نموذج أسطوري مهاجر (أسطورة أوديب)، أي إذا كان التاريخ قد تحول إلى أسطورة، فإن أفكار أخناتون انتقلت، بدورها، إلى سوريا والى جزيرة العرب، لا كحكاية أسطورية هذه المرة، وإنما كعقيدة أينعت، أكثر ما أينعت، عند أطراف فلسطين وشمال الحجاز، حين سطت اليهودية على بعض عقائد الأخناتونية، واستعارت منها بعض العناصر الفكرية في إبان تكوين هذه الديانة اليهودية الرعوية، ثم ازدهرت لاحقاً في بعض عقائد الإسلام ذي المنشأ الصحراوي التجاري. أما المسيحية، كدين زراعي وارث لجميع عقائد الخصب الجميلة والأسرار المقدسة والتراث الآرامي (السرياني)، فلها تاريخ آخر ومختلف إلى حد كبير.

المصادر
- اسخيلوس، «أوديب ملكاً» (ترجمها عن اليونانية: محمد صقر خفاجة)، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974.
- إيمانويل فلايكوفسكي، «أوديب وأخناتون» (ترجمة فاروق فريد)، القاهرة: دار الكتاب العربي، د.ت.
- إيمانويل فلايكوفسكي، « عصور في فوضى» (ترجمة رفعت السيد)، القاهرة: دار سينا، 1995.
- جان بيار فرنان وبيار فيدال ناكيه، «أوديب وأساطيره» (ترجمة سميرة ريشا)، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.
- سوفوكليس، ثلاثية «أوديب ملكاً» و أوديب في كولونيا» و «إلكترا».
- سوفوكليس، «انتيغوني» (ترجمة محمد صقر خفاجة)، الكويت: سلسلة من المسرح العالمي، حزيران 1973.
- سيغموند فرويد, «موسى والتوحيد» (ترجمة: جورج طرابيشي)، بيروت: دار الطليعة، 1973.
ـعبد الرحمن بدوي، «تراجيديات سوفوكليس»، و «تراجيديات اسخيلوس»، بيروت: المؤسسة العربية للدارسات والنشر، 1996.
- عصام الدين حفني ناصف، «موسى وفرعون بين الأسطورية والتاريخية»، القاهرة: دار العالم الجديد، 1975.
- عصام الدين حفني ناصف، «المسيح في مفهوم معاصر»، بيروت: دار الطليعة، 1979.
- فراس السواح، «مغامرة العقل الأولى»، دمشق: دار المنارة، 1990.
- لويس عوض، «أسطورة أوريست والملاحم العربية»، القاهرة: دار الكاتب العربي، 1968.
- مونتسكيو، «روح الشرائع» (ترجمة عادل زعيتر)، القاهرة: دار المعارف، 1953.
- نبيلة إبراهيم، «أشكال التعبير في الأدب الشعبي»، القاهرة: دار نهضة مصر، د.ت.
- يسرائيل فنكلشتاين ونيل آشر سيلبرمان، «التوراة واليهودية» (ترجمة سعد رستم)، دمشق: دار صفحات للدارسات والنشر، 2007.
- James Breasted, “History of Egypt”, 1912.
- James G. Frazer, “The Golden Bough: A Study in Magic and Religion”, London: Macmillan and Co, 1900.  
1) «ست» هو أخو أوزيريس وعم حورس. تبناه الهكسوس (الملوك الرعاة السوريين) إلهاً لهم، ودعاه اليونان «تايغون». وهو إله القفار والصحراء، والنقيض لأوزيريس إله الخضرة والنيل. ودائماً هناك ثنائية الرحمن والشيطان، الخير والشر، النور والظلام، الحرارة والبرودة، الرطوبة واليبوسة.
2) في «كتاب الموتى» المصري ترنيمة تقول: «أنا توم الذي خلق السماء والأرض، خلقت ذاتي بذاتي، وخلقت كل كائن فوق الأرض، وخلقت كل كائن في السماء».
3) أنظر: صادق جلال العظم، «نقد الفكر الديني»،بيروت: دار الطليعة، 1969.
4) أنظر»: لويس عوض، «أسطورة أوريست والملاحم العربية»، القاهرة: دار الكاتب العربي، 1968. وأغاممنون هو زوج كليتمنسترا ابنة ملك إسبارطة التي أنجب منها أوريست وإيفيغيني وإلكترا وخريسوتميس. ولما خطف باريس ملك طروادة هيلينا زوجة مينيلاس (شقيق أغاممنون) ورفض إعادتها إلى زوجها، هبت مدن اليونان إلى محاربته. وبينما الأساطيل تستعد للانطلاق سكنت الريح تماماً، واستحال الإقلاع. فقام أغاممنون ليضحي بابنته إيفيغيني للآلهة أرتميس كي تطلق الريح. غير أن أرتميس ما لبثت أن هدأ غضبها، واكتفت بالتضحية بغزالة بدلاً من ابنة أغاممنون. لكن زوجته كليتمنسترا غضبت بشدة على زوجها لقراره التضحية بابنتها. وفي أثناء غيابه في حروب طروادة عشقت إيغستوس. وبعد عودة زوجها من الحرب ضاقت حياتها، فدبرت له مكيدة وقتلته.
5) حكايات قتل الأم كثيرة. نيرون، مثلاً، قتل أمه «أغربينا» لأنها سممت أباه، وكانت تأتيه في الحلم بأوضاع شبقية. والطاغية هيبياس الذي زحف على أثينا بمساعدة الجيش الفارسي حلم أنه تزوج أمه. وقد فسـر ذلك الحلم بأنه سيعود إلى أثينا وسيحكمها مجدداً ويموت فيها. ويفسر بعض المحللين حلم الزواج من الأم (أي الأرض التي منها ينبثق كل شيء وإليها يعود كل شيء) بأنه يعني إما الموت وإما الاستيلاء على السلطة.
6) ثمة تماثل يصل إلى حد الإدهاش في قصة المسيح وقصة كريشنا الهندي. فقد تزامن ميلاد كريشنا بظهور نجم في السماء مثل نجم المجوس في قصة يسوع. وولد كريشنا من أم عذراء في 25 كانون الأول (ديسمبر) مثل المسيح تماماً، وتعمد المسيح بمياه الأردن، وتعمد كريشنا بماء الغانج. عاش كريشنا بين الرعاة ردحاً من الزمن وهربت به أمه مايا (مريم) إلى قرية تدعى ماطورة (المطرية بحسب قصة المسيح). واسم كريشنا الكامل هو كريشنا زيوس، واسم والمسيح (Christ)، ولقبه يسوع، مثل كريشنا تماماً. وقد صُلب كريشنا في الهند بين لصين سنة 1200ق.م. مثل المسيح تماماً. والاثنان لم يتزوجا. وحتى الإله الفارسي ميثرا ولد في 25 كانون الأول في كهف من أم عذراء وصلب في سنة 600 ق. م..
وعلاوة على ميثرا هناك الإسكندر المقدوني الذي حملت به أمه العذراء «أوليمبياس» من الإله زيوس، وفيتاغوراس الذي حملت به أمه العذراء من الإله أبولو. وحتى أفلاطون حملت به أمه العذراء «بريتونيا» من الإله أبولو أيضاً. وفي قائمة من حملت بهم والدتهم العذراء نعثر على بروميثيوس وكيرينيوس وكثيرين غيرهما.
7) ظهر الله لموسى في جذوة تشتعل في قمة جبل حوريب، الأمر الذي يعني فوهة البركان. وكان الله يظهر لقبائل العبرانيين التائهين في سيناء في صورة عمود من دخان. وكان شمال غرب الجزيرة العربية، ولا سيما عند أطراف الحجاز، منطقة بركانية ناشطة في الزمن المفترض لظهور موسى.
8) والد إيمانويل فلايكوفسكي يدعى «سيمون»، وهو مؤسس مستعمرة «روحاما» في النقب، وساهم في عملية إحياء اللغة العبري، ومات في إسرائيل، في سنة 1937.
9) الإشارة الوحيدة إلى إسرائيل موجودة في لوح مرنبتاح المحفور على تابوت الفرعون مرنبتاح ابن رعمسيس الثاني (1208 ق.م.)، وهو موجود في المتحف المصري بميدان التحرير في القاهرة. أما الإشارة فتقول: «وقعت أرض كنعان فريسة لضروب من الشر كلها، فقد أُخذت عسقلان، وتم الاستيلاء على جازر، وبدت ينوعام كأنها لم تكن، وأقفرت إسرائيل من الحرث والنسل». وفي ترجمة أخرى لهذا النص ورد ما يلي: خرّ الأمراء على الأرض صارخين: الرحمة. لا نرى رأساً بين الساجدين التسعة. ليبيا صارت خراباً، وحاتي هدأت خلف حدودها. أما كنعان فقد دهمتها كل بلية ومحنة: أشقلون انهارت، وغزة محيت من الوجود. إسرائيل صار خراباً وفُنيت بذرته. وحورو (أي فلسطين) صارت أرملة أمام هجوم مصر».
10)خافت أم أخناتون عليه من الكهنة، فأرسل إلى بلاد الميتانيين في مدينة «قرقميش» على نهر الفرات، وهي مدينة جرابلس اليوم في حلب. والميتانيون كانوا يعتبرون زواج الابن والأم رباطاً مقدساً. وأحد والدي «تاي» والدة أخناتون من أصول ميتانية. أما والدها فيدعى «يويا» ووالدتها تدعى «تويا».
11) أتون تعني قرص الشمس. وفي بلاد الشام تعني الفرن الذي يُشوى فيه الفخار. ومن معانيها الرب أو السيد مثل أدون أو أدوناي.
12) توت عنخ أمون أشهر حاكم لمصر، وعندما اكتشفت المومياء العائدة إليه كانت كاملة لم تمسها أيدي اللصوص، وقد ثبت أن توت عنخ أمون هو ابن أخناتون، لكن ليس من زوجته نفرتيتي، بل من «تاي»، وهي أم أخناتون التي تزوجها بعد وفاة والده. وجراء هذا الزواج تراجع دور نفرتيتي تماماً مثلما تراجع دور أوريجينيا زوجة أوديب بعد زواجه من أمه جوكاستا.
13) طه حسين، «أوديب»، القاهرة: دار الكاتب العربي، 1946، وهي ترجمة من الفرنسية للدراما التي كتبها أندريه جيد.
14) ورد ذكر أوديب في الإلياذة لهوميروس، وفي الأوديسا وفي ملحمة طيبة المنسوبة إلى هوميروس. وهوميروس شاعر إغريقي يبدو أنه غير تاريخي مثل آدم والنبي إبراهيم وغيرهما من الأبطال الأنبياء.
15) في نص مختلف جاء أن رجلاً سكيراً شتمه في إحدى الحفلات ناعتاً إياه بـِ «الابن المنسوب إلى غير والديه»، أي الدعيّ. عند ذلك ذهب أوديب إلى مدينة دلفي للاستفسار من أبولو عن هذا الأمر. وقد أخبرته الوسيطة أنه سيقتل والده ويتزوج أمه، فقرر ألا يعود إلى كورنثيا وذهب إلى طيبة حيث سيتم قدره.
16) «هيرا» إلهة الأرض وزوجة «زيوس» إله السماء، وحامية الحياة الزوجية.
17) هناك أوديب روماني أيضاً أي من رومانيا وليس من روما. ففي إحدى قصص ذلك البلد أن ثلاث جنيات أتين امرأة في الحلم بعد أن ولدت صبياً، وقلن لها إن هذا الصبي سيقتل أباه ويضاجع أمه وهو لا يعلم ذلك. ارتعبت المرأة لهذه النبوءة، فعمدت إلى وضع الصبي في برميل وألقت به في نهر الدانوب. لكن بعض البحارة شاهدوا البرميل فسحبوه، وأنقذوا الطفل ورباه أحدهم. ولما بلغ هذا الطفل السابعة عشرة أخبروه كيف وجدوه في النهر، وكيف أنقذوه، وأن عليه منذ الآن فصاعداً أن يتدبر رزقه. فغادرهم، وراح يجوب الأماكن بحثاً عن مصيره ومعاشه. وفي إحدى جولاته التقى رجلاً رقّ له قلبه، ودعاه إلى العمل حارساً لكرومه. ونبهه إلى أن عليه أن يطلق النار على أي متسلل إلى الكروم ليلاً إذا لم يكن يحمل مصباحاً. وفي إحدى الليالي بينما كان صاحب الكروم يحمل العشاء إلى الحارس، وكان قد نسي المصباح في المنزل، أطلق الحارس النار عليه فقتله، ولم يكن يعرف أنه رب عمله وصاحب الفضل عليه. وبعد أن دفن صاحب الكرم، دعته زوجة القتيل إلى الزواج منها، فقبل بفرح غامر لأنه أخيراً سيكون له بيت وزوجة. وفي ليلة العرس، بينما هما مضطجعان، وقبل أن يتضاجعا، سألته عن حياته، فراح يروي لها قصته. عند ذلك اكتشفت ان زوجها هو ابنها، وتأكدت أنه ابنها من ساقيه الملتويتين. وهكذا تحقق نصف النبوءة: قتل الأب فعلاً، لكن الزنى لم يتحقق.
أما هسيود (السوري) فيقول في كتابه «نشأة الآلهة»: في البدء كان السديم والخواء (chaos), وكل جسم يسقط يتوه في الخلاء. تصدت غايا لهذه الحال، وأنشأت الثبات. غايا هي الأم الكونية التي خلقت نقيضها (أورانوس) أو السماء المذكرة من ذاتها ومن دون أب. ثم ضاجعته فأنجبت ابنها (كرونوس)، فهو ابنها وزوجها معاً. ولما كانت السماء (أي أورانوس) مطبقة على الأرض (أي غايا)،الأمر الذي يحول دون أي خلق جديد، أمرت غايا ابنها كرونوس بارغام أورانوس على الارتفاع عن الأرض. وهكذا انفصلت السماء عن الأرض، وفغر بينهما الخلاء، وراح الليل والنهار يتعاقبان، وصارت السماء تخصب الأرض بالمطر. إن فكرة انفصال السماء المذكرة عن الأرض المونثة هي جوهر قصة التكوين في «العهد القديم» وفي قصة غلغامش، ولا سيما في ملحمة «إينوما إيليش» (عندما في الأعالي)، وفي قصة الخليقة السومرية التي تروي كيف ان الآلهة «نمو» أنجبت من ذاتها الاله «آن» والآلهة «كي»، وكان «آن» و «كي» ملتصقين. وقد تزوج «آن» أخته «كي» فأنجبا «إنليل» إله الهواء. وظل «إنليل» محصوراً بين أبويه، ولم يطق البقاء على هذه الحال، فقام بإبعاد أبيه عن أمه، فرفع «آن» فصار إله السماء المذكر، وبسط «كي» فصارت إلهة الأرض المؤنثة.
18) قصة أوديب تماثل، إلى حد الإدهاش، قصة قورش الفارسي. فقد أمر قمبيز (والد قورش) أحد أعوانه قتل الطفل قورش لرؤيا رآها تشير إلى أن هذا الطفل سيغتصب العرش. غير أن الرجل المكلف قتل الطفل امتنع من قتله وأرسله إلى أحد الرعاة الذي ربته زوجته (اسمها قونو، واسم والدة قورش مانداني). ولما كبر قورش عاد إلى والديه.
19) لاحظ التماثل في كلمة «قدموس»، صاحب القدم، مع كلمة أوديب التي تعني صاحب القدم المتورمة. أما طيبة المصرية فكانت تسمى «نو أمون»، أي مسكن الإله أمون، وهي مدينة الأقصر اليوم. والشائع في الرواية أن قدموس نزل في منطقة «تيرا» التي تدعى اليوم «سنتوريني». وقدموس صوري، ووالده أغينور كان ملك صور، وأشقاؤه هم : أوروبا، كيليك، فينيق.
20) أبو الهول المجنح نقش هكسوسي سوري، وهو رمز من رموز السلطة. وعن انتقال الهكسوس من مصر إلى اليونان يتحدث اسخيلوس في مسرحية «الضارعات» أو بنات داناؤوس أو «المستجيرات» عن مجيء داناؤوس الهكسوسي، ملك ليبيا إلى أرغوس اليونانية مع بناته الخمسين هرباً من أبناء شقيقه إيغيبتوس ملك مصر، وعددهم خمسون أيضاً، الذين أرادوا الزواج من بنات عمهم. وشن إيغيبوتس حملة على أرغوس وانتصر فيها، وتزوج كل واحد من أبنائه بنتاً من بنات داناؤوس. وفي ليلة العرس تلقت كل بنت خنجراً من أبيها وأمراً بقتل زوجها. وهكذا قتلت 49 بنتاً 49 رجلاً ما عدا هيبرمسترا التي عشقت زوجها لونكي. وفي الأثر قام لونكي بالانتقام لإخوته القتلى، فقتل داناؤوس وبنات عمه جمعيهن ما عدا زوجته.
21) الهكسوس هم الذين أدخلوا العربة ذات العجلات التي تجرها الجياد إلى مصر.
22) ظهرت الحضارة اليونانية فجأة قبل 800 سنة قبل الميلاد من دون تمهيد متدرج على عادة الحضارات القديمة. وهكذا وجدنا طاليس في الفلسفة ولم يكن أحد قبله. وظهر زينون في الفلسفة أيضاً، وهسيود في الأدب وهوميروس في الملحمة، وسافو في الشعر، وهيرودوت في التاريخ دفعة واحدة، مع أن اليونان بلاد بركانية متناثرة على عدد كبير من الجزر، ولم تكن طبيعتها مهيأة لنشوء حضارة مميزة. وكان هذا الأمر لغزاً ظل إلى فترة قريبة بلا تفسير مقنع. والحقيقة أن الحضارة المسينية (نسبة إلى مدينة مسّينا) التي ظهرت في سنة 1650 ق.م. لم تعش طويلاً واندثرت سنة 1200 ق.م. تقريبا، جراء البراكين، وعاش اليونانيون بعد ذلك طويلاً كأقوام بدائية، وهاجر بعضهم إلى الساحل السوري في الأناضول وفينيقيا، وتفاعلوا مع السكان الأصليين واكتسبوا ثقافتهم وحضارتهم. وبعد نحو ثلاثة قرون تمكن التجار السوريون من ربط خطوط التجارة بين سوريا وبلاد اليونان، وساهمت هجرة الهكسوس من مصر إلى اليونان في تأسيس مستوطنات بشرية سورية في اليونان، وهؤلاء حملوا معهم معارفهم وثقافتهم وصنائعهم. وعندما غزا الفرس سورية سنة 727 ق.م. هاجرت أعداد إضافية من الصناع والتجار والحرفيين السوريين إلى اليونان. وفي هذه الأثناء كان عدد كبير من اليونان الذين قطنوا شمال سورية وفينيقيا قد بدأوا في العودة إلى ديارهم الأصلية. وفي تلك الحقبة أيضاً بدأت المدن اليونانية بالظهور مثل أثينا وأرغوس وإسبارطة وكورنثيا وطيبة، وراحت الحضارة اليونانية تتبرعم وتزدهر، ويتعلم أهلها الكتابة، مع أن الكتابة كانت معروفة تماماً في مصر وسومر وسوريا منذ 2500 سنة قبل الميلاد. وكانت نظرية فيثاغورس معروفة أيضاً في مصر وبابل قبل ألف سنة من ولادة فيثاغورس في صيدا. ولمع في اليونان من ذوي الأصول السورية كثيرون أشهرهم: زينون (قبرص)، لوقيان (سميساط في شمال سوريا)، فيثاغورس (صيدا)، هيرودوت (كيليكيا)، علاوة على أوفيد وطاليس وهوميروس وسافو وغيرهم.
23) ثمة خطيئة سابقة لخطيئة أوديب هي «خطيئة لايوس» الملتبسة. فقد كان والد لايوس الذي يدعى «لابداكوس» أعرج (لاحظ قصة القدم دائماً)، ولما توفي لابداكوس كان لايوس في سنته الأولى، الأمر الذي أتاح لرجل غريب يدعى لوكوس (لوقا) الاستيلاء على العرش. وأُبعد لايوس إلى مدينة بيزا لدى الملك بيلوبوس. ولما بلغ لايوس صار مثلي الجنس وأفرط في اللواط مع ابن بيلوبوس المدعو «خريسبوس». وانتهى الأمر إلى طرد لايوس من بيزا، فعاد إلى طيبة، واستولى على العرش وتزوج جوكاستا، ثم اختطف «خريسبوس» الذي انتحر لاحقاً. وكان يأتي زوجته جوكاستا خلافاً للطبيعة تجنباً لحبلها، وكي لا تنجب صبياً يحقق النبوءة التي أخبرته بها وسيطة أبولو في دلفي، التي قالت له إن الصبي الذي سينجبه سيقتله ويتزوج أمه ويفني نسله. لكن لايوس أفرط في السكر في إحدى الليالي، وضاجع جوكاستا طبيعياً، فحملت منه وولدت أوديب.
24) اسم جبيل هو اسم عربي كنعاني، أما اسم بيبلوس فهو يوناني وأطلق عليها لاحقاً. وجبيل هي المدينة الصغرى التابعة لأوغاريت التي وُجدت فيها الأبجدية الآرامية في الألف الأول قبل الميلاد، والتي تُعتبر تطويراً فذاً للكتابة المسمارية في بلاد الرافدين. وكلمة أوغاريت تعني بالكنعانية «غوبلو» أي جبل، وجبيل تصغير جبل، وكانت تابعة سياسياً وثقافياً لحضارة أوغاريت.
25) نجيب محفوظ، «كفاح طيبة»، القاهرة: مكتبة مصر، 1962.
26) لاحظ التماثل بين «ذو القدم المتورمة» وسؤال أبو الهول للعابرين عن الكائن ذي القدمين وذي الثلاثة أطراف والأربعة أطراف.
27) كما وقع للطفل الإلهي أوزيريس الذي كان الملك أموليوس يريد قتله، فأخفاه أبواه في بعض شعب النيل بعد أن وضعه «ست» في صندوق محكم. وهذا ما وقع للزير (قارن مع أوزيريس) الذي ألقاه «سلطان» (قارن مع «ست») في النهر بعد أن وضعه في تابوت ليجرفه التيار إلى بيروت. أما صندوق أوزيريس فسارت به الأمواج إلى جبيل (بيبلوس) تماماً مثلما رسا صندوق الزير عند قصر حكمون ليهودي في منطقة خلدة القريبة من بيروت بحسب سيرة الزير سالم. وهذا ما وقع أيضــاً لموسى. وكلمة موسى أو موشى تعني المنتشل من الماء، أي الولادة الخارقة لأسباب جرمية. فوالد موسى عميرام تزوج عمته يوكابد وأولدها موسى وهارون (سفر الخروج 6: 20). وهذه جريمة زنى المحارم لدى اليهود أو سفاح القربى («عورة أخت أمك أو أخت أبيك لا تكشف»: لاويون: 20 :19). وقصص المنتشلين من الماء شائعة لدى الشعوب النهرية مثل العراق القديم ومصر القديمة. وقصة سرغون الكبير، أول ملوك الأكاديين الذي حكم بابل قبل المسيح بنحو 2500 سنة تقول إنه حينما كان صغيراً وضع في سلة مصنوعة من ألياف النباتات وطُُليت السلة بالقار (الزفت)، وتُركت عند حافة النهر، فجرفه الماء إلى مكان بعيد. لكن أحد الناس أنقذه ورباه حتى بلغ فاستخدمه في أراضيه. لكن الإلهة عشتار عشقته فتزوجته ومكنته من الوصول إلى عرش بابل، فصار ملكاً. وحدث الأمر نفسه مع حورس في مصر، وزرادشت في فارس، ورومولوس في ايطاليا، وحي بن يقظان في بلاد العرب.
28) في أحد التفسيرات أن أخناتون أُبعد إلى أرض أجداده في بلاد الميتانيين ليموت هناك (مثل أوديب تماماً). لكن الوفاة الغامضة لشقيقه تحوتمس أعادته إلى قصر والده وهو في السادسة عشرة كي يكون، في ما بعد، وارثاً لأبيه على عرش مصر.
29) راجع مسرحية «الفينيقيات» ليوربيدس، ومسرحية «مأساة طيبة» لراسين. وجوكاستا في هذا الموقف هي المرأة البائسة التي أنجبت من زوجها زوجاً لها، وأنجبت من ابنها أبناءً لها.
30) أنظر مسرحية «سبعة ضد طيبة» لاسخيلوس.
31) اكتشفت مقبرة سمنقرع سنة 1907.
32) ظلت حياة توت عنخ أمون وموته سراً من أسرار التاريخ المصري القديم على الرغم من اكتشاف قبره في 4/11/1922 على يد العالم البريطاني هوارد كارتر. والراجح أن توت عنخ أمون توفي بالملاريا، وهذا الاكتشاف الحديث الذي أذاعه زاهي حواس مدير الآثار المصرية سنة 2010 يلغي الكلام على موته بالاغتيال. أما الثقب الذي وُجد في جمجمته فهو ناجم عن التحنيط. وكان توت عنخ أمون يعاني تشوهاً في القدمين منذ الولادة (التواء كعب القدم إلى الداخل). وبات من الثابت أن نفرتيتي ليست والدته، بل والدة شقيقاته الست. أما والدته فهي ابنة تاي من زوجها الأول أمنحوتب الثالث. وقد وُجدت مومياء أخناتون في المقبرة رقم 55 في وادي الملوك، وقد سرق منها أحد الأصابع في سنة 1907 في أثناء قيام العالم الإنكليزي هاريس بفحصه، واستعادته مصر في 14/4/2010 من سويسرا. أما مومياء الملكة تاي فهي موجودة في المقبرة رقم 35 في وادي الملوك. وفي 6/12/1912 عُثر على تمثال خلاب لرأس الملكة نفرتيتي، وجرى تهريبه إلى ألمانيا حيث لا يزال معروضاً إلى اليوم، وترفض ألمانيا إعادته إلى مصر.

منقول من موقع مجلة نزوى

الاثنين، 13 أغسطس 2012

سبعة دراويش ... نديم‮ ‬غورسيل

ترجمة : أحمد عثمان

هنا فصول من كتاب للكاتب التركي الشهير المقيم بباريس نديم جورسيل‮ " ‬سبع دراويش‮"‬،‮ ‬نص طويل تأملي استكشافي‮  ‬حول الطرق الصوفيّة في‮ ‬بلاد الأناضول تتبع فيه تسلسلها،‮ ‬وشيوخها،‮ ‬والفروقات فيما بينها‮. ‬كل ذلك فعله بعين المراقب المحايد المندهشة،‮ ‬وبعقل الباحث الملتذّ‮ ‬بما‮ ‬يتكشف له‮.‬

النص الذي‮ ‬يصدر قريبا عن دار أزمنة الأردنية‮ ‬يتميز بخصوصيّة وجِدة وتاريخية الموضوع قيد المعالجة،‮ ‬

وقد كتب جورسيل المولود‮ ‬1951‮ ‬مقدمة خاصة للطبعة العربية اعتبر فيها التصوف بمثابة رحلة‮: "‬يمثّل هذا الاكتشاف للعالم الصوفي‮ ‬والشعري،‮ ‬الذي‮ ‬يمكننا التعرف عليه عبر نصّي‮ ‬الذي‮ ‬يتبدّي كرحلة ذات مرجعية وثائقية متماسكة ومتنوعة،‮ ‬نوعاً‮ ‬من الرؤية‮. ‬وهكذا،‮ ‬وبتحرير انطباعاتي‮ ‬وددتُ‮ ‬أن أتقاسم مع القارئ شيئاً‮ ‬من الحساسية دون أن أهمل الأبحاث التي‮ ‬عرفَت نجاحاً‮ ‬كبيراً‮ ‬في‮ ‬تركيا،‮ ‬وبالتحديد لدي قطاع‮ ‬كبير مَعنيٌّ‮ ‬بالنقاش الذي‮ ‬يجري‮ ‬حالياً‮ ‬حول التوفيقية العَلَويّة ـ البكتاشيّة‮."‬

ليلة في بورصة


‮   "‬غاب النور عن وجهك،‮ ‬تعال،‮ ‬سأقودك الي أمير سلطان‮"‬،‮ ‬قال‮. ‬كانت الساعة تجاوزت الثانية عشرة ليلا‮. ‬وكان اقترب مني‮ ‬في‮ ‬عتمة المدينة القديمة ببورصة،‮ ‬في‮ ‬بادئ الأمر طلب مني‮ ‬بعض المال،‮ ‬ثم شيئا من المخدرات،‮ ‬وعندما لم‮ ‬يحصل علي هذا أو ذاك،‮ ‬تطلع الي‮ ‬للحظة ومط شفتيه اشمئزازا كأنه‮ ‬ينتظر شيئا مني‮. ‬لا‮ ‬يستطيع الوقوف ثابتا‮. ‬كأنه شرب كثيرا‮. ‬هل كان تحت تأثير الكحول أو المخدرات ؟‮ "‬نوري‮ ‬في‮ ‬دواخلي،‮ ‬يا صغيري،‮ ‬أجابني،‮ ‬أنا ممتلئ بالحب‮. ‬لا تثق في‮ ‬نور الوجوه،‮ ‬أنه خداع‮". ‬هذه الكلمات ليست كلماتي،‮ ‬وانما مستلة من قصة لسعيد فايق‮ (‬1‮) ‬الذي‮ ‬درس في‮ ‬ثانوية بورصة‮. ‬بيد أن الشاب لم‮ ‬يجبني‮ "‬حقا‮" ‬؟،‮ ‬كان مندهشا،‮ ‬كما في‮ ‬قصة‮ "‬عاشق اليهودية‮"‬،‮ ‬ولم أحك له أنني‮ ‬كنت عاشقا‮ ‬يائسا‮. ‬مثل المعلم سعيد فايق،‮ ‬أعرف جيدا أنه من الصعب الكشف عن جانب مثل السقوط ولكن عن التحية في‮ ‬الارتقاء‮. ‬والشاب،‮ ‬نفسه،‮ ‬واحد من الذين‮ ‬ينفر الارتقاء منهم‮. ‬

‮  ‬أمضيت‮ ‬يومي‮ ‬أتسكع في‮ ‬الضواحي‮ ‬غير الخضراء كليا لبورصة الخضراء،‮ ‬متوقفا أمام قبور الأولياء،‮ ‬بادئا بقبر سومونغو بابا‮("‬أب أرغفة الخبز‮")‬،‮ ‬في‮ ‬غرف النساك الضيقة التي‮ ‬تطل علي الشوارع المقفرة،‮ ‬وراقدا في‮ ‬ظل أشجار الحور العتيقة‮. ‬هل وجدت السلام أو الصفاء ؟ لا أعتقد‮. ‬بالنسبة لي،‮ ‬كلمة‮ "‬صفاء‮" ‬لا تعني‮ ‬شيئا‮. ‬في‮ ‬حياتي،‮ ‬لا مكان له‮. ‬يجده البعض في‮ ‬الخبز الذي‮ ‬يخبزه سومونجو بابا في‮ ‬أفران مطلية بالصلصال،‮ ‬خبز ساخن،‮ ‬ناعم كما القطن،‮ ‬وفي‮ ‬لقاء الدراويش ذوي‮ ‬القلوب الكبيرة الذين اكتفوا‮ "‬بلقمة ومزقة قماش‮"‬،‮ ‬بينما راح آخرون‮ ‬يبحثون عنه في‮ ‬الشراب‮. ‬أنا،‮ ‬طفت كثيرا،‮ ‬ولكني‮ ‬لم أشمئز من الحياة‮. ‬أري الي أن الحياة جميلة،‮ ‬ذوقي‮ ‬وجلدي‮ ‬يطلبان المزيد باستمرار،‮ ‬وان كان سوط اللذة‮ ‬يتغير شكله،‮ ‬أريد دوما المزيد،‮ ‬دوما أكثر،‮ ‬وهذا سوف‮ ‬يدوم حتي‮ ... ‬لا أحب هذه الكلمة،‮ ‬ولكن نعم،‮ ‬هذا سوف‮ ‬يدوم حتي الموت‮. ‬أو لنقل بالأحري حتي الشبع،‮ ‬كأنه من الممكن أن أشبع‮.‬

‮   ‬لم‮ ‬يأت سومونغو بابا الي العالم كي‮ ‬يشبع،‮ ‬وانما لكي‮ ‬يطعم الآخرين‮. ‬كان‮ ‬يريد أن‮ ‬يكون هذا العالم،‮ ‬عالم الشدائد،‮ ‬هذه الحياة القصيرة،‮ ‬مرسي السلام،‮ ‬ساحة هادئة في‮ ‬ظلال أشجار الحور العتيقة‮. ‬اسمه الحقيقي‮ ‬شيخ حميد ولي،‮  ‬وقبل أن‮ ‬يصبح‮ "‬خبازا‮"‬،‮ ‬غادر قيصرية،‮ ‬بلد مولده،‮ ‬كي‮ ‬يتجه الي منحدرات آرغييس،‮ ‬ثم دمشق وتبريز‮. ‬وانتهي الي القدوم الي أردبيل حيث لاقي كوجا علاء الدين،‮ ‬حفيد الشيخ صفي‮ ‬الدين اسحق.هناك،‮ ‬كان بين‮ ‬يدين طيبتين،‮ ‬تم عجنه بعناية،‮ ‬كما العجينة،‮ ‬وتطهيره حتي أصبح مريدا صالحا‮. ‬حينما تم تكوينه،‮ ‬وأخذ الاذن من شيخه،‮ ‬جاب الطرق واجتاز الآناضول من الشرق الي الغرب‮. ‬ولما بلغ‮ ‬بورصة واستقر في‮ ‬الحي‮ ‬الذي‮ ‬يحمل اسمه اليوم،‮ ‬بدون أن‮ ‬يكشف عن شخصيته،‮ ‬بدأ‮ ‬يوزع هذا الخبز الشهي‮ ‬علي الفقراء والذين أطلقوا عليه اكمكشي‮ ‬كوجا‮ (‬رجل الخبز‮) ‬وسومونغو بابا‮. ‬لم‮ ‬يقم بالتدريس في‮ ‬المدرسة مثل بعض الورعين المعروفين بصورة سيئة،‮ ‬وانما ظل بعيدا عن السراي‮ ‬والرجال النافذين وأمضي وقته في‮ ‬الصلاة والتأمل‮. ‬ظل مستترا،‮ ‬لا‮ ‬يلتمس أية مساعدة من النافذين و‮- ‬بينما كان‮ ‬يعد معلما عظيما وعلامة حقيقيا‮- ‬اكتفي بتوزيع خبزه علي الناس‮. ‬حتي جاء‮ ‬يوم طلب منه أمير سلطان أن‮ ‬يلقي‮ ‬خطبة في‮ ‬افتتاح أولو جامي‮ (‬المسجد الكبير‮). ‬علي مدي الحفل،‮ ‬الذي‮ ‬دار في‮ ‬حضور بايزيد الصاعقة،‮ ‬تحت الأنظار المذهولة للحشد المجتمع،‮ ‬حلل سومونجو سبعة أسرار في‮ ‬الفاتحة،‮ ‬ثم أدي صلاته،‮ ‬وتوجه للمرة الأخيرة الي الله تحت شجرة الحور الكبيرة المسماة‮ "‬شجرة حور الصلاة‮"‬،‮ ‬وقد بان سره،‮ ‬غادر بورصة ولم‮ ‬يرجع اليها قط‮. ‬تابع حياته كزاهد في‮ ‬السهوب،‮ ‬في‮ ‬تكية قريبة من آق سراي‮. ‬درويش عجوز ذو لحية بيضاء،‮ ‬بعد ارتحالاته،‮ ‬عاش هناك حتي سن التسعين‮.‬


‮   ‬دوما أحياء،‮ ‬لا نموت

‮   ‬لا نبقي في‮ ‬العتمة

‮   ‬لا نتعفن في‮ ‬الأرض

‮   ‬جاهلين الليالي‮ ‬والنهارات


‮   ‬قالها في‮ ‬رباعية،‮ ‬واعظا الفانين من التمتع بثمرات الأرض قبل أن‮ ‬يتعفنوا في‮ ‬داخلها‮. ‬

‮   ‬بمعني ما جاءني‮ ‬أن أخلط بين النهار والليل،‮ ‬وانما لأسباب أخري‮. ‬كنت الي حد ما أشبه طالب الثانوي‮ ‬في‮ ‬احدي قصص سعيد فايق الذي‮ ‬لم‮ ‬يستطع أن‮ ‬يهبط من أعالي‮ ‬ستباشي‮. ‬تسلقت منحدرات أولوباغ،‮ ‬ولكنه سمح لي‮ ‬برؤية المشهد الذي‮ ‬يمتد أسفل قدمي‮ ‬بصورة جيدة‮. ‬اذا توجهت ببصري‮ ‬ناحيته،‮ ‬لن أراه،‮ ‬واذا رأيته،‮ ‬سوف أشعر أنني‮ ‬عنصر من عناصر المشهد وسوف أسقط في‮ ‬الفراغ‮.‬

‮   ‬لم أكف عن التفكير فيما قاله سعيد فايق،‮ ‬في‮ (‬قصته‮) " ‬قصة كهذه‮"‬،‮ ‬بصدد ما جري وقتما كان طالبا بليسيه بورصة‮. "‬لا تفعل هكذا‮ ‬يا بني‮. ‬من السهل الهبوط‮. ‬أي‮ ‬شخص سيتكفل بك‮. ‬ولكن بعد ذاك،‮ ‬لن تجد مخرجا‮"‬،‮ ‬هذه الجملة ترن كصافرة انذار لدي من‮ ‬يضلون،‮ ‬من‮ ‬يلجأون الي الشراب أو المخدرات ويبحثون في‮ ‬الجنة المصطنعة عن وسيلة للهرب من الواقع‮.‬

‮   ‬في‮ ‬هذه الليلة،‮ ‬قبل أن أقابل هذا الشاب الذي‮ ‬سألني‮ ‬ان كان معي‮ ‬ثقاب ثم استجدي مني‮ ‬بعض المال والمخدرات،‮ ‬ولجت الفندق بعد سهرة أمضيتها في‮ ‬الشراب،‮ ‬غير أنني‮ ‬لم أستطع النوم،‮ ‬ولذا خرجت ثانية أتسكع في‮ ‬الشوارع الأثرية الملتوية لبورصة العتيقة‮. ‬أ ليست الحياة شارعا طويلا مائلا للانحدار ؟ شارع‮ ‬يرتفع دوما‮. ‬نعم،‮ ‬كما الحب،‮ ‬الحياة متاهة من الشوارع المنحدرة نضيع فيها‮. ‬يتبدي لي‮ ‬أنني‮ ‬لم أملك شيئا لكي‮ ‬أمنحه الي هذا الشاب‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬كان معي‮ ‬ثقاب،‮ ‬غير أنه لي‮. ‬بهذا الثقاب لن أستطيع أن أشعل سيجارته،‮ ‬واذا استطعت،‮ ‬لن‮ ‬يتحصل علي أية نشوة‮. ‬المخدر الوحيد الذي‮ ‬أعرفه،‮ ‬ويحقق فضولي‮ ‬وأبحث عنه كما الحب بلا أمل،‮ ‬المخدر الذي‮ ‬أثار نشوتي‮ ‬هو الأولياء‮. ‬الأحجية التي‮ ‬بررها الله‮. ‬كما‮ ‬يقال في‮ ‬المخطوطات القديمة ذات الصفحات التي‮ ‬استهلمها الزمن‮. ‬قرأت في‮ ‬المكتبات،‮ ‬جالسا في‮ ‬ركن منها‮. ‬تصفحت بشراهة الكتب التي‮ ‬تبدأ بهذه الكلمات‮ : "‬يرجو الشيخ من الله أن‮ ‬يحفظ سره‮"‬،‮ ‬كتيبات،‮ ‬سير،‮ ‬حيث الصفحات المغبرة تكشف بما تبقي منها عن مفاخر رجال الله،‮ ‬وأنسي أين أنا،‮ ‬حتي أنني‮ ‬أنسي الوقت نفسه‮. ‬الزمن والفضاء اللذان‮ ‬يأتيان متزامنين،‮ ‬كنشوة عاشقة موزعة‮. ‬في‮ ‬هذا المجال،‮ ‬علي أي‮ ‬حال،‮ ‬لم تثبط بورصة همتي‮. ‬طوال اليوم،‮ ‬زرت أضرحة الأولياء،‮ ‬الأماكن المنعزلة التي‮ ‬انسابت حياة النساك في‮ ‬جوف أشجار الحور العملاقة المتصبة في‮ ‬أرجائها،‮ ‬وكنت أشعر أنني‮ ‬علي علاقة بهم‮. ‬تأخر الليل عن الهبوط،‮ ‬النهار طويل،‮ ‬الحياة طويلة،‮ ‬الطريق طويلة‮. ‬فقط اللذة قصيرة،‮ ‬تنحرق بومضة،‮ ‬كنار القش،‮ ‬وتنطفئ سريعا‮.‬

‮   ‬لم‮ ‬يكن هذا سر سومونغو بابا،‮ ‬من اللازم أن أعترف،‮ ‬الذي‮ ‬قادني‮ ‬الي أمير سلطان،‮ ‬وليس أكثر من قطتين جائلتين قرب الفرن لا تستعملان مجرفة الخباز‮. ‬أنه الشاب الذي‮ ‬لاقيته في‮ ‬الشارع،‮ ‬والذي‮ ‬أصبح فيما بعد صديقي،‮ ‬الذي‮ ‬صحبني‮ ‬اليه‮. ‬وبالأحري،‮ ‬كنت أنا من صحبه اليه‮. ‬كما قلت،‮ ‬لا‮ ‬يستطع الوقوف ثابتا‮. ‬بحثا عن سيارة أجرة،‮ ‬هبط معي‮ ‬نحو مرادية‮. ‬تعلق بذراعي‮. ‬في‮ ‬البداية،‮ ‬أزعجتني‮ ‬الي حد ما هذه التلقائية‮. ‬غير أنني‮ ‬اعتدت علي هذه المشية المترنحة وشعرت بمودة نحوه‮. ‬بينما ننتظر سيارة الأجرة،‮ ‬متأبطين،‮ ‬كانت أنوار المدينة تلمع تحت أقدامنا‮. ‬أنوار البيوت مطفأة،‮ ‬والناس نائمون‮. ‬بيد أنني‮ ‬تمكنت من رؤية مأذنتي‮ ‬المسجد الكبير منيرتين،‮ ‬القباب المتكورة في‮ ‬مكانها بين أسوار كوزاخان الحجرية و،‮ ‬من بعيد،‮ ‬ينبثق‮ (‬ضريح‮) ‬أمير سلطان قبالة التربة الخضراء‮ (‬2‮) ‬كمياه مائلة الي الزرقة تجري‮ ‬بين أشجار السرو‮.‬


‮   ‬في‮ ‬هذه الساعة الليلية،‮ ‬كان الضريح مغلقا‮. ‬والمسجد أيضا‮. ‬هبطنا الدرج ومارين بين عمودين،‮ ‬ولجنا الساحة الرحبة‮. ‬جلست قرب النبع علي كتل من المرمر الذي‮ ‬يحيط بالحوض‮. ‬لا نتبادل الكلام‮. ‬غطست‮ ‬يدي‮ ‬في‮ ‬المياه وشعرت ببرودة لطيفة،‮ ‬فرح لا‮ ‬يوصف،‮ ‬راحة عذبة،‮ ‬تملكتني‮ ‬الرغبة في‮ ‬النوم‮. ‬في‮ ‬المقبرة،‮ ‬أشجار السرو تندي،‮ ‬المآذن الحجرية المشذبة لا تنغرز في‮ ‬جلدي،‮ ‬لا تجرحني‮. ‬وهكذا نسيت وجود الشاب،‮ ‬الحب الشهواني‮ ‬والمسخ الذي‮ ‬يسكنني‮ ‬ويلتمس بشراهة وبدون انقطاع المتع الجديدة‮. ‬في‮ ‬الساحة المحاطة بالقاعات المفتوحة،‮ ‬انتظرت حفل أشجار جوديه‮. ‬في‮ ‬مطلع النهار،‮ ‬حينما تتفتح أزهار هذه الأشجار،‮ ‬سيتوافد دراويش أمير سلطان نحوها‮. ‬مرتدين ملابسا من الصوف،‮ ‬مع قشرة الجوز التي‮ ‬تتدلي من أعناقهم،‮ ‬ينتشرون في‮ ‬الساحة كحبات المسبحة ويجثون‮. ‬قبل أن‮ ‬يشرعوا في‮ ‬ذكر أسماء الله،‮ ‬ربما سينفخون في‮ ‬ناياتهم،‮ ‬ويصطفون في‮ ‬دائرة،‮ ‬يصيحون أو‮ ‬يسبحون‮. ‬ربما انتهي بعضهم من قضاء الأربعين‮ ‬يوما من أيام الاعتكاف،‮ ‬آخرون،‮ ‬مثل‮ ‬يونس امره،‮ ‬يذكرون ليلا ونهارا فضل الله‮. ‬اعتقدت أنني‮ ‬سأسمع هذه الأبيات الشهيرة ليونس عن بورصة،‮ ‬التي‮ ‬تحتفي‮ ‬بقدوم الربيع وفرحة الدراويش بيقظة الطبيعة‮ :‬


‮   ‬دراويش أمير سلكان

‮   ‬يمدحون الله

‮   ‬أنهم عصافير البهجة

‮   ‬في‮ ‬ضريح أمير سلطان


‮   ‬غير أن الدراويش لم‮ ‬يكونوا،‮ ‬هم فقط،‮ ‬من‮ ‬يترددون علي ضريح أمير سلطان‮. ‬نهارات السوق،‮ ‬جمع قادم من القري المجاورة‮ ‬يملأ الشوارع،‮ ‬ينتشر علي المنحدرات ويجتاح المقبرة‮. ‬رهبان مسيحيون هبطوا من أديرة أولوداغ،‮ ‬خارجين من مغاراتهم أو من أشجارهم الجوفاء‮. ‬الأرض التي‮ ‬أنشأت تلتهب،‮ ‬المياه المتدفقة،‮ ‬الأشجار الزاهية والأزهار ذات الألوان العديدة،‮ ‬الأزرق،‮ ‬الأحمر،‮ ‬الوردي،‮ ‬أشجار جوديه،‮ ‬التي‮ ‬تزهر قبل الأوراق،‮ ‬كانت في‮ ‬حالة من النشوة‮. ‬ظهر أمير سلطان‮. ‬كان‮ ‬يعتمر عمامة خضراء من اثنتي عشرة لفة،‮ ‬يرتدي‮ ‬معطفا أسود طويلا ويحمل عصا من خشب الورد‮. ‬جبته من صوف الآنغورا،‮ ‬الناعم واللامع،‮ ‬جديرة بمكانته‮. ‬الزنار الذي‮ ‬تقلده في‮ ‬ذكري قمبر،‮ ‬الوفي‮ ‬لعلي،‮ ‬يتدلي من وسطه،‮ ‬حجر الخضوع المعلق في‮ ‬رقبته‮ ‬يتأرجح مع كل خطوة‮ . ‬يعبر عن معاناة نسيمي،‮ ‬منصور الحلاج،‮ ‬اللذين لم‮ ‬يرجعا عن طريقهما الحقيقي،‮ ‬وعن رحلة كافة‮ ‬الصوفيين المنزوين في‮ ‬صوامع الذين عقدوا أجسادهم في‮ ‬حبهم لله الواحد‮. ‬يري علي وجهه الجميل النور الذي‮ ‬يتلألأ علي ذرية النبي‮ ‬وفي‮ ‬نظرته سلام من أدركوا هدفهم‮. ‬اذ أنه،‮ ‬بدون موافقة السلطان،‮ ‬تزوج خوندي‮ ‬خاتون وأصبح صهر بايزيد‮. ‬أنه من منح حماه لقب‮ "‬الصاعقة‮" ‬وأنه من قلده السيف قبل رحيله الي الريف‮. ‬وقد رآه البعض أيضا،‮ ‬رفقه دراويشه،‮ ‬تحت أسوار القسطنطينية،‮ ‬مسلحا بسيف خشبي‮. ‬بفضل معجزاته،‮ ‬نجح بايزيد من دحر الجيوش الصليبية في‮ ‬نيغبولو‮. ‬الآن،‮ ‬أنه واثق من نفسه،‮ ‬ويعرف بمدي حب السلطان له وتمتعه بتقديره السامي،‮ ‬غير أنه ظل بعيدا عن مكائد السراي‮ ‬وسباق السلطة‮. ‬قبل البدء في‮ ‬ذكر أسماء الله لأجل حفل أشجار جوديه،‮ ‬يمشي‮ ‬مائة خطوة في‮ ‬ساحة الضريح‮. ‬يري بخاري حيث ولد وكبر،‮ ‬النزل البسيطة في‮ ‬المدينة التي‮ ‬أقام فيها لما زار قبر النبي،‮ ‬الأركان التي‮ ‬تكور فيها كي‮ ‬ينام حينما احتاج الي المال،‮ ‬الشوارع المغبرة اللا نهائية،‮ ‬الأشجار المنزوية وسط السهوب،‮ ‬الشمس المتأججة في‮ ‬سماء الصحراء،‮ ‬النجوم المعلقة أعلي الفراغ‮ ‬في‮ ‬الليالي‮ ‬الباردة‮. ‬حتي اللحظة التي‮ ‬بلغ‮ ‬فيها بورصة،‮ ‬انزوي كي‮ ‬يحيا في‮ ‬بينارباشي،‮ ‬كان دوما معتزا بنفسه،‮ ‬بدون مساعدة ولا نصيحة‮.‬

‮   ‬وددت أن أقول له،‮ ‬بكلمات‮ ‬يونس‮ : "‬أمير سلطان،‮ ‬يا من ارتديت الأخضر،‮ ‬السلام عليك‮!". ‬ظلت‮ ‬يدي‮ ‬في‮ ‬مياه النبع حيث رحت أشعر بالطلاوة تنتشر في‮ ‬أوردتي‮. ‬كنت كمن تطهر من الكحول الذي‮ ‬احتسيته بكميات متلاحقة مع الوجبة‮. ‬كانت روحي‮ ‬متفتحة،‮ ‬بالاضافة الي تخيل حفل أشجار جوديه،‮ ‬تصورت الاحتفالات الربيعية التي‮ ‬كانت تدور عصر أمير سلطان‮. ‬وفجأة فهمت لماذا كان رفيقي‮ ‬عند المنبع أراد أن‮ ‬يقودني‮ ‬الي أمير سلطان‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬فكر،‮ ‬هو أيضا،‮ ‬في‮ ‬معجزة حققها الولي‮ ‬الذي‮ ‬ارتدي الأخضر في‮ ‬روح الهلال الأخضر‮.‬

‮   ‬وعد بايزيد الصاعقة أن‮ ‬يبني‮ ‬عشرين مسجدا اذا انتصر في‮ ‬معركة نيغبولو‮. ‬في‮ ‬غد‮ ‬يوم انتصاره،‮ ‬وبالعودة الي بورصة،‮ ‬بدأ العمل‮. ‬اعترض أمير سلطان علي هذا القرار‮. ‬اقترح علي سلطانه أن‮ ‬يبني‮ ‬مسجدا واحدا ذا عشرين قبة بدلا من قبة واحدة‮.  ‬وهكذا شيد بايزيد أولو‮ ‬غامي،‮ ‬المسجد الكبير‮. ‬وحينما انتهي العمل في‮ ‬البناء،‮ ‬سأل السلطان أمير سلطان،‮ ‬ان كان هناك شئ ما ناقص،‮ ‬أجابه‮ :‬

‮   - ‬كل شئ جميل وكل شئ في‮ ‬موضعه،‮ ‬يا سيدي‮. ‬لا‮ ‬يتبقي سوي النزل‮.‬

‮   ‬تخيلوا ذهول السلطان‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬لم‮ ‬يكن فاقد الحس قبالة النقد الذي‮ ‬وجهه الي صهره‮.‬

‮   - ‬ماذا تريد أن تقوله ؟ لسنا في‮ ‬بيت لحم‮ ! ‬ما فائدة نزل في‮ ‬بيت الله ؟

‮   - ‬أنه نتاج خلق الله‮. ‬أنهم عمالك،‮ ‬حرفيوك ومعماريوك الذين أنشأوا هذا المسجد الكبير‮. ‬مثلما خلقك الله،‮ ‬جسدك نتاج‮ ‬يديه‮. ‬اذا لم تكن تخشي،‮ ‬منكبا علي الشراب،‮ ‬أن تحول هذا البيت لحم،‮ ‬والذي‮ ‬هو جسدك،‮ ‬الي نزل،‮ ‬لماذا أنت خائف من ادخال الشراب الي هذا المسجد ؟

‮   ‬بعد هذه الموعظة،‮ ‬كما قيل،‮ ‬تاب بايزيد ولم‮ ‬يقترب أبدا من الشراب‮. ‬لا أعرف ان كانت هذه الحكاية صحيحة‮. ‬أفسر،‮ ‬بطريقتي،‮ ‬المصادر القديمة‮.‬

2006،‮ ‬بورصة


هوامش الفصل السادس‮ :‬

‮( ‬1‮ ) ‬سعيد فايق‮ )‬1906‮-‬1954‮ (‬،‮ ‬قاص وشاعر تركي‮ ‬شهير‮.(‬المترجم‮)‬

‮( ‬2‮ ) ‬التربة الخضراء،‮ ‬ضريح السلطان العثماني‮ ‬محمد الأول في‮ ‬بورصة،‮ ‬وسميت كذلك لأنها مغطاة بقطع الخزف الخضراء‮.‬


رؤية قونية


‮   ‬في‮ ‬اليوم التالي‮ ‬من وصولي‮ ‬قونية،‮ ‬كان من المتوقع حدوث خسوف القمر‮ - ‬كان الأول واضحا في‮ ‬كل مكان منذ ألفي‮ ‬عام،‮ ‬حسب الصحف‮. ‬وسيظهر ظل كوكبنا مرتميا علي القمر في‮ ‬السماء الصافية والشفافة لسهولنا‮. ‬بلا أي‮ ‬زخرف في‮ ‬وضوح القمر،‮ ‬ولا أصغر سحابة،‮ ‬ولا أدني نجمة،‮ ‬كانت السماء نقية،‮ ‬كثيفة بصورة مذهلة‮.‬

‮   ‬فجأة،‮ ‬بدأ القمر‮ ‬يتعتم‮. ‬حينئذ،‮ ‬سمعت،‮ ‬من بعيد،‮ ‬فرقعات،‮ ‬قعقعات الصفائح والأواني،‮ ‬صافرات السيارات وصيحات النساء‮. ‬هكذا،‮ ‬في‮ ‬قونية،‮ ‬كما في‮ ‬كافة مدن الآناضول،‮ ‬تمت تحية الخسوف بالصخب‮. ‬من اللازم القول أن قونية احدي أكبر المدن المزدهرة في‮ ‬تركيا‮. ‬لا‮ ‬يري المرء فيها الا الشوارع المغطاة بالأسفلت،‮ ‬المناطق الصناعية،‮ ‬البنايات الجماعية،‮ ‬وحتي ناطحات السماء‮. ‬يرفع المرور المنظم رأس البلدية،‮ ‬وقد أهدت بلدية كولونيا المدينة مركبات ترام من ثلاث دواوين‮. ‬هذه المركبات تربط جبل علاء الدين بالضواحي،‮ ‬غير أن المدينة لا تمتلك مطارا‮. ‬سأكذب اذا قلت أنني‮ ‬نسيت أن أتكلم عن المدرج الذي‮ ‬ينبسط في‮ ‬وضوح القمر حينما هبطت طائرة شركتنا الوطنية التي‮ ‬حملتنا علي أرض القاعدة العسكرية،‮ ‬مرآب الطائرات وحاملو الحقائب‮ ‬يهرولون وسط الحراس المدججين بالسلاح‮. ‬وبعد ذاك،‮ ‬في‮ ‬اللحظة التي‮ ‬اتجهنا فيها الي باصات البلدية التي‮ ‬تنتظرنا كي‮ ‬تحملنا الي المدينة،‮ ‬خسف القمر‮. ‬كيف أنسي قطع الخزف الخضراء للقباب والامتداد المخروطي‮ ‬للمنارات التي‮ ‬تنتصب نحو السماء ؟ لنستشهد بأكبر متصوفينا وأكبر شعراءنا المتأججين،‮ ‬جلال الدين الرومي،‮ ‬بقول آخر مولانا‮ :‬


‮   ‬شمس،‮ ‬كالهلال والبدر،

‮ ‬‮  ‬تعالي،‮ ‬بلا جناحين ولا ذراعين،

‮       ‬وعاودي‮ ‬مسيرتك الكونية‮.‬

لم أنم طوال الليل‮. ‬خرجت من الفندق،‮ ‬المبني‮ ‬بالضبط قبالة ضريح مولانا،‮ ‬كي‮ ‬أتسكع في‮ ‬الشوارع الخالية‮. ‬مررت أمام المسجد وارتكنت علي باب ضريح الشيخ المقام حسبما أمر سليم الثاني،‮ ‬ابن القانوني،‮ ‬سليمان العظيم،‮ ‬بينما كان وريثا للعرش‮. (‬في‮ ‬حلقة تلفازية،‮ ‬أطلقت علي هذا السلطان‮ "‬سليم السكير‮"‬،‮ ‬مما أثار حفيظة بعض المشاهدين،‮ ‬بيد أنه من الواجب عدم نسيان أن سليم،‮ ‬المصور علي منمنة وفي‮ ‬يده كأسا من الخمر،‮ ‬مات في‮ ‬الحمام،‮ ‬بسبب نزيف مخي،‮ ‬في‮ ‬ليلة سكر‮ !). ‬تخلص القمر من ظل كوكبنا ولمع من جديد‮. ‬من النافذة ذات القضبان الحديدية المفتوحة في‮ ‬الحائط الحجري،‮ ‬رأيت الساحة‮. ‬مياه الحوض تسيل في‮ ‬جداول الينابيع المرمرية‮. ‬في‮ ‬الماضي،‮ ‬كانت هذه المياه تنبجس من أفواه أسود حجرية وكانوا‮ ‬يقيمون احتفالاتهم الليلية حول هذا الحوض‮.‬

‮   ‬أحاول أن أصور الدراويش‮ ‬يدخلون،‮ ‬الواحد بعد الآخر،‮ ‬الي الساحة كي‮ ‬يرقصون رقصتهم الطقسية،‮ ‬السيما‮  (‬1‮) ‬بقلنسواتهم الكستنائية اللون،‮ ‬وأجسادهم المثنية في‮ ‬معاطف بيضاء،‮ ‬كأنهم قادمين من عالم آخر‮. ‬كان الشيخ،‮ ‬ذو القلنسوة التي‮ ‬لف عمامة بيضاء عليها،‮ ‬يمشي‮ ‬خلف الآخرين‮. ‬أخذ الراقصون أماكنهم في‮ ‬ساحة الصومعة‮. ‬الصمت‮ ‬يلف المكان‮. ‬لا‮ ‬يسمع أحد حتي همهمة النجوم التي‮ ‬تذوب في‮ ‬وضوح القمر‮. ‬تربع الشيخ،‮ ‬باسطا جلد خروف تحت القباب الرصاصية،‮ ‬والدراويش‮ ‬يحيطونه وهم‮ ‬يتلون الأدعية‮. ‬وهكذا بدأ لحن مرتجل علي الناي‮ ‬الذي‮ ‬يثير رجفة الليل‮. ‬النغم،‮ ‬العتيق جدا،‮ ‬القادم من بعيد،‮ ‬ينسال عبر السنوات والقرون ويغسلكم،‮ ‬يطهركم كما المياه النقية‮.‬

‮   ‬رددت في‮ ‬نفسي‮ ‬البيتين الأولين من المثنوي،‮ ‬البيتين الأولين من ستة وثلاثين التي‮ ‬نسخها مولانا وأعطاها لحسام الدين جلبي‮ ( ‬2‮) ‬ذات ليلة،‮ ‬ربما كان قمرها‮ ‬ينير كما هذه الليلة هذه الساحة الحجرية والمياه تملأ الجداول المرمرية‮ :‬


‮   ‬أسمع شكوي الناي‮ ‬الطويلة

‮   ‬دوما‮ ‬ينتحب علي الهجران‮.‬


‮   ‬انتزع الناي‮ ‬من قصب،‮ ‬ولهذا‮ ‬ينوح،‮ ‬مثلما‮ ‬ينوح انسان انتزع من رحمة الله‮. ‬يحترقان رغبة ويؤوبان الي جذورهما،‮ ‬يلاقياها،‮ ‬يذوبان فيها،‮ ‬ينسخان فيها،‮ ‬يتلاشيان في‮ ‬الذات الحقيقية‮.‬


‮ ‬‮  ‬من،‮ ‬اذا،‮ ‬فصل روحك عن الحقيقة ؟

‮   ‬تنتظر لحظة الاتحاد‮.‬


مثل موتي بعثوا من نغم الناي،‮ ‬خلع الدراويش معاطفهم وأنشأوا‮ ‬يرقصون،‮ ‬ملابسهم ذات الأكمام الطويلة بلا رقبة ومقورة علي الصدر وقمصانهم الفضفاضة تشبه الكفن،‮ ‬يدورون بسرعة علي أنغام الناي،‮ ‬الطبلة والربابة،‮ ‬ويتفتحون في‮ ‬ساحة الضريح كزهور النيلوفر البيضاء‮. ‬يتوسط الشيخ دائرتهم،‮ ‬علي جلد الخروف،‮ ‬مستغرقا في‮ ‬حلم بعيد،‮ ‬غاطسا في‮ ‬أعماق‮ "‬عالم الادراك‮". ‬كأنه‮ ‬غادر هذا العالم،‮ ‬وانمحي عن الواقع‮. ‬راحلا الي رحلة تأملية طويلة،‮ ‬يطير بين الملائكة‮. ‬حجب عينيه‮ ‬يتساقط الواحد منها بعد الآخر‮. ‬الدراويش‮ ‬يدورون حول أنفسهم كما الكواكب حول الشمس‮. ‬حسب قائد الرقصة،‮ ‬الرؤوس مائلة الي ناحية،‮ ‬الأيدي‮ ‬اليسري نحو الأرض،‮ ‬الأيدي‮ ‬اليمني نحو السماء،‮ ‬يذكرون،‮ ‬في‮ ‬همسة،‮ ‬أحد أسماء الله في‮ ‬كل مرة‮ ‬يضربون الأرض بكعوبهم‮. ‬اسماء الله لا تعد ولا تحصي،‮ ‬أكثر من عدد نجوم السماء ونمل الأرض‮. ‬الحياة قصيرة للغاية حتي نتعلمها،‮ ‬نحفظها ونعلنها‮. ‬ولكن ليس الدراويش من‮ ‬يدورون هكذا مثل الدوامات تحت قباب الضريح،‮ ‬لا‮ ! ‬أنهم مؤسسو طائفة المولوية،‮ ‬سلطان ولد،‮ ‬باعث الرقصة الطقسية،‮ ‬افلاقي‮ (‬3‮)‬،‮ ‬مؤلف الحكايات الأسطورية والكتابات العظيمة في‮ ‬مديح الله،‮ ‬حسام الدين جلبي،‮ ‬الذي‮ ‬دون المثنوي‮ ‬من فم مولانا‮. ‬منتزعين عن الأرض،‮ ‬عراة من معاطفهم السوداء،‮ ‬يلاقون الالهي‮. ‬يدورون،‮ ‬بلا دنس،‮ ‬نشوانين،‮ ‬غارقين في‮ ‬الجذب‮. ‬في‮ ‬باريس،‮ ‬رأيت دراويشا‮ ‬يدورون،‮ ‬علي خشبة أصغر من هذه الساحة،‮ ‬وفي‮ ‬اسطنبول،‮ ‬تحت ثريات من البلور في‮ ‬المولوية،‮ ‬بحي‮ ‬غالاتا‮. ‬ولكن شئ آخر أن أراهم‮ ‬يرقصون في‮ ‬قونية،‮ ‬قرب ضريح مولانا الذي‮ ‬يغمره نور القمر‮. ‬اذ أن أول رقصة طقسية،‮ ‬حققها مولانا نفسه هنا،‮ ‬ليس تحت هذه القبة،‮ ‬وانما الي البعيد نوعا ما،‮ ‬في‮ ‬صمت سوق الصاغة،‮ "‬الأعمي والأبكم‮" ‬في‮ ‬العتمة‮.‬

‮    ‬في‮ ‬ذا الوقت،‮ ‬لم‮ ‬يكن بازار قونية‮ ‬يشبه،‮ ‬كما اليوم،‮ ‬سوق السلع القديمة‮. ‬ولا هذه البنايات الأسمنتية،‮ ‬التي‮ ‬لا‮ ‬يضاهيها شئ في‮ ‬البشاعة،‮ ‬موجودة،‮ ‬وكذا هذه الحوانيت التي‮ ‬تبيع الأبسطة للسائحين‮. ‬والبضاعة المزورة‮ ‬غير مختلطة بالتجارة الكبيرة‮. ‬حتي أن آذان الصلاة لم‮ ‬يكن‮ ‬يتعالي من أعلي محال مسجد العزيزية المزخرفة بصورة ثقيلة،‮ ‬ولكن من أعلي المآذن القصيرة لمسجد صانعي‮ ‬الحبال حيث الجدران اللبنية ترتفع علي قوائم أفيال واقفة علي ظهور محال السوق حيث‮ ‬يهيمن النظام التعاوني‮ ‬وأخلاق الفتوات‮. ‬كل طائفة مهنية تجتمع في‮ ‬فضاءها الرسمي‮ ‬وتتمتع بالتقدير العام‮. ‬طائفة الخياطين ترجع الي النبي‮ ‬ادريس،‮ ‬طائفة الدباغين الي آخي‮ ‬افرن،‮ ‬طائفة الخبازين الي عمر البربري،‮ ‬طائفة الصياغ‮ ‬الي ناصر بن عبد الله،‮ ‬طائفة السقائين الي سلمان الكوفي،‮ ‬وكانوا‮ ‬يتمنطقون بزنار صوفي‮. ‬لم تكن الشوارع،‮ ‬كما اليوم،‮ ‬مزدحمة بالجموع حيث‮ ‬يختلط السكان بالسائحين،‮ ‬خلال الصيف‮. ‬في‮ ‬عاصمة السلاجقة،‮ ‬كان المسلمون والمسيحيون،‮ ‬اليهود والوثنيين‮ ‬يعيشون في‮ ‬وئام،‮ ‬وكان الجورجيون والقرامنليون،‮ ‬العرب والتتار،‮ ‬التركمان واليونانيون،‮ ‬يتسوقون من نفس الحوانيت ويترددون علي نفس الأنزال‮.‬

‮   ‬في‮ ‬ذا الوقت حيث كان البازار‮ ‬يحمل اسمه،‮ ‬كان مولانا‮ ‬يخرج في‮ ‬المساء كي‮ ‬يفصح عن حزنه‮. ‬يداه الطاهرتان تجريان بشرود علي كمي‮ ‬جبته،‮ ‬يفكر في‮ ‬شمس تبريزي،‮ ‬صديق روحه الراحل،‮ ‬ويبذل قصاري جهده في‮ ‬رد سلام التجار الواقفين أمام حوانيتهم‮. ‬ينحني‮ ‬المعلمون والأصدقاء والصبية باحترام،‮ ‬وبأدب طائفتهم،‮ ‬أمام هذا العالم الكبير،‮ ‬وكانوا‮ ‬يتشاجرون علي شرف دعوة هذا العلامة الذي‮ ‬يجمع بين الشيخ والمعلم الي حوانيتهم‮. ‬غير أن الشيخ الولي‮ ‬كان حزينا،‮ ‬يمشي‮ ‬بلا تبصر ولا‮ ‬يحلم سوي برؤية شمس تبريزي،‮ ‬هذا الولي‮ ‬الذي‮ ‬قلب حياته رأسا علي عقب،‮ ‬هذا الرجل السامي‮ ‬الذي،‮ ‬منذ اللقاء الأول،‮ ‬غطسه في‮ ‬الجذب‮. ‬بعد قرون،‮ ‬غني منشد ضرير،‮ ‬من نفس الروح،‮ ‬هذه الحالة الروحية،‮ ‬هذا السلوك الساهي‮ :‬


‮   ‬علي طريق طويلة وضيق

‮   ‬أمشي‮ ‬ليلا ونهارا

‮   ‬أجهل حالتي

‮   ‬وأمشي‮ ‬ليلا ونهارا‮.‬


‮   ‬علي حين‮ ‬غرة،‮ ‬توقف مولانا وأصاخ سمعه الي صوت قادم من الطرف الآخر للسوق‮. ‬فعل الحرفيون مثله‮. ‬منفاخ الحداد لا‮ ‬يلهث،‮ ‬الأفران لا تسخن والحديد لا‮ ‬يزهر‮. ‬لم‮ ‬يسمعوا سوي هذا الصوت الذي‮ ‬يشبه مطرقة تدق الذهب علي السندان‮. ‬قال مولانا في‮ ‬نفسه أن الرقائق الذهبية أصبحت رفيعة للغاية‮. ‬حينما تكون دقيقة أيضا مثل الورقة،‮ ‬ستساعد،‮ ‬في‮ ‬ورشة عامل التذهيب،‮ ‬علي تزيين مخطوطات الكتب العلمية،‮ ‬لقراءتها،‮ ‬التي‮ ‬نذز شبابه لها،‮ ‬وحتي تعمر طويلا‮. ‬كأسماك تعكس لمعانها في‮ ‬المياه وموزاييك متعدد الألوان‮. ‬فجأة،‮ ‬شعر مولانا بالفرح‮. ‬وفي‮ ‬أعماق قلبه،‮ ‬غمرت النوستالجيا قلبه ازاء شمس الذي‮ ‬غرزه في‮ ‬كتبه كي‮ ‬يدفعه الي محيط العشق‮. ‬لم‮ ‬يزل الألم‮ ‬غضا،‮ ‬وبقدر ما مرت أعوام وأعوام الا أن الجرح ظل مفتوحا‮. ‬واضعا‮ ‬يده علي‮ ‬ياقة جبته،‮ ‬أغلق عينيه،‮ ‬شعر بنفسه وحيدا،‮ ‬ضائعا،‮ ‬وقد تخلي عنه الجميع،‮ ‬كدرويش جوال‮ ‬يغمره برد السهوب القارس‮. ‬ثم استسلم للشوق الذي‮ ‬يسكنه‮. ‬سقطت رأسه علي كتفه الأيمن وأنشأ‮ ‬يدور حول نفسه في‮ ‬بطء،‮ ‬ثم تدريجيا بسرعة،‮ ‬علي ايقاع دقات المطرقة القادم من ورشة الصائغ‮. ‬بينما كان‮ ‬يدور حول نفسه،‮ ‬خفت النوستالجيا التي‮ ‬تستوحي‮ ‬شمس وانفتح قلبه‮. ‬تتسارع ضربات المطرقة ورقائق الذهب تترقق علي السندان‮. ‬وهو‮ ‬يراه‮ ‬يدور حول نفسه،‮ ‬أمر صلاح الدين،‮ ‬المعلم الصائغ،‮ ‬المشهور بورعه،‮ ‬صبيانه بأن‮ ‬يدقوا أسرع فأسرع‮. ‬قفز من حانوته ودار حول نفسه،‮ ‬هو الآخر‮. ‬مولانا،‮ ‬الحزين عشقا،‮ ‬والصائغ،‮ ‬راحا‮ ‬يدوروان حول نفسيهما‮. ‬سحقت الضربات رقائق الذهب،‮ ‬غير أن الصائغ‮ ‬صاح في‮ ‬صبيانه طالبا أن‮ ‬يسرعوا الايقاع‮. ‬من‮ ‬يعرف ان كان مولانا كان‮ ‬يتمتم في‮ ‬نفسه بكلمات الدرويش‮ ‬يونس،‮ ‬ناشر مذهب معلمه طابطوك،‮ ‬الذي‮ ‬قال لمولانا،‮ ‬في‮ ‬لقاء‮ : "‬كتابك المثنوي‮ ‬طويل‮. ‬لو كنت محلك،‮ ‬لكتبت فقط‮: "‬خلقت من لحم وعظام حتي أظهر أينما كنت‮" ‬؟ اذ أن مولانا‮ ‬

‮   ‬وجدت الصديق الأصيل

‮   ‬حتي سلبت روحي

‮   ‬عرفت الخسارة والمنفعة

‮   ‬حتي نهب حانوتي‮.‬


‮   ‬وبينما تطير رقائق الذهب في‮ ‬عظمة وقد عاثت الفوضي جوانب الحانوت،‮ ‬استسلم الصائغ‮ ‬للهيجان‮. ‬يدور رفقة مولانا،‮ ‬رغم عمره المتقدم،‮ ‬تاركا خلفه رتابة البازار المألوفة،‮ ‬نبت له جناحان،‮ ‬وحلق بين النجوم‮. ‬بعد هذا اللقاء،‮ ‬أصبح الصائغ‮ ‬صلاح الدين واحدا من مريدي‮ ‬مولانا،‮ ‬لم‮ ‬يتركه للحظة حتي ساعة الوفاة‮. ‬ومنذ ذاك،‮ ‬عرف باسم زرقوب،‮ ‬وأصبح بصورة ما مرآة قلب مولانا‮. ‬في‮ ‬هذا اللمعان،‮ ‬تتبدي صورته جميلة،‮ ‬أكثر واقعية وأكثر حميمية‮. ‬لم‮ ‬يكتف بأنه عمل علي نسيانه شمس،‮ ‬وانما ساعد مولانا علي استلهام‮ "‬مثنويه‮".‬



‮   ‬في‮ ‬عام‮ ‬1249،‮ ‬خلال الاحتلال المغولي الذي‮ ‬قلقل أركان الدولة السلجوقية،‮ ‬نشأت السيما،‮ ‬الرقصة الطقسية،‮ ‬أمام ورشة الصائغ‮. ‬لا تزال موجودة حتي اليوم‮. ‬وفي‮ ‬كل دورة‮ ‬يبتعد الدراويش رويدا رويدا عن هذه الأرض مقتربين من‮ "‬الواحد‮". ‬بينما تحترق الشموع في‮ ‬الشمعدان الكبير،‮ ‬يذوبون ويسيلون في‮ ‬حالة من الجذب الجميل‮. ‬باستعارة كلمات مولانا‮ :‬


‮   ‬أنهم في‮ ‬الشوك،‮ ‬لكنهم الوردة

‮   ‬أنهم محبوسون،‮ ‬لكنهم الخمر

‮   ‬أنهم في‮ ‬الوحل،‮ ‬لكنهم القلب

‮   ‬أنهم في‮ ‬الليل،‮ ‬ولكنهم الصباح‮.‬


‮    ‬مع نداء الشيخ،‮ ‬تنتهي‮ ‬الرقصة‮. ‬يغادر الدراويش الساحة،‮ ‬مثلما أتوا‮. ‬يدخلون الي‮ ‬غرفهم أو الي مزرعة الورد المجاورة‮. ‬بعد ساعة الجذب تلك،‮ ‬ليس لديهم الرغبة في‮ ‬ولوج المطبخ‮ ! ‬من الرائع أن نراهم‮ ‬يختفون هكذا رفقة شيخهم‮. ‬أ لم‮ ‬يغب شمس،‮ " ‬السر الالهي‮"‬،‮ ‬في‮ ‬ليلة منيرة كتلك،‮ ‬مثلما تغيب الشمس بدون أن تترك أثرا خلفها ؟

‮   ‬مكثت متجمدا أمام الصومعة‮. ‬لم تكن لدي‮ ‬الرغبة في‮ ‬العودة الي الفندق‮. ‬في‮ ‬البعيد،‮ ‬كانت الكلاب تعوي‮. ‬ومن الناحية الأخري للشارع،‮ ‬سمعت نعيب بومة،‮ ‬قادما من ساحة الثلاثة‮. ‬في‮ ‬نفس الوقت‮ ‬يتوقف خرير المياه وتغرق الساحة في‮ ‬صمت‮ ‬غريب‮. ‬فقدت تصور الزمن‮. ‬لاصقا وجهي‮ ‬في‮ ‬النافذة ذات القضبان الحديدية،‮ ‬ظللت ساكنا‮. ‬تدريجيا،‮ ‬تزداد النداوة الليلية للسهوب وتهبط العتمة علي القباب‮. ‬تبدي لي‮ ‬أن القمر اختفي خلف سحابة‮. ‬في‮ ‬المكان الذي‮ ‬كنت موجودا بين أرجاءه،‮ ‬لم أستطع رؤية الضريح‮. ‬ولكن،‮ ‬حسب اعتقاد المولوية،‮ ‬من الممكن أن‮ ‬يظهر شمس في‮ ‬كل لحظة من فتحة الباب الذي‮ ‬ينفتح علي مكة،‮ ‬بوجهه النضر تحت تاجه،‮ ‬قلنسوته المخروطية المصنوعة من اللبد الأبيض،‮ ‬ونظراته المتأججة،‮ ‬وكما جذب مولانا،‮ ‬جذبني‮ ‬أيضا الي عالمه،‮ ‬في‮ ‬أعماق محيطه‮. ‬لا،‮ ‬لست خائفا‮. ‬علي العكس،‮ ‬ومثل مولانا،‮ ‬احترقت في‮ ‬ملاحقته عبر السهوب والصحاري،‮ ‬حتي دمشق وحتي تبريز أيضا،‮ ‬وفي‮ ‬اختراق سره‮. ‬ولكن،‮ ‬كما المفتون،‮ ‬ظللت ملتصقا بالقضبان الحديدية للنافذة،‮ ‬لا أستطيع أن أنهض ولا أن أتحرك‮. ‬وحيدا،‮ ‬مستغرقا في‮ ‬أحلامي،‮ ‬أستطيع فقط أن أتخيل هذا الزمن البعيد،‮ ‬علي ضوء القمر‮... ‬أتخيل الشيخ‮ ‬يخرج من مخبأه،‮ ‬يتجه نحوي،‮ ‬يقترب من خلفي‮ ‬ويضع‮ ‬يده الطاهرة علي كتفي‮. ‬حينما استدرت،‮ ‬لم أر أحدا‮ ! ‬ربما‮ ‬ من‮ ‬يعرف ؟‮ - ‬هل‮ ‬يبعث الي‮ ‬بعلامة من العالم المحجوب ؟ فجأة،‮ ‬غمر النور الساحة كلها،‮ ‬اعتقدت أن نور القمر‮ ‬يتضخم،‮ ‬وانخطف بصري‮. ‬تخيلت أنني‮ ‬أري درويشا ذا لحية بيضاء‮ ‬يقترب من القضبان الحديدية‮. ‬وجهه‮ ‬يشع نورا،‮ ‬يثير العمي كما الشمس‮. ‬اقتضي الأمر أن أغلق عيني‮ ‬لثوان‮. ‬حينما فتحتهما،‮ ‬لم‮ ‬يكن هناك أحد‮. ‬الساحة،‮ ‬في‮ ‬نور القمر،‮ ‬خالية‮. ‬فقط أمامي،‮ ‬كان قميص أحد الدراويش الفضفاض منشورا علي حجر‮. ‬ارتجفت لما رأيته ملوثا بالدم‮. ‬ثم اختفي بدوره‮.‬

‮   ‬ولكن من هو هذا الشمس ؟ اسمه ممتزج بكثير من الأساطير،‮ ‬كيف أن هذا الدرويش الغامض،‮ ‬الذي‮ ‬يحكي‮ ‬عنه الكثير من الأساطير كما الكثير من الأكاذيب،‮ ‬اختبر مثل هذا التأثير علي مولانا وألهمه أجمل قصائد‮ "‬الديوان الكبير‮ (‬4‮)‬؟

‮   ‬حسب المراجع القديمة،‮ ‬ولد شمس في‮ ‬تبريز وأصبح شاعرا جوالا متقشا،‮ ‬وعلي مدي رحلاته كان‮ ‬يقطن خان القوافل،‮ ‬مما جعله‮ ‬يستحق الاسم الذي‮ ‬أطلق عليه‮ (‬شمس الطائر‮). ‬اذا اعتقدنا في‮ "‬المقالات‮"‬،‮ ‬الكتاب الوحيد الذي‮ ‬بقي‮ ‬لنا منه،‮ ‬حقق بعض المعجزات وكان شيخا ميالا للجذب الفجائي‮. ‬نعرف القليل عن حياته،‮ ‬التي‮ ‬تحفظ أسراره‮. ‬يقول،‮ ‬مثلا،‮ ‬في‮ ‬المقالات‮ :‬


‮   ‬كان لدي‮ ‬شيخ في‮ ‬تبريز‮ ‬يدعي أبا بكر‮. ‬يحيا علي جدل السلال‮. ‬بفضله،‮ ‬اختبرت تأثيري‮ ‬علي الكثير من الأقاليم‮. ‬بيد أن بي‮ ‬شيئا لا‮ ‬يراه شيخي‮. ‬من جهة أخري،‮ ‬لم‮ ‬يره أحد‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬رآه مولانا،‮ ‬سيدي‮.‬


‮   ‬عاش شمس في‮ ‬قونية خلال السنوات التي‮ ‬فصلت بين كارثتين في‮ ‬التاريخ السلجوقي‮. ‬بين موت علاء الدين كيكوباد،‮ ‬أعظم سلاطين هذه الأسرة‮ (‬7321‮) ‬،‮ ‬وهزيمة كوزداغ‮  ‬3421‮)‬،‮ ‬التي‮ ‬فتحت الباب للسيطرة المغولية‮. "‬ليتمم الله نعمته،‮ ‬وصل شمس تبريزي‮ ‬ذات صباح من صباحات اليوم السادس والعشرين من قمر جمادي‮ ‬الآخر من عام‮ ‬642‮ ‬هجري‮"‬،كما ذكر مولانا‮. ‬منذ وصوله،‮ ‬اقترح علي مولانا،‮ ‬الذي‮ ‬كسب تقدير ومحبة الناس وهو‮ ‬ينشر تعاليمه،‮ ‬أن‮ ‬يعتكف في‮ ‬غرفته وأن‮ ‬يدرك الحقيقة،‮ ‬ليس عبر المعرفة،‮ ‬وانما عبر العشق‮. ‬حكي افلاقي‮ ‬لقاء هذين المحيطين‮ :‬


‮   ‬وزع درسه في‮ ‬مدرسة كرتاي،‮ ‬التي‮ ‬كانت تعتبر آنذاك أحد أكبر دور الثقافة‮. ‬سأل أحد التلاميذ معلمه عن وجود النقطة المركزية‮. ‬قال مولانا إن النقطة المركزية توجد في‮ ‬طرف الرواق وأن نقطة العشاق المركزية تقبع في‮ ‬قلب المعشوق‮ ‬،‮ ‬ثم هبط من كرسيه،‮ ‬مضي أمام الوزراء وكبار الموظفين الذين‮ ‬يسمعونه والجالسين في‮ ‬الصف الأول الي جانب شمس تبريز،‮ ‬الجالس في‮ ‬الصف الأخير بين أفراد الشعب العاديين‮. ‬ولم‮ ‬يفترق العاشقان‮. ‬ولكن الاغتياب زاد وتحت ضغط المريدين الذين أصبحوا لا‮ ‬يرون مولانا كثيرا وحرموا من نقاشاته،‮ ‬انتهي شمس الي مغادرة قونية‮. ‬أمر مولانا حسام الدين جلبي‮ ‬أن‮ ‬يكتب هذه الكلمات‮ :‬

‮   " ‬جوهر الأرواح،‮ ‬سر المكان حيث نضع الشمعدان،‮ ‬سر الزجاج والشمعدان،‮ ‬نور الله فيمن جاؤوا من قبل ومن سيأتون من بعد،‮ ‬أن‮ ‬يمنحه الله عمرا مديدا ويشمله بعطفه،‮ ‬رحل‮ ‬يوم الخميس‮ ‬21‮ ‬من قمر شوال‮ ‬643‭.‬‮"‬

‮   ‬في‮ ‬التقاليد البكتاشية،‮ ‬هناك الكثير من الأساطير التي‮ ‬تحيط بشمس‮. ‬تروي‮ ‬ولايتنامة لقاءه الأول بمولانا بطريقة مجازية وأكثر امتاعا عن شهادة افلاقي‮. ‬حسب هذا النص،‮ ‬كان شيخ تبريز وليا كبيرا‮. ‬وكان الحاج بكتاش الذي،‮ ‬بناء علي طلب مولانا،‮ ‬أرسله الي قونية‮. ‬ومنذ قدومه،‮ ‬عالج سلطان ولد،‮ ‬الضرير،‮ ‬الأكتع والمقعد‮. ‬ولكن‮ ‬يذكر كثير من الأسباب التي‮ ‬أكدت علي عظمة معشوق مولانا‮. ‬ذات‮ ‬يوم،‮ ‬في‮ ‬مدرسة كرتاي،‮ ‬بينما كان مولانا‮ ‬ينشر تعاليمه،‮ ‬حقق معجزة معروفة علي نطاق واسع كاشفا عن أن العشق مهم أيضا كالمعرفة،‮ ‬علي السطح الحميمي‮ ‬كما في‮ ‬العالم الخارجي‮. ‬في‮ ‬الواقع،‮ ‬كانت هناك سنوات عدة تفصل بين تأسيس مدرسة كرتاي‮ ‬وقدوم شمس الي قونية،‮ ‬ولكنها ذات أهمية لا تذكر‮. ‬تدعونا روح الأسطورة،‮ ‬شعره،‮ ‬الي تخيل مولانا‮ ‬يدرس في‮ ‬هذه المدرسة،‮ ‬الي عرض اللقاء الأول بين هذين‮ "‬المحيطين‮" ‬تحت قبة هذه المدرسة‮. ‬لأن كرتاي‮ ‬احدي الأبنية التي‮ ‬شيدها أحد المعماريين السلاجقة والتي‮ ‬لم تزل قائمة حتي اليوم‮. ‬الآجر المزخرف بالمينا،‮ ‬تركيب القطع الخزفية والأحجار المخرمة،‮ ‬الأبواب الرخامية الثقيلة،‮ ‬خطوط مع شرفات مقوسة ومثلثات كروية الشكل مبنية بين الأقواس التي‮ ‬تقام عليها القبة،‮ ‬قطع الخزف الزرقاء-الخضراء وكرزية اللون لم تقاوم،‮ ‬للأسف‮ ‬،‮ ‬غضب الزمن وتفتت،‮ ‬بيد أنها لم تزل تثير الانبهار‮. "‬لما ندخل،‮ ‬نلاحظ القبة السماوية المصغرة،‮ ‬الزرقاء،‮ ‬بالنجوم،‮ ‬المجرة وقوس قزح‮"‬،‮ ‬كتب ابراهيم خاكي‮ ‬قونيالي‮  (‬5‮)‬

‮   ‬تخيلوا التلاميذ المبتدئين وهم‮ ‬ينصتون الي مولانا،‮ ‬متجمعين حول الحوض‮. ‬الشيخ،‮ ‬متأملا القرآن الموضوع علي حامل خشبي‮ ‬أمامه،‮ ‬يشرح المعني العميق لاحدي الآيات‮. ‬فجأة،‮ ‬يدخل درويش أشعث،‮ ‬في‮ ‬أسمال،‮ ‬قدماه ملطختان بالوحل،‮ ‬الي الساحة،‮ ‬يقترب من مولانا ويقعي أمام الحامل الخشبي‮. " ‬عندما وصل شمس تبريزي‮ ‬إلي‮ ‬قونية كان مولانا‮ ‬يجلس بالقرب من نافورة وقد وضع كتبه بجانبه‮. ‬أشار إليها شمس وسأل‮: ‬ما هذه؟ وأجاب مولانا‮ : ‬هذه كلمات‮. ‬لماذا أنت مهتم بها؟‮ !‬وسحب شمس الكتب في‮ ‬حركة مفاجئة وألقي‮ ‬بها في‮ ‬مياه النافورة‮. ‬وسأله مولانا ربما بجذع‮ : ‬ماذا فعلت؟ في‮ ‬بعض من هذه الكتب كان ثمة مخطوطات مهمة ورثتها عن والدي‮ ‬ولايمكن أن توجد في‮ ‬موضع آخر‮... ‬وللمرة الثانية‮ ‬يفاجيء شمس‮... ‬مولانا،‮ ‬حيث مد‮ ‬يده إلي‮ ‬الماء وأخرج الكتب واحدا واحدا دون أن‮ ‬يصاب أحدها بالبلل‮.‬

‮ ‬و"المحيطان‮"‬،‮ ‬كأس خمر في‮ ‬يد كل منهما،‮ ‬يقومان بالرقصة الطقسية،‮ ‬مرتكنين علي أصوات الخانندة والساز‮. ‬تدور القبة علي ايقاعهما وضي‮ ‬النجوم،‮ ‬المنعكسة علي قطع الخزف،‮ ‬والهابطة من السماء في‮ ‬الحوض‮.‬

‮   ‬شمس،‮ ‬كما نعرف،‮ ‬فصيح‮. ‬روحاني‮ ‬ومتمرد في‮ ‬آن معا‮. ‬يعمل علي تعميق معرفته‮ ‬الايمانية،‮ ‬كما هو مفهوم‮- ‬بالجذب‮. ‬أجاب شيخا‮ ‬يقول أنه‮ ‬ينظر الي النجوم عبر الحوض،‮ ‬كي‮ ‬يري جمال الله‮ : "‬هل ؟ أنت مصاب بدمل في‮ ‬الرقبة ؟ من الأفضل أن ترفع الرأس وتنظر الي صفحة السماء‮ !". ‬لا‮ ‬يدين بأي‮ ‬فضل للمدرسة ولا للتكايا‮. ‬كان خان القوافل،‮ ‬حيث‮ ‬يتوقف عنده المسافرون الأبديون،‮ ‬مأواه الحقيقي‮. ‬سلطان ولد،‮ ‬في‮ "‬الكتاب الأخير‮"‬،‮ ‬وفي‮ ‬قصيدته الأخيرة،‮ ‬يسرد أن مولانا الذي‮ ‬كان،‮ ‬قبل أن‮ ‬يلقي شمس،‮ ‬يقرأ حتي الفجر علي نور شمعة،‮ ‬وقع في‮ ‬جاذبيته وتغير كليا بعد قدومه‮ :‬


‮ ‬ذات‮ ‬يوم جميل قدم رجل القلب،‮ ‬أمير حقيقي،‮ ‬ذات كاملة‮. ‬كان الناس‮ ‬يسمونه شمس تبريز‮. ‬ولكنه كان لدي المستبصرين نور الأنوار،‮ ‬السر الالهي‮... ‬معشوق العالم،‮ ‬الولي‮ ‬الذي‮ ‬يحبه الله‮. ‬حينما قابل مولانا شغف كل منهما بالآخر‮. ‬أعجب مولانا بوجهه،‮ ‬جماله،‮ ‬خضوعه لله،‮ ‬عينيه المتوقدتين،‮ ‬نقاوته الطبيعية،‮ ‬طباعه البشوشة،‮ ‬فمه الشبيه بجوهرة محملة بالأسرار التي‮ ‬توزع كلمات السلام علي الذوات الحرة‮. ‬الله،‮ ‬وقد أراده له،‮ ‬أخفاه عن أعين الناس لئلا‮ ‬يراه أحد منهم‮. ‬هام مولانا به حبا كمجنون،‮ ‬كما في‮ ‬الحكاية،‮ ‬يحترق بليلي‮. ‬بعيدا عنه،‮ ‬كان حائرا‮. ‬اذا لم‮ ‬يستطع رؤيته،‮ ‬تأمل وجهه،‮ ‬يخور‮. ‬لا‮ ‬ينفصلان كما الليل والنهار،‮ ‬لا‮ ‬يحتمل أيهما‮ ‬غياب الآخر‮. ‬كان مولانا سمكة تحيا في‮ ‬مياهه،‮ ‬روحا وقلبا،‮ ‬كان كعبده‮.‬

‮  ‬هكذا ذكر عبد الباقي‮ ‬غولبيناري،‮ ‬الذي‮ ‬عرفنا الكثير عن مولانا وشمس في‮ ‬آن واحد،‮ ‬بأسلوبه الفذ العلاقة بين هذين الوليين اللذين‮ ‬يرقدان اليوم في‮ ‬قونية في‮ ‬ضريحين‮ ‬يبعد كل منهما عن الآخر‮ (‬6‮) :‬


‮ ‬أنه،‮ ‬شمس مضطرمة،‮ ‬حارقة،‮ ‬تحجبها سحابة‮. ‬محترقا،‮ ‬مفنيا،‮ ‬ناشرا نوره،‮ ‬يبين مولانا للعالم‮. ‬أنه بحر ثائر،‮ ‬كبير ومتعذر سبر أغواره،‮ ‬ذو أمواج مزبدة‮. ‬هائجا،‮ ‬ثائرا،‮ ‬منح مولانا،‮ ‬هذه الجوهرة النفيسة،‮ ‬لهذه الضفة‮.‬


‮   ‬في‮ " ‬خمس مدن‮"‬،‮ ‬لم‮ ‬يمنع أحمد حمدي‮ ‬تانبينار،‮ ‬مؤلف أحد النصوص المبتكرة والتي‮ ‬لم‮ ‬يكتب مثلها من قبل عن قونية،‮ ‬من أن‮ ‬يذكر شخصية شمس الغامضة‮ :‬


‮   ‬بلا مراء،‮ ‬تجذب شخصيته كما العاشق‮. ‬في‮ ‬نقاشاته،‮ ‬وجها لوجه،‮ ‬مع مولانا،‮ ‬كانت له ملاحظات،‮ ‬مختلفة عما ذكرته السير‮. ‬ربما لم‮ ‬يقل شيئا‮. ‬يكفي‮ ‬وجوده،‮ ‬نظراته وصمته أن‮ ‬يملأ الفراغ‮. ‬بدءا من اسمه شمس‮ - ‬اذ أن هذا الاسم،‮ ‬كان موافقا لذوق العصر،‮ ‬كان محل نزاع‮ - ‬،‮ ‬كل ما‮ ‬يلمسه،‮ ‬ومن ضمنه موته،‮ ‬غامض وملغز‮.‬


‮   ‬حينما‮ ‬غادر شمس قونية،‮ ‬لم‮ ‬يحتمل مولانا‮ ‬غيابه‮. ‬ذاكرا آلام الفراق،‮ ‬كتب لأجله قصائده الصادقة‮. ‬تبعه،‮ ‬علي الدوام،‮ ‬بفكره‮. ‬انتهي بأن أرسل ابنه سلطان ولد‮ ‬ حسب الأسطورة،‮ ‬وخضع هو الآخر أيضا له‮ ‬ وتوفق الي أن‮ ‬يعود به الي قونية‮ :‬


‮   ‬شمسي،‮ ‬قمري‮ ‬عادا

‮   ‬عيني،‮ ‬أذني،‮ ‬عادا

‮   ‬جسدي‮ ‬الفضي‮ ‬عاد

‮   ‬معدني،‮ ‬ذهبي‮ ‬عادا

‮   ‬نشوة رأسي‮ ‬عادت

‮   ‬نور عيني‮ ‬عاد‮ (...)‬

‮   ‬ندائي‮ ‬في‮ ‬الرحلة عاد

‮   ‬جسدي‮ ‬الفضي‮ ‬الجميل‮ ‬

‮   ‬دخل فجأة من بابي‮ (...)‬

‮   ‬يجب أن أشرب الخمر،‮ ‬الخمر

‮   ‬يجب أن تلقي‮ ‬رأسي‮ ‬بوميضها،

‮   ‬اذ أن اللحظة أزفت‮.‬

‮   ‬أريد أن أكون طائرا وأطير

‮   ‬ذراعي،‮ ‬جناحي‮ ‬عادا

‮   ‬العالم تزين بالأنوار

‮   ‬العالم كما الأصباح

‮   ‬أزف الوقت كي‮ ‬يصيح

‮   ‬أزف الوقت كي‮ ‬يزأر

‮   ‬أسدي‮ ‬الجسور عاد‮.‬

   

‮   ‬وأنشأ الأسدان‮ ‬يزأران في‮ ‬ألفة‮. ‬غادرا اعتكافهما،‮ ‬غطسا في‮ ‬بحر العشق وفي‮ ‬جذب الرقصة المقدسة،‮ ‬واضعين نهاية لتوبة مريدي‮ ‬مولانا‮. ‬كان شمس هدف مؤامرة‮ ‬يحيكها علاء الدين جلبي،‮ ‬ابن مولانا،‮ ‬وسقط في‮ ‬شرك‮ ‬ينتظره بساحة الصومعة‮. ‬وقتذاك،‮ ‬لم‮ ‬يكن هذا الحوض الذي‮ ‬أراه قبالتي،‮ ‬ولا هذه المياه التي‮ ‬تنساب في‮ ‬نور القمر موجودين هنا‮. ‬وكما هو معروف،‮ ‬ولا حتي هذه القبة المزينة بقطع الخزف الزرقاء التي‮ ‬أميزها بالكاد في‮ ‬العتمة‮. ‬كان مولانا لم‮ ‬يزل في‮ ‬صحة جيدة‮. ‬غير أن والده،‮ ‬بهاء الدين ولد،‮ "‬سلطان العلماء‮"‬،‮ ‬وعائلته تركا مدينة بلخ،‮ ‬من أعمال خراسان،‮ ‬للاقامة في‮ ‬قونية،‮ ‬والضريح والصومعة أقيما في‮ ‬مزرعة ورد منحها له علاء الدين كيكوباد‮. ‬وهكذا كان شمس‮ ‬يتناقش مع مولانا في‮ ‬غرفة من‮ ‬غرف هذه الصومعة لما رجاه علاء الدين جلبي‮ ‬بالخروج‮. ‬ربما كان عاشقا لكيميا خاتون،‮ ‬زوج الشيخ والابنة المتبناة من قبل مولانا،‮ ‬علي الأقل لم‮ ‬يرد الانتقام من هذا المتطفل الذي‮ ‬أفقد والده الصواب‮. ‬قال الشيخ لمولانا‮ : "‬يناديني‮ ‬لموتي‮". ‬سادت لحظة صمت‮. ‬أتخيل أن الصديقين‮ ‬يتبادلان النظرات‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬كانا متقابلين،‮ ‬ولكن منذ ذاك كانا‮ ‬ينظران الي الكون بأعين روحيهما،‮ ‬واعتادا الانصات الي صخب الطبيعة بآذان روحيهما‮. ‬اغتيابات قبيحة تمتزج بهذه الأصوات المتناغمة‮ :‬


‮   ‬يقول العدو أشياء عبثية

‮   ‬تسمعها أذن روحي

‮   ‬أشياء قبيحة تحاك في‮ ‬النواحي

‮   ‬تراها عين روحي

‮   ‬يدفع كلبه نحوي‮ ‬

‮   ‬يعضني‮ ‬الكلب في‮ ‬ساقي

‮   ‬أتألم،‮ ‬أتألم بقوة

‮   ‬لست كلبا،‮ ‬لن أعضه أبدا

‮   ‬سأعض شفتي‮.‬


‮   ‬هكذا تشكي مولانا في‮ ‬قصيدة له‮. ‬ساد صمت مخيف أرجاء الصومعة‮. ‬في‮ ‬الخارج،‮ ‬علي وجه الأرجح،‮ ‬كانت أشجار السرو تدمدم بمشقة،‮ ‬أو ربما كانت تبكي‮ ‬وكانا‮ ‬يسمعان صوت قطراتها‮. ‬نعم،‮ ‬هو ذاك،‮ ‬المطر‮ ‬يتساقط بطيئا،‮ "‬بالكاد مسموع،‮ ‬كصوت المتآمر،‮ ‬كقدم المارق العارية التي‮ ‬تركض في‮ ‬الليل علي الأرض الرطبة‮".‬

‮   ‬سمعت أذن الشيخ هذه الخطوات في‮ ‬الساحة‮. ‬بعد وقفة طويلة،‮ ‬همس مولانا بهذا الآية القرآنية‮ : "‬ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين‮" ‬الأعراف‮ ‬54‮ ‬خرج شمس‮. ‬الظلال،‮ ‬في‮ ‬العتمة،‮ ‬تضربه بقبضاتها وتلقي‮ ‬بجثته الي البئر‮.‬

‮   ‬انتظر مولانا شمسا بلا جدوي لكي‮ ‬يستعيد النقاش المبتور معه‮. ‬مضت دقائق،‮ ‬ساعات،‮ ‬شهور،‮ ‬سنوات‮. ‬مر صيف،‮ ‬فخريف،‮ ‬ولحقهما الشتاء فالربيع،‮ ‬ولم‮ ‬يعد‮. ‬أخفوا موته طويلا‮. ‬لم‮ ‬يزل مولانا‮ ‬يأمل عودة رفيقه الأثير في‮ ‬يوم من الأيام ولا‮ ‬يتركه‮ ‬ينتظر‮. ‬بحث عن سلوته في‮ ‬الشعر،‮ ‬الموسيقي والرقص‮. ‬ربما،‮ ‬كما بينت احدي هذه القصائد،‮ ‬تخيل ما جري،‮ ‬غير أنه رفض تصديقه‮.‬


‮   ‬أعرني‮ ‬أذنك،‮ ‬اسمعني

‮   ‬هو ذا‮ ‬يقوله قائد الحرس‮ :‬

‮   ‬رجل القلب اختفي في‮ ‬هذه

‮             ‬الضاحية

‮   ‬وجدنا أثره علي الطريق

‮   ‬هناك،‮ ‬كما قال،‮ ‬أثار واضحة

‮   ‬وقميص ملطخ بالدم‮ (...)‬

‮   ‬دم العشاق‮ ‬يبقي طويلا هكذا

‮   ‬دوما نديا،‮ ‬دوما فاترا

‮             (...)‬

‮   ‬أنت أيضا،‮ ‬في‮ ‬يوم من الأيام،‮ ‬سيقتلونك كذلك

‮   ‬ستدخل الي الحياة الأبدية

‮   ‬وتكون لك روح الشهيد أيضا

‮   ‬السلام عليك،‮ ‬يا تبريز‮ !‬


‮   ‬وفي‮ ‬قصيدة أخري‮ :‬


‮   ‬اذا رأيت الناس مجتمعين،‮ ‬أيها المنادي،

‮   ‬صح بلا توقف

‮   ‬أيها الناس الطيبون هل جعلتم رجلا‮ ‬يفر‮ (...) ‬؟

‮   ‬يجب أن‮ ‬يعرفوه،‮ ‬احمل الي‮ ‬شيئا من

‮   ‬أخباره،‮ ‬أيها المنادي

‮   ‬أن‮ ‬يأتي‮ ‬أحد الي‮ ‬يعلمني‮ ‬

‮   ‬ما جري له

‮   ‬أسلمت روحي،‮ ‬أيها المنادي،‮ ‬أنها

‮   ‬متجهة نحوه

‮   ‬منحت روحي‮ ‬وسوف تلقاه‮.‬


‮   ‬هكذا صاح‮. ‬حتي لقاءه بالصائغ‮ ‬صلاح الدين،‮ ‬كان‮ ‬يلقي الناس الذين‮ ‬يأتونه بأخبار عن شمس ببشاشة‮. ‬حينما‮ ‬يقال له أنها كاذبة،‮ ‬يجيبهم‮ : "‬منحت عمامتي‮ ‬وملابسي‮ ‬لأجل خبر زائف،‮ ‬ولأجل خبر صادق،‮ ‬أمنح روحي‮".‬


‮   ‬في‮ ‬الغد،‮ ‬اخترقت ساحة الصومعة رفقة جمع‮ ‬غفير من السياح‮. ‬حلت الشمس المحرقة محل نور القمر وأنهت رؤاي‮ ‬الليلية‮. ‬زرت أولا‮ ‬غرف الدراويش‮. ‬اعتقدنا أننا في‮ ‬محل بقالة‮. ‬مشجعين،‮ ‬بلا ريب،‮ ‬من قبل البلدية المزدهرة،‮ ‬يأخذ الباعة الجوالون نقودا من هؤلاء القادمين من أركان العالم الأربعة مقابل بضاعة زهيدة‮ : ‬نشرات تشرح عقيدة المولوية،‮ ‬قصعات،‮ ‬آنية من الخزف وأسقاط أخري‮. ‬وددت أن أفعل كما المسيح،‮ ‬أن أطرد هؤلاء التجار من المعبد‮. ‬كان لمولانا الحق لما قال‮ : "‬تطعم قونية عقربا علي اناء ذهبي‮". ‬هذه الصومعة ليست متحفا،‮ ‬أنها،‮ ‬فعلا،‮ ‬سوق‮. ‬أمضيت ساعات أمام الواجهات التي‮ ‬تعرض الأشياء التي‮ ‬تنتمس الي الدراويش،‮ ‬محاولا أن أتجنب هذه التجارة‮. ‬اذ‮ ‬

أن في‮ ‬هذه الواجهات‮ ‬يشعر المرء أن روح هذه التكايا لم تزل تخفق وأن هذه الطوائف،‮ ‬طوائف الدراويش التي،‮ ‬بعد أن زالت،‮ ‬أهملت وأغلقت من قبل الجمهورية‮. ‬هي‮ ‬ذي‮ ‬أول مرة أذهب فيها الي قونية،‮ ‬وكنت مفتونا‮. ‬أردت أن أفهم الموضوعات الرمزية لنظام المولوية الذي‮ ‬يعبر ربما عن مظهر مؤثر من مظاهر ثقافتنا القديمة،‮ ‬حاولت أن أبين لنفسي‮ ‬نمط الحياة‮.‬

‮   ‬لكي‮ ‬أتغلغل الي عالم هذه الموضوعات،‮ ‬لا‮ ‬يكفي‮ ‬أبدا أن أعرف النسيج الاجتماعي‮ ‬للآناضول خلال العصور الوسطي،‮ ‬الأحداث التاريخية،‮ ‬الاحتلال المغولي‮ ‬وأيام مجاعته والخراب الذي‮ ‬رافق الثورات الأولي التي‮ ‬أفضت الي الانتقام النهائي‮. ‬من اللازم أيضا فهم لماذا‮ ‬غادر رجال هذا العصر تدريجيا الواقع اليومي‮ ‬كي‮ ‬يتجهوا نحو الصوفية،‮ ‬كيف،‮ ‬بدلا من البحث عن السعادة علي هذه الأرض التي‮ ‬رآها مولانا‮ "‬عالم الفجور‮"‬،‮ ‬انجذبوا الي الاتحاد بالخالق ؟ من اللازم الاهتمام بدور الأولياء القادمين من خراسان الذين استقروا في‮ ‬هذه البقاع،‮ ‬مثل الحاج بكتاش المتحول الي حمامة،‮ ‬معرفة حياتهم الاستثنائية التي‮ ‬حكتها السير لنا‮. ‬علي ضوء هذه الاعتبارات اختبرت الفؤوس التي‮ ‬تحمل اسم علي‮ ‬بالحروف العربية،‮ ‬التي‮ ‬كان الدراويش الجوالون‮ ‬يحملونها دفاعا عن أنفسهم ضد الحيوانات البرية،‮ ‬القصابات المصنوعة من قرون الآيائل أو قرون الحملان،‮ ‬الوريقات التي‮ ‬كانوا‮ ‬يضعونها في‮ ‬مكانها المخصص قبل أن‮ ‬يعلنون توبتهم،‮ ‬القصعات التي‮ ‬كانوا‮ ‬يعلقونها في‮ ‬رقابهم قبل أن‮ ‬يذهبوا‮ ‬يتسولون في‮ ‬الأسواق،‮ ‬كي‮ ‬ينتصروا علي عجرفتهم ويؤدوا دور الذليل‮. ‬قرب السراي،‮ ‬ولدت المولوية،‮ ‬كما البكتاشية،‮ ‬لدي فلاحي‮ ‬الآناضول،‮ ‬تعلي‮ ‬من شأن التواضع،‮ ‬الصداقة،‮ ‬الأخوة والاحسان،‮ ‬وبحثت في‮ ‬هذه الفضائل عن طريق الوصول الي الحقيقة‮. ‬كأننا نسمع هذه الرباعية التي‮ ‬تنسب الي مولانا،‮ ‬علي الرغم من أنه لم‮ ‬ينظمها علي الأرجح،‮ ‬كانت التكايا تؤسس ملاذا للشعب،‮ ‬مكانا للتسامح بلا معادل خلال هذا العصر‮ :‬


‮   ‬تعال،‮ ‬تعال،‮ ‬أ‮ ‬يا كنت

‮   ‬كافر،‮ ‬وثني‮ ‬أو مجوسي

‮   ‬صومعتنا ملاذ الأمل

‮   ‬تعال،‮ ‬وان كنت صيادا قاسي‮ ‬القلب‮.‬


‮   ‬هذه الأبيات منقوشة علي الضريح‮. ‬كما دونها ابراهيم خاكي‮ ‬قونيالي‮ ‬في‮ "‬تاريخ قونية‮"‬،‮ ‬هناك اثنان وثلاثون تابوتا حجريا،‮ ‬بالضبط،‮ ‬متراصة في‮ ‬الداخل،‮ ‬بدون نظام محدد‮. ‬في‮ ‬الواقع،‮ ‬يشبه الضريح الي حد ما متحفا عن مدفن عائلي‮. ‬كان تابوتا مولانا وابنه سلطان ولد،‮ ‬المصنوعان من خشب الجوز منحوتين علي الطراز السلجوقي،‮ ‬يتصدران محل الشرف،‮ ‬عند الرأس،‮ ‬عمامتان،‮ ‬ويحملان نقوشا ومكسوان بشالين خضراوين‮ ‬غامقين من لاهور‮. ‬مذهولا،‮ ‬وقفت أمام نص أطرته السلطات العليا أمام التابوتين‮. ‬في‮ ‬الواقع،‮ ‬الموتي‮ ‬ينفصلون عن الأحياء‮. ‬في‮ ‬ذي‮ ‬الليلة،‮ ‬في‮ ‬حلمي،‮ ‬وبدون شك متأثرا بشمس،‮ ‬خلطت بين العالمين‮. ‬

‮   ‬قال امره‮ : "‬من‮ ‬يترك العالم الكاذب‮ / ‬لا‮ ‬يملك شيئا‮ ‬يقوله ولا‮ ‬يحمل جديدا‮". ‬غير أنني‮ ‬وددت سماع صوت مولانا‮ ‬يرن تحت القبة‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬يتكلم اللغة الفارسية وهذه اللغة تتبدي لي‮ ‬أيضا واضحة ورائعة كالتركية،‮ ‬ومع ذلك،‮ ‬الصوت كالمياه الرقراقة،‮ ‬يحملني‮ ‬علي موجه‮. ‬لنسمع‮ :‬


‮   ‬نحن،‮ ‬نحن رحلنا،

‮   ‬حظ سعيد لمن بقوا

‮   ‬كل من‮ ‬يولد‮ ‬يفني‮ ‬

‮   ‬من في‮ ‬السماء‮ ‬يعرفونه

‮   ‬كل حجر ملقي من سقف‮ ‬يسقط

‮   ‬اذا كنا أشرارا تركنا هنا

‮      ‬خبثنا

‮   ‬اذا كنا أخيارا،‮ ‬احفظوا لنا ذكري

‮       ‬طيبة

‮   ‬ان اعتقدت أنك الابن الوحيد للزمن‮   ‬يوما ما سترحل مثل كل من

‮       ‬رحلوا‮.‬


‮   ‬لم‮ ‬يكتف مولانا بالقول،‮ ‬كما‮ ‬يونس امره،‮ ‬الدرويش الجوال القادم الي قونية‮ : "‬حظ سعيد لمن بقوا‮ !". ‬أكد أننا اذا‮ ‬غادرنا العالم،‮ ‬تستمر الحياة‮ :‬


‮   ‬أنظر الي هذا الشلال من الرمال

‮   ‬لا‮ ‬يعرف وقفة ولا راحة

‮   ‬أنظر كأن عالم‮ ‬يتهشم فجأة

‮   ‬وهو‮ ‬يلقي‮ ‬بأسس عالم جديد‮.‬


‮   ‬بعد ربع قرن من وفاته بالكاد،‮ ‬انهارت الامبراطورية السلجوقية الكبيرة‮. ‬بينما عالم آخر‮ ‬يحتل مكانها،‮ ‬القصائد الغنائية للمنتصرين القدامي تبقي محفورة علي أطلال قصورهم‮. ‬لنشكر هؤلاء الرجال الذين أعادوا بناء هذه النقوش،‮ ‬وفكوا رموزها بجهد عظيم وأوصولنا اليها‮.‬


قونية‮ ‬ باريس‮ ‬1997

‮           ‬


الهوامش‮ :‬


‮ ( ‬1‮ ) ‬رقصة السيما،‮ ‬الرقصة التي‮ ‬يقوم بها الدراويش وهذه الرقصة مستلهمة من التاريخ التركي‮ ‬والعادات والاعتقادات التركية‮. ‬تمثل رقصة السيما رياضة روحية ورحلة للوصول الي الكمال بطريقة الالتفاف حول الحقيقة الخالصة المجردة وبعد الانتهاء من هذه الرحلة‮ ‬يجد نفسه من‮ ‬يقوم بها انه وصل لمرحلة من الكمال الروحي‮. ‬يتمثل ذلك في‮ ‬النضج وتقدير الحب والمساواة بين البشر،‮ ‬بغض النظر عن الطبقية والاعراق والأجناس ويحتفل الأتراك الصوفيون بهذه الرقصة و‮ ‬يقومون بها بذكري ميلاد مولانا جلال الدين الرومي‮ ‬الفيلسوف المتصوف‮. (‬المترجم‮)‬

‮( ‬2‮ ) ‬حسام الدين جلبي،‮ ‬صديق ومريد جلال الدين الرومي،‮ ‬حفظ تراثه الروحي‮.‬

‮( ‬3‮ ) ‬شمس الدين أحمد افلاقي‮ ‬،‮ ‬أحد أول كتاب سيرة مولانا جلال الدين الرومي،‮ ‬من كتبه‮ :"‬مناقب العارفين‮".‬

‮ ( ‬4‮ ) ‬الديوان الكبير،‮ ‬أو ديوان شمس تبريزي‮ ‬الذي‮ ‬كتبه في‮ ‬موت صاحبه الأثير وملهمه في‮ ‬طريق التصوف والشعر‮. (‬المترجم‮)‬

‮( ‬5‮ ) ‬ابراهيم خاكي‮ ‬قونيالي‮ )‬1894‮ ‬ 1984 (،‮ ‬مؤلف كتاب‮ "‬تاريخ قونية‮".‬

‮( ‬6‮ ) ‬لشمس تبريز شيخ مولانا جلال الدين الرومي‮ ‬ثلاثة أضرحة،‮ ‬واحد في‮ ‬خوي‮ ‬بأذربيجان و له ضريح في‮ ‬مدينة ملتان و كذلك في‮ ‬قونية،‮ ‬حيث وجد مؤخرا البئر التي‮ ‬أخفي علاء الدين جلبي‮ ‬فيها جثة شمس تبريز‮.  (‬المترجم‮)‬



‮(*)  ‬ترجمة الفصلين الأخيرين‮ ‬ بموافقة خطية من المؤلف‮ - ‬من كتاب‮ "‬سبعة دراويش‮" ‬لنديم‮ ‬غورسيل،‮ ‬والكتاب تحت الطبع‮ :‬

Nedim Gürsel ،‮  ‬Sept Derviches ،‮  ‬Seuil ،‮  ‬2010‮ .‬

منقول من أخبار الأدب