الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

ماديبا..برقيّات عربيّة

 


مهما كتبنا فلن نحصر نيلسون مانديلا في نصّ أو ملفّ واحد. شيخ مناضلي التمييز العرقي، ورمز المقاومة السلميّة في العالم الثالث، ترسخ في الأذهان كأيقونة بارزة يصعب تجاوزها. اليوم، تمرّ عشرون سنة على تسلُّمه جائزة نوبل للسلام (مناصفة مع فريديريك دي كليرك) نظير مساهمته في القضاء على سياسة الآبارتيد، ومراهنته الدائمة على الخيار السلمي، والمنهج الأخلاقي في مواجهة الاستبداد. هي مناسبة للعودة إلى أرشيف الرجل، الخوض في ذكرياته الحميمة، إعادة اكتشاف أهمّ الأمكنة والمحطّات التي كرَّست اسمه عالمياً، والأشخاص الذين أحاطوا به. والأهم من ذلك إعادة قراءة تجربة «ماديبا» عربياً، واستقراء نفوذه ماضياً وحاضراً بين الأجيال المتعاقبة، ومدى حضوره بين الكتّاب والمثقَّفين في الداخل وفي الخارج.
 
تاريخ يدور حول نفسه

سارة تيسيير

ترجمة: عبد الله كرمون


جان غيلوانو هو كاتب سيرة نيلسون مانديلا. كما أنه ترجم أيضاً مذكِّراته، «مشوار طويل نحو الحرية». يتذكَّر الكاتب هنا بتأثُّر بالغ يوم الحادي عشر من فبراير/شباط سنة 1990، ولكنه يعرِّج كذلك على الصراعات الداخلية التي عرفها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وعلى قوة نيلسون مانديلا الذي أنقذ جنوب إفريقيا من الحرب الأهلية.


§ كان ذلك يوم الحادي عشر فبراير/شباط 1990، حينما غادر مانديلا السجن. ماذا تتذكر من تلك اللحظة؟


- كان ذلك يوم أحد، وقد تمَّ الإعلان عن إطلاق سراحه. كنت جالساً أمام التلفاز، لست أدري منذ متى، وشاهدنا مانديلا يظهر من بين الجموع شاهراً قبضته، وزوجته ويني آخذة بذراعه.

كنت قد سافرت إلى جنوب إفريقيا قبل شهر، وكان أن مررت أمام سجن فيكتور فيرسير، الذي كان محاصراً تقريباً، لأن مانديلا كان على وشك الإفراج عنه. كانت هنالك سيارات شرطة، الجيش، وتم استنفار قوّات هائلة. ثم نراه يخرج بعد شهر من هناك. لم يعد ثمة رجال شرطة، بل جموع من الناس تحيط به.

أتذكَّر قبضته المرفوعة. يُعتَبَر ذلك، وبشكل نوعي، التاريخ في تحقُّقه، مثلما نستطيع أن نرى ذلك في لوحات دولاكروا أو في لوحات رمزية تشير إلى وضع تاريخي. يتعلَّق الأمر هنا برمز حيّ، خاصة، وأن ذلك يحدث، على كل حال، بعد سبعة وعشرين سنة من السجن. لقد بكيت أمام شاشة تلفازي. إنها لحظة لا تنسى، لأن ذلك لم يكن ممكناً تصوُّره قبل سنة!


§ طُلب منك قبل سنتين من ذلك، أي في 1988، أن تكتب سيرةً لمانديلا، وكنتَ قد قلت في نفسك، مازال لديّ متَّسع من الوقت. فهو ما يزال في السجن ربّما لزمن.


- كان الجميع يعتقد بذلك، لأن بوثا (بيتر وليام بوثا رئيس جمهورية جنوب إفريقيا ما بين 1984 - 1989. المترجم) كان قد أعلن في سنة 1985، حالة طوارئ. وكان الوضع حينئذ عنيفاً جداً في جنوب إفريقيا. وحين اقتُرِح علي ذلك، قلت في نفسي: «آه، ستكون المهمّة عسيرة!» لأنني لم أكن أعرف جيداً مسار مانديلا، وكذا تاريخ حزب المؤتمر الإفريقي. لذلك قلت في نفسي: سيكون لزاماً علي أن أبحث حيث يمكنني أن أجد ضالّتي، أي في الكتب، لأنه في تلك الفترة كان ما يزال مسجوناً، ولم يكن وارداً البتة أن ألتقي به. انهمكت في العمل إذن، في تريُّث (يضحك). وعندما نحى الحزب الوطني بيتر بوثا سنة 1989، وعُوِّض بدوكليرك، حينها فهمت بأن ثمة أموراً تجري في الخفاء. ولكنني لم أستوعب وقتئذ بأن ذلك سوف يحدث بتلك السرعة.


§ قد تغير السياق؟


- سنة 1989 سنة مهمّة. إنها سنة انهيار جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، وقد علمنا، فيما بعد، بأنه منذ سنة 1983، كان الأميركيون قد أشاروا إلى حكومة جنوب إفريقيا بأن عليها أن تعثر على محاور كي تجد مخرجاً لتلك الأزمة. سنة 1983 هي أيضاً غورباتشوف، البروسترويكا، والغلاسنوست (الشفافية). نفهم بالتالي، شيئاً فشيئاً، بأن تحوُّلات كبيرة سوف تحدث في العالم.

في سنة 1983 ستتمّ زيارة مانديلا في سجنه، وسوف يُحَوَّل من سجنه أيضاً، بل سيتمّ إنزاله بعد ذلك مباشرة في بيت مدير سجن فيكتور فيرستر على مقربة من بارل. سيستقبل هناك مبعوثي الحكومة، على المستوى الوزاري، بمَن فيهم وزير العدل. بل سوف يعمدون منذ سنتَيْ 1985 و1986 إلى أن يطوفوا بمانديلا شوارع كاب على متن سيارة، رفقة وزير، كي يلحظ مانديلا بأن العالم قد تغيَّر منذ ثلاثين سنة. لم يتعرَّف به أحد، لأنه لم تنشر له أية صورة منذ سنة 1966.


§ كانوا منعوا كل صورة له!


-تعود الصورتان الأخيرتان له إلى سنة 1966. يظهر فيهما مع ولتر سيسيلي في باحة السجن. مُنِع بعد ذلك نشر حتى الصور التي أُخذت له من قبل، والتي يوجد منها الكثير. كان مانديلا مشهوراً، بطبيعة الحال من قبل، فقد ترأَّس في السابق حزب المؤتمر الوطني الإفريقي لجهة الترنسفال التي هي الولاية الكبرى للشمال، الولاية الصناعية، باحتوائها على مناجم الذهب. مُنِع نشر كل ما له علاقة به. وظنّت حكومة الأبارتايد (التمييز العنصري) بأنها بتلك الطريقة سوف تتمكَّن من محوه من الأذهان.

لكن السلطات أخطأت، لأنها بعدما عمدت إلى تغييب وجهه قد صنعت منه أسطورة. وكان أن صار مانديلا علماً «ماديبا» (اسم عشيرته. المترجم). عندما كان الشبان يهتفون بمانديلا كانوا يهتفون بالحرية. ولما غادر مانديلا السجن صارت الأسطورة حقيقة. كان اطّلاعه باهراً على الناس. فلم يكن أحد يدرك شيئاً عن مرآه. وتمّ اكتشاف وجهه بغتة في الحادي عشر من فبراير/شباط سنة 1990، بخصلة شعره البيضاء أعلى جبهته. كان ذلك مؤثِّراً حقّاً.

شيء آخر أثار أيضاً استغرابي كثيراً. توجَّه مانديلا إلى كاب حيث ألقى خطاباً أمام الجموع، وأعاد ترديد الجملة الأخيرة التي نطق بها في أثناء محاكمته سنة 1964، وكأن سنوات السجن السبع والعشرين ونصف كانت فقط مُجَرَّد وقت جامد، وأن التاريخ قد استأنف مجراه من حيث توقَّف في يونيو سنة 1964. وكانت جملته كالآتي:

«لقد ناضلت طيلة حياتي ضد استبداد البيض بالسود، وضد استبداد السود بالبيض». أبدى له الناس، في ذلك الحين، استياء؛ لأنهم كانوا جميعهم في صف المنتقمين. وواصل مانديلا «وذلك مبدأ قد كرَّست حياتي له، ومستعدّ لأن أموت من أجله»، وهو تصريح أنهى به تدخُّله سنة 1964. وتوقَّع الناس أن يتمّ شنقه في الصباح التالي. استعاد خطابه من جديد، بعد مرور سبع وعشرين سنة، واعياً بالمهمّة التي تنتظره. إذ كان يدرك جيداً لماذا خرج من السجن.

إنه شخصية فذة. فقليل من الرجال كانوا أهلاً، مثله، بالمهام التاريخية المنوطة بهم إلى ذلك الحدّ.

إن إعادة قراءة المقالات الصحافية لتلك الفترة، تجعلنا نقف على وجود مخاوف أيضاً، لأننا لم نكن ندرك كيف كانت ستتطوَّر أوضاع البلد.

- توجد هناك قوى مكافحة. لكن الوضع لم يكن مثالياً. علينا أن ندرك بأن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي كان واقعاً تحت تأثير الكوسا: مانديلا، سيسيلي، غوفان وامبكي. يتطلَّع الزولو، هم أيضاً وحركتهم الإنخاتا، إلى بسط نفوذهم. ثم هناك فئة من الأفريكانيين المنتمين إلى اليمين المتطرِّف، والمؤيِّدين للتمييز العنصري. البعض لا يرغب في تغيير الأوضاع، والبعض الآخر يرغب في المشاركة في الحكم. وشهد البلد، ما بين سنتَيْ 1990 و1994 موجات عنف رهيبة. فارتكب بيض مقنَّعون في هيئة سود هجمات إرهابية كي يتمّ الاعتقاد بأن ذلك كان من فعل حركة إنخاتا الزولو ضد كوسا حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. وقامت الإنخاتا هي أيضاً بمناوراتها. وهناك طرف من المؤتمر الوطني الإفريقي يرفض المحادثات. أما مانديلا فكان في الوسط. لم يتحقَّق أي شيء ملموس، ولكنه سيظل صامداً.

يعود الفضل إلى مانديلا في إنقاذ جنوب إفريقيا من الحرب الأهلية؛ إذ تمكَّن من لفّ الشعب الجنوب إفريقي، لتشييد جنوب إفريقيا جديدة حول ديموقراطية ترتكز على «لكل رجل صوته»، على مجلس تمثيلي، وعلى عدالة. لقد تَمَّ، على أي، إرساء نظام دستوري، قانوني، والذي انفتح، على حين غرة للجميع في الوقت الذي كان فيه السود مقصيين عنه في السابق، مثلما كانوا مقصيين من الحقل السياسي. غير أن الحقل الاقتصادي ظلّ هو مُعَلَّقاً دون حلّ.
 
 
البديل الوحيد

إدوارد سعيد

ترجمة: فخري صالح


زرت جنوب إفريقيا، لأوّل مرّة، في أيار من عام 1991. وقد كانت مرحلة مظلمة رطبةً شتائيّة ما زال نظام الفصل العنصريّ يحكمها، رغم أنه كان قد أُطلِق سراح نيلسون مانديلا وأعضاء المؤتمر الوطني الإفريقي.

وعدت إليها بعد عشر سنوات، في الصيف هذه المرّة، وقد أصبحت دولةً ديموقراطية، بعد هزيمة نظام الفصل العنصري، يحكمها المؤتمر الوطني الإفريقي، ويجاهد فيها مجتمع مدنيّ قويّ نشطٌ ومفعمٌ بالحيويّة وروحِ التنافس لاستكمال مهمّة تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية لهذا البلد الذي ما زال منقسماً، ويعاني من الأزمات الاقتصادية. لكنّ الصراع من أجل التحرير، الذي أنهى نظامَ الفصل العنصري، وأرسى دعائم أول حكومة ديموقراطية منتخبة في 27 نيسان/إبريل 1994، يظلّ من أعظم ما حقَّقه البشر في تاريخهم المكتوب. فرغم المشكلات التي تعاني منها جنوب إفريقيا، فإنها تبقى مكاناً ملهِماً تنبغي زيارته والتفكير بتجربته، لأنه، وعلى نحوٍ جزئيّ، قادرٌ على تعليم العرب الكثير من الأشياء عن الصراع، والأصالة، والمثابرة.

جئت إلى هنا، هذه المرّة، مشاركاً في مؤتمر عن القيم في التعليم نظّمته وزارة التعليم. فقادر أسمال QADER ASMAL، وزير التعليم، صديقٌ قديم يدعو إلى الإعجاب التقيته قبل سنوات عديدة عندما كان يعيش في منفاه الإيرلندي.... لكنه، وبوصفه عضواً في مجلس الوزراء، وشخصيةً فاعلة في المؤتمر الوطني الإفريقي منذ وقت طويل، ومحامياً وأكاديميّاً ناجحاً، استطاع أن يقنع نيلسون مانديلا (وهو الآن في الثالثة والثمانين من العمر، متعبٌ صحيّاً، كما أنه تقاعد من العمل العامّ) أن يلقي كلمة يخاطب فيها المؤتمر في ليلته الأولى. ما قاله نيلسون مانديلا وقتها أثّر فيّ عميقاً، بسبب مكانته الرفيعة العظيمة والجاذبيّة اللافتة والكاريزما التي يتمتَّع بها، وكذلك بسبب الكلمات التي اختارها بعناية وحذق. فمانديلا، الذي كان محامياً مارس المهنة في السابق، شخصٌ بليغٌ يمتلك الكثير من الفصاحة، وهو- رغم آلاف المناسبات والكلمات التي ألقاها- يبدو على الدوام قادراً على قول كلام مؤثّر ولافت.

هذه المرّة، أثارت اهتمامي عبارتان قالهما مانديلا عن الماضي في حديثٍ رائقٍ عن التعليم، حديثٍ لفت الانتباه، دون مجاملة، إلى الوضع البائس لأغلبيّة سكان البلد الذين «يوهن عزائمهم الفقر الماديّ والحرمان الاجتماعي». ولهذا السبب رغب مانديلا في تذكير الجمهور بأن «كفاحنا لم ينته بعد»، رغم أن (وهذه هي العبارة الأولى التي أثارت اهتمامي) الحملة ضد نظام الفصل العنصري «كانت واحدةً من أعظم فصول الصراع الأخلاقيّة التي أسرت الخيال الإنساني». أمّا العبارة الثانية فقد تضمّنها وصفه للحملة المناهضة للفصل العنصري، لا لكونها ببساطة مجرّد حركة لإنهاء التمييز العرقي، بل بوصفها طريقاً «لنا جميعاً لكي نؤكّد وحدتنا الإنسانيّة المشتركة». ما عنته عبارة «لنا جميعاً» هو أن جميع الأعراق في جنوب إفريقيا، بمن فيها الأشخاص البيض الذين يؤيِّدون الفصل العنصري، كانت مدعوّة للمشاركة في صراع هدفه الأخير هو التعايش، والتسامح وقبول الآخر، و»تحقيق القيم الإنسانيّة».

لقد صدمتني العبارة الأولى على نحوٍ قاسٍ، فسألت نفسي: لِمَ لَمْ يستطع كفاح الفلسطينيين أسر خيال العالم (بعدُ)؟ ولِمَ لم يبدُ هذا الكفاح (وهو ما يبدو أكثر تعبيراً عن الوضع) صراعاً أخلاقيّاً عظيماً؟ ولَمْ «لم يتلقَّ بالفعل دعماً عالميّاً من قبل جميع الأحزاب والتيارات السياسية؟» بالمقارنة مع ما قاله نيلسون مانديلا عن التجربة الجنوب إفريقية.

صحيحٌ أننا تلقّينا الكثير من التأييد العامّ، كما أن كفاحنا يكتسب مصداقية أخلاقيّة بمقاييس لا تُحَدّ. لكن، لنعترف أن الصراع بين الصهيونيّة والشعب الفلسطيني ذو طبيعة أكثر تركيباً وتعقيداً من كونه معركةً ضد الفصل العنصري، حتى ولو قلنا إن كلا الشعبين دفع أحدهما ثمناً غالياً فيما لا يزال الشعب الآخر يدفع ثمناً باهظاً من السلب، والتطهير العرقيّ، والاحتلال العسكري، والظلم الاجتماعي الشامل الذي لا حَدّ له. فاليهود شعبٌ يمتلك تاريخاً مأساويّاً من الاضطهاد والإبادة الجماعية. إنهم أسرى إيمانهم العتيق الذي يربطهم بأرض فلسطين، وقد استقبل معظم الناس في العالم وعدَ الاحتلال الإمبريالي البريطاني لهم

بـ «العودة» إلى أرض الوطن (وخصوصاً من قبل الغرب المسيحيّ الذي يتحمّل مسؤولية ممارسة أكبر الفظائع اللاساميّة) بوصفه تعويضاً بطولياً مُبَرّراً عمّا عانوه. ومع ذلك، وبمرور السنوات، فإن عدداً قليلاً من الناس في العالم هم الذين لفت انتباهَهم احتلالُ فلسطين من قبل القوات اليهودية، أو هم العربُ الذين ما زالوا يدفعون ثمناً باهظاً من دمار مجتمعاتهم، وتهجير غالبيّتهم، ومن النظام القضائي البشع وهو يمثّل نظامَ فصل عنصري شديد الوضوح يُمارَس ضدّهم داخل إسرائيل وفي الأراضي المحتلة. لقد كان الفلسطينيون الضحيّة الصامتة للظلم وغياب العدالة الجسيمين، العدالة التي جرى تغييبها بسرعة عن الأنظار من قبل جوقة منتصرة مثّلتها إسرائيل خيرَ تمثيل.

بعد ظهور حركة التحرُّر الفلسطيني في نهاية الستينيّات، ناصرت شعوبُ آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، التي كانت مستعمَرةً سابقاً، الكفاحَ الفلسطيني، لكن التوازن الاستراتيجي كان دائماً، وعلى نحوٍ صاعق، لصالح إسرائيل؛ لقد دعمتها الولايات المتحدة دون شروط (بخمسة مليارات من الدولارات سنوياً)، كما أنها تلقّت كلّ الدعم في الغرب من قِبَل وسائل الإعلام، والنخب الثقافية المتحرِّرة، وكانت معظم الحكومات الغربية إلى جانبها. لأسباب معروفةٍ تماماً لا نريد الخوض فيها هنا، كانت الأوساط الرسمية العربية إما معاديةً بصورة علنيّة لحركة التحرُّر الفلسطيني، أو أنها كانت فاترةً في دعمها الماليّ أو اللفظيّ، على الأغلب، لها.

هكذا، ولأن الأهداف الاستراتيجية المتغيّرة لمنظّمة التحرير كانت تغطّي عليها، على الدوام، أعمالٌ إرهابية لا نفعَ ولا طائلَ من ورائها، ولأنها لم تخاطب أبداً، أو تعبّر، بصورة بليغة ناجحة، عن هذه الأهداف، وبسبب كون الخطاب الثقافي الغربي غيرَ معروف، أو أنه قد أُسيء فهمه من قبل صانعي القرار والمثقَّفين الفلسطينيين، فإننا لم نكن قادرين على شرح الأسس الأخلاقية لقضيّتنا بصورة عمليّة. أما الدعاية الإسرائيلية فقد كان في إمكانها دائماً أن تلجأ إلى الاستعانة بمحرقة اليهود (الهولوكوست)، وتستغلّها، وكذلك بأعمال العنف الفلسطينية غير المدروسة، وغير المناسبة سياسياً، لكي تضعف قوةَ الرسالة الأخلاقية الفلسطينية أو تغطيّ عليها. فنحن، كشعب، لم نركّز على الكفاح الثقافي في الغرب (الذي أدرك المؤتمر الوطني الإفريقي أهمِّيته مبكراً، وكان مفتاحَ تقويض نظام الفصل العنصري والانتصار عليه)، كما أننا، ببساطة، لم نعمل بطريقة إنسانية متماسكة مقنعة على شرح وتوضيح عمليات السلب والتمييز التي قامت بها إسرائيل ضدّنا.

لكن، حتى لو كانت هذه الحقائق معروفة بصورة أفضل كسلاح يمكن استخدامه في معركة القيم بين الصهيونية والفلسطينيين، فلن يكون هذا كافياً. فما لم نركّز عليه، بصورة كافية، هو أن علينا، ولكي نواجه الذهنيّة الإقصائية الصهيونية، أن نوفّر حلّاً للصراع يشدِّد، بحسب عبارة مانديلا الثانية، على إنسانيتنا المشتركة كيهود وعرب. إننا، في معظمنا، لا نتقبّل، حتى هذه اللحظة، أن اليهود الإسرائيليين باقون هنا، ولن يرحلوا، كما أن الفلسطينيين باقون أيضاً، ولن يرحلوا. هذا أمر من الصعب تقبّله، وعلى نحوٍ مفهوم، بالنسبة للفلسطينيين، لأنهم ما زالوا يفقدون المزيد من الأرض، ويُضطهَدون، ويُضَيَّق عليهم بصورة يومية. ومع ذلك، فإن إيماننا، غير المسؤول والذي يفتقد القدرة على التفكُّر والتأمُّل، بأنهم سوف يُجبَرون على الرحيل (مثلهم مثل الصليبيين)، فإننا لا نركّز على نحو كافٍ على إنهاء الاحتلال العسكري بوصفه ضرورة أخلاقية، ولا نركِّز كذلك على أن نوفّر لهم قدراً من الأمن وتقرير المصير الذي لا ينتقص من أمننا وتقرير مصيرنا. إن هذا الحلّ، لا الأمل غير المنطقي بأن رئيساً أميركياً متحمِّساً يمكن أن يمنحنا دولة، هو ما ينبغي أن يكون أساساً لحملة شاملة واسعة تذهب إلى كلّ مكان.

ليس الكلام بصورة عامّة عن السلام كافياً. علينا أن نوجد أساسات صلبة لهذا السلام، ويمكن لهذه الأساسات أن تطلع من الرؤية الأخلاقية، لا من التصوُّر «الذرائعي البراجماتي»، أو «النزوع العمليّ». إذا كنّا جميعاً نريد العيش، فهذا هو الحل الضروري. علينا أن نمسك بتلابيب الخيال، لا من أجل شعبنا، بل من أجل مُضطهِدينا أيضاً. وينبغي في هذه الحالة أن نلتزم بالقيم الديموقراطية الإنسانية.

فهل تسمع القيادة الفلسطينية الحاليّة؟ هل يمكنها أن تقترح أيّ شيء أفضل؟ آخذين في الحسبان سجلّها الحافل بـ «مفاوضات السلام» التي لا نهاية لها، والتي قادت إلى الرعب والهول الذي نحن فيه الآن.

رجل تحت الشمس

عبدالعزيز بركة ساكن


وجَّهتُ إلى بعض الأصدقاء النمساويين سؤالاً مباشراً جداً: «ما رأيكم في المناضل نيلسون مانديلا؟» فكانت إجابة الفنان التشكيلي «بيتر شولنج»: «إنه بطلي»، وأضاف البروفسير رودي على الجملة ذاتها، بأسلوبه المرح: «ولكنه لم يحظ بنساء خيِّرات».

وهنا يقصد «ويني» التي قال عنها مانديلا «إن حياة زوجتي في أثناء وجودي في السجن كانت أصعب من حياتي، وكانت عودتي أكثر صعوبة بالنسبة لها، فقد تزوَّجَتْ رجلاً سرعان ما تركها، وصار ذلك الرجل أسطورة، وعند عودة الأسطورة إلى المنـزل ظهر أنه مُجَرَّد رجل». وأضاف، لقد تعرفت إليه أجيال أوروبا من خلال أغنية فنان الرُوك والناشط السياسي البريطاني الشهير PETER BRIAN GABRIEL، وأنشطة حزب المؤتمر. سألتُ صديقة يونانية تعمل نادلة بالمطعم الإغريقي، أجابت: لم أسمع بهذا الاسم من قبل، ولها العُذر، فذاكرة اليونانيين مشحونة بالأبطال الأسطوريين، واكتفيتُ بابتسامتها.

بالصدفة البحتة قابلت بالأمس القريب رجلاً من مدينة جوهانسبيرج، سليل أسرة من البيض الذين حكموا جنوب إفريقيا بنظام عنصري، رَدَّ وفي عينيه بريق غريب: إنه بطل قومي. فلاحقته قائلاً: ما أعظمُ ما قدَّمه نيلسون مانديلا في رأيك؟ قال، ما فعله كان أشبه بالمعجزة، لأنه استطاع في وقت قصير جداً إنهاء سلطة مركزية قوية عنصرية عنيفة لها مئات السنوات، وأظن ذلك كان عملاً خارقاً للعادة.

ليس بالإمكان التحدُّث عن أول مرة سمعت بها باسم نيلسون مانديلا، بل من الصعوبة أيضاً ما هو عكس ذلك. أو لم يكن ذلك واضحاً لديَّ كما هو الحال لَدي صديقي الروائي الكردي جان دوست: «كنت أسمع اسمه في صغري من إذاعة الـ BBC، فأسأل أمي: من هذا الرجل المسجون؟ فتقول لي أمي، لا أدري يا ولدي، سجون هذا العالم تعجّ بالمظلومين. نعم يا سيدي هو روح إفريقيا، بل رُوح الإنسانية كُلّها ومحطِّم أوثان الاستعباد.».

لقد ظلَّ الرجل حيّاً وفاعلاً في الحياة اليومية بالنسبة للكثيرين من أبناء جيلنا في السودان، حيث وجدناه منذ ميلادنا حبيساً في السجن، ولكن صوته القوي وحِكَمه المتفائلة تجوب شوارع وأزقة بلداتنا الصغيرات، وتتسكَّع في أروقة المدارس، وظل هنالك طوال الوقت وحتى اليوم، وكم تكرَّم المعلمون علينا في المدارس بأقواله مثل: «الحُرّية لا يمكن أن تُعْطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حُرّاً، أو لا يكون حرّاً»، و«الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة». وكم خلطنا بين شخصيته وشخصية عنترة بن شداد العبسي الذي كان ايضاً محبوباً في تلك السنوات اليانعات من عمرنا، وكان بطلاً شعبياً وأحد مُثُلنا العليا وبطل ألعاب الصبا وحكايات الجدّات الطاعنات. في الحقيقة كان الشارع السوداني في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يعجّ ويضجّ بالأسماء الإفريقية الكبيرة: زعماء تحرير، أبطال وطنيين وقوميين ومُغَنّين، من الرعيل الأول والثاني مثل، جمال عبد الناصر، سياد بري، منقستو هيلا مريام، هيلا سيلاسي، تفري بانتي، جُومو كنياتا، مريم ماكبا، المغنيتان الصوماليتان مريم وزهرة، ديزموند توتو، كوامي نكروما، سيمورا ميشيل، جوشوان كومو، أم كلثوم، أحمد بن بلة، أحمد سيكتوري، عبدالرشيد شيرماكي، جومو كنياتا، و إيدي أمين: ولكن صورة مانديلا كانت الطاغية على الجميع، وكانت حِكَمُه وحكايات نضالة ومقاومته وأقواله تتسرَّب من الزنازين والسجون المظلمة، من ريفونيا إلى جزيرة روبن إلى سجن بولسمور إلى سجن فيكتور فيرستر، وتنتقل عبر الصحافة، خلال زملائه المناضلين في حزب المؤتمر في أنشطتهم عبر العالم، ومُغَنِي الروك، الشعر الثوري، السينما المتجوِّلة، الإذاعات العالمية، والاحتجات الشعبية في كثير من دول العالم الحُرّ، مذكِّرات الإنسانيين الناشطين في مجالات حقوق الإنسان، وتضيف إليها المخيِّلة الشعبية الإفريقية وسعَهَا، ومن ثم تتشكَّل صورة البطل، بل الأسطورة الحية، صورة الرجل الذي قهر السجن والسجّان والعنصرية البغيضة، وظل بسيطاً وعادياً، وبحسب قوله: «مُجَرّد رجل».

ماذا تعلَّمنا من نيلسون مانديلا؟ ماذا تعلم الحكّام الوطنيون في كثير من دول إفريقيا من سيرة حياة مانديلا؟ ماذا تعلَّمت منه شعوب العالم؟ ماذا لم نتعلَّم منه؟ وتظل هذه الأسئلة ومثيلاتها تحوم في فراغ فشل المشروعات الوطنية والقومية للشعوب، وخاصة الإفريقية والعربية، وهي ذاتها التي تؤسِّس إما لمحن قادمة، وإما أن تُستلهم من أجل نهضة الشعوب. فاليوم تصبح سيرة مانديلا بُعبعاً مرعباً وكابوساً يقلق مضاجع كثير من الحكومات الوطنية التي تخاف من شعوبها النزّاعة إلى الحرية أن تسلك طرائقه في النضال الدؤوب المتفائل الذي ينتهي، حتماً، بالنصر: «ولم يَدُرْ في خلدي قَطّ أنني لن أخرج من السجن يوماً من الأيام، وكنت أعلم أنه سيجيء اليوم الذي أسير فيه رجلاً حُرّاً تحت أشعة الشمس والعشب تحت قدمي؛ فإنني أصلاً إنسان متفائل، وجزء من هذا التفاؤل أن يُبقي الإنسان جزءاً من رأسه في اتجاه الشمس، وأن يحرِّك قدميه إلى الأمام. وكانت هناك لحظات عديدة مظلمة اختبرت فيها ثقتي بالإنسان بقوة, ولكنني لم أترك نفسي لليأس أبداً. فقد كان ذلك يعني الهزيمة والموت.».
 
 
القبطان العاشق

منير أولاد الجيلالي


في 18 يوليو/ تمّوز 2013 بلغ نيلسون مانديلا الخامسة والتسعين من عمره، وعندما يحقِّق شخص ما المجد والشهرة العالمية الواسعة في حياته متخطِّياً كلّ المحن والمآسي، ثم يبلغ من العمر عتيّاً، فإن هذه الحياة تصبح موضوعاً للتأمُّل والتفكير. ومثلما تتجسَّد الحياة كقدر عظيم، كذلك يكون مانديلا.

فحسُّه الإنساني الذي ليس ببعيد عن البيئة الريفية الملتزمة التي ترعرع فيها، ومعاينته للخراب الكوني الذي حَلَّ بالعقل الإنساني، غداة حروب لاعقلانية، وانخراطه في حركة تحرُّر كفاحية ضدّ التمييز العنصري، جعل شخصيته تكتسي رمزية استثنائية على المستويين السياسي، والإنساني.

مانديلا الزعيم «الأسود» وأكثر سجناء العالم شهرة ورومانسية، المعروف بأسماء الشوارع والقاعات، والساحات، والأغاني، والذي ألهمت تجربته العديد من الأعمال الفنية منها مسرحية «اضربوا سارافينا» 1988 عن فتاة طالبة وصل جنونها بمانديلا حَدّ الجنون، لم تتعبه آلة الزمن القاسية، وظلَّ برأس شامخة وعيون مشرعة على المستقبل، داخل سجنه حيث كان يردِّد باستمرار مقطعاً من قصيدة للشاعرة و.ي. هينلي: «أنا سيد قدري.. أنا قبطان روحي».

لا يمكن الفصل بين حياة مانديلا النضالية والسياسية وبين حياته الشخصية والعاطفية، بل إن فرادة مانديلا تكمن بالضبط في القدرة على أسطرة ذلك التقاطع الطويل بين قدره النضالي والوجداني الذي تحَوَّل مع مرور الأيام إلى ذكريات أيقونية ساطعة وجريحة. فمانديلا المناضل الصلب، والعاشق الأنيق ظل وفيّاً حتى، وهو يتنقَّل بين سجون جنوب إفريقيا ومستشفياتها، إلى نداء قلبه الذي تقاسمته وجوه نساء كثيرات، مع حبه الكبير لوطنه. لأنه هكذا بروحه المرحة ونظرته الحادّة لا يحبّ أن يكون متشنِّجاً أو خائفاً من الحب أبداً، لأن الحب عظيم الإلهام، كما قال وهو يصافح أطفالاً وقفوا لتحيّته في ساحة «الطرف الأغر» في لندن خلال زيارته التكريمية سنة 1996.

طيلة حياته كان مانديلا رجلاً حكيماً وملهَماً، أحبّ، باستمرار، بشجاعة ملتزمة وجبّارة. وتزوَّج ثلاث مرات، كانت الأولى في سنة 1944 من السيدة «إفلين نتوكو ماسي» التي أنجب منها ابنتين وولدين، قبل أن ينفصلا في عام 1957، بسبب التزاماته النضالية والثورية التي كانت تأخذ معظم وقته، والتي كانت تتنافى من جهة أخرى مع انتمائها الطائفي ذي المرجعية المسيحية الذي كان يتطلَّب منها نوعاً من الحياد السياسي والسلمي.

وفي دوخة التبعات المستمرّة لمحاكمة الخيانة التي كانت تضطهد قادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الديموقراطي الاشتراكي، على خلفية إصدار ميثاق الحرية سنة 1952، والذي اعتبره النظام العنصري الحاكم مؤامرة للإطاحة بالحكومة واستبدالها بدولة شيوعية، سقط مانديلا في حبّ الأخصائية الاجتماعية بنت الاثنين والعشرين ربيعاً «ويني ماديكيزيلا»، وكان ذلك بعدما قدَّمَتها له للتعارف خطيبة رفيق له في الحزب الممرضة أديلايد تسوكودو عندما التقيا صدفة في دكان لبيع الأطعمة بجوهانسبورغ، حيث لم تخفِ ويني إعجابها الشديد بكاريزميّته الجذّابة وهي تعترف له بذلك كما لاحظتها بإحدى المحاكمات السياسية حيث كان مانديلا حاضراً كناشط حقوقي ومعارض سياسي.

في العام 1958، وفي الوقت الذي كان فيه رفاقه ينتظرون منه التقدُّم للزواج من أقرب رفيقاته «روث مومباتي» سكرتيرة مكتب المحاماة لديه، أو «ليليان نغوي» القائدة القومية لرابطة النساء التابعة للحزب، فاجأ مانديلا الجميع بإعلان زواجه من ويني بعدما عاشا لحظات عاطفية قوية وسط أوضاع سياسية متقلِّبة وغير مطمئنة.

غير أن هذه القصة الجميلة لم تدم كما كان يحلم مانديلا إلا حوالي عشر سنوات، حيث سيحكم نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا عليه بالسجن مدى الحياة ليقضي سبعة وعشرين سنة من عمره خلف القضبان بسجن جزيرة «روبن»، لتتحوَّل معها ويني الجميلة إلى مُجَرّد ذكريات دفء مقطوعة تلهب ظلام زنزانته الباردة كما كاتب يكتب ذلك في يومياته ورسائله الملتاعة والمكسورة.

أنجب مانديلا من ويني بنتين هما «زيناني، وزيندزي». لكن القصة اتخذت منعطفاً جديداً، حيث بعد مرور سنتين فقط من إطلاق سراحه من السجن انفصل مانديلا العام 1992 عن ويني قبل أن يطلِّقها رسمياً عام 1996 بعد تورُّطها في فضائح سياسية عديدة وقضايا فساد واستغلال نفوذ، وانخراطها في أعمال متطرِّفة أساءت كثيراً إلى رمزيَّته والتزامه وهو داخل زنزانته، حيث اعتُبِرت آنذاك تحريفاً لخطِّه النضالي الذي كان ينادي بالمصالحة الوطنية والتجميع العرقي من أجل مناهضة الاستبداد والتمييز العنصري.

في عيد ميلاده الثمانين، أي في يوليو/تموز 1998، وبعدما لم يتوَّج حبُّه للناشطة الحقوقية «أمينة كشاليا» بالزواج، اختار مانديلا للمرة الثالثة الزواج من السيدة «غراسا ماشيل» أرملة «سامورا ماشيل»، رئيس الموزمبيق وحليف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. غراسا التي انخرطت في سنّ مبكِّرة بداية السبعينات بجبهة تحرير موزمبيق، والتي كانت أول وزيرة للتربية والثقافة بعد استقلال بلدها تقول عن مانديلا بأنه رجل لا يتكرَّر لأنه رجل عظيم بكل المقاييس. هذا ما أكَّدته في إحدى المقابلات الصحافية حين قالت بأنها عندما تنظر إلى حياتها فإنها تستطيع أن تجد تفسيراً لكلّ شيء فيها باستثناء شيء واحد هو «ماديبا» الاسم العشائري لمانديلا.

مانديلا الذي كسره الحبّ ،وأتعبته السياسة، رمز وحدة جنوب إفريقيا الأسطوري ورئيسها السابق، العاشق للَّعب بالنار كما سبق أن قال وهو في ريعان شبابه وحماسه الثوري ردّاً على ضابط جاء لاعتقاله محذّراً إياه بأنه يلعب مع النظام لعبة من نار، يقول وهو يصارع المرض بالقوة نفسها التي صارع بها نظامـاً لا ديموقراطياً طيلة حياته، بأن الحياة ليست خالدة أبداً، وبأن الذي يصنع المعجزات العظيمة هو الحُبّ.

فقبل أن يتزوج من جراسا ماشيل في عيد ميلاده الـ 80 تقدَّم نيلسون مانديلا إلى إحدى الناشطات السياسيات في جنوب إفريقيا ورفيقة الكفاح ضدّ العنصرية لسنوات طويلة، وهي «أمينة كاشاليا»، المرأة الوحيدة التي لم توافق على الزواج منه رغم العلاقة العميقة التي كانت بينهما، كما تَمَّ نشرها في سيرة ذاتية في كتاب تحت عنوان «الأمل والتاريخ على قافية واحدة».
 
 
عندما يزيد وعي المرء تقلّ عدائيّته وغروره

ترجمة : راجية حمدي

بين المذيعة الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري والرئيس الأسبق نيلسون مانديلا حميمية نلتمسها في حوار مفتوح دار بينهما، يكشف عن الجانب الإنساني العميق من حياة «ماديبا»..


§ في حديث سابق رويت لي أن تجربة السجن قد مكّنتك من تحقيق الهدف الأصعب في حياتك، وهوالتغيير. كيف أصبحت إنساناً آخر بعد سبعة وعشرين عاماً من الظلم؟


- قبل دخولي السجن كنت مُجَرَّد ناشط سياسي، بصفتي عضواً في منظمة قيادة جنوب إفريقيا، كنت أعمل من السابعة صباحاً وحتى منتصف الليل، لم أحظَ أبداً بالوقت لأخلو بذاتي، وأفكِّر. في أثناء عملي هذا كنت في قمّة الإجهاد العقلي والجسدي، ولم أكن قادراً على استخدام الحيِّز الأكبر من قدرتي الذهنية، لكن في زنزانتي المنفردة في السجن وجدت الوقت لأفكِّر، أصبحت أمتلك رؤية واضحة لما مضى ولما هو كائن بالفعل، واكتشفت أنني بالفعل ممتنّ لكل ما مررت به في الماضي، سواء في علاقتي بالآخرين أو في علاقتي بذاتي.


§ إلى أي مدى أنت راضٍ عن ماضيك؟


- عندما وصلت جوهانسبرج عام 1940 ، كنت أعاني من تجاهُل عائلتي، وذلك لأني خذلتهم برفضي الزواج ممن اختاروها لي. وكان هروبي بمثابة ضربة مؤلمة لهم. في جوهانسبرج قابلت العديد من الأشخاص الذين لم يتردَّدوا في مساعدتي، لكن، وبعد انتهائي من دراستي وعملي بالمحاماة أخذتني مشاغل العمل السياسي ولم أعد أفكِّر فيهم، فقط داخل السجن بدأت التفكير في كل الوجوه التي وقفت بجانبي، أخذت أتساءل: لماذا لم أُبَلِّغهم حينها بامتناني لكل ما فعلوه من أجلي؟ شعرت بضآلتي وسوء تصرفي تجاه كرمهم معي ودعمهم لي طوال تلك السنين، حينها، عاهدت نفسي على أنه إذا تسنّي لي الخروج من السجن سأردّ الجميل لكل من ساعدني أو لأولادهم وأحفادهم. غيَّرت تجربة السجن حياتي حيث أصبحت أفكِّر في أهمية تعبير المرء عن الامتنان حال الشعور به تجاه كل من يساعده.


§ يجب أن يتم هذا طوال الوقت..

وهذا ما أفعله الآن، ليس هناك شيئاً يخيفني أكثر من الاستيقاظ في الصباح دون برنامج يساعد على جلب السعادة لهؤلاء الذين بلا موارد، هؤلاء الذين يعانون من الفقر، والجهل، والمرض، إذا كان هناك شيء يمكن أن يقتلني يوماً ما فهو عدم القدرة على مساعدة هؤلاء.إذا استطعت تقديم ولو جزء بسيط من حياتي لجعلهم سعداء، سأكون سعيداً.


§ هل نستطيع أن نقول إنك استيقظت ذات صباح لتبدأ رحلتك مع العطاء؟


- تحديداً، رحلتي لبناء المدارس، والمستشفيات وتقديم المنح الدراسية للأطفال، وبالطبع لديّ واجبات تجاه أسرتي.


§ أكان هذا نوعاً من التعويض عن كل السنين التي لم تكن فيها موجوداً لتقديم المساعدة؟


- التعويض - تحديداً - لم يكن مقصدي، لكني سوف أقضي المتبقّي من حياتي لمساعدة الفقراء ليتغلَّبوا على مشاكلهم، ويتمكّنوا من مواجهتها. الفقر هو التحدي الأكبر الذي يواجه الإنسانية. لهذا أقوم ببناء المدارس ، ما أريده هو تحرير الناس من الفقر والجهل.


§ قضيت وقتاً في «جزيرة روبن» حيث يوجد السجن الذي قضيت فيه أكثر من ثمانية عشر عاماً من مدة عقوبتك، سمعت أنك رأيت بناتك عندما كانت أعمارهن تتراوح بين عامين وثلاثة، ولم ترهن مرة أخرى حتى أصبحن تقريباً في السادسة عشرة كيف كان شعورك حيال ذلك؟


- عدم رؤية أطفالي طوال هذه المدة، هو ما جعل مشاعري تقوى تلقائياً تجاه الأطفال عموماً.لم أرَ أحداً طوال 27 عاماً. في نظري، هذه واحدة من أقسى العقوبات التي يمكن أن يفرضها السجن، لأن الأطفال هم الثروة الحقيقية في أي مجتمع وحتى يتمّ استثمار هذه الثروة يجب أن يحصلوا على التعليم والحبّ من كلا الوالدين. فعندما يكون الوالد في السجن فلا أحد بمكن أن يعطي هذه الأشياء إلى أبنائه بدلاً منه.


§ من الصعب على المرء أن يتصوَّرالحياة بدون قدرته على ملامسة وعناق أبنائه، أو على الأقل رؤيتهم. هل كانت هذه هي الخسارة الأفدح التي تكبَّدتَها بوجودك داخل جدران السجن؟


- بالتأكيد.


§ ما الأشياء الأخرى التي سلبها منك السجن؟


- سلبني عائلتي، كما سلبني كثيراً ممن اعتدت وجودهم حولي. خاصة هؤلاء الذين يعيشون خارج السجن، والذين كانوا فى أغلب الأحوال يعانون أكثر ممَّن هم داخله. ففي السجن، اعتدنا أن نأكل ثلاث مرات في اليوم، وكنا نمتلك ملابس كافية، وخدمات طبّية مجّانية، وكنا ننام لمدة اثنتي عشرة ساعة متتالية. بينما الآخرون لم يحصلوا على ما حصلنا نحن عليه في السجن.


§ هل انتابك، وأنت داخل السجن، شعور بالانقطاع عن العالم؟


- كان عندنا طرُقُنا الخاصة للاتّصال مع العالم الخارجي، فبالرغم من أن الأخبار كانت تصلنا بعد حدوثها بيومين أو ثلاثة، لكننا كنا نطّلع عليها على أية حال، وذلك نتيجة لصداقتنا مع بعض الحرّاس، كنا نطلب منهم أن يأخذونا إلى مكان تفريغ النفايات حيث نجد الصحف القديمة، ومن ثَمَّ نقوم بتنظيفها، ونأخذها إلى الزنزانة لقراءتها في الخفاء.


§ لقد أصبحت داخل السجن شخصاً أكثر تنظيماً عما كنت عليه قبل السجن، تدرس بانتظام، وتشجّع زملاءك على الدراسة.


- لا تستطيع أية أمة النهوض بدون العلم. فقط من امتلكوا هبة العلم هم من يقودون تقدُّم الأمم، أدركت أننا نستطيع تغيير حياتنا للأفضل برغم كوننا في السجن، استطعنا أن نصبح أشخاصاً أفضل حتى استطاع بعضنا الخروج وقد حصل على درجتين علميتين لا واحدة، تحصين أنفسنا بالعلم كان بمثابة امتلاك السلاح الأقوى لنيل الحرية.


§ هل خرجت من السجن إنساناُ أكثر حكمة؟


- كل ما أستطيع قوله هو أنني أصبحت أقل غباءً مما كنت عليه قبل دخولي السجن، سلَّحت نفسي بقراءة روائع االأدب، خاصة الروايات الكلاسيكية مثل رواية «عناقيد الغضب».


§ هذا أحد كتبي المفضلة.


- مع الصفحة الأخيرة لهذا الكتاب كنت قد أصبحت شخصاً مختلفاً، لقد أثرى قوة تفكيري وعلاقاتي، تركت السجن اكثر وعياً عما كنت عليه، وعندما يزيد وعي المرء تقلّ عدائيته وغروره.


§هل تمقت الغرور؟

- بالطبع. في بدايات شبابي كنت مغروراً لكن السجن ساعدني على التخلُّص من تلك العادة، لم يجلب لي الغرور شيئاً إلا الأعداء.


§ ما هي الصفات الأخرى التي تمقتها؟


عدم قدرة الشخص على رؤية ما يجمعه بالآخرين ورؤيته فقط لما يفصله عنهم. القائد الجيد يستطيع أن يدخل في مناظرة مع الطرف الآخر وهو يعرف أن الجدال وظيفته التوفيق بين وجهتَي النظر، وأن القوة في الوحدة. القائد الذي يمتلك هذه الرؤية ينبغي ألّا يكون مغروراً أو جاهلاً أو ضحل التفكير.


§ هل الأفضل للقائد أن يؤمن الجميع بما يؤمن به هو شخصياً أم عليه أن يصنع السلام؟


- عندما يكون هناك خطر فعلى القائد الجيد أن يأخذ الخطوط الأمامية، أما في الاحتفالات فعلى القائد أن يبقى خلف الكواليس.


§ ما الصفات التي تثير إعجابك فيمن هم حولك؟


- لامفرَّ من أن يجد القائد نفسه مضطرّاً في بعض الأحيان إلى انتقاد من يعملون معه. لكن القائد الجيِّد هو من يستطيع أن يبرز السمات الإيجابية للشخص بينما يوضح له خطأه، فعندما يفعل القائد هذا سيتأكَّد المخطئ أنك تملك صورة كاملة عن شخصيته، ليس هناك أخطر من شخص مُهان، حتى إذا كان مخطئاً.


§ لا أستطع تصوُّر أن هذا الشخص الذي أتحدَّث اليه الآن هو ذاته الذي قضى كل تلك السنوات في زنزانة لا تتعدّى مساحتها سبعة على تسعة أقدام. عندما عدت إلى هذا المكان بعد سنوات من خروجك منه ، هل استوعبت أنك قضيت كل هذا العمر في هذه المساحة؟

- لم أدرك حينها حجم الزنزانة لأني كنت داخلها وقد اعتدت على الوجود بها و فعل كل ما يحلو لي مثل أداء الرياضة صباحاً ومساءً، لكن الآن وأنا في الخارج لا أعرف كيف استطعنا العيش بداخلها وهي بهذا الحجم.


§ في أثناء سجنك كان يتم اجبارك على العمل اليومي الشاق في محاجر الجير، كما أنك لم تكن تتمكَّن من التحدُّث مع زملائك عندما تغلق الزنازين في الرابعة مساءً وحتى اليوم التالي..


- هذا صحيح، لكننا قمنا بكسر هذه القاعدة، اعتاد حرّاسنا الأعلى مرتبة على معاملتنا كحشرات بينما عاملنا الحرّاس الأقل مرتبة باحترام، فكانوا يقضون الليل معنا بود وإحترام، ولهذا بعد إغلاق الزنازين كان هؤلاء الحراس يعطوننا حرية فعل أي شيء ماعدا الخروج من الزنزانة، فالمفاتيح لم تكن لديهم، لكنهم تركوا لنا حرية الحديث إلى زملائنا المساجين في الزنازين المجاورة والمقابلة.


§ هل تعتقد أن جوهر البشر طيب؟


- ليس لدي أدني شك في أن الخير موجود في كل إنسان، بشرط أن يستطيع من حوله تحفيز الخير الفطري، فأنا وزملائي، في حربنا ضدّ التمييز العنصري، استطعنا كسب ولاء من كَرِهونا في البداية لأنهم بدأوا يشعرون أننا في هذا المكان من أجلهم.


§ كيف يمكنك احترام من يهينك؟


- يجب أن نفهم أن الأشخاص أسرى لسياسة حكوماتهم. في السجن على سبيل المثال، هؤلاء السجّانون لن تتمّ ترقيتهم إذا لم ينفِّذوا أوامر الحكومة حتى وإن كانوا هم أنفسهم غير مؤمنين بها.


§ هل يمكن تغيير شخص ينفِّذ سياسة لا يؤمن بها؟


- بالتأكيد. عندما دخلت السجن كنت محامياً متدرِّباً، وعندما كان يتسلَّم هؤلاء الحرّاس الصغار خطابات ليمثلوا أمام القضاء في أمور مختلفة، لم يكن عندهم المال الكافي لتوكيل مَنْ يدافع عنهم، ولهذا قمت بتسوية قضاياهم. ومن هنا نشأت علاقة ودّ معهم.


§ أحد الأسباب التي تجعلني أضعك في مرتبة التقديس، أنت ورفاق كفاحك، هو حفاظك على كرامتك في وجه القمع، بالتاكيد أنت فخور بنفسك .


- أنت غاية في الكرم أوبرا، كل ما أستطيع قوله أنه إذا كنت أنا الآن فعلاً هذا الشخص الذي تصفينه، فأنا لم أكن دوماً كذلك.


§ ما الأشياء التي تعرفها أنت يقيناً؟


أعرف يقيناً أن زوجتي ستظلّ دائماً بجواري، عندي يقين أن في كل مكان بالعالم هناك من يكرِّسون حياتهم لمواجهة التحدِّيات الخطيرة التي يواجهها الإنسان اليوم وهي الفقر، والجهل، والمرض.


§ هل تخشى الموت؟


لا... أعتقد أن شكسبير قد عَبَّرَ عن هذا جيداً عندما قال «الجبناء يموتون عدّة مرّات قبل موتهم» من أغرب ما رأيته من سلوكيات البشر هو خوف الإنسان من الموت. أرى أن الموت هو نهاية ضرورية ستحلّ في وقتها، فعندما يتيقَّن المرء أنه فقط سيختفي وراء سحابة من المجد، وأن اسمه سيظل خالداً هذا هو ما يجب أن ينتظره.
 
 
برقيّة من عبد اللطيف اللعبي
أخي العزيز،

هل يحقّ لي أن أذكِّرك بأنها ليست المرة التي أكتب فيها لك؟

منذ حوالي ربع قرن، حين كنت ما تزال في السجن، بعثت لك برقية خاصة، كتبتها بلغتي الحميمة، لغة الشعر. أقتطف منها هذا المقطع:

«رجل في السجن. متخلّصاً من الجسد، يمشي. يسير على طريق خفيّ يصل بين الجرح والروح. من الروح إلى البذرة. من البذرة إلى البرعم. من البرعم إلى وردة الأمل الهشّة. من الأمل إلى البصيرة. من البصيرة إلى الدمع. من الدمع إلى الغضب. من الغضب إلى الحُبّ. من الحُبّ إلى هذا الجنون الغريب بالإيمان، رغم كل شيء، بالإنسان».

وأنا أكتب لك، أتخيَّل نفسي إلى جانبك. أحببت فكرة أن أجد نفسي داخل زنزانتك، لأصير لك رفيقاً غير مرئي، تماماً كما كنت، لسنوات خلت، رفيقاً لي أكاد أراه في زنزانتي، مُرَبِّتاً على كتفي، ومواسيني في مِحَني الأصعب. هكذا اكتشفت، إلى جانبك، نبع الأخوة. بالاستسقاء من مائه كبر قلبي وعقلي. انتصرت بشجاعة، وصارت الكرامة شعاري. من وقتها والأرض تدور. وامتلكني شعور أن الكوكب يدور حول شمس جديدة، هي بلدك. وهذا البلد-الشمس يدور أيضاً حول نجم أكثر إشراقاً: هو مانديلا، إلى غاية يوم الإفراج عنك، يوم شاهد العالم كله، أولى خطواتك كرجل حُرّ، تمشي، وباب التاريخ يُفتَح أمامك. توقّفت، وكرجل طيّب وواعٍ، خاطبت شعبك بلباقة: «من فضلك، مُرّ أولاً». ثم تبعته. رافقته على درب العدالة والمصالحة. فقد افتتحت طريقاً جديدة، كان من الصعب التفكير فيها في فن الحكم، طريق النعومة. نعم، نعومة، هو ما يليق بها من تسمية في إفريقيا تعاني من الآلام ومن اللاعدالة، ويمكن لها بفضلك أن تفخر بنفسها بعد أن وضعت حجراً ثميناً من الحكمة في بناء الحضارة الإنسانية. لكنك لم تتوقَّف هناك. سريعاً (جدّ سريعاً كما يقول من يحبّونك) فضَّلت أن تنسحب قبل أن يبلغك سمّ السلطة. وكنت مصيباً. فقد قدّمت أفضل ما عندك، ولم تكن لتقبل أو تتخيَّل أن تقدِّم أقلّ من الأفضل. فأنت من اخترع قانون العطاء الجميل.

من يتحدَّث باستسهال عن بطولاتك لم يفقه الدرس الإنساني الذي منحتنا إياه.

منقول من مجلة الدوحة الثقافية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق