الأحد، 10 نوفمبر 2013

‬اليَقِينُ‮ ‬طريقُ ‮ ‬طـــه حســـين ‮ ‬إلي‮ ‬الشَّك‮.. صـلاح بوسـريف



‮ ‬طـــه حســـين

1
"ليس من الضروري أن تكون مُسْلِماً‮ ‬حتي تتمتَّع بالقرآن‮ ‬الكريم وتتذوَّق قِيَمَه،‮ ‬وليس من الضروري أن تكون مسيحياً‮ ‬كي تتمَتَّع بالكتاب المُقَدَّس،‮ ‬وليس من الضروري أن تكون يهودياً،‮ ‬وإنَّما يكفي أن تكون إنسانا‮".‬
2
الكلام لطه حسين‮. ‬قِراءَتي لأعماله،‮ ‬وكتاباتِه،‮ ‬بشكل دائِمٍ،‮ ‬ومُتَواصِل،‮ ‬كما أفعل مع مَنْ‮ ‬لهم أثَرٌ‮ ‬معرفي كبير في نفسي،‮ ‬مِنَ‮ ‬العرب،‮ ‬ومن‮ ‬غير العرب،‮ ‬من المفكرين والمبدعين والفنانين الكبار،‮ ‬أتاحَتْ‮ ‬لي أن أَكْتَشِفَهُ‮ ‬باستمرار،‮ ‬وأتعرَّفَ‮ ‬عليه،‮ ‬وعلي مواقفه التي طالما كانتْ‮ ‬مُحْرِجَةً‮ ‬للكثيرين،‮ ‬وكانت عَلامةً‮ ‬فَارِقَةً‮ ‬في حياتِه هو نفسه‮. ‬فبقدر ما هاجَمَ‮ ‬اعُلماءب الأزهر،‮ ‬وانتقد طُرُق ومناهج التدريس،‮ ‬في هذه الجامعة الدينية العتيقة،‮ ‬بقدر ما انْتَقَدَ‮ ‬التَّعليم االحديثب نفسه،‮ ‬الذي لم يكن في مستوي ما رَغِبَ‮ ‬فيه،‮ ‬باعتباره،‮ ‬كاتباً،‮ ‬ومُفَكِّراً‮ ‬مشغولاً‮ ‬بالمستقبل،‮ ‬وبنهوض مصر،‮ ‬التي كانت،‮ ‬آنذاك،‮ ‬في عنفوان حراكها،‮ ‬الفكري والثقافي،‮ ‬الذي بدا واضحاً‮ ‬في صراعِ‮ ‬وتَجاذُباتِ‮ ‬أطْرافٍ‮ ‬مختلفة،‮ ‬لتكريس نفسها،‮ ‬باعتبارها البديل الفكري،‮ ‬الذي سيضمن نهضةَ‮ ‬الأمة،‮ ‬ويخرج بها من براثن التخلُّف والانحطاط‮. ‬
3
ضمن هذا الصِّراع الفكري،‮ ‬كان طه حسين يعمل علي‮ ‬مُراجَعَة أُسُسِ‮ ‬المعرفة العربية،‮ ‬التي كانت،‮ ‬بكل تَمَظْهُراتِها،‮ ‬وأشكالها التعبيرية،‮ ‬تحت هيمنة التقليديين أو المُحافِظين،‮ ‬ممن اعتبروا هذا التراث الفِكْرِيَّ‮ ‬والإبداعِيَّ،‮ ‬تُراثاً‮ ‬لا يقبل المُراجعَة،‮ ‬فهو مُحْكَم البناء،‮ ‬ومعرفتُه تقتضي السَّيْر في طريقه،‮ ‬أو اتِّباعه،‮ ‬فهو مصدرٌ‮ ‬للمعرفة،‮ ‬وطريقةٌ‮ ‬في النظر للأشياء،‮ ‬وفَهْمِها‮.‬
هذه المراجعة التي سَلَكَها طه حسين،‮ ‬فيما كان يكتبُه،‮ ‬وما كان يقوله لطلبته في الجامعة،‮ ‬هي ما جعل من خُصومِه يعتبرونه تَغْرِيبِياً،‮ ‬ينتصر للثقافة الفرنسية،‮ ‬بشكل خاص،‮ ‬وللمناهج الغربية،‮ ‬عُموماً،‮ ‬في مقابل الثقافة العربية‮ »‬الأصيلة‮« ‬كما كانوا يتصوَّرُونَها،‮ ‬ويدعون لها،‮ ‬أو يُكَرِّسُونَها،‮ ‬من خلال ما يكتبونَه،‮ ‬ويُرَوِّجُونَه من أفكار‮.‬
4
فكتاب‮ » ‬في الشِّعر الجاهلي‮«‬،‮ ‬الذي خرج فيه طه حسين عن السِّياقِ‮ ‬العامِّ،‮ ‬لِما كان معروفاً‮ ‬من أفكار،‮ ‬وما كان يأخذه الطلبة عن مُدَرِّسِيهم،‮ ‬وأساتذتِهم،‮ ‬لم يكن مُهِمّاً‮ ‬من حيث النتائج التي وصل إليها،‮ ‬بقدر ما كانت أهَمِّيَتُه في المنهج الذي قرأ به هذا الشِّعر،‮ ‬أو وَضَعَ،‮ ‬من خلاله،‮ ‬هذا الشِّعر،‮ ‬كاملاً‮ ‬موضع‮ »‬شَّكٍ‮«‬،‮ ‬بما يعنيه هذا الشَّك من مراجعة جذرية،‮ ‬فاحِصَة،‮ ‬وعميقة،‮ ‬في التراث الشِّعري العربي،‮ ‬الذي بدا لطه حسين أنَّه‮ ‬غارقٌ‮ ‬في المُسَلَّمات واليقينيات،‮ ‬ولا أحدَ‮ ‬فكَّر في مُوَاصَلَة ما كان بَدَأَه بعض القُدَماء من شَكٍّ،‮ ‬وما كان أثاره بعض دارسي هذا الشِّعر من المستشرقين‮.‬
5
لستُ‮ ‬في حاجَةٍ‮ ‬للعودة لهذا الكتاب الذي سبق أن كَتَبْتُ‮ ‬عنه،‮ ‬فأنا،‮ ‬بِنَاءً‮ ‬علي ما بدأْتُ‮ ‬به من كلام لطه حسين،‮ ‬في مقدمة هذا النص،‮ ‬أريدُ‮ ‬أن أتكلَّمَ‮ ‬عن كتاب آخر،‮ ‬له أهمية خاصَّة في هذا السياق،‮ ‬هو كتاب اعلي هامش السيرةب بأجزائه الثلاثة،‮ ‬الذي لم يُقْرَأ من قِبَل كثير ممن اعتبروه كتاباً‮ ‬في سيرة الرسول،‮ ‬وفقاً‮ ‬لِما عَرفُوه من مَرْوِياتٍ‮ ‬لهذه السيرة،‮ ‬في بعض مصادرها القديمة،‮ ‬ربما طبيعة المرحلة التي كتب فيها طه حسين هذا الكتاب‮ ‬[1933]،‮ ‬لم تكن في صالح طه حسين،‮ ‬خصوصاً‮ ‬علي المستوي الفكري العام،‮ ‬الذي كان طه حسين لا يزال يعيش فيه علي وَقْعِ‮ ‬ما أثاره عليه كتاب‮ »‬في الشِّعر الجاهلي‮« ‬من مشاكل،‮ ‬لم تقتصر علي خُصومه التقليديين،‮ ‬بل شملت خُصومَه السياسيين،‮ ‬رغم ما سيجده من دَعْمٍ‮ ‬من قِبَل بعض هؤلاء،‮ ‬الذين حاولوا امتصاص هذا اللَّغَط،‮ ‬ووضعه خارج الصراعات،‮ ‬والمُزايدات السياسية،‮ ‬التي لا علاقة لها بالشِّعر،‮ ‬ولا بما كان يتوَخَّاه طه حسين من هذا العَمَل النقدي المُهِمّ‮.  ‬
6
هذا الكتاب،‮ ‬بأجزائه الثلاثة،‮ ‬كما صَدَرَتْ‮ ‬في طبعة دار المعارف،‮ ‬قَرَأْتُه أكثر من مَرَّةً،‮ ‬ليس رغبةً‮ ‬في قراءة السيرة،‮ ‬في ذاتها،‮ ‬وهذا هو موضوع الكتاب،‮ ‬بل في معرفة ما تَمَثَّلَه طه حسين من هذه السيرة،‮ ‬أي من المصادر التي عاد إليها،‮ ‬وفي الطريقة التي سَلَكها في كتابة هذه السيرة‮. ‬والسؤال‮: ‬هل كان طه حسين‮ ‬غير مُقْتَنِعٍ‮ ‬بما كُتِبَ‮ ‬من سِيَرٍ‮ ‬سابِقةٍ،‮ ‬وعمله هذا هو كتابة فيها ما يمكن اعتباره إضافةً‮ ‬واختراقاً؟ هل خامَرَهُ‮ »‬الشَّكّ‮«‬،‮ ‬فيما جاء في بعض هذه السِّيَر،‮ ‬أو فيها كاملةً،‮ ‬رغم ما قَدَّمَه من دُفوعات في مقدمة الكتاب،‮ ‬حول ما يتعلَّق بالنبي وبالدِّين،‮ ‬بشكل خاص ؟ هل أراد بهذا العمل أن يُغازل خصومه من المُحافظين،‮ ‬ممن واظبوا علي مهاجمته،‮ ‬دون كَلَل،‮ ‬للتَّخفيف من حدَّة التَّوتُّرات التي خَلَّفَها كتاب‮ »‬الشِّعر الجاهلي«؟ أم أنَّ‮ ‬الأمر يتعلَّق بعودة طه حسين للتاريخ،‮ ‬الذي كان بين أهم ما أسَّس به معرفتَه،‮ ‬في الأدب،‮ ‬بشكل خاص،‮ ‬ولِما كتبَه في ما سَمَّاه بـ‮ »‬الإسلاميات‮«‬،‮ ‬وهو الذي كان أكَّدَ‮ ‬ما للتاريخ من أهَمِّيَة في فهم ومعرفة كثير من مشكلات النص الشِّعري،‮ ‬والسياق الفكري للثقافة العربية القديمة،‮ ‬أو للتراث إجمالاً؟

7
مَنْ‮ ‬يقرأ‮ »‬علي هامش السيرة‮«‬،‮ ‬بانتباه،‮ ‬وبتَجَرُّد،‮ ‬سيري كيف أنَّ‮ ‬طه حسين لم يكن يكتب التاريخ،‮ ‬بقواعد هذا العلم،‮ ‬وما يتطلبه من تَتبُّع للوقائع والأحداث،‮ ‬وفق ما جَرَتْ‮ ‬به،‮ ‬فهو منذ الجزء الأول،‮ ‬اخْتَارَ‮ ‬أن يحكي السيرة تَخْييلاً،‮ ‬لا أن يُسَايِر السِّيرَةَ،‮ ‬بنفس التحقيب والترتيب الذي سار عليه كُتَّاب السيرة‮. ‬

وهذا في ذاته،‮ ‬له أكثر من معنًي عند طه حسين،‮ ‬أو ما يمكن أن نتأوَّلَه في المنهج،‮ ‬أو في الطريقة التي اختار أن يُعيد بها سَرْد السيرة‮. ‬
يعرف من قرأوا ما وَصَلَنا من سِيَرٍ،‮ ‬أنَّ‮ ‬سيرة الرسول لم تُكْتَب إلاَّ‮ ‬بعد مرور قرنٍ‮ ‬علي وفاته،‮ ‬تقريباً،‮ ‬وهو ما حدث حتي بالنسبة للحديث،‮ ‬ما جعل السيرة،‮ ‬في روايتها الأولي لابن اسحاق،‮ ‬لا تُقْبَل،‮ ‬لِما دخَل فيها من خيال،‮ ‬أو ما حدث فيها من تناقُضات،‮ ‬أو ما اعتبره بعض اللاَّحِقين عليه شوائبَ‮ ‬شَابَتِ‮ ‬الكتابَ،‮ ‬رغم أنَّه سيظل هو الوثيقة التي عاد إليها من كتبوا السيرة بعد ابن هشام،‮ ‬بمن فيهم ابن هشام نفسه‮. ‬

8
هذا التخييل الذاتي،‮ ‬أو السيرة التخييلية،‮ ‬رغم ما فيها من وقائع وأحداث وتواريخ،‮ ‬هي نفسُها ما نجده عند ابن سعد وعند الطبري وعند ابن هشام‮ ‬،‮ ‬كان لحظةَ‮ ‬الوَهَن في ما يوجد في السيرة من أبعاد تخييلية أسطورية،‮ ‬وهي ما سَيَعْمَدُ‮ ‬طه حسين لاستعماله،‮ ‬بنوعٍ‮ ‬من التَّوَسُّع،‮ ‬في إعادة تَخَيُّل بعض هذه الوقائع،‮ ‬أو كما يقول ا وأُحِبُّ‮ ‬أن يَعْلَمَ‮ ‬الناس‮..‬أنِّي وَسَّعْتُ‮ ‬علي نفسي في القصص،‮ ‬ومنحتُها من الحُرِّيَةَ‮ ‬في رواية الأخبار واخْتِراع الحديث ما لم أجد له بأساً،‮ ‬إلاَّ‮ ‬حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي،‮ ‬أو بنحو من أنحاء الدين،‮ ‬وإنما التزمْتُ‮ ‬ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث،‮ ‬ورجال الرواية،‮ ‬وعلماء الدين‮. ‬حاول طه حسين من خلال،‮ ‬هذا الاستدراك،‮ ‬تبرير ما قاله قَبْل كلامه هذا،‮ ‬عن‮ »‬كَلَف الشعب بهذه الأخبار،‮ ‬وجده في طلبها،‮ ‬وحرصه علي قراءتها والاستماع إليها‮«. ‬وهو يقصد بالشَّعْب هنا،‮ ‬عامة الناس،‮ ‬ممن يأخذون الدِّين بما يُرْوَي،‮ ‬ويُقال،‮ ‬لا بالبحث،‮ ‬والتأمُّل،‮ ‬والتمحيص،‮ ‬كما يفعل هو نفسُه،‮ ‬أو كما فعل فيما كتبه في الشعر الجاهلي،‮ ‬وفي حديث الأربعاء،‮ ‬ومُقَدِّمَة كتاب‮ »‬في الشِّعر الجاهلي‮« ‬كافية،‮ ‬لتفكيك مقدمة‮ »‬علي هامش السيرة‮«‬،‮ ‬وفَضْح هذا‮ »‬الشك‮« ‬الذي فضَّل طه حسين،‮ ‬هذه المرة،‮ ‬أن يضعه في‮ ‬غلاف من‮ »‬اليقين‮«‬،‮ ‬الذي يدعو لمزيد من الشك فيما دخل علي السيرة من روايات،‮ ‬لا يمكن أن تَصْمُد أمام العقل‮. ‬ثمَّة،‮ ‬من الباحثين المعاصرين،‮ ‬من يري أنَّ‮ ‬الاستراتيجية الثقافية لطه حسين،‮ ‬هي استراتيجية نخبوية،‮ ‬ولم يكن مُنْشَغِلاً‮ ‬بتوصيل الثقافة إلي الجماهير،‮ ‬أو‮ »‬الشعب‮« ‬بتعبير طه حسين نفسه،‮ ‬فالشعب لا يمكنه أن يستوعبَ‮ »‬المنهج الفلسفي الذي اسْتَحْدَثَه ديكارت عن حقائق الأشياء‮«‬،‮ ‬خصوصاً‮ ‬حين يكون هذا المنهج،‮ ‬قائماً‮ ‬علي تَجَرُّد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل،‮ ‬وأن يستقبل،‮ ‬أو يقتحم موضوع بحثه خالِيَ‮ ‬الذهن من كل شيء‮.‬

9
من يقرأ كتاب‮ »‬الطَّبقات الكُبْرَي‮« ‬لابن سَعْد،‮ ‬سيلاحظ أن هذه السيرة،‮ ‬هي المصدر الأكثر استعمالاً،‮ ‬وتوظيفاً‮ ‬من قِبَل طه حسين،‮ ‬أو هي التي وجد فيها ما يسمح له بكتابةِ‮ ‬سيرةٍ‮ »‬حَديثَةٍ‮«‬،‮ ‬فيها مراجعة للمرويات القديمة،‮ ‬رغم استعماله لتاريخ الطبري،‮ ‬وسيرة ابن هشام،‮ ‬لكن،‮ ‬دون دَرْسٍ،‮ ‬أو تحليل،‮ ‬مُبَاشِرَيْن،‮ ‬بل بوضع الأحداث والوقائع،‮ ‬ذاتها،‮ ‬في مواجهة قارئها،‮ ‬أو وضع القاريء،‮ ‬بالأحري،‮ ‬في مواجهة هذه الوقائع،‮ ‬وفي تمييزِها،‮ ‬أي في تمييز التاريخي فيها عن الأسطوري،‮ ‬الذي هو ما يذهب إليه‮ »‬الشعب‮«‬،‮ ‬لأنه‮ »‬يَجِدُّ‮ ‬في طلبه‮«‬،‮ ‬بعكس ما قد يذهب إليه الباحث،‮ ‬الفاحِص،‮ ‬أو المُؤَرِّخ الذي يَحْتَكِم في عمله للوثائق والمعطيات،‮ ‬أو لِما يصل إليه من خلال عملية فَحْصٍ‮ ‬دقيقة ومتأنِّيَة لهذه الوثائق والمعطيات‮. ‬أو كما يقول فيليب.م‮. ‬جونز‮ »‬إنَّ‮ ‬أوَّل مهمة يؤدِّيها الناقد هي أن يُوَضِّحَ‮ ‬لنا المُبْهَمَ‮ ‬فيما نقرأ،‮ ‬وأن يُنَظِّمَ‮ ‬النص تنظيماً‮ ‬يُخْرِجُه من الفوضي التي كانت تسودُه نتيجةً‮ ‬لِبُعْد العَهْد الذي كُتِب فيه،‮ ‬وكثرة الآراء التي تضاربتْ‮ ‬في أصله وتفسيره‮«. ‬

10
لا أتصَوَّر أنَّ‮ ‬طه حسين أراد كتابةَ‮ ‬سيرة،‮ ‬بالمعني‮ ‬الأسطوري التخييلي،‮ ‬فقط،‮ ‬لِشَدِّ‮ ‬القاريء إليه،‮ ‬أو ترغيبه في قراءة سيرة الرسول،‮ ‬ما كان يريدُه طه حسين هو تأكيد البُعْد الأسطوري في بعض مفاصل السيرة،‮ ‬التي أضاف لها الرواة المختلفون،‮ ‬وغيرهم ممن استعملوا شخصية النبي فيما كتبوه،‮ ‬لإخراج النبي من السياق الدُّنْيَوي،‮ ‬ووضعه في سياق المُقَدَّس،‮ ‬أو الغيبي،‮ ‬رغم ما أكَّد عليه القرآن،‮ ‬نفسه،‮ ‬من أنَّ‮ ‬مُحَمَّداً‮ ‬بَشَرٌ‮ ‬مثل جميع البشر،‮ ‬يأكُل ويمشي في الأسواق‮. ‬
المقدس في شخص النبي،‮ ‬هو طبيعةُ‮ ‬الرسالة التي كُلِّفَ‮ ‬بحَمْلِها،‮ ‬واختياره لتبليغ‮ ‬الرسالة،‮ ‬دون‮ ‬غيره من فتيان قريش،‮ ‬أو ممن كانوا ينتمون للطبقة الأرستقراطية،‮ ‬من تُجَّار مكة المُتَنَفِّذِين‮. ‬هذا التَّكْليف،‮ ‬هو ما سيكون الخط الفاصل،‮ ‬الذي سيجعل من التاريخي،‮ ‬يحتمل الإضافة،‮ ‬والتَوَسُّع في إضفاء الغيبي علي المعلوم،‮ ‬أو المُقَدَّس علي الدنيوي‮.‬

11
حين قرأْتُ‮ ‬ما كان كتبه الشَّاعِر العراقي سعدي يوسف عن كتاب اعلي هامش السيرةب،‮ ‬يعتبره كتاباً‮ ‬عظيماً،‮ ‬وسعدي،‮ ‬كما يعرف الجميع،‮ ‬هو االشيوعي الأخيرب،‮ ‬كما كتب عن نفسه في أحد أعماله الشِّعرية،‮ ‬فَهِمْتُ‮ ‬القَصْدَ‮ ‬من كلام سعدي،‮ ‬الذي،‮ ‬هو،‮ ‬فيما أعْتَقِد،‮ ‬نفس ما أذهبُ‮ ‬إليه في فهمي لدافع طه حسين في كتابة هذا العمل،‮ ‬الذي لا بُدَّ‮ ‬أن نعود لقراءته من جديد،‮ ‬وفي ضوء ما تُتِيحُه لنا الدراسات الحديثة التي وَعَتْ‮ ‬المسافة الفاصلة في قراءة الدِّين،‮ ‬أو ما له علاقة بالدِّين،‮ ‬بين الوعي التاريخي،‮ ‬المبني علي المعطيات والوقائع،‮ ‬واختبار هذه المعطيات وفَحْصِها،‮ ‬والوعي الأسطوري،‮ ‬الذي يُضْفِي علي الواقع ما يُفارِقُه،‮ ‬ويَنْبُو عنه،‮ ‬أو يخرج به إلي التَّزَيّد،‮ ‬والتَّقْوِيل،‮ ‬والتَّبْدِيل‮.‬
‮                ‬
12
إنَّ‮ ‬كتاب‮ »‬علي هامش السيرة‮«‬،‮ ‬هو كتابةٌ‮ ‬للسيرة،‮ ‬بنفس‮ ‬المنهج الذي به كتب طه حسين افي الشِّعر الجاهليب،‮ ‬فقط،‮ ‬أنَّ‮ »‬الشَّك‮«‬،‮ ‬في الكتاب الأوَّل،‮ ‬لم يكن شَكّاً‮ ‬في شخص النبي،‮ ‬ولا في حقيقة الوحي،‮ ‬بل فيما دَخَل علي هذه السيرة من زياداتٍ،‮ ‬وإضافاتٍ،‮ ‬تخرج عن سياق الواقع،‮ ‬وهي نوع من تقديس المُقَدَّس،‮ ‬أو تشييده علي الغيب،‮ ‬بما لا يحتمله الغيب نفسُه،‮ ‬حين يوضَعُ‮ ‬أمام آلة االشَّكب،‮ ‬الذي عَمِل طه حسين،‮ ‬هذه المرَّة،‮ ‬علي إخْفائهِ،‮ ‬حتي لا تعود الأمور إلي ما عرفَتْه من قبل،‮ ‬أو ألْبَسَ‮ ‬الشَّك قَمِيص اليقين،‮ ‬رغم ما قاله عن العقل في مقدمة الكتاب،‮ ‬مِمَّا لا يمكن الاطمئنان له،‮ ‬خصوصاً‮ ‬في وضع كاتِبٍ‮ ‬ومفكر،‮ ‬مثل طه حسين،‮ ‬وهذا،‮ ‬ربما،‮ ‬ما كان أزْعَجَ‮ ‬محمد أركون الذي اعتبر ما كتبه طه حسين في هذا الكتاب،‮ ‬لا يَتَّسِق مع فكر طه حسين،‮ ‬الذي هو فكر نقدي يحتكم للعقل،‮ ‬ويتحرَّر من قيود واأغلال النص المنقولب‮.‬

13
هذا الذي ذَهَبْتُ‮ ‬إليه هنا،‮ ‬له علاقة بما بدأتُ‮ ‬به‮. ‬فاستفراد‮ »‬المسلمين‮« ‬بالقرآن،‮ ‬باعتباره كتاباً‮ ‬لا يمكن أن يتمتَّع،‮ ‬أو يستمتع،‮ ‬ويَسْتَلِذَّ‮ ‬بقراءته‮ ‬غير المسلمين،‮ ‬أمْرٌ‮ ‬غير صحيح في نظر طه حسين،‮ ‬وهو ما يَسْرِي علي المسيحيين واليهود،‮ ‬أيضاً،‮ ‬فيما يتعلَّق بالكتاب المقدَّس،‮ ‬بِعَهْدَيْه‮. ‬في المعرفة،‮ ‬والرغبة في المعرفة،‮ ‬لا يمكن أن يكون الدِّين خَطّاً‮ ‬فاصِلاً‮ ‬بين المسلم وغير المسلم،‮ ‬فالإنسان،‮ ‬مهما يكن انتماؤه العقائدي،‮ ‬قادر،‮ ‬بما له من عقل،‮ ‬وما له من خيال،‮ ‬علي أن يقرأ هذا الإرث الديني،‮ ‬أو هذه الكُتُب،‮ ‬كما يقرأ‮ ‬غيرها،‮ ‬وهي كتبٌ،‮ ‬بالتالي تتوجَّه للإنسان،‮ ‬أو لجميع الناس،‮ ‬القرآن مثلاً،‮ ‬فيه من هذه الصيغة ما يكفي لتأكيد ما يقوله طه حسين‮. ‬نحن اليوم في حاجة لوضع هذه الكُتُب في علاقة مع بعضها،‮ ‬وقراءتها مع بعضها،‮ ‬لنعرف،‮ ‬علي الأقل،‮ ‬ما يجمع بينها،‮ ‬وما قد يكون خطّاً‮ ‬فاصلاً‮ ‬فيها بين هذا الكتاب،‮ ‬وذاك،‮ ‬لا أن نمنع المسلم من قراءة التوراة والإنجيل،‮ ‬ونمنع المسيحي واليهودي من قراءة القرآن،‮ ‬أو نعتبر قراءتَه تدنيساً‮ ‬للكتاب،‮ ‬رغم ما قد يذهب إليه البعض،‮ ‬في الآية،‮ ‬بالتأكيد علي‮ »‬المُطَهَّرِين‮«‬،‮ ‬التي تحتاج لِفَحْصٍ،‮ ‬حتي في شأن من يدَّعُون الإسلام،‮ ‬فيما نراه ونسمعه اليوم،‮ ‬من أفكار،‮ ‬حَرَّفت الدِّينَ‮ ‬نفسَه،‮ ‬وخرجَت به عن الغرض الذي جاء من أجله‮.‬

14
البُعْد الإنساني في المعرفة،‮ ‬اعتبره طه حسين حَلاًّ‮ ‬يُبْعِدُنا عن هذا التَّشَاحُن،‮ ‬والتَّطَاحُن الذي هو أساس ما نعيشه من أعطاب في كل شيء‮. ‬فكتابة طه حسين لـ‮ »‬علي هامش السيرة‮« ‬لننتبه لتعبير هامش،‮ ‬في العنوان،‮ ‬وتداعياته في الكتاب بأجزائه الثلاثة،‮ ‬كان تأكيداً‮ ‬علي البُعْد الإنساني في شخصية النبي،‮ ‬وفي الدِّين نفسه،‮ ‬حين ننظر إليه خارِجَ‮ ‬ما قد يَحُفُّه من شوائب،‮ ‬أو ما يعْلَق به من طبقات تُخْفِي فيه هذا البُعْد الذي يصبح فيه الإنسان مُجَرَّد كائِنٍ‮ ‬بلاصوت،‮ ‬ولا حق له في التفكير والنظر‮.‬


منقول من موقع أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق