ت: غادة الحلوانى
دراما الحب هي أكثر الخبرات حدة في الصراع بين الهوية والاختلاف
العدو هو الشخص الذي لن تدعم أي قرار يتخذه بشأن من شؤونك
لابد من فصل الحب فصلاً تاماً عن السياسة، باعتباره مغامرة فردية في السؤال عن الحقيقة حول الاختلاف
حبي للمسرح معقد جداً ويعود إلي زمن طويل. لعله أكثر قوة من حبي للفلسفة
يجب
أن يضع الفيلسوف في اعتباره أنه لا يختلف عن أي شخص آخر في
مواجهة ظروف الحياة العديدة. ومع ذلك، إن حدث ونسي، سوف يذكره
بقسوة التقليد المسرحي، خاصة الكوميدي منه، بهذه الحقيقة. ففي
نهاية المطاف يقدم التقليد المسرحي شخصية قديمة وهي الفيلسوف
مغرما، الذي تتبخر كلية حكمته الرواقية وعدم ثقته الكاملة في الحب
لحظة أن تكتسح امرأة فاتنة مدوخة الغرفة فتعصف به للأبد. لقد أدركت هذا
منذ زمن بعيد. وطرحت أن الفيلسوف ( وتحت هذه الكلمة التي تضمن
الحياد، أعني كذلك بديهيا، الفيلسوفة) يجب أن يكون عالما بارعا
وشاعرا هاو وناشطا سياسيا، بل وعليه أن يقبل حقيقة أن حقل الفكر ليس
ممهورا أبدا أمام انقضاضات الحب. العالم والفنان والناشط والحبيب، هذه
هي الأدوار التي تقتضيها الفلسفة من ممارسها. لقد أسميتهم
الحالات الأربع للفلسفة. ولهذا وافقت فورا حين دعاني نيقولا ترونج
إلي عقد حوار عام معه عن الحب، ضمن سلسلة " مسرح الأفكار"
الذي ينظمها مع مهرجان افينيون. بدا لي هذا المزج بين المسرح
والجمهور والحوار والحب والفلسفة كوكتيل مُسكِر. علاوة علي ذلك، كان من
المقرر أن يعقد في 14 يوليو ( 2008)، وأبهجني أن نحتفل
بالحب- هذه الطاقة الكوزموبوليتانية والملتبسة والجنسية التي تتخطي
الحدود والوضع الاجتماعي معا عوضا عن أن نحتفل بالجيش والأمة والدولة.
تخايلنا قليلا: يلعب نيقولا دور المحاور وأنا ألعب الدور الغامض لفيلسوف
الحب، لقد عملنا جيدا معا ونجحنا. وأقول بدون تردد: حققنا
انتصارا عظيما.
الحب والسياسة
لماذا السياسة هي والدة الحب. هل لأن السياسة تشمل الأحداث والاعلانات والولاءات كذلك؟
من
وجهة نظري تشكل السياسة اجراء حقيقي، لكنه الاجراء الذي يتمركز حول
الجمعي. أعني أن الفعل السياسي يختبر حقيقة ما يقدر علي انجازه
الجمعي. علي سبيل المثال، هل تستطيع السياسة تحقيق المساواة؟ هل
تستطيع أن تدمج ما هو لامتجانس/متغاير؟ هل تعتقد أنه لا يوجد إلا عالم
واحد فقط؟ أشياء من هذا القبيل. يمكن تصنيف السياسة في السؤال التالي:
ماذا يستطيع الأفراد عمله حين يلتقون، وينتظمون، ويفكرون
ويقررون؟ في الحب، يتعلق الأمر بمعرفة ما إذا كانا، كشخصين، قادرين
علي التعامل مع الاختلاف وجعله خلاقا. في السياسة، يتعلق الأمر
بمعرفة إذا كان عدد من الناس، كتلة من الناس في الحقيقة، يمكنها
الابداع علي قدم المساواة. وكما توجد العائلة علي مستوي الحب لكي تمارس
اجتماعيا تأثيره، فعلي مستوي السياسة توجد السلطة- الدولة، لكي
تقمع حماسه. يوجد بين السياسي، باعتباره الجمعي الفكري-العملي
وقضية السلطة أو الدولة باعتبارها تنظيم وادارة، العلاقة ذاتها
الصعبة التي توجد بين قضية الحب باعتباره ابتكار بدائي لاثنين وبين
العائلة باعتبارها النواة الأساسية للملكية والأنوية.
أساسا،
لو انك تلعب بكلمة " الدولة (دال الدهر : انقلب من حال إلي حال)
يمكن أن تعرّف العائلة بدولة/حالة الحب. فعلي سبيل المثال، حين تشارك
في حركة جماهيرية سياسية كبري تختبر التوتر الدال عينه بين السؤال عن "
ما الذي يقدر عليه الجمعي؟" والسؤال عن قوة الدولة وسلطتها. النتيجة
هي أن الدولة علي وشك خيانة الأمل السياسي تقريبا. هل أنا بحاجة
إلي أن أؤكد الأن علي أن العائلة دائما علي وشك خيانة الحب؟ تري أننا
يجب طرح هذا السؤال. في رأيي أن العائلة لا تتعامل إلا نقطة بعد
نقطة وقرارا بعد قرار. يوجد نقطة الاختراع الجنسي، ونقطة الطفل،
ونقطة الرحلات، ونقطة العمل والأصدقاء وليالي السمر والاجازات، وأيا
كان. وقصر كل هذه النقاط علي عنصر إعلان الحب ليست مسألة سهلة.
بالمثل في السياسة، توجد نقاط لسلطة الدولة والجبهات السياسية
والقوانين والبوليس وليس سهلا أبدا قصرها علي وجهة نظر سياسية مفتوحة ثورية
تعتنق المساواة.
في
الحالتين، لدينا إذن اجراءات نقطة بنقطة وتشكل قاعدة طرحي في
مواجهة صديقي المتدين. لا تخلط الاختبار مع النهاية. فمن المحتمل
ألا يتم ادراك السياسة بدون الدولة، لكن هذا لا يعني أن القوة
هدفها. هدفها هو أن تكتشف ما الذي يقدر عليه الجمعي، وليس القوة
ذاتها. بالمثل، الهدف في الحب هو اختبار العالم من وجهة نظر
الاختلاف، نقطة بنقطة، وليس ضمان فقط انتاج النوع. سوف يجد
الأخلاقي المرتاب تبريرا لتشاؤمه في العائلة، بأنها دليل علي أن الحب
في نهاية المطاف خدعة ببساطة لضمان انتاج النوع وخدعة المجتمع لضمان
توارث الميزات. لكني لن أقبل فرضيته. كما لن أقبل وجهة نظر صديقي
بيناروش بأن الخلق الرائع لقوة الاثنين التي يولدها الحب يرتبط
بالانحناء أمام عظمة الواحد في النهاية
لماذا اذن لا تستطيع تصور " سياسة الحب" كما رسم جاك لاكان خطوط " سياسة الصداقة"*؟
لا
أعتقد أنك تستطيع خلط الحب مع السياسة. في رأيي، " سياسة الحب"
تعبير بلا معني. أعتقد أنه حين تبدأ في قول " أحبوا بعض"، قد
يؤدي هذا إلي نوع ما من الأخلاق، لكن لن يؤدي إلي أي نوع من
السياسة. أولا، في السياسة يوجد أفراد لا يستطيع أحد أن
يحبها. هذا لا يمكن انكاره. لا يستطيع أي شخص أن يتوقع منا أن
نحبهم.
إذن علي عكس الحب، تدور السياسة حول المواجهة بين الأعداء؟
حسنا،
تعرف أنه، في الحب، مع الاختلاف المطلق الذي يوجد بين الفردين،
احدي أكبر الاختلافات التي يستطيع المرء تخيلها، مع معطي أنه اختلاف
لانهائي، يمكن للقاء، والإعلان والولاء أن يحولوا هذا الاختلاف إلي
وجود ابداعي. لاشيء من هذا القبيل يمكن أن يحدث في السياسة بالنسبة
للتناقضات الأساسية، وواقع أنه يوجد في الحقيقة أعداء معينين تعيينا
واضحا. إحدي القضايا المركزية في الفكر السياسي هي قضية الأعداء،
ومن الصعب جدا التعامل معها اليوم؛ جزئيا بسبب الاطار الديموقراطي
الذي نشتغل ضمنه. إن القضية هي: هل يوجد أعداء؟ أعني بهذا أعداء
حقيقيون. الشخص الذي تقبله، حزينا وممتعضا، الذي يصل إلي السلطة
دوريا، لأن الكثير من الناس صوتوا له ليس هو العدو الحقيقي. هذا
الشخص يزعجك وجوده علي رأس الدولة لأنك كنت تفضل غريمه. وسوف تنتظر
دورك، خمس سنوات أو عشرة أو أكثر. العدو: هذا شيء آخر! إنه الشخص
الذي لن تدعم أي قرار يتخذه بشأن من شؤونك. إذن، هل يوجد عدو
حقيقي أم لا؟ يجب أن يكون هذا السؤال نقطة انطلاقنا. في
السياسة، هذه قضية هامة للغاية واعتدنا أن ننحيها جانبا سريعا. في
الحب، تصبح قضية العدو غريبة كلية. في الحب، قد تقابل عوائقا،
قد تغمرك الدراما الداخلية، لكن في الحقيقة لا يوجد أعداء في
الحب. قد يعترض شخصا ما قائلا: ماذا عن غريمي؟ الشخص الذي يفضلة
حبيبي عليّ؟ حسنا، هذه مسألة مختلفة اختلافا كليا. في السياسة،
يصبح الصراع مع العدو هو الفعل. يشكل العدو جزء من جوهر السياسة.
تعرّف السياسة الحقيقية عدوها الحقيقي. من ناحية أخري، يظل الغريم
خارجيا تماما، فهو ليس جزء من تعريف الحب. في هذه النقطة اختلف جذريا
مع هؤلاء الذين يعتقدون أن الغيرة عنصر مكون من عناصر الحب. وأكثر من
يجسد هذا تجسيدا عبقريا بروست، الذي يري الغيرة مكونا حقيقيا وحادا
وشيطانيا في الذات المحبة. أعتقد أن هذا الرأي ببساطة هو تنوع
لأطروحة الأخلاقيين أصحاب مذهب الشك. إن الغيرة طفيلي زائف يتغذي
علي الحب ولا يساعد إطلاقا في تعريفه. هل يجب علي كل حب تحديد
غريم خارجي قبل أن يعلن عن نفسه، قبل أن يبدأ. مستحيل! العكس
هو الحال: إن الصعوبات الداخلية للحب، والتناقضات الداخلية لمشهد
الاثنين يمكن أن تتبلور حول طرف ثالث، غريم، متخيلا أو حقيقيا. إن
الصعوبات التي ينطوي عليها الحب لا تنبت من وجود عدو تم تحديده. هذه
الصعوبات داخلية في سيرورته: اللعبة المبدعة للاختلاف. إنها
الأنانية: هي عدو الحب، وليست غريمه. يمكن أن نقول: إن عدو
حبيبي الأساسي، الذي يجب أن أهزمه، ليس الآخر، بل نفسي، إن "
نفسي" التي تفضل الهوية علي الاختلاف، التي تفضل أن تضع عالمها
في مواجهة العالم الذي تمت تنقيته وإعادة بناءه خلال منشور الاختلاف.
الحب يمكن أن يكون حربا أيضا...
لابد
أن نضع في اعتبارنا أن اجراء الحب، مثل العديد من اجراءات الحقيقة،
لايتصف بالسلام دائما. يمكن أن يتشكل من شجارات عنيفة، ومعاناة
أصيلة وانفصالات قد نتجاوزها وقد لانستطيع. يجب أن ندرك أنها خبرة من
أكثر الخبرات ألما في الحياة الشخصية لأي فرد! لهذا يدعم بعض الناس
دعائية " الضمان الشامل". لقد ذكرت فعليا أن الناس تموت بسبب الحب.
يوجد موتي/صرعي الحب ومنتحري الحب. في الحقيقة، إن الحب، طبقا
لمقياسه، ليس بالضرورة سلميا أكثر من السياسة الثورية. إن الحقيقة ليست
شيئا ما مشيد في حديقة ورود. أبدا! فللحب نظامه الخاص به الذي
يحمل داخله التناقضات والعنف. لكن الاختلاف، نصطدم به، في
السياسة، مع قضية العدو، حقا، في حين أنه في الحب يصبح سؤال
الدراما. الدراما الباطنية والداخلية التي لا تحدد حقا أي أعداء،
لكنها تضع في بعض الأحيان دافع الهوية في صراع مع الاختلاف. إن
دراما الحب هي أكثر الخبرات حدة في الصراع بين الهوية والاختلاف.
ومع ذلك، أليس من الممكن أن نجمع الحب والسياسة معا بدون أن نقع في فخ المذهب الأخلاقي لسياسة الحب؟
يوجد
مفهومان سياسيان أو فيلسفيان؛ يمكن أن نقارنهما علي مستوي شكلي محض
بالديالكتيك الموجود في الحب. أولا، تشمل كلمة " شيوعية" فكرة أن
الجمعي قادر علي دمج كل الاختلافات التي توجد خارج مجال السياسة.
لايجب منع الناس عن المشاركة في العملية السياسية من النوع الشيوعي
لأنهم هذا أو ذاك، أو لأنهم ولدوا هنا أو جاءوا من مكان آخر، أو
يتحدثون هذه اللغة أو تلك، أو يحملون تلك الثقافة أو غيرها، علي
النحو عينه الذي لا تمثل الهويات، داخلهم، عائقا أمام الحب. إن
الاختلاف السياسي مع العدو، فقط، " متناقض" كما يقول ماركس.
وهذا ليس له معادل في اجراء الحب. ثم لدينا كلمة "الإخاء". إن
مصطلح" الاخاء" هو أكثر مصطلحات شعار الجمهورية غموضا. يمكن أن
نتناقش حول " الحرية"، لكننا نعرف ما هي. ويمكن أن نقدم تعريفا
دقيقا تماما عن ماذا تعني " المساواة"؟ لكن ماذا يعني " الإخاء"؟
هذا يمس بلاشك قضية الاختلاف، ووجوده المشترك الودود في العملية
السياسية بأن الحدود الأساسية هي مواجهة العدو. وهذا مفهوم يمكن أن
يغطيه مذهب العالمية؛ فلو أن الجمعي قادر حقا علي تحمل مسؤولية
المساواة، هذا يعني أنه يمكن أن يدمج أكثر التباينات حدة،
ويسيطر سيطرة صارمة علي قوة الهوية.
في
بداية حوارنا، تحدثت عن المسيحية علي أنها " ديانة الحب". فلنركز
الآن علي تجسدات الحب في الايديولجيات العظيمة. في رأيك، كيف تتدبر
المسيحية القبض علي القوي غير العادية التي يتمتع بها الحب؟
في
هذا السياق، أعتقد أن البوذية مهدت تماما الطريق للمسيحية. إن وجود
الحب في العهد القديم دال، علي مستوي التشريعات والوصف علي السواء.
فأيا كان فحواها اللاهوتي فأغنية الحب التي هي نشيد الأناشيد واحدة
من أكثر الاحتفاءات القوية بالحب التي كتبت علي مر الزمن. المسيحية في
حد ذاتها أفضل نموذج علي استخدام كثافة الحب نحو مفهوم ترانسندنتالية
الكون. تقول المسيحية: لو احببتوا بعضكم، سيقترب هذا المجتمع المحب
من الينبوع النهائي لكل الحب الذي هو ترانسندتالية إلهية في حد
ذاته. إنها تقدم فكرة أن قبول خبرة الحب، خبرة الآخر، النظرة التي
تنبثق تجاه الآخر، تساهم إلي هذا الحب الأعلي الذي هو الحب الذي
ندين به لله والحب الذي يضعه فينا الله علي السواء. وبالطبع، هذه
ضربة عبقرية! دبرت المسيحية الامساك، باسم كنيستها- تجسيدها
للدولة-، بهذه القوة التي خولت لها، علي سبيل المثال، أن تحقق
قبول الفرد للمعاناة باسم المصالح العليا للمجتمع وليس فقط باسم بقاء
الفرد.
فهمت
المسيحية بامتياز أن الاحتمالية الظاهرية للحب تحمل عنصرا يحميه من
اختصاره إلي هذه الاحتمالية. لكن، وهذه هي المشكلة، يرفعه علي
الفور إلي مستوي الترنسدنتالية. هذا العنصر الكوني الذي أدركه كذلك
في الحب أراه عنصرا باطنيا. غير أن المسيحية تدبرت بطريقة ما كذلك أن
ترفعه وأن تعيد تركيزه في قوة ترنسندنتالية. إنها الحركة التي نجدها
جزئيا عند أفلاطون، خلال فكرة الخير. إنها الاستغلال الأول العبقري
لقوة الحب والذي يجب الآن وضعه علي الأرض. أعني أننا يجب أن نبين
أن الحب يتمتع فعليا بقوة كلية، لكنه ببساطة تامة هو احتمالية أن نجرب
خبرة توكيدية وابداعية وايجابية للاختلاف. إنه الآخر، بلاشك، لكن
بدون " الأخر- القدير"، بدون " الآخر العظيم" في
الترنسندنتالية. في التحليل الأخير، لا تتحدث الأديان عن الحب.
إنها تهتم فقط به باعتباره مصدر للكثافة، للحالة الشخصية التي يستطيع
وحده فقط خلقها، وكل هذا بهدف توجيه هذه الكثافة إلي الإيمان والكنيسة من
أجل وضع هذه الحالة الشخصية في مصلحة هيمنة الله. إن النتيجة هي،
علاوة علي ماسبق، أن المسيحية تقدم عوضا عن الحب النضالي الذي أمدحه
هنا- الابداع الأرضي لميلاد مختلف لعالم جديد، سعادة ننتزعها نقطة
نقطة- تقدم المسيحية حبا سلبيا وورعا وخاضعا. إن الحب علي ركبتين
راكعتين ليس حبا علي الإطلاق بقدر علمي، حتي ولو أنه يبعث عاطفة داخلنا
تجعلنا نذعن لمن نحب.
لقد
عملت مع انطوان فيتز، خاصة حين كان يجهز انتاجه الشهير خف ابليس لبول
كلوديل. هل التأمل الذي قدمه مؤلف استراحة الظهيرة الغارق تماما في
المسيحية، لديه مايقوله اليوم للناس الذين لم يعودوا مسيحيين؟
كلوديل
كاتب دراما عظيم عن الحب. لقد كرس خف ابليس واستراحة الظهيرة كلية
لمعالجة هذه الثيمة. من ناحية أخري، ما الذي لدي كلوديل يثيرنا
الآن لا يثيره مباشرة مجتمع القديسين وثواب العقود الخيرة والخلاص فيما
بعد الحياة. لا أستطيع إلا أن أفكر في نهاية استراحة الظهيرة: "
افترقنا، لكن لم نتوقف عن حمل بعضنا، هل يجب أن نحمل عبء أرواحنا
الشقية؟" لدي كلوديل حساسية، خاصة، تجاه فكرة أن الحب الحقيقي
يتغلب علي المستحيل:" أصبحنا بعيدين عن بعض، لكن لن نتوقف عن حمل
بعضنا البعض"... بوضوح تام، الحب ليس احتمالية، علي الأحري، هو
تجاوز شيء ما يبدو مستحيلا. شيء ما يوجد، لاسبب له، لم يقدم لك
أبدا علي أنه احتمالية. وهذا سبب آخر كذلك يوضح زيف دعاية الموقع
الاكتروني ميتك للمواعيد الغرامية. فهو يعمل بناء علي فرضية أنك تفحص
كل الاحتمالات وتنتقي الأفضل لكي تستمتع بحب آمن. لكن الواقع غير
ذلك! ليست مثل القصص التي يصطف الخاطبون طابورا. إن تجاوز المستحيل
يعني بداية الحب؛ وكلوديل شاعر المستحيل العظيم مع ثيمة المرأة
المحرمة. ومع ذلك، يحمل الزهر لديه حظا سيئا إلي حد ما، بما أن
المستحيل نسبي لأنه أرضي. أعتقد أن لديه مشهدين من" مشهد من اثنين"
بدلا من واحد. الأول هو خبرة استحالة الحب علي الأرض. الثاني حين
يتآلف اثنان في عالم الايمان. من الرائع أن تتابع آلياته الشعرية
الرائعة التي يستخدمها ليغني المشهد الثاني انطلاقا من قوة الأول
بلغة رائعة. هذه هي المسيحية. تقوم دعايتها بالقوة الأرضية للحب
بقولها: " نعم، توجد أشياء معينة مستحيلة بالرغم من هذه القوة، لكن
لا داعي للقلق لأن ما هو مستحيل هنا في الأسفل، ليس كذلك بالضرورة
فيما بعد الحياة." دعائية أولية جدا لكنها مفحمة.
إن
الرغبة في جلب الحب إلي الأرض، إلي الحركة من الترنسندنتالي إلي
الباطني- رغبة مركزية في الشيوعية التاريخية. كيف يمكن أن يصبح
إعادة تنشيط الفرضيات الشيوعية طريقا لإعادة ابتكار الحب؟
أشرت
مبكرا لما أراه في هذه الاستخدامات السياسية لكلمة " حب"، وكيف
يساء استخدامها كاستخدامات دينية. من ناحية أخري، نتعامل هنا أيضا مع
قوة ترانسدنتالية تفهم قوة الحب. لم يعد الله بعد الآن، بل الحزب،
وخلال الحزب، قائده الأعلي. يلخص تعبير " عبادة الشخصية" هذا
النوع من الانتقال الجمعي للحب إلي شخصية سياسية. وانضم الشعراء كذلك:
انظر إلي نشيد الأنشاد الذي نظمه اوراد لستالين؛ وترنيمات اراجون عن
عودة موريس ثوريز إلي فرنسا بعد مرضه.... إن ما يثير اهتمامي أكثر
هوعبادة الحزب علي هذا النحو. كذلك، نري أراجون قد أصابته الأعراض: "
أعاد حزبي ألوان فرنسا إلي"، إلخ. نري الحب علي الفور ملطفا.
فالكلمات متشابهة جدا في مقدر لنا الرحيل و إلي إلزا تريولت. من
اللافت للانتباه أن نري كيف أصبح الحزب الذي أعتقدنا أنه ببساطة أداة
انتقالية لظهور الطبقات العاملة والشعبية فيتشيا هكذا. لا أريد أن أهزأ
من أي من هذا: لقد كان عصر العاطفة السياسية الذي لا يمكننا
الاستمرار فيه، والذي يجب أن نراه الآن بعين نقدية، لكنه كان كثيفا
وحصد الملايين ايمانا به. ما يجب أن نقوله، بما أن الحب ثيمتنا،
لايجب خلط الحب مع العاطفة السياسية. إن المشكلة التي تواجهها السياسة
هي سيطرة الكره وليس الحب. والكره هو عاطفة تمتلك حتميا قضية العدو.
في كلمات أخري، في السياسة، حيث يوجد قضية العدو، يصبح الدور
الوحيد للمنظمة، أيا كانت، هو السيطرة علي الكره وفعليا محو عواقبه.
هذا لا يعني أنها يجب أن "تبشر بالحب" لكن، وهذا هو التحدي
الفكري العظيم، أن تعطي للعدو السياسي تعريفا أدق وأكثر تحديدا.
وليس، كما كان الحال خلال معظم القرن الماضي كله تقريبا التعريف
الأكثر غموضا وهلهلة.
هل من الأفضل فصل الحب عن السياسة؟
جزء
كبير من عمل المعاصر للفكر المعاصر فصل ما جمع معا خطأ. بالطريقة ذاتها
الذي يجب السيطرة علي تعريف العدو وتحديده وتقليصه إلي الحد الأدني،
لابد من فصل الحب فصلا تاما عن السياسة، باعتباره مغامرة فردية في
السؤال عن الحقيقة حول الاختلاف. حين أتحدث عن الفرضية الشيوعية،
فإنني ببساطة أقول مايلي: الأشكال المستقبلية من سياسة التحرير يجب
أن تنقش في احياء الفكرة الشيوعية وتوكيدها؛ فكرة عالم لا يستسلم أمام
شهية الملكية الخاصة، عالم من الارتباط الحر والمساواة. من أجل هذا
الهدف، لدينا أدوات فلسفية جديدة وعدد معقول من الخبرات السياسية
المحلية، التي شهدت تفكيرا متجددا. في هذا الإطار، يصبح الحب
طيعا لاعادة ابتكاره أكثر مما لو أحاطه السُعر الرأسمالي. ذلك أننا يجب
أن نتيقن من أن كل ما هو ايثاري لن يشعر بالراحة في خضم هذا
السعار. والحب، مثل أي اجراء يبحث عن الحقيقة، أساسا ايثاري:
تكمن قيمته في ذاته وحدها وتتجاوز المصالح الآنية للطرفين. إن معني
كلمة "شيوعية" لا تتعلق مباشرة بالحب. ومع ذلك، تجلب الكلمة معها
احتمالات جديدة للحب.
يوجد
بعد محتمل آخر لتجسيدات الحب في السياسة الشيوعية. إنها القصص التي
بنيت علي أساس الاضطرابات أو الحركات الاجتماعية. تشدد غالبا علي هذا
البعد، بما أنه، لوهلة، يسمح بانتهاك الحب ليتحالف مع الانتهاك
السياسي. ما خصوصية هذه القصص في الصراع؟
أحمل
حساسية خاصة لهذا الوجه من الأشياء لأنني كرست جزء كبيرا من كتابتي
كروائي وكاتب مسرحي إلي الموضوع. في مسرحيتي الايشارب الأحمر،
تهتم القصة أساسا بالحب بين أخ وأخت بعيدين عن بعض في كل تجسيدات الحركة
السياسية الضخمة التي شملت حروب التحرير والاضرابات والتظاهرات... في
روايتي مبني هادئ هنا- التي يتطابق إطارها الشكلي مع رواية
البؤساء لهوجو- يغلف التصوير الثوري حب العامل الشيعي أحمد ازماني
لارهابية، اليزابيث كاثلي، ثم لطفلها سيمون الذي تبناه بعد موتها،
من أجل كلود اوجاساوارا الشاعرة وابنة أحد الرجعيين البارزين. في كل
هذه اللحظات، لم تكن نيتي تسليط الضوء علي التماثل بين الحب والالتزام
الثوري، بل علي الأصداء السرية التي تتولد في أكثر الخبرات الفردية
حميمية، بين الكثافة التي تتطلبها الحياة حين نكون ملتزمين مائة
بالمائة بفكرة معينة والكثافة المميزة نوعيا التي يولدها الصراع مع
الاختلاف في الحب. هذا يماثل أداتان موسيقيتان تختلفان كلية في
النبرة وحجم الصوت، لكنهما يتقاربان تقاربا غامضا حين يوحد بينهما
موسيقي عظيم في العمل ذاته. اسمح لي بأن أبوح بسر، لقد نقشت في
هذه الأعمال الأدبية تقييما لحياتي في " السنوات الحمراء" بين
مايو 1968 وثمانينات القرن الماضي. هذه هي الفترة التي طورت
أثناءها اعتقادا سياسيا بقيت مخلصا له ومعه اخلاصا عنيدا؛ احدي أسماءه
المحتملة " الشيوعية". لكنني حينئذ، وعلي قدم المساواة، بنيت
حياتي حول سيرورات الحب التي كانت حاسمة. ما جاء بعد ذل ك في
السياق ذاته أضاءه هذا المصدر واستمراريته. فكما ذكرت سابقا، لا يجب
أن ينبذ المرء، خاصة، اعتناقه الحب والسياسة. لقد كانت تلك اللحظة
التي عثرت فيها حياتي علي الوتر الموسيقي، بين السياسة والحب،
الذي خلق تناغم ايقاعها.
الحب والفن
أجده
غريبا أنك تشير دائما إلي صمويل بيكيت عند الحديث عن الحب. بالكاد
أستطيع أن أقول أن أعمال بيكيت تركز علي السعادة. كيف تعمل أعماله،
الشهيرة بالعدمية والتشاؤم علي " مشهد من اثنين" الذي هو الحب؟
كما
قلت، يحتوي الأدب القليل عن الحب فيما يخص خبرة استمراريته خلال
الزمن. أمر يدعو للذهول. فلنأخذ المسرح علي سبيل المثال. لو شاهدت
النصوص التي تعرض صراعات المحبين الشباب في مواجهة استبداد عالم
العائلة- وهو موضوع كلاسيكي تماما- يمكن أن تعطيها كلها عنوان ماريفو
الفرعي انتصار الحب. تحت هذا النموذج، تحكي العديد من المسرحيات
كيف أن هؤلاء الشباب، بمساعدة الخدم أو أي أشخاص أخري متواطئة معهم،
يخدعون الآباء الطاعنين في السن، ويحققون في النهاية ما يريدون،
وهو في الأساس الزواج. إنه انتصار الحب، لكن ليس استمراريته. هذا
بالضبط ما يمكن أن تسميه حبكة اللقاء. بنيت العديد من الأعمال الهامة
والروايات العظيمة حول استحالة الحب، واختباره، وتراجيديته، وخفوته،
وفراقه، ونهايته، إلخ. لكن القليل منها يدور حول توكيد
استمراريته. يمكن أن نقول حتي أنه لم ينتج عن الحياة الزواجية
أعمالا عظيما. إنها الحقيقة التي لم تلهم كثيرا الفنانين. والآن،
نجد، تحديدا، لدي بيكيت الذي نقول عنه كاتب اليأس والمستحيل شيء ما
شديد الخصوصية بصدد هذا الموضوع: هو أيضا كاتب عناد الحب. فلنأخذ علي
سبيل المثال عمله أيتها الأيام الجميلة؛ قصة عن زوج عجوز. لا نري سوي
المرأة والرجل يزحفان خلف المشهد، وكل شيء بالٍ، وهي تغرق في
التراب/الأرض، لكنها تقول: " كم كانت أيام جميلة". وتقول له هذا
لأن الحب لازال موجودا. الحب هو ذلك العنصر القوي والثابت الذي
بني وجودها في مظهر كارثي. والحب هو القوة الخفية لهذه الكارثة. في
نص قصير رائع بعنوان، كفي، يحكي بيكيت تجول زوج عجوز خلال ديكور
جبلي وصحراوي في الوقت ذاته. والقصة هي قصة حب، استمرارية هذا
الزوج العجوز، ولا يخفي علي الإطلاق الحالة الكارثية لجسدهما،
وأحادية نغمة وجودهما، والصعوبة المتنامية في ممارسة الجنس، إلخ.
يسرد النص كل هذا، لكنه يضع القصة ضمن اطار القوة الرائعة، في
النهاية، للحب وعناد استمراريته الذي يشكله.
بما
أنك تحدثت عن فن الدراما، أود أن أتوقف عند هذا الحب الخاص جدا الذي
لم تتخل عنه منذ طفولتك: حب المسرح. قبل أن تكتب ثلاثية أحمد، التي
تحولت إلي مسرحية معاصرة علي شاكلة سابين لموليير، أنت نفسك لعبت الدور
الرئيس في مسرحية موليير في شبابك. ما طبيعة هذا الحب الراسخ
الذي تحمله للمسرح؟
حبي
للمسرح معقد جدا ويعود إلي زمن طويل. لعله أكثر قوة من حبي للفلسفة.
يأتي حبي للفسلفة لاحقا، ببطء وبصعوبة أعظم. أعتقد أن ما
أبهرني في المسرح، حين كنت شابا ومثلت، الشعور الذي انتابني
فورا بأن جزء ما من اللغة والشعر مرتبطين بالجسد علي نحو لايمكن
التعبير عنه تقريبا. وربما كان المسرح في الأساس بالنسبة لي، استعارة
لما قد يكون الحب فيما بعد، لأنه كان اللحظة التي تلاشت فيها الحدود
بين الفكر والجسد علي نحو ما. فهما مكشوفان لبعضهما بطريقة لا يمكن أن
تقول معها: " هذا جسد" أو " هذه فكرة". الاثنان ممتزجان، تحاصر
اللغة الجسد، بالضبط مثلما تقول لشخص ما: " أحبك"، إنك تقول ذلك
لشخص ما علي قيد الحياة، يقف أمامك، لكنك تخاطب كذلك شيئا ما لايمكن
اختصاره إلي هذا الحضور المادي البسيط، شيئا ما يتجاوزه ويتضمنه
كلية، في الوقت ذاته. هذا هو المسرح، في أصوله؛ إنه الفكرة في
الجسد، إنه الفكرة في الجسد. يمكن أن أكرر كلمة فكرة مرة أخري،
بمعني آخر. لأن المسرح، كما نعرف، يعني التكرار. يقول المخرج:
" فلنكرر المشهد مرة أخري". لا تندمج الفكرة بسهولة في الجسد. إنها
مسألة معقدة: علاقة الفكرة بالمكان مع الايماءات التمثيلية. لابد أن
تكون عفوية ومدروسة في الوقت ذاته. هذا ما يحدث في الحب أيضا.
الرغبة قوة آنية، لكن الحب يتطلب فوق ذلك الاستئناف والرعاية. يعرف
الحب نظام التكرار. " قل مرة ثانية أنك تحبني"، وكثير جدا: " قلها
أفضل من هذا". وتبدأ دائما الرغبة مرة أخري. يمكن أن نسمع، أثناء
الملاطفة، كما لو أن الحب يسكنها " زيدني....زيدني"؛ نقطة حيث
يعزز الحاجة إلي الحركة اصرار الكلمة، والإعلان الجديد دائما. نحن
نعرف تماما أن قضية أداء الحب في المسرح حاسمة، وتدور كلها تحديدا عن
مسألة الإعلان. ولأنه يوجد، كذلك، مسرح الحب هذا وأداء الحب
والصدفة، القويان جدا، علي الأقل بالنسبة لي، أحمل هذا الحب
للمسرح.
إنه
كذلك الموقف الذي دعمه المسرحي انطوان فيتز، الذي أخرج عملك
الأوبرالي الايشارب الأحمر ،في 1984، في مهرجان افنيون، ووضع
موسيقاه جورج ابريس. كتب: " هذا ما أردت أن أقدمه مسرحيا دائما: أن
أعرض القوة العنيفة للأفكار، كيف تلوي الأجساد وتعذبها." هل تأخذ
هذا المنهج في اعتبارك؟
بالتأكيد.
أنت تعرف، بيسوا، الشاعر البرتغالي يقول في مكان ما " الحب
فكرة". هذه جملة تنطوي علي المفارقة، ظاهريا، لأن الجميع يقول
دائما أن الحب هو الجسد، هوالرغبة، هوالمشاعر، إنه أي شيء آخر سوي
أن يكون العقل والفكرة. وهو يقول " الحب فكرة". أعتقد أنه محق.
أعتقد أن الحب فكرة وأن العلاقة بين تلك الفكرة والجسد علاقة فريدة تماما
ويعلًّمها دائما كما يقول انطوان فيتز العنف الجامح. نختبر هذا العنف
في الحياة. وحقيقي جدا أن الحب يمكن أن يلوي أجسادنا ويثير
أقسي أنواع العذابات. إن الحب كما يمكن أن نلاحظ، ليس نهرا طويلا
هادئا. لا نستطيع أن ننسي كلية العدد المرعب من قصص الحب التي أدت إلي
الانتحار أو القتل. إن الحب في المسرح ليس فقط ولا حتي، أساسا،
فارس جنسي أو قصة رومانسية بريئة. إنه تراجيديا ورفض وغضب كذلك. إن
العلاقة بين المسرح والحب هي كذلك علاقة اكتشاف للمتاهة التي تفصل
الأفراد ووصف لهشاشة الجسر الذي يرميه الحب بين كيانين منعزلين. لابد
أن نعود دائما إلي هذا السؤال: أي فكرة تتكشف ريحة وجيئة بين جسدين
يمارسان الجنس؟ لابد أن نسأل كذلك، وهذا يتصل بسؤالك السابق، ما
الذي كان سيقدمه المسرح لو أن الحب غير موجود؟ كان يمكن أن يتحدث
وقد فعل مطولا عن السياسة. إذن، نستطيع أن نقول أن المسرح هو السياسة
والحب و تقاطعهما عموما. إن تقاطع السياسة والحب تعريف محتمل
للتراجيديا. لكن حب المسرح هو، بالضرورة، حب الحب كذلك، لأنه دون
قصص الحب، وبدون الصراع من أجل تحرير الحب من قيود العائلة، فلن يضيف
المسرح الكثير للحب. إن الكوميديا الكلاسيكية مثل مسرحيات موليير تقول
لنا أساسا كيف أن الشباب الذين تلاقوا صدفة يجب أن يقللوا من قيمة
الزواج الذي رتبه لهم آبائهم. أما الصراع الأكثر شيوعا، والأكثر
توظيفا علي خشبة المسرح هو صراع حب الصدفة في مواجهة القانون العنيد.
أما الأكثر براعة فهو صراع الشباب الذي يدعمه البروليتاريا ( العبيد
والخدم)، في مواجهة القديم/العجوز الذي يدعمه الكنيسة والدولة.
وسوف تقول الآن: انتصر الحب، لم تعد الزواجات المرتبة موجودة: الزوج
هو ابداع نقي." لكني لست متأكدا تماما. الحرية، أي نوع من
الحرية تماما؟ بأي ثمن؟ نعم، هذا سؤال حقيقي: ما الثمن الذي دفعه
الحب لكي تنتصر حريته الظاهرية؟
ألا
يشمل حبك للمسرح كذلك حب الجمهور، والجماعي والتجمع، بما أنك عشت
ذات يوم حياة الصحبة المسرحية وسط الممثلين والتقنيين؟ ألا يحمل المسرح
الحب الذي ينتمي إلي نظام الأخوة؟
نعم،
بالطبع، هذا الحب يوجد! المسرح هو الجماعي، هو تعبير جمالي عن
الأخوة. لهذا أطرح أنه يوجد، بهذا المعني، شيء ما شيوعي في
المسرح. وأفهم من " شيوعي" هنا كل صيرورة تجعل المشترك يسود
علي الأنانية، العمل الجمعي علي المصلحة الذاتية الخاصة. وإذ نحن
نتكلم عنها يمكن أن نقول أن الحب شيوعي بهذا المعني، لو أن المرء
يقبل، كما أفعل، أن الموضوع الحقيقي للحب، هو تحقق الزوج وليس
الإشباع المحض للفردين الطرفين المكونين له. ولايزال يوجد تعريف محتمل
آخر للحب: الحد الأدني من الشيوعية!
عودة
للمسرح، يدهشني دائما حقيقة أن مجتمع جولة المسرح متقلقل. إنني
أفكر في الأوقات التعسة حين ينفصم هذا المجتمع: كنت في جولة وعشنا
معا لشهر، ثم فجأة كل يذهب في طريقه. يحتوي المسرح علي خبرة
الانفصام هذه. تعيش لحظات حزينة عظيمة حين تنفصم الأخوة التي نمت في
الأداء التمثيلي والمسرحي. " هذا هو رقم جوالي. فلنبقي علي اتصال.
تمام؟" تألف هذا الطقس. لكن ،حقا، لن يتصل أحد. إنها النهاية
وكل يمضي في طريق مختلف. وقضية الانفصام مهمة جدا في الحب بحيث
يمكن أن نُعرّف الحب بصراع ناجح في مواجهة الانفصام. مجتمع الحب كذلك
متقلقلا وتحتاج كذلك أكثر بكثير من رقم الهاتف لتعزيزه وتطويره.
وكيف
هو حب المسرح، من الداخل؛ بمعني من وجهة نظر الممثل الذي كنته يوما
ولعلك ترغب أن تصبحه مرة أخري، تؤدي مرة أخري بعض المونولوجات من
أحمد البارع أو أحمد الفيلسوف؟
إنه
حب فريد يتطلب أن تتنازل عن جسدك فريسة للغة، فريسة للأفكار. كما
تعرف، كل فيلسوف هو ممثل، بغض النظر عن العداء الذي يشعر به تجاه
الألعاب والمحاكاة. نحن نتحدث جماهيريا منذ أيام أسلافنا اليونانيين
العظماء. في الفلسفة يوجد دائما عنصر تعرية الذات وهو البعد الشفهي
للفلسفة الذي يقبض عليه الجسد، في فعل انتقالي. هذه نقطة محل خلاف
مع جاك دريدا الذي يحارب الشفاهة باسم المكتوب، بالرغم من أنه هو نفسه
قدم آداءات رائعة. انتقد الفلاسفة كثيرا لأنهم سحرة، وآسرون للناس
بوسائل صناعية ويقودونهم إلي حقائق غير محببة بوسائل الاغراء.
فصول من كتاب بالعنوان ذاته يصدر قريبا عن دار التنوير في مصر
منقول من موقع أخبار الأدب
عندما سئلت: لماذا تصر علي كتابة القصة القصيرة وحدها؟
أجابت
آليس مونرو: "إذا كنت بدأت بكتابة القصص، فهذا لأن حياتي لم تترك لي
الوقت الكافي لكي أكتب رواية، ولم أغير أبدا نبرتي". تلتفت إذن جائزة
نوبل هذه المرة لفن يظن الكثيرون أنه في طريقه إلي الانقراض، " القصة
القصيرة"، وأيضا إلي كاتبة ليصبح عدد الكاتبات اللائي يحصلن علي
الجائزة ثلاثة عشر كاتبة من بين 109 كاتب حصلوا علي الجائزة. الكاتبة
المولودة في 10 يوليو 1931 والتي تعد أول كندية تفوز بالجائزة،
يطلق عليها النقاد لقب "تشيكوف عصرنا"، واعتبرها بيان الجائزة
"أعظم من كتب القصة القصيرة في العصر الحالي".
ولدت
مونرو لوالد مزارع، وأم تعمل في التدريس، بدأت دراسة الصحافة واللغة
الإنجليزية سنة 1951 بجامعة ويسترن أونتاريو، لكنها قطعت الدراسة بعد
زواجها، واستقرت للعيش في فيكتوريا- كولومبيا البريطانية، بدأت
كتابة القصص القصيرة حين كانت في سن المراهقة، إلا أنها نشرت أول مجموعة
قصصية لها بعنوان "رقص الظلال السعيدة" سنة 1968، والتي حظيت
باهتمام كبير، وكانت قبلها تنشر أعمالها تباعاً في المجلات
المختلفة منذ سنة 1950، وفي سنة 1971 بدأ نجاحها المدوي مع نشر
مجموعتها القصصية "حياة الفتيات والسيدات"، و لها عدد كبير من
الأعمال منها: "من تظن نفسك" 1978، و"أقمار المشتري" 1982
و"هروب" 2004، "المشهد من قلعة روك" 2006، و"سعادة غامرة"
2009، ومجموعة كتب حملت عناوين" الكراهية"، و"الصداقة"،
"التودد"، و"المحبة"، و"الزواج" التي صدرت سنة 2001 وأصبحت
مصدر إلهام للعديد من الأفلام، خاصة التي قامت بإخراجها سارة بولي،
وآخرها مجموع قصصية بعنوان " الحياة العزيزة".
مونرو
معروفة لدي النقاد بدقة سرد التفاصيل الحياتية، علاوة علي تحليل الواقع
النفسي، تدور أحداث أعمالها القصصية غالباً داخل بلدات صغيرة،
وتناقش غالباً مسألة القبول الإجتماعي بين الفئات المختلفة للمجتمع،
التي تحددت نتيجة العلاقات المتواترة والصراعات المتعلقة بالمباديء،
والمشاكل النابعة من صراع الأجيال، وصدام اختلاف طموحات الحياة،
ويتميز أسلوبها السردي بتصوير تفاصيل الحياة اليومية والطقوس المعتادة في
المجتمع مع تسليط الضوء علي لحظات بعينها مما يطرح أسئلة تثري الأحداث
ويدفع القارئ لطلب المزيد.
حصلت
أليس مونرو علي عديد من الجوائز منها جائزة الحاكم العام للرواية باللغة
الإنجليزية سنوات 68، 78، 86، وجائزة بولو سيلرز المخصصة للكتابة
من أجل الفتيات سنة 1971، كما حصلت علي جائزة المان بوكر الدولية سنة
2009، وكانت قصتها "الخادمة الشحاذة" أدرجت بالقائمة القصيرة بها
سنة 1980 . وفي أول رد فعل علي فوزها بالجائزة قالت إنها لا تصدق
هذا.
في حوار مع مونرو عن مجموعتها الأخيرة "الحياة العزيزة"
كنا فقراء..ولكن الكتب كانت حولنا دائما
حوار ديبورا تريسمان
ترجمة: أمير زكي
اجرت
مجلة نيويورك حوار مطولا مع أليس مونرو بمناسبة صدور آخر مجموعاتها
القصصية " الحياة العزيزة" ، وهي مجموعة تتضمن قصصا عن نساء تلقي
عن أكتافها قيود تربيتهن والقيام بشيء غير تقليدي ، وربما يُعاقبن
علي ذلك من قبل رجال يخونونهم ويهجرونهم في ذروة ضعفهن. هذا يحدث في
قصص: "هَجْر مارفلي"، "آموندسين"، "كوري"، "القطار"،
وقصص أخري. حتي العمة في قصة "الملاذ" تدفع ثمن ما يبدو التمرد
المحدود ضد ديكتاتورية زوجها. وهو الأمر الي اعتبره الصحفي الذي اجري
الحوار وكأنه مسار حتمي بالنسبة لمونرو: "آموندسين" تجربة الفتاة
الأولي تكون مع رجل أناني تماما ، هذا هو النمط الذي يستهويها.
جائزة تستحق السعي إليها، علي الرغم من أن العلاقة تنتهي بشيء أكثر
واقعية، هي تحفظه في عالم الخيال. كما أري الأمر.في "هَجْر مارفلي"
عدد معقول من الناس يبحثون عن الحب والجنس. يبدو لي أن المُعاقة
وزوجها حصلا علي ذلك، بينما حولهما، لا يلتحق العديد من الناس بالركب
لأسباب عديدة. أنا أعجبت بالفعل بالفتاة التي خرجت، وآمل بالأحري أن
تجتمع بطريقة ما مع الرجل الذي ماتت زوجته. في "الملاذ"، هناك
"زوجة مثالية" واضحة، تقريبا شخصية كاريكاتورية، كأنها تسير علي خطي
مجلات المرأة التي كانت موجودة عندما كنت شابة. في النهاية، تشعر
بالضجر من ذلك، والله يعلم ما الذي سيؤدي إليه هذا الضجر. قصة
"القطار" مختلفة تماما، إنها عن رجل يشعر بالثقة والرضا طالما لا
يقف الجنس في طريقه. أظن أن امرأة لعوب قد جرحته عندما كان شابا، ولا
أظن أنه استطاع أن يفعل مع ذلك شيئا سوي الهروب.
س:
في قصصك هناك عادة جرح عند كل فتاة تحاول جذب الاهتمام لنفسها ،
الفردية، بالنسبة للنساء، يتم رؤيتها كدافع مثير للعار. هل احتاج
الأمر منك جهد كبير لاختراق ذلك في حياتك، لتأخذي مكانة الكاتبة؟ هل كان
من الطبيعي بالنسبة للفتيات القادمين من أونتاريو الريفية أن يلتحقن
بالجامعة مثلما فعلت؟
مونرو:
لقد تربيت علي الاعتقاد أن أسوأ شيء يمكن أن تفعلينه هو أن "تلفتي
الانتباه لنفسك" أو "أن تعتقدي أنك ذكية". كانت أمي استثناء لهذه
القاعدة وعوقبت بالعلامات المبكرة لمرض باركنسون. (القاعدة كانت تنطبق
علي الريفيين مثلنا، لا سكان المدن). حاولت أن أمضي في حياة لائقة
وخاصة وحصلت علي القبول في معظم الأوقات. لا توجد فتيات أعرفهن كن
يذهبن إلي الجامعة، والقليل من الأولاد كانوا يفعلون ذلك. حصلت علي
منحة لعامين، ولكن في هذا الوقت كنت قد حصلت علي فتي أراد أن يتزوجني
ويأخذني إلي الساحل الغربي؛ بالتالي كان باستطاعتي أن أكتب طوال الوقت.
(هذا ما كنت أرغب فيه منذ كنت في بيتنا. كنا فقراء ولكن كانت الكتب دوما
حولنا).
س:
لقد كتبت الكثير عن نساء شابات يشعرن أنهن محبوسين بداخل الزواج
والأمومة، ويبحثن عن شيء آخر في الحياة. أنت أيضا تزوجت في وقت مبكر،
وكان لديك ابنتان وأنت في منتصف العشرينيات. ما مدي صعوبة موازنة
التزاماتك كزوجة وأم وطموحاتك ككاتبة؟
مونرو:
ليست الأعمال المنزلية أو الأطفال هي التي كانت تشدني للأسفل. كنت أقوم
بالأعمال المنزلية طوال حياتي. إنها نوع من القاعدة الاعتباطية تتعلق
بأن كون النساء تحاولن فعل شيء غريب كالكتابة سيجعلهن غالبا مهملات.
لقد وجدت صديقات بالفعل، نساء أخريات يمزحن ويقرأن خلسة وكنا نقضي
أوقاتا طيبة. المشكلة هي في الكتابة نفسها، التي عادة ما لا تكون
جيدة. أعمل في ظروف تعاقد لم أكن أتوقعها، كان للحظ دور في ذلك، كان
ذلك في وقت طُرح فيه سؤال "أين أدبنا الكندي؟" لاحظ بعض الناس نقص
العروض التي توجه لي، وساعدوني من ساعتها.
س:
"الحياة العزيزة" تتضمن أربع قصص تصفينها علي أنها "ليست قصصا
تماما... هي بمثابة سير ذاتية من جهة المشاعر، لا يوجد تفكير،
غالبا، أو في الحقيقة فالأمر كذلك كلية" (إحدي القصص "الحياة
العزيزة" تدور في نيويورك كمذكرات وليس قصة). هذه القصص تبدو أشبه
بالأحلام؛ مجزأة، تسترجع اللحظات غير المذكورة جيدا وغير المفهومة جيدا
من طفولتك. هل هي منقولة من مذكرات كنت تكتبينها في هذا الوقت؟
مونرو: أنا لم أحتفظ أبدا بمذكرات. أنا فقط أذكر الكثير لكوني منغمسة ذاتيا أكثر من معظم الأشخاص.
س:
تلعب أمك دورا في القصص الأربع. قلت في حوار عام 1994 في باريس
ريفيو أنك أمك كانت المادة الرئيسية في حياتك. هل هذا حقيقي؟
مونرو:
أمي كما أفترض هي الرمز الرئيسي في حياتي لأن حياتها كانت حزينة جدا
وظالمة لها، وقد كانت شجاعة، ولكن أيضا لأنها كانت مصرة علي جعلي فتاة
كنيسة تقليدية، هذا الذي قاومت لرفضه منذ كنت في السابعة تقريبا.
س:
فوجئت أن أراك تصفين هذا القسم من الكتاب بأنه "الأول والأخير" الذي
سيدور حول حياتك. يبدو أن العديد من قصصك استعانت بعناصر من طفولتك وحياة
أبويك، مجموعتك المنشورة عام 2006: "منظر كاسل روك" كانت مبنية
علي تاريخ عائلتك، أليس كذلك؟
مونرو:
لقد استعنت بأجزاء من كل تاريخ حياتي، ولكن الأشياء الأخيرة في الكتاب
الجديد كانت كلها حقائق بسيطة. كان من المفترض أن أقول إن "منظر كاسل
روك" هي قصة عائلتي بقدر ما استطعت الحكي.
س:
لقد اكتشفتِ وأنت تبحثين من أجل الكتاب، أنه كان هناك كاتب في كل جيل
من أجيال عائلتك. هل كان لديك إحساس بهذا عندما كنت في طريقك لتصبحي
كاتبة، أم كنتِ ترين طموحاتك علي أنها شيء فريد من نوعه؟
مونرو:
فوجئت بوجود العديد من الكتاب في العائلة. الأسكتلنديون مهما كانوا
فقراء فهم يتعلمون القراءة. الأغنياء والفقراء والرجال والنساء. ولكن
بشكل غريب لم يكن لديّ علم بذلك وأنا صغيرة. كان هناك سعي منهم
لأتعلم فنون الخياطة (من قبل عماتي وجداتي وليس أمي). وفي مرة صدمتهم
وقلت إنني سألقي بكل هذه الأشياء عندما أكبر، ولقد فعلت ذلك.
س: عندما كنت تكتبين في هذه الأيام المبكرة، هل كان هناك كتاب آخرون اعتبرتيهم بشكل واع نموذج لك، كتاب كنت متعلقة بهم؟
مونرو:
الكاتبة التي أعجبت بها كانت إيدور ويلتي. وما زلت أحبها، لم أحاول
أبدا أن أقلدها. هي جيدة جدا، وتكتب نفسها جدا. كتابها الأروع هو
"التفاح الذهبي" علي ما أظن.
س: كيف استقررت علي شكل القصة القصيرة ، أم الشكل هو الذي استقر بادخلك؟
مونرو:
لسنوات وسنوات كنت أفكر أن القصص مجرد تدريب، حتي أصل للوقت الذي سأكتب
فيه رواية. ثم اكتشفت أن القصة هي كل ما أستطيع فعله، وواجهت الأمر.
أظن أن محاولتي لأن أضع الكثير من الأشياء في القصص هي بمثابة عزاء لي.
س:
عادة عندما أحرر قصة لك، أحاول حذف فقرة تبدو زائدة عن الحاجة جدا في
الصفحة الثالثة، ثم عندما أصل للصفحة 24 أكتشف فجأة أنها كانت أساسية
للقصة. نقرأ القصص وكأنك تكتبينها بنفس طويل، ولكني أخمن أنك تقضين
وقتا طويلا في التفكير في وضع هذه الفقرة هنا أو هناك.
مونرو: أنا أتجول كثيرا جدا مع القصص، أضع الأشياء هنا وهنا. أصبح واعية عندما أفكر فجأة أن كل هذا يمضي بشكل خاطيء.
س: هل تجدين الكتابة صعبة، وأن هذه القاعدة، وهل تصبح أسهل مع الوقت؟
مونرو: أجد الكتاب صعبة وغير صعبة. البداية تكون لطيفة في المسودة الأولي، ثم التألم عند المراجعة، وإعادة الكتابة وهكذا.
س: قلت مرتين في العقد الماضي أنك ستعتزلين الكتابة. ثم أجد قصصا جديدة لك علي مكتبي. ما الذي يحدث لك عندما تحاولين التوقف؟
مونرو:
أتوقف بالفعل، من أجل الرغبة الغريبة في أن أكون "أكثر طبيعية" وأن
آخذ الأمور ببساطة. ثم تأيني فكرة مثيرة. هذه المرة أظن أن الكلام عن
الاعتزال حقيقي، أنا في الحادية والثمانين، أنسي الأسماء والكلمات كما
هو متوقع.
س:
علي الرغم من أن القصص في "الحياة العزيزة" فيها انفتاح ونزوع
متسامح، فتراكم الندم والاغتراب في حيوات شخصياتك يضفي نهاية مريرة
بشكل ما. قليلة هي قصص حيوات النساء الخالية من الفقد أو الحزن. أنا
واثقة من أن هذا سؤال مزعج، ولكن هل تعتبرين نفسك كاتبة نسوية؟
مونرو:
لم أعتقد أبدا أنني كاتبة نسوية، ولكن بالطبع لن أعرف، أنا لا أظن أن
كل الأمور تجتمع معا بهذه الطريقة. أعتقد أنه من الصعب جدا أن تكون
رجلا؛ أفكر كيف يمضي الأمر إن كان عليّ أن أحمل هم عائلة خاصة في
السنوات الفاشلة الأولي.
س: هل هناك قصة في "الحياة العزيزة" تميلين عاطفيا إليها بشكل خاص؟ واحدة تؤثر فيك بشكل أكبر من القصص الأخري؟
مونرو:
بشكل جزئي أميل الي "آموندسين" ، إنها تؤثر فيّ كثيرا. ومشهدي
المفضل موجود في قصة "الكبرياء"، عندما بدأ طفل الظربان بالسير علي
العشب. في الحقيقة، أنا أحب القصتين جدا، علي الرغم من كوني أعلم أنه
ليس من المفترض أن أقول ذلك.
النيويوركر 20 نوفمبر 2012
نهر منستيونغ
ترجمة: أحمد الشيمي
I
أزهار سوسن ودموية،
ونعناع بري،
نجمع ملء الذراعين،
ونرجع جذلين.
تقدمات،
ذلك هو اسم الكتاب. كُتِب بحروف ذهبية علي غلاف أزرق غامق.
أسفل الحروف نُقش الاسم الثلاثي لمؤلفته: ألميدا جويانت روث. كانت
الجريدة المحلية " الفيديت" تنعتها بـ شاعرتنا. يبدو أن ثمة
مزيجًا من الاحترام والازدراء لمهنتها وجنسها كليهما، أو لما يوحي به
الاسم والمهنة من أزمة متوقعة. علي غلاف الكتاب صورة فوتوغرافية،
واسم المصور في زاوية، وفي زاوية أخري التاريخ: (1865). نُشر
الكتاب فيما بعد عام (1873).
كانت
الشاعرة ذات وجه أسيل، وأنف يميل إلي الطول، وعينين بارزتين حزينتين
سوداوين، يخيل للناظر إليهما أنهما علي وشك السقوط علي خديها مثل دموع
عملاقة. اجتمع بعض من شعرها الأسمر حول وجهها في ضفائر مرسلة، أو
ستائر مسدلة، مع وجود خيط من شعر أشيب ظاهر للعيان رغم أنها بدت في
تلك الصورة لم تتجاوز الخامسة والعشرين. ليست حسناء ولكنها من ذلك
النوع من النساء الذي يعمر طويلا ولا يزداد مع الأيام سمنة. ترتدي
فستانًا مزينًا بثنيات ضفيرية من شريط عريض مطرز بحاشية من قماش أبيض،
أهداب أو عقد، يؤنس القبٌة عند الرقبة. علي رأسها قبعة مصنوعة، علي
ما يبدو، من القطيفة ذات اللون الغامق ليضاهي لون الفستان. القبعة
عاطلة من الزينة، لا تبعث علي الإعجاب، أشبه بالبيريه ناعم الملمس مما
يجعل الناظر يحس بمقاصد فنية، أو علي الأقل غرابة حيية تشي بطبع
حرون لـهذه السيدة الشابة ذات الرقبة الطويلة ورأسها المائل للأمام مما
يدل علي أنها كانت طويلة القامة ضامرة الجسم تعوزها البراعة. تبدو بدءا
من خصرها أشبه بشاب من طبقة النبلاء عاش في قرن سابق، أو لعلـها كانت
الموضة.
جاء
في التصدير لكتابها: " في عام 1854 جاء أبي بنا ـ أمي وأختي كاثرين
وأخي وليام وأنا ـ إلي براري كندا الغربية (كما كانت تسمي حينذاك).
كان أبي يصنع عدة الحرب للفرس والإنسان. كانت هذه مهنته التي
امتهنها، ولكنه كان رجلا مثقفا يحفظ عن ظهر قلب صفحات من الكتاب
المقدس، وصفحات من مسرحيات شكسبير، وكتب إدموند بيرك. استطاع أن
يحقق نجاحا اقتصاديا بعد وقت قصير من هجرته إلي تلك البلاد الجديدة.
أنشأ متجرا كبيراً لبيع السروج والمصنوعات الجلدية. وبعد عام شيد هذا
المنزل المريح الذي فيه أقيم الآن ... وحدي. كنت في الرابعة عشرة،
أكبر إخوتي، عندما جئنا إلي هذه البلاد من كنغستون، تلك المدينة
الجميلة التي لم أعد أري شوارعها الأنيقة، بيد أنها لا تبرح الذاكرة.
كانت أختي في الحادية عشرة وأخي في التاسعة. وفي الصيف الثالث من
إقامتنا الجديدة مرض أخي وأختي فجأة بحمي كانت منتشرة، وقضيا نحبهما لا
يفصلـهما إلا أيام قلائل. أما أمي الغالية فلم تستعِد نشاطها وحيويتها
بعد تلك الضربة القاصمة لأسرتنا. تدهورت صحتها ووافتها المنية هي الأخري
بعد ثلاث سنوات. أصبحت من ثم بمثابة ربة بيت بالنسبة لأبي، وكنت
سعيدة أن أساعده في بيته اثنتي عشرة سنة حتي وافاه الأجل فجأة ذات صباح في
متجره.
منذ
نعومة أظافري وأنا متيمة بقرض الشعر. رحت أشغل نفسي، أو قل أسّكِن
آلامي التي فاقت، علي ما أظن، آلام البشر جميعا، بمحاولات متعثرة في
نظمه. لم أوت براعة يدوية أستغلـها في أشغال الإبرة، وتلك المنتجات
الرائعة من أعمال الزخرفة التي يراها المرء هذه الأيام، ذلك الفيض
الوافر من سلال الفاكهة والخضراوات التي تزدان برسومات لصبية هولنديين
صغار، أو عذاري متقلنسات يقبضن علي كؤوس ملأي بالماء، دليل آخر علي
أنها فوق طاقتي. ولذا فإني أقدم، عوضا عن ذلك، ثمار ساعات فراغي،
هذه الأبيات، أو قل هذه الزهرات المتواضعات، أو هذه الأغنيات
البسيطة، أو الدوبيتات، أو قل هذه التأملات. "
وفي
ضمن العناوين التي أعطتها لـهذه القصائد: "أطفال في لـهوهم" و
"سوق الغجر" و "زيارة لأسرتي" و "ملائكة من ثلج" و "قس عند
مصب نهر منستيونغ" و "جولة في الغابة القديمة" و "لحن
الحديقة". وقصائد أخري عن الطيور والزهور البرية، والعواصف الثلجية،
وبعض الأشعار الـهزلية عما يجول في خاطر المرء وهو يستمع للمواعظ
الكنسية.
"أطفال
في لـهوهم": الكاتبة طفلة تلـهو مع أخيها وأختها. من هذه الألعاب
لعبة يتجاذب فيها الأطفال ويتوارون في الأركان، ويحاول بعضهم الإمساك
بالآخر. كانت تلعب في ظلمة الشفق المتعاظمة حتي جاء يوم وأدركت أنها
أكبر سنا من لداتها. لم تزل تسمع الأصوات الطيفية لأخيها وأختها وهما
يناديان عليها: تعالي، هلمي، دع ميدا تأت. (ربما كانت
ألميدا تسمي ميدا بين أفراد الأسرة، ولعلـها اختصرت اسمها ليوافق مقتضي
القصيدة).
"سوق
الغجر": كان الغجر يقيمون معسكرهم علي أبواب المدينة. سوق
يبيعون فيه القماش وأشياء أخري بسيطة. وكانت الكاتبة وهي طفلة تخشي أن
يسرقها هؤلاء الغجر من أسرتها. ولكن الأمور جرت علي النقيض، فقد
سرقت أسرتها منها، سرقها غجر لا تعرف مكانهم ولا كيف السبيل إلي
مساومتهم.
"زيارة لأسرتي": وهي زيارة للمقابر، والقصيدة حديث إلي النفس.
"ملائكة
من ثلج": كانت الكاتبة تٌعلِم أخاها وأختها كيف يرسمون ملائكة
بالرقود علي الثلج وتحريك الأذرع لتطبع أشكالا علي الثلج أشبه بالأجنحة.
كان أخوها ينهض دائما دون أن يكترث تاركا ملاكاً بجناح واحد. هل
سيٌمنح جناحه الناقص في السماء؟ أم سيطير ببدائلـه؟
"
قسيس عند مصب نهر منستيونغ": هذه القصيدة تنوه باعتقاد شعبي بعيد عن
الصحة بأن المستكشف أبحر صوب الشاطئ الشرقي لبحيرة هورون، واستقر عند مصب
النهر الكبير.
"جولة
في الغابة القديمة" : عبارة عن قائمة بكل أنواع الأشجار التي تم
قطعها من الغابة الأصلية، أسمائها وصفاتها الشكلية واستخداماتها، مع
وصف عام للدببة والذئاب والصقور والغزلان وطير الماء.
"لحن
الحديقة": يبدو أنها دليل أو تكملة لقصيدة الغابة ، وتحتوي علي
بيان بالنباتات التي جلبت من الأقطار الأوربية مع شذرات من التاريخ
والخرافات التي اتصلت بها ، وما استنبت منها من نباتات كندية في
النهاية.
القصائد
مكتوبة في رباعيات أو دوبيتات. وثمة محاولتان في السونيتة. القافية
بسيطة في الغالب أ ب أ ب أو أ ب ج . تستخدم القافية المذكرة أي التي
تنتهي بمقطع منبور، وقليلا ما تستخدم القافية المؤنثة أي التي تنتهي
بمقطع غير منبور. تري هل تستخدم هذه المصطلحات اليوم؟ لا وجود
للشعر غير المقفي.
II
أزهار بيضـاء بـاردة كالـثلج
تزدهر حيث يرقد "الملائكة".
هل يكتفين بالرقود تحت الثلج
أم يهمن في ملكوت اللـه؟
في
عام 1879 كانت ألميدا روث لم تزل تعيش في المنزل الذي يقع علي
الناصية عند ملتقي شارعي دوفرين وبيرل ، المنزل الذي شيده الأب
لأسرته. لم يزل قائما هناك حتي اليوم ، يعيش فيه الآن مدير
متجر لبيع الخمور. والبيت مكسو من الخارج بألواح من الألومنتال
، واستبْدل بالشرفة مدخل مسقوف. أما مخزن الخشب والسور والأبواب
والمرحاض والزريبة فلم يعد لهم وجود. تظهر هذه الأشياء في مكانها في
صورة ترجع إلي ثمانينيات القرن التاسع عشر. يظهر البلي علي البيت والسور
حيث يبدو البيت كانه في حاجة إلي طلاء. أو لعل ذلك لشكل الصورة
الباهت ذي اللون الضارب إلي السمرة. بدت النوافذ ذات الستائر المصنوعة
من شرائط ، أشبه بالعيون البيضاء. لا تري العين أثرا لأشجار
الظل. والواقع أن أشجار الدردار الطويلة التي كانت تغمر المدينة
بالظلال حتي خمسينيات القرن التاسع عشر، كأشجار الجميز التي تلقي
الآن بظلالـها القصيرة ، أضحت أشجارا صغيرة ضامرة ضرب حولـها سور
لم يدفع عنها الأبقار المعتدية. وخارج ذلك الحاجز من الأشجار توجد
أفنية خلفية وحبال غسيل وأكوام خشب ومساحات صغيرة من النخيل وحظائر
ومراحيض ، كلـها مكشوفة عرضة للعوامل الجوية. قليلة هي البيوت التي
تهتم بتنمية الزرع حولـها. لا تجد إلا مساحات صغيرة من نبات موز الجنة
وكثبان النمل والقاذورات المكومة ، وبعضا من نبات البطونيا الذي
ينمو في تجاويف جذوع الأشجار المقطوعة. الشارع الرئيس فقط هو المفروش
بالحصباء ، أما سائر الشوارع فليست إلا طرقات قذرة موحلة يعلوها
التراب حسب الفصول . الأسوار ضربت حول الأفنية لتذود عنها الحيوانات
المعتدية. أما الأبقار فقد شد وثاقها بمعاقل في أماكن خالية من العشب
، أو تركت لترعي في الأفنية الخلفية ، بينما تركت الخنازير وكذلك
الكلاب حرة مطلقة السراح تنام بكبرياء علي الجسور الخشبية. لقد استقرت
المدينة ولن تزول ، بيد أنها لم تزل تأخذ طابع المخيم . ومثل
المخيم أصبحت مشغولة طوال الوقت ، تفيض بالناس الذين تراهم يمشون
علي أقدامهم أينما وجدتهم ، مليئة بالحيوانات التي تترك مخلفاتها في كل
مكان؛ روث الخيل والأبقار وغائط الكلاب مما يدفع السيدات لرفع
أرديتهن تجنبا للأذي . أصبحت المدينة تعج بالضوضاء التي تصدر من عمال
البناء وسائقي العربات الذين يصيحون بجيادهم ، والقطارات التي تأتي
مرات عدة في اليوم .
قرأت
وصفا لتلك الحياة في جريدة " الفيديت" المحلية. كان الناس أصغر سنا
من اليوم ، وربما مما سيكونون في المستقبل. الذين تعدوا الخمسين لا
يهاجرون إلي البلاد الجديدة. كانت القبور تضم عددا قليلا من الناس
سيما من الشباب الذين لقوا حتفهم في حوادث، أو من الأطفال الذين قضوا
نحبهم بسبب الأمراض المعدية. يشكل الشباب أغلب سكان المدينة، وأما
الأطفال والصبية فإنهم يجولون الأرجاء في جماعات أشبه بالعصابات.
الذهاب إلي المدرسة كان إجباريا أربعة أشهر في العام. توجد الكثير من
الأعمال المؤقتة التي يستطيع الجميع القيام بها حتي الأطفال الذين تعدوا
الثامنة أو التاسعة؛ جمع الكتان وربط الخيول وتوصيل البقالة إلي
المنازل وتنظيف المعديٌات القائمة أمام المحال التجارية. وكثيرا ما
يشغلون الوقت بحثا عن المغامرة. ذات يوم تبعوا سيدة ثملة تدعي كوين
آجي. وضعوها علي عربة يد وطافوا بها حول المدينة ثم ألقوا بها في حفرة
لإعادتها إلي وعيها. كانوا أيضا يقضون جزءا غير قليل من وقتهم حول
محطة السكة الحديد، يقفزون فوق العربات الواقفة، ويندفعون بينها،
ويراهنون علي المخاطرة مما كان ينتهي بهم أحيانا إلي العجز أو الموت.
كانوا يراقبون الغرباء القادمين إلي المدينة. يتبعونهم ويعرضون عليهم
حمل حقائبهم وإرشادهم إلي الفندق لقاء خمس سنتات للحقيبة الواحدة. أما
الذين لا يبدو عليهم يسر العيش فكانوا عرضة للمهانة والمضايقة،
يحتشد حولهم الصبية مثل أسراب الذباب، ويمطرونهم بالأسئلة أينما
ذهبوا. هل جاءوا للبدء في مشاريع جديدة؟ أم لإغراء الناس بالاستثمار
في مشاريع بعينها ؟ أم لبيع الأدوية أو تلك الصناعات الجديدة؟ أم
للوعظ في أركان المدينة ؟ كان ذلك يحدث طوال أيام الأسبوع .
وتنصح الفيديت الناس أن يأخذوا حذرهم هذه الأيام من الانتهازيين والسراق
والمومسات والمحتالين والباعة الجائلين والمحامين المشبوهين واللصوص الذين
تقابلـهم في الطرقات ولاسيما عند السكة الحديد. كانت صفحاتها تتضمن
إعلانات عن سرقات تمت ، وأموال أعطيت بقصد الاستثمار ولم ترجع
لأصحابها، وبنطلونات سرقت من فوق حبال الغسيل ، وأكوام خشب نقصت
، وبيض دجاج اختفي من حظائر دواجن. تكثر هذه الأفعال في الطقس
الحار.
الطقس
الحار مجلبة للحوادث أيضا. يزداد عدد الخيول الجامحة التي تقلب العربات
وتهيج دون رادع. أيد تدهمها آلات الغسيل ، ورجل يقطعه نصفين أحد
ألواح الخشب سقط عليه في مخزن الخشب. النوم العميق صعب المنال ،
الرضع يذبلون بسبب أمراض الصيف. وأصحاب الأجسام اللحيمة لا يقدرون
علي التقاط أنفاسهم. الموتي يدفنون علي عجل. وذات يوم هام أحد
الناس في الشوارع وهو يضرب علي جرس بقرة ويصيح : التوبة !
التوبة ! لم يكن من الغرباء هذه المرة، كان شابا يعمل عند
قصاب. أخذوه إلي منزلـه ولفوه في قماش بارد مبتل وأعطوه بعض المهدئات
، ومنعوه من الخروج ، وصلوا من أجلـه ، وعندما لم يبرأ وضعوه
في البيمارستان.
يقع
منزل ألميدا روث علي ناصية شارع دوفرين ، وهو شارع معروف محترم.
في هذا الشارع تقع بيوت التجار وبيت صاحب الطاحونة وبيت صاحب مصنع
الملح. وأما شارع بيرل الذي تشرف عليه نوافذ بيتها وأبوابه الخلفية
فحكاية أخري. هناك تجاورها بيوت العمال، صف طويل من البيوت الصغيرة
ولكن المحترمة. إلي الآن والأمور مقبولة. ولكن الأمور تسوء عند نهاية
ذلك الصف من البيوت المتلاصقة، وتزداد سوءا في الصف الثاني. لا
يسكن هناك غير الفقراء وسيئي السمعة. كانوا يعيشون هناك علي حافة
مستنقع يسمي مستنقع شارع بيرل، تم ردمه في ذلك الوقت. هناك
تنمو الأشجار الكثيفة والنباتات الضارة. هناك أقيمت الأكواخ المؤقتة.
هناك أيضا تجد أكوام القمامة والأنقاض وأعدادا غفيرة من أطفال أشبه
بالأقزام. هناك يدلق الناس الماء القذر أمام البيوت. أجبرت البلدية
الناس علي بناء المراحيض، ولكنهم ما لبثوا أن ذهبوا لقضاء حاجتهم في
الأدغال القريبة. فئات من الصبية يذهبون إلي هناك بحثا عن مغامرة
ويعودون بأكثر مما كانوا يرجون. ويقال إنه حتي مدير شرطة المدينة لم
يكن يجرؤ علي النزول إلي شارع بيرل في ليلة الأحد. لم يحدث أن مشت
ألميدا أمام تلك البيوت. في أحد هذه البيوت تعيش الفتاة الشابة آني التي
تساعد ألميدا في تنظيف المنزل. هذه الفتاة الصغيرة نفسها لم يحدث أن
ذهبت إلي المستنقع. فالسيدة المهذبة لا يجب أن تذهب إلي هناك.
ولكن
هذا المستنقع ، وهو يقع إلي الشرق من منزل ألميدا روث ، يعد
منظرا جميلا وقت الفجر. تنام ألميدا في الجهة الخلفية من البيت. لم
تبرح حجرة نومها القديمة التي كانت تشارك فيها أختها كاثرين. لا تفكر في
الانتقال إلي حجرة النوم الأمامية الأوسع ، حيث كانت أمها تنام طيلة
اليوم ، وأصبحت فيما بعد مختلي أبيها حتي وفاته. من خلال أحد
نوافذها كانت تري الشمس مشرقة تغمر ضباب المستنقع الخفيف بالضياء الكثيف،
وتتأمل الشجيرات القريبة تطفو أمام الضباب والأشجار الخلفية وهي ترتد
شفافة بيضاء. أشجار البلوط في المستنقع وأشجار الجميز والطمراق والجوز
المر.
III
هنا حيث يلقي النهر البحر الداخل،
تنشر تنورتها الزرقاء من الخشب المهيب،
أفكر في الطير والحيوان والذين ووروا التراب،
أطلالـهم علي الرمال الشاحبة لم تزل قائمة.
أحد
الغرباء الذين وصلوا إلي محطة السكة الحديد منذ بضع سنوات كان جارفيز
بولتر الذي يشغل المنزل المجاور لمنزل ألميدا روث ذ يفصلـه عنه قطعة
أرض فضاء تطل علي شارع دوفرين، اشتراها جارفيز فيما بعد. كان البيت
أقل زخرفة من منزل روث، لا تحيط به أشجار الفاكهة أو الزهور. وذلك
، كما كان الظن؛ لأن بولتر كان عزبا ماتت عنه زوجته ويعيش بمفرده. في
وسعه أن يحفظ بيته نظيفا ولكنه لا يهتم بزخرفته خاصة إذا كان هو نفسه
حسن الـهيئة متأنقا في ملبسه. ولكن الزواج من شأنه أن يحملـه علي
العناية بزخرفة البيت وبالجانب العاطفي من حياته كذلك، ويحميه أيضا من
شطط الغريزة ومن البخل والكسل والفساد والنوم الزائد وإدمان الشراب
والتدخين وحتي من التجديف في الدين.
في
الشأن الاقتصادي، يظن أن وجيها جليلا من مدينتنا يواظب علي أخذ المياه
من حنفية المدينة العامة، ويكمل مؤو نته من الوقود بجمع الفحم السائب من
فوق خط السكة الحديد. تري هل ينوي دفع حق البلدية وهيئة السكة الحديد
بكميات مجانية من الملح ؟
كتبت
ذلك "الفيديت،" جريا علي عادتها في الدعابة الحذرة والتعريض
المستتر، أو حتي الاتهام الصريح، وعلي نحو لا تستطيعه جرائد اليوم دون
الإفلات من عقوبة. إنهم يتعرضون لجارفيز بولتر بطبيعة الحال، بيد
أنهم يتناولونه في مواضع أخري باحترام شديد بوصفه محاميا مدنيا، وصاحب
عمل، وعضوا في مجلس الكنيسة. رجل كتوم غريب الأطوار إلي حد ما.
لعل ذلك بسبب حالة العزوبة التي يعيشها، فقد ماتت عنه زوجته ويعيش
وحيدا الآن؛ حتي جلبه الماء من حنفية البلدة العامة و ملء جوالـه بالفحم
السائب علي قضبان السكة الحديد كان بسبب وحدته. ولكنه مواطن مهذب ثري
متقدم البطن قليلا يرتدي بذلة غامقة وحذاءا نظيفا، تزين وجهه لحية
غزيرة، ويشيع برأسه شعر أسود يشوبه خط أشيب نحيل وثؤلول شاحب ظاهر
في الشعر الكث وسط أحد حاجبيه. متجهم الوجه واثق النفس. يتحدث الناس
عن زوجة شابة حسناء ماتت في أثناء ولادة طفلـها، أو بسبب حادثة مأساوية
كاندلاع حريق في المنزل، أو حادثة قطار. ولا يوجد دليل علي ذلك
كلـه، إلا أنه كان سببا في إثارة محببة. كل ما قالـه إن زوجته
متوفاة.
جاء
إلي هذا المكان بحثا عن البترول. لقد تم حفر أول بئر بترول في العالم
في مقاطعة لامبتون، جنوب هذه المدينة في خمسينيات القرن التاسع عشر.
وأثناء الحفر اكتشف جارفيز بولتر الملح وراح يعمل بجد ليستفيد أقصي
درجات الاستفادة. في إيابه من الكنيسة مع ألميدا روث كان يحكي لـها عن
آبار الملح التي يمتلكها. يقول إنها علي مسافة اثني عشر قدما تحت
الأرض. "نقوم بضخ الماء الساخن إلي الملح كي يذوب، ثم نرفع المحلول
الملحي إلي السطح ونصبه في أوعية ضخمة علي أجهزة تبخير مثبتة علي نيران
هادئة حتي يتبخر الماء ويترسب الملح الصافي النقي. إنها سلعة لا
يستغني عنها أحد."
"ملح الأرض" تقول ألميدا .
"نعم"
يقول جارفيز وهو يقطب جبينه. قد يظن أنها تحط من قدره. ولكنها
لا تقصد ذلك البتة. يحكي لـها أيضا عن المنافسين في مدن أخري من الذين
حذوا حذوه ، ويسعون لاحتكار السوق. ولحسن الحظ فإن آبارهم لم تحفر
بالعمق المطلوب، وحتي أجهزة التبخير لديهم لا تعمل بالطريقة الفاعلة.
الأرض تحتضن الكثير من الملح في باطنها، ولكن ليس من السهل استخراجه
كما يظن بعض الناس.
تقول ألميدا: ألا يعني أنه كان ثمة بحرٌ هائل في باطن الأرض؟
ويقول
جارفيز: "جائز جدا، جائز جدا." وراح يحكي لـها عن مشاريعه
الأخري: مصنع طوب وفرن لحرق الحجر. ويشرح لـها كيف أن هذه المشاريع
تدر أرباحا طائلة، وأين يوجد الطين الجيد. جارفيز يمتلك مزرعتين
بهما مساحات من الأشجار الخشبية التي توفر الوقود لـهذه المشاريع .
من
بين الذين يتمشون قادمين من الكنيسة صباح أيام الآحاد المشمسة، رصدنا
ثنائيا: وجيه (ملحي) و سيدة (أديبة) ، ربما تجاوزا سن الشباب
الأول ودلفا الآن إلي مرحلة الكهولة. فهل لنا أن نحدس؟
مثل هذه القفشات تظهر في جريدة "الفيديت" المحلية في كل الأوقات.
هل يحدسون؟ وهل ينطوي مسلك جارفيز علي تودد للسيدة؟
ألميدا
روث تمتلك مبلغا قليلا من المال ورثته عن أبيها، ولديها بيتها. ليست
بالطاعنة في السن، وفي وسعها أن تنجب طفلا أو طفلين. وهي ربة بيت
جيدة، ولـها غرام بعمل الحلوي الجليدية ، والتورتة المزخرفة.
وهو غرام نشهده غالبا عند الآنسات ذوات الخبرة. جمالـها لا تشوبه
شائبة، وهيئتها حسنة لا تتوافر للكثيرات ممن في سنها من المتزوجات.
فلم يرهق كاهلـها تربية أولاد أو عناية بزوج. ولكن لماذا تجاهلت
يفاعتها الأولي وضربت صفحا عن الزواج في بلد يستغرب فيه الناس امرأة دون
شريك وأولاد. كانت فتاة تميل للتشاؤم. ربما كانت هذه هي المشكلة:
موت أخيها وأختها ثم أمها التي فقدت عقلـها قبل عام من وفاتها ، وكانت
تنام علي سريرها وتهذي بما لا تعرف. كل ذلك كان ثقيل الوطأة علي
نفسها، وتركها شخصا صعب العشرة. وهل كان غرامها بالقراءة وقرض الشهر
إلا دليلا علي حاجتها وهي شابة، وليس عندما اكتهلت، إلي شيء تملأ به
فراغها وتؤنس به وحدتها؟ لقد مضت خمس سنوات علي نشر كتابها. وربما
شجعها أبوها المتفاخر المولع بالكتب.
يعتقد
الناس أن ألميدا روث تفكر في جارفيز بولتر بعلا لـها، وأنها ستوافق
إذا طلب يدها. هي تفكر فيه بالفعل. ولكنها لا تريد أن تشتط في
الآمال وتخدع نفسها. كانت تنتظر إشارة منه. فلو كان يذهب إلي
الكنيسة في ليالي الآحاد لكانت فرصة لمرافقته هذه المسافة إلي البيت في جنح
الظلام . يحمل هو الفانوس ( لم تكن الشوارع مضاءة في ذلك الوقت)
ليضئ الطريق عند أقدام الآنسة ويلقي نظرة علي قدميها الـهزيلتين
الرقيقتين. وقد يمسك يدها ليعينها علي عبور المعدية الخشبية.
ولكنه لم يكن يذهب إلي الكنيسة ليلا. و لم يكن يعرج عليها أو
يصحبها إلي الكنيسة صباح الآحاد. فمن شان ذلك أن يكون إعلانا. قد
يسير معها وهي في طريقها إلي البيت وعندما تصل إلي باب بيتها يرفع
قبعته وينكفئ راجعا. لا تدعوه للدخول، فسيدة تعيش وحدها لا يمكنها
أن تفعل ذلك. فما يخلو رجل بامرأة، من أي سن، داخل جدران أربعة
حتي يحدث المحظور: الاهتياج الفوري والـهجوم العاطفي والشهوة
الحيوانية والزنا وانتصار الحواس. تري ما هي الشواهد التي يراها
الرجال والنساء كل في الآخر حتي يخشوا هذه المخاطر؟
عندما
تمشي بجواره كانت تشم رائحة صابون الحلاقة والزيت الذي استخدمه
الحلاق، ودخان غليونه ورائحة الصوف والكتان والجلد في ملابسه
الرجالية. الملابس المضبوطة المرتبة. كانت ملابسه ثقيلة أشبه بملابس
أبيها التي كانت تنظفها بالفرشاة والنشادر. تاقت لمهنة الأمومة تقدير
الأب وسلطته الغامضة الحنون. إن ثياب جارفيز بولتر ورائحته وحركته تجعل
الجانب المجاور لـه من جسدها يستشعر وخز الأمل، ويسبب لـها رعشة تسري
في جسدها وتستثير الشعيرات الخفيفة علي ذراعيها. هل هو الحب؟ إنها
تحلم به داخلا حجرة نومها (أو حجرة نومهما) في ملابسه الداخلية الطويلة
وقبعته. إنها تعلم أن هذه الملابس مثيرة للسخرية. ولكنها في الخيال
لا تبدو كذلك ، ويكون لديه جرأة رجل في الحلم. يدخل حجرتها ويرقد
علي الفراش بجوارها ويهم بأخذها بين ذراعيه. يخلع قبعته بثقة ، و
تأخذها في تلك اللحظة نوبة من الإذعان لـه والتوق الغامر، و يصبح
زوجها.
شئ
واحد لاحظته علي النسوة المتزوجات: كيف أن الكثيرات منهن يعمدن لرسم
صورة ما لأزواجهن. يبدأن بأن ينسبن إليهم الأشياء المفضلة لديهم ثم
الآراء والأساليب السلطوية. تقول الواحدة منهن مثلا: نعم ، زوجي
أنيق جدا ويدقق في كل شئ. لا يلمس اللفت ولا يحب اللحم المقلي (أو
يحب اللحم المقلي). يحبني أن أرتدي الأحمر (أو اللبني) طوال
الوقت. لا يطيق صوت الأرغن ، ولا يحب أن يري امرأة عارية
الرأس. يقتلني لو رآني آخذ نفسا من سيجارة. بهذه الطريقة يتحول
الرجال ضعاف الشخصية إلي أزواج، أصحاب بيوت . ألميدا روث لا تتخيل
نفسها تفعل ذلك. تريد رجلا لا يحتاج إلي من يصنعه من جديد، واثق
من نفسه وصاحب رأي ومكتنف بالأسرار. إنها لا تبحث عن مجرد رفيق.
الرجال في رأيها ذ فيما عدا أباها ذ مفتقرون للحياة، غافلون. وتري أن
هذه صفات لابد منها في الرجال حتي يفعلوا ما يجب أن يفعلوا. فهل
كانت ذ لو عرفت أن الأرض تختزن الملح في باطنها ذ تسعي لاستخراجه وبيعه؟
أبدا. كانت ستفكر في البحر القديم. وهو نوع من التأمل لا يجد
جارفيز بولتر وقتا لـه بأي حال .
بدلا
من المرور عليها في بيتها واصطحابها إلي الكنيسة فقد يأتي جارفيز بولتر
بمغامرة أوقع. يستأجر حصانا ويأخذها خلفه في نزهة ريفية. عندئذ ستكون
سعيدة وحزينة في الوقت نفسه. سعيدة لأنها بجواره، يأخذ بزمامها،
وتلقي هذا الاهتمام منه أمام الناس جميعا. وحزينة لأن الريف انتقل
إليها. وصفه لـها بحديثه واهتمامه. الريف الذي صورته في قصائدها لا
تريده أن يصدر من رؤيته ووصفه. بعض الأشياء تصرف عنها النظر:
أكوام السماد ومساحات المستنقعات المليئة بجذوع الأشجار المحروقة،
والأكوام الضخمة من الأغصان المقطوعة في انتظار اليوم المناسب لإحراقها.
النهيرات المتعرجة التي تم تقويمها وتحولت إلي قنوات صغيرة للري بضفاف
موحلة كئيبة. وأخري ضربت حولـها السياج ذات القضبان المتشابكة.
الأشجار أعيد غرسها في المساحات المخصصة لزراعة الخشب ، وأشجار
الغابة كلـها قصيرة جديدة. ولا يوجد علي جوانب الطرق أو الحارات أو
حول المزارع شيء خلا القليل من الغرس الحديث كثير الأغصان غض الأوراق.
توجد أعداد كبيرة من مخازن الخشب ذ مخازن الخشب الكبري التي ستغمر الريف
خلال مائة السنة التالية كانت في بداية الإنشاء. ومخازن الخشب ذات
المنظر المزعج. وكل أربعة أو خمسة أميال توجد قرية صغيرة بها كنيسة
ومدرسة ومتجر ومحل حدادة. ريف صرف منبت الصلة عن الغابة ولكنه عامر
بالناس. كل مائة فدان مزرعة وكل مزرعة بها أسرة وكل أسرة بها عشرة أو
اثنا عشر طفلا. ذلك هو الريف الذي سيرسل بموجة بعد موجة من المستوطنين
إلي المدينة، وبدأ يرسلـهم فعلا إلي أونتيريو الشمالية والغرب.
والحق أنك تستطيع أن تجمع الزهور البرية في الربيع من مساحات الأشجار
الخشبية، ولكن عليك أن تسير بين قطعان من الأبقار ذوات قرون طويلة لكي
تصل إليها.
IV
لقد رحل الغجر.
أرض مخيمهم أصبحت خاوية.
فهل لي أن أساوم بجرأة الآن
في سوق الغجر؟
تعاني
ألميدا روث كثيرا من السهاد. وصف لـها الطبيب دواء البروميد وعلاجا
للأعصاب. ولكن قطرات البروميد توقظ أحلامها المزدحمة بالصور المزعجة.
لذا ادخرت الزجاجة للطوارئ. قالت للطبيب إنها تحس بمقلتيها صلبتين
كزجاج ساخن ، وتحس بألم في مفاصلـها. قال لـها: قللي من
القراءة والدرس، علاجك هو الانغماس في أعمال المنزل وممارسة بعض
التمرينات الرياضية. إنه يعتقد أن مشاكلـها ستزول إذا تزوجت.
يعتقد ذلك رغم أن جل وصفاته لعلاج الأعصاب تذهب للمتزوجات. ولذا فإن
ألميدا تعتني ببيتها ، وتساعد في نظافة الكنيسة، وتمد يد العون
لصديقاتها اللاتي يغطين جدران منازلـهن بأوراق الحائط أو يستعددن
للزواج ، وتعد إحدي كعكاتها المشهورة لأطفال المدرسة في نزهة الأحد.
وفي يوم سبت حار من أيام أغسطس تقرر عمل حلوي العنب؛ عدة قوارير
صغيرة من حلوي العنب تنفع هدايا قيمة في عيد الميلاد، أو حتي إعانات
للمرضي. ولكنها بدأت في وقت متأخر من النها، والحلوي لا تنضج إذا حل
الظلام. وضعت العصير الساخن في كيس قماش الجبن لتصفيته. وتناولت
ألميدا كأسا من الشاي مع شريحة من الكعك بالزبد الذي كانت تحبه منذ
الطفولة ، وهو كل طعامها للعشاء. ثم تأخذ حماما سريعا استعدادا ليوم
الأحد. تلف ملاءة حول خصرها وتترك النافذة مفتوحة وترقد علي السرير دون
أن تشعل المصباح. وتحس بتعب شديد. وتحس بنسيم خفيف يداعب
الحجرة. وتحس بشجار خفيف.
ولم
تلبث أن تستيقظ. وعندما تستيقظ تحس بالليل متقدا بالحر منذرا بالخطر.
وترقد من جديد وجسدها ينز عرقا. تحس أن الصخب الذي تسمعه يعمل في
جسدها عمل السكاكين والمناشير والفؤوس ، كل تلك الأدوات تقطع وتحز
وتثقب في رأسها. ولكن الأمر لم يكن كذلك. عندما تكتمل يقظتها
تبدأ في التعرف علي مصدر تلك الأصوات التي سمعتها أو التي كانت تسمعها،
أصوات الشجار في ليالي الأحد الصيفية في شارع بيرل. عادة ما يصدر
الصخب من قتال حقيقي بين السكاري. تسمع احتجاجا وصياحا. تسمع من
يهتف: جريمة قتل! جريمة قتل! حدثت جريمة قتل ذات يوم.
ولكنها لم تكن نتيجة شجار. عثر علي جثة عجوز في بيته أردي طعناً.
ربما كان السبب بضع دولارات كان يخفيها تحت المرتبة.
وتنهض
من فراشها وتذهب إلي المطبخ. كانت سماء الليل صافية غاب عنها القمر
وسطعت النجوم. بيغاسوس يطل برأسه علي المستنقع. علمها أبوها كيف
تحصي النجوم في تلك المجموعة. وبشكل تلقائي راحت تحصيها. تستطيع
أذناها الآن أن تميز بعض الأصوات: إضافات جديدة للمشاجرة. بعض
الناس، مثلـها، استيقظ من نومه. تسمع من يصرخ: "اخرس! كفوا
عن هذا الشجار وإلا نزلت وأشبعتكم ضربا علي مؤخراتكم يا أولاد الـ ....
".
ولكن
أحدا لم يتوقف. وكأن كرة من النار تتدحرج في شارع بيرل تقذف الشرر في
طريقها ، النار هي الجلبة والصراخ والضحك والسباب ، والشرر هو
الأصوات التي تنطلق نشازا وحيدة. صوتان يتميزان عن باقي الأصوات
حتي الآن ويصدران صياحا أشبه بالنباح، وينخفض شيئا فشيئا ويتحول إلي
ارتعاش متواصل. ثم تيار من السباب يحمل كل الألفاظ التي تربط ألميدا
بينها وبين الخطر والحرمان والرائحة الكريهة والمناظر المقززة. شخص ما
ينهالون عليه ضربا ويصيح: "اقتلوني! اقتلوني الآن!" إنهم
يضربون امرأة وهي تصرخ: "اقتلني! اقتلني!" ويظهر جانب من فمها
مترعا بالدم رغم ما في صوتها من نبرة استخفاف وانتصار. شيء من التصنع في
صوتها. الناس حولـهم ينادون: "كفي! كفي!" ومنهم من يصيح:
"اقتلـها! اقتلـها!" يصيحون في جنون وكأنهم علي خشبة مسرح، أو
يشاهدون مباراة مصارعة أو ملاكمة محترفين. أجل، تقول ألميدا في
سرها، رأيت ذلك من قبل. لعلـها تمثيلية، أو لون كئيب من محاكاة
ساخرة مبالغ فيها. وكأن ما يفعلـه هؤلاء القوم ، حتي جرائم
القتل ، لا يؤمنون به، ولا يطيقون وقفه في الوقت نفسه.
الآن
تسمع صوت شئ يلقي علي الأرض ، مقعد أو لوح خشبي أو صوت كومة من
الخشب أو جزء من سور ينهار وكم آخر من الأصوات مباغتة جديدة. صوت
جريء، أناس يفرون من الطريق، أصبح الـهرج قاب قوسين أو أدني. هذه
هي المرأة. كانت تمسك بشيء مثل عصا خشبية أو لوح من الخشب. وتديرها
وتدفعها نحو شخص آخر لامرئي يجري خلفها. وتهتف الأصوات: "آه،
أسرع، الحق بها! الحق بها واضربها يا رجل!" أناس يقعون علي
الأرض الآن. شخص يمسك بتلابيب الآخر، ثم يتباعدان ويسقطان علي
سور ألميدا. يصبح الصوت الذي يأتي منها غامضا مشوشا كأنه يصدر من
فم مكعوم، ثم صوت تقيؤ ونخير وضرب شديد. يتبع ذلك صوت طويل مرتجف
مذبذب، صوت ألم مخنوق ونفس مذلولة أو روح مغادرة.
تركت
ألميدا النافذة وجلست علي سريرها. تقدح زناد فكرها. أليست هذه
الأصوات التي سمعتها جريمة قتل؟ ماذا يجري؟ ماذا يجب أن تفعل؟
يجب أن تشعل مصباحا. يجب أن تترك الدرج وتشعل مصباحا. لابد أن تخرج
إلي الفناء. الفانوس. تلقي بجسدها علي الفراش. تضع وسادة علي
وجهها. في لحظات. الدرج. المصباح. تري نفسها هناك. في
الصالة الخلفية. تحكم رتاج الباب الخلفي. تصبح فريسة لنوم لا
يقاوم.
وتستيقظ
مروعة مع أول أضواء الصباح. تري غرابا كبيرا يجثم علي عتبة
نافذتها يتحدث في نبرة مستنكرة وبطريقة غير مستغربة، عن أحداث الليلة
المنصرمة. يقول لـها مؤنبا: "استيقظي وحركي عربة اليد." وتفهم
أنه يقصد شيئا آخر بعربة اليد. شيئا بغيضا مجلبة لكرب عظيم.
وتستيقظ بالفعل وتعلم أنه لا وجود للطائر. وتنهض علي الفور، وتنظر
من النافذة . وتلاحظ شيئا يستند إلي سور بيتها. شخصا ضخما.
جثة.
عربــــة يــد
وتضع
مئزرها فوق قميص النوم وتنزل الدرج. الحجرات الأمامية لم تزل مظلمة.
الستارة مسدلة في المطبخ. شئ ما يتحرك محدثا صوتا كصوت شئ يغوص في
الماء علي مهل، يذكرها بحديث الغراب. إنه عصير العنب يصفٌي أثناء
الليل. تسحب المزلاج ، وتخرج من الباب الخلفي. العناكب نسجت
شباكها علي المداخل في جنح الظلام. الزهور تخفض رؤوسها مثقلة بالندي
، وبجوار السور تغرق في زهور الخطمي المتشابكة وتنظر تحت رجليها وتري.
جثة
امرأة مكومة هناك، نائمة علي جنبها ووجهها منكفئ علي الأرض. لا
تستطيع ألميدا أن تري وجهها. ولكن هناك ثديين عاريين متدليين، وحلمة
سمراء مشدودة مثل حلمة بقرة، وساقا عارية وردفاً به أثر كدمة في حجم
قرص دوار الشمس. أما الجلد الذي خلا من آثار الكدمات فلونه ضارب إلي
الرمادي، أشبه بلون نقارة الطبل. ترتدي ثياب نوم، أو ثيابا لكل
الأغراض و تفوح منها رائحة قيء وبول وشراب.
وتعدو
ألميدا في قميص نومها ومئزرها الرقيق. تجتاز الفيراندا وأشجار التفاح،
وتفتح الباب الأمامي وتسرع خلال شارع دوفرين إلي منزل جارفيز بولتر،
أقرب المنازل إليها. تضرب الباب بكف يدها عدة مرات.
وعندما يظهر جارفيز في النهاية تقول لـه:
جثة سيدة.
كان في بنطالـه الداكن المشدود بحمالتين، وقميصه المزرر نصفه ووجهه غير الحليق وشعره المنكوش.
سيد بولتر، سامحني . هناك جثة سيدة أمام بوابتي الخلفية.
ويحدجها بنظرة عنيفة وهو يقول :
ميتة؟
أنفاسه رطبة. وجهه متجعد. عيناه محتقنتان بالدم. وتجيب ألميدا:
نعم. أظن أنها ماتت مقتولة.
تلمح جزءا من الصالة الأمامية الكئيبة. قبعته معلقة علي مقعد. ثم تضيف وهي تجتهد لتجعل صوتها خفيضا مفهوما:
استيقظت في الليل علي أصوات لغط وجلبة في شارع بيرل. سمعت اثنين. رجلا وسيدة يتشاجران.
ويلتقط
قبعته ويضعها علي رأسه. ويغلق الباب الأمامي، ويضع المفتاح في
جيبه، ويسيران علي الممشي الخشبي وتلاحظ أنها حافية القدمين.
وينتابها إحساس بأن هناك من سيلقي عليها ببعض المسؤولية. كان يمكن أن
تخرج بفانوس. كان يمكن أن تصرخ، ولكن من كان في حاجة إلي مزيد من
الصراخ؟ كان يمكن أن تضرب الرجل علي رأسه. كان يمكن أن تسرع في
طلب النجدة، ساعتها وليس الآن. ويتجهان إلي شارع بيرل بدلا من دخول
فناء روث. كانت الجثة بطبيعة الحال منكفئة علي وجهها شبه عارية كما
رأتها في البداية.
جارفيز
بولتر لا يسرع ولا يتردد. يتجه إلي الجثة مباشرة. ويمعن فيها
النظر، ويمس الساق بمقدم حذائه مثلما تمس كلبا أو خنزيرا. يكزها مرة
أخري وهو ينادي في جرأة ودون أن يرفع صوته: أنت.
وألميدا تحس بطعم الصفراء في أسفل حلقها.
"حية!" يقول جارفيز بولتر. وتؤكد المرأة استنتاجه. إنها تتحرك حركة خفيفة. ويصدر منها شخير واهن.
تقول ألميدا: سأحضر الطبيب. ولو أنها لمست المرأة، لو أنها وجدت الجرأة علي لمسها، لما قالت ذلك.
قال جارفيز بولتر: انتظري، لنري إذا ما كان يمكن أن تنهض .
وهتف بالمرأة: قومي الآن، هلمي! انهضي الآن!
ويحدث
شيء مذهل. الجثة تقوم علي أربع. ترفع الرأس أولا. الشعر كلـه
ملطخ بالدم والقيء، وتبدأ المرأة في ضرب رأسها بعنف علي أوتاد سور
ألميدا، ويخرج صوتها أثناء ذلك، ويصدر منها صراخ ملء الفم مثل
العواء. صراخ قوي يشي بشيء من بهجة مكروبة.
ويقول جارفيز بولتر: أبعد ما تكون عن الموت. لا تحتاج حتي لطبيب.
وتقول ألميدا حين رفعت المرأة رأسها الملطخ:
يوجد دم!
ويقول :
الدم من فمها وليس جديدا.
ويقترب منها ويمسك شعرها البشع الغريب، ويجذبها بقوة ليمنعها من ضرب نفسها في الجدار وهو يقول :
- كفي عن هذا الآن، كفي. اذهبي لبيتك. اذهبي لبيتك الآن! من أين أنت؟
ويتوقف الصوت القادم من فم المرأة. ويهز رأسها برفق محذراً إياها قبل أن يترك شعرها.
اذهبي إلي بيتك الآن!
وبعد
أن يتركها تندفع المرأة للأمام بشدة. وتنهض علي قدميها، وتشير
وتترنح وتتعثر في مشيها في الشارع ، وتصدر منها أصوات احتجاج متقطعة
حذرة. ويتبعها جارفيز بولتر بنظراته برهة ليتأكد من أنها في طريقها
إلي بيتها. ثم يجد ورقة أرقطيون يمسح بها يده ويقول :
ها هي جثتك تسير علي قدمين!
كان الباب الخلفي مغلقا. اتجه إلي الباب الأمامي الذي يظل مفتوحا.
ما زالت ألميدا تحس بالتعب. بطنها منتفخ وحرارتها مرتفعة وتحس بدوخة.
تقو ل بصوت ضعيف :
الباب الأمامي مغلق. لقد خرجت من المطبخ.
لو تركها الآن لشأنها لذهبت إلي الحمام مباشرة. ولكنه يتبعها حتي
الباب الخلفي والصالة. يتحدث إليها بلـهجة قاسية لم تعرفها منه من
قبل. يقول:
لم يكن هناك داع لكل هذا القلق. هذه المرأة كانت ثملة. سيدة بنت ناس لا ينبغي أن تعيش بمفردها وسط جيران كهؤلاء.
ويمسك بذراعها فوق المرفق بقليل. ولا تستطيع أن تفتح فمها لتكلمه، لتشكره. فلو فتحت فمها لتقيأت.
ما
يحس به جارفيز بولتر نحو ألميدا في تلك اللحظة هو ما لم يحس به في
السابق خلال التمشيات الحذرة وخلال جميع حساباته في عزلته. قيمتها التي
لا خلاف عليها، و جدارتها بالاحترام لا شك فيها، وجمالـها مقبول.
لم يتخيلـها زوجة من قبل كما يتخيلـها الآن. أثاره شعرها المرسل
الذي شاب قبل الأوان، ولكنه كثيف ناعم علي أية حال. وجهها مخضب بحمرة
خجل غامضة. ثيابها الخفيفة التي لم يكن ينبغي أن يراها بها أحد
غير زوجها. طيشها و تسرعها وطيبتها ... وحاجتها ؟ يقول لـها:
سأزورك فيما بعد. سأذهب معك إلي الكنيسة.
عند
ملتقي شارع بيرل بدوفرين صباح الأحد الفائت عثرت سيدة من سكان الحي علي
جثة امرأة من قاطني شارع بيرل ظنت أنها ميتة. ولم تكن، كما تبين فيما
بعد، إلا ثملة. ولم تستيقظ من نعيمها ذ أو قل سباتها ذ إلا بجهد
السيد بولتر الحثيث وهو من قاطني الشارع ، ومحام مدني معروف كانت
السيدة قد استدعته. ذلك النوع من الحوادث غير اللائق والمزعج والشائن
لمدينتنا أصبح في الآونة الأخيرة كثير الوقوع .
V
أجلس في أعماق النوم،
وكأني في قعر البحر.
وأناس من سكان القاع
تحييني بكرم زائد.
وما
ذهب جارفيز بولتر وسمعت باب بيتها الأمامي يوصد حتي هرعت ألميدا إلي
الحمام. ولكنها لم ترتح تماما. وتدرك أن تراكم دم الحيض الذي لم
يبدأ في التدفق هو السبب في انتفاخ بطنها والألم الذي تحس به. وتغلق
الباب الخلفي بالقفل. ثم، وهي تتذكر كلمات جارفيز بولتر عن الذهاب إلي
الكنيسة، تترك لـه ورقة كتبت عليها: لست علي ما يرام ، وأرغب
في الراحة اليوم. وتثبت الورقة في الإطار الخارجي للنافذة الصغيرة للباب
الأمامي. وتغلق الباب بالقفل أيضا. إنها ترتعش وكأنها تعاني من صدمة
عصبية أو خطر داهم. ولكنها تشعل النار لتصنع لنفسها كوبا من الشاي .
تغلي الماء وتضع أوراق الشاي في الإبريق الكبير. بخار الشاي ورائحته
يزيدان مرضها. وتصب كوبا من الشاي الباهت لتشربه دون أن ترفع ستارة
المطبخ. هناك علي الأرض كان كيس الجبن ما زال معلقا بين ظهري
المقعدين. وعصير العنب قد صبغ القماش المنتفخ بلون الورد الداكن.
ألقت به في الحوض. لا تستطيع أن تجلس وتنتظر شيئا كهذا. وتشرب
كأسها. وتضع البراد وزجاجة الدواء في حجرة السفرة.
ولم
تزل هناك حتي سمعت وقع حوافر الخيل الذاهبة إلي الكنيسة مثيرة سحابات من
التراب تسخن تراب الطريق فيصبح مثل تراب البراكين. وهي في الفيراندا
يتناهي إلي مسمعيها صوت الباب يفتح ووقع خطوات واثقة لرجل. كأنها
تسمع الورقة وهو ينزعها من النافذة ، ويفردها ويقرؤها. وكأنها
تسمع رنين الكلمات في عقلـه. ثم تأخذ الخطوات طريقا آخر. ينزل الدرج
ويغلق الباب. تقفز إلي ذهنها صورة الضريح. تجعلـها تضحك. أضرحة
تسير في الشارع بأقدام تنتعل الأحذية، وأجساد طويلة تميل للأمام. علي
سحنهم القاسية علامات استغراق. أجراس الكنيسة تقرع.
الساعة
في الصالة تدق معلنة الثانية عشرة. مضت ساعة. المنزل يتقد
بالحر. تشرب كوبا آخر من الشاي تضيف إليه قطرات من الدواء. تعرف أن
الدواء يؤثر علي قوتها. إنه المسؤول عن كسلـها الغريب، ولكنه
ضروري.
أشياؤها
التي تحيط بها، في حجرة المائدة فقط، جدران مغطاة بورق حائط أخضر
غامق مزين بأكاليل الزهور، ستائر منقوشة بخطوط ملونة، ومائدة عليها
مفرش من الكروشيه، وسلطانية تمتلئ بالفاكهة الشمعية، وسجادة رمادية
ضاربة إلي اللون القرمزي عليها نقوش باقات من زهور زرقاء وقرنفلية
غامقة، وخوان مبسوط عليه أغطية مزخرفة وأطباق وأباريق، وأكواب شاي
عليها زخارف شتي. أشياء كثيرة تراها. كل هذه الزخارف تبدو زاخرة
بالحياة، علي أهبة التحرك والتدفق والتغير، أو ربما الانفجار. كل
شغل ألميدا الشاغل طوال اليوم هو أن تتأمل هذه الزخارف. لا لكي تمنع
تغيرها بقدر ما كانت ترصده وتفهمه وتكون جزءا منه. لا تحرك شيئا مما في
هذه الحجرة .
وبالطبع
لا طاقة لألميدا علي الـهرب من الكلمات. ربما تظن أنها تستطيع أحيانا،
ولكن هذا لا يحدث. ذلك التوقد لا يلبث أن يدفع بالكلمات في
ذهنها للخروج. قصائد. أجل، مرة أخري قصائد تتضاءل أمامها جميع
القصائد التي كتبتها في السابق. تصبح مجرد محاولة وخطأ، أسمالا
بالية. النجوم والطيور والأشجار والملائكة علي الثلج والأطفال الذين
ماتوا في الغسق. كل هذا لا داعي لوصفه مرة أخري . عليك الآن بالصخب
الفاحش في شارع بيرل، ومقدم الحذاء اللامع الذي يرتديه جارفيز بولتر،
وردف المرأة الأملس بالكدمات عليه أشبه بزهور زرقاء غامقة. ألميدا
الآن علي مبعدة من العواطف الإنسانية أو المخاوف أو اعتبارات الأسرة
الحميمة. لا تفكر فيما يمكن عملـه لتلك المرأة، أو في حفظ عشاء
جارفيز بولتر ساخنا، أو نشر ملابسه علي حبل الغسيل. فاض عصير العنب
وجري علي أرض المطبخ يلطخ الألواح الخشبية ببقع لن تزول.
عليها
أن تفكر في عدة أمور في وقت واحد. الشرائط المعدنية التي تفصل بين
النقوش، الـهنود العرايا، والملح في أعماق الأرض، والمال الذي
يجلبه الملح، والسعي لجمع المال الذي تتقنه رؤوس مثل رأس جارفيز
بولتر، والعواصف القاسية في الشتاء، والأفعال الخرقاء في شارع بيرل.
وعندما تفكر في تقلبات الطقس العنيفة فلا سلام حتي بين النجوم. يمكن
احتمال كل هذه الأشياء إذا نظمناها في قصيدة. ونظمناها هي الكلمة
المناسبة. لأن القصيدة سيكون عنوانها، أو هو عنوانها في الواقع : "
منستيونغ " . اسم القصيدة هو اسم النهر. كلا، إنها النهر نفسه : "
المنستيونغ ". ذلك هو اسم القصيدة، بكل حفره العميقة وأحواضه
الـهادئة تحت أشجار الصيف البهيجة وكتل الثلج المطروحة عقب الشتاء، تحدث
صريرا أثناء الحركة، وفيضاناته الربيعية الكئيبة. ألميدا تمعن النظر
في قاع نهر عقلـها. وعلي مفرش المائدة زهور الكروشيه الطافية، تبدو
ناتئة بلـهاء، تبعث علي الضحك. الورود التي نسجتها أمها يوما لا
تبدو مثل الورود الحقيقية. ولكن الجمال كامن في الجهد المبذول،
واستقلالـها الزائف، والرضا بنفوسها البسيطة. علامة مفعمة بالأمل.
منــســـتيـونـــغ .
وتلزم
ألميدا الحجرة حتي الغسق عندما تذهب إلي الحمام وتكتشف أنها تنزف. الدم
بدأ يتدفق . تناولت فوطة وشدتها حول بطنها كنطاق . لم يحدث من
قبل، أيام صحتها، أن قضت الليل في ثياب النوم. لا تحس بقلق خاص بسبب
ذلك. في طريقها إلي المطبخ عبر عصير العنب المسكوب. تعرف أنه سيكون
عليها أن تزيل البقع. ولكن ليس بعد. ترتقي الدرج إلي الطابق الثاني
مخلفة آثار أقدام وردية. تشم رائحة دمها الـهارب وعرق جسدها الذي مكث
طوال النهار في الحجرة المغلقة المتقدة.
لا داعي للقلق .
لأنها
لم تظن أن الزهور المنسوجة يمكن أن تطفو بعيدا، وأن شواهد الأضرحة
يمكن أن تسير في الشوارع. لم تحسب أن ذلك كان الحقيقة، وأن أي شئ
آخر كان المجاز، وبذلك كانت تعرف سلامة عقلـها.
VI
أحلم بكم كلما أقبل الليل،
وأزوركم حين يأتي النهار.
أبي، أمي،
أخي، أختي،
لم لا تجيبون ندائي ؟
22
أبريل 1903. في مسكنها يوم الثلاثاء الفائت بين الثالثة
والرابعة بعد الظهر رحلت عن دنيانا سيدة ذات موهبة وخلق حسن. أثري
قلمها في الأيام الخوالي أدبنا الإقليمي بسفر من الشعر البليغ العذب.
وإنها لبلية كبيرة أن يصبح عقل هذه السيدة المهذبة موضع ريبة في السنوات
الأخيرة، وسلوكها، نتيجة لذلك مندفعا خارجا عن المألوف حتي نال من
مسلكها وعنايتها بتهذيب شخصها فأصبحت في نظر الغافلين الذين لا يعرفون
قيمتها وأناقتها السابقة، غريبة الأطوار أو موضع سخرية علي نحو محزن.
ولكن هذه الـهنات قد نسيت الآن ولا يذكر لـها غير شعرها الممتاز
وخدماتها الماضية في مدرسة الأحد، واهتماماتها الخيرية وعقيدتها الدينية
الراسخة. كان مرضها الأخير قصير المدي من رحمة اللـه. أصيبت بالبرد
بعد أن غمرها الماء أثناء جولة في شارع بيرل. ( قيل إن بعض الصبية
الأشرار طاردوها في المياه، وهذه نتيجة وقاحة وقسوة بعض شبابنا الصغار،
واضطهادهم المتعمد لتلك السيدة لدرجة أن السامع لا يمكن أن يكذب
الحكاية برمتها ) وتطور البرد إلي التهاب في الرئة توفيت علي أثره تحت
سمع وبصر إحدي جاراتها المسز بيرت ( آني ) فرايلز التي شهدت نهايتها
الـهادئة المحزنة.
يناير
1904. أحد مؤسسي مجتمعنا، أحد صناع مدينتنا وباعثي نهضتها، رحل
فجأة عن دنيانا صباح الاثنين الفائت بينما كان منكبا علي قراءة بريده في
مكتبه بالشركة. السيد جارفيز بولتر الذي كان يتمتع بموهبة تجارية قوية
ونشاط ملحوظ مما مكنه من إنشاء عدة مشاريع تجارية محلية جلبت فوائد
الصناعة والإنتاجية والتوظيف لمدينتنا.
بحثت
عن ألميدا روث في المقابر. وجدت الضريح الخاص بالأسرة. لم يكن
هناك غير اسم واحد مكتوب عليه روث. ثم تنبهت لوجود شاهدين علي الأرض،
علي مسافة بضعة أقدام أو ستة أقدام من الشاهد القائم كتب علي أحدهما
كلمة "بابا" وعلي الآخر كلمة "ماما". وعلي مبعدة من هذين
الشاهدين وجدت شاهدين آخرين علي الأرض أيضا . عليهما أسماء وليام
وكاثرين، وكان عليٌ أن أزيح ما تراكم عليهما من حشائش نامية وقذارة
لأري الاسم الكامل لكاثرين. لا وجود لتواريخ ميلاد أو وفاة. لا وجود
لعبارات ثناء أو رثاء. لون فريد من إحياء الذكري لا يأبه بهذا
العالم. لا وجود لورود ولا وجود حتي لعلامات علي شجيرات ورود ربما
اقتلعت، اقتلعها الحارس لأنه لا يحب هذه الأشياء، أو مصدر ضيق قاطع
العشب، لم يجد من يعترضه فاقتلعها.
اعتقدت
أن ألميدا دفنت في مكان آخر. عندما تم شراء هذه البقعة، عند موت
الطفلين، كان يعتقد أنها سوف تعيش وتتزوج وترقد في النهاية بجوار
زوجها. لم يعملوا حسابها في مكان بينهم. ثم لاحظت أن الشواهد التي
كانت ملقاة علي الأرض إنما سقطت من الشاهد القائم. شاهدان للأبوين
وشاهدان للصبيين، ولكن الشاهدين الآخرين وضعا بطريقة تسمح لثالث بينهما
لتكملة المروحة. خطوت من شاهد كاثرين عدد الخطوات نفسه حتي أصل من
كاثرين إلي وليام . وعند تلك البقعة رحت أجذب العشب وأزيل القذارة
بيدي العاريتين. وما مضت برهة حتي أحسست بالشاهد وأدركت أني كنت علي
حق. اجتهدت في الوصول إلي الشاهد كلـه نظيفا وقرأت الاسم: "ميدا".
كان مع الآخرين يتطلع للسماء. تأكدت من وصولي إلي نهاية الحجر.
كان ذلك كل ما كتبته من الاسم ؛ ميدا. إذن كان اسمها ميدا في
الأسرة، وليس في القصيدة فقط. أو لعلـها اختارت اسمها من القصيدة
ليكتب علي ضريحها.
كنت
أظن أن أحدا لا يعلم ذلك غيري من بين الأحياء جميعا، وأن أحدا لن
يستطيع الوصول لـهذا التسلسل في الأحداث. ولكن الأمر ليس كذلك.
فالناس مجبولون علي حب المعرفة. أو قل فئة منهم. سيجدون الدوافع
دائما لاكتشاف الأشياء. حتي الأشياء التافهة. سوف يضعون الشيء جنب
الشيء. ويعرفون أنهم ربما أخطئوا في البداية. ألا تراهم يتجولون
يحملون كراسات ويزيلون الأتربة من فوق الأضرحة، و يقرءون الأفلام،
لا هم لـهم غير وضوح الرؤية، والعثور علي الأسباب، وإنقاذ شيء،
ولو شيء واحد فحسب، من أنقاض الذكري.
منقول من موقع أخبار الأدب