الأحد، 10 نوفمبر 2013

100‮ ‬عام علي مولده‮:‬ البير كامو كاتب الظل النور



.

من هو الثوري؟‮ ‬يسأل ألبير كامو‮..‬

ويجيب‮: ‬رجل‮ ‬يقول لا‮.‬

ربما تلخص هذه الإجابة البسيطة سيرة حياة الفنان والفيلسوف الفرنسي الذي‮ ‬يحتفل العالم هذه الأيام بذكري ميلاده المائة‮. ‬كامو لم‮ ‬يكن نموذجا فقط لأديب فرنسي‮ (‬ولد في الجزائر‮)‬،‮ ‬بل أيضا نموذجا للكاتب كما‮ ‬ينبغي أن‮ ‬يكون‮..‬المتمرد الدائم‮..‬الأبدي‮!‬

كانت حياته سلسلة من المفارقات،‮ ‬ثوري‮ ‬يتساءل دائما عن معني الحياة وجدواهاومعاناة الإنسان فيها وحيرته من أمرها،‮ ‬هو نفسه عاشق للحياة‮...‬يري أننا‮ " ‬لا‮  ‬ننشد عالماً‮ ‬لا‮ ‬يُقتَل فيه أحد،‮ ‬بل عالماً‮ ‬لا‮ ‬يمكن فيه تبرير القتل‮" ‬وهو العالم الذي كان‮ ‬يبحث عنه في الحياة التي‮ ‬غادرها مبكرا بعد أن حصل علي جائزة نوبل وكان في الثلاثينيات‮ ...‬

هنا محطات في عوالم كامو‮ ..‬كاتب الظل والنور‮ ...

 خطوات في دروب كامو

 

دينا مندور
.

يعد كامو،‮ ‬وفقاً‮ ‬لمواقفه،‮ ‬فيلسوفا من نوع خاص،‮ ‬فقد اعتبر منذ أيامه الأولي كصحفي أن الصحافة عمل فلسفي مكتمل الأركان،‮ ‬كما أنه عرف الصحفي‮ " ‬الناقد‮" ‬بأنه‮ " ‬مؤرخ‮ ‬يوم بيوم

الاثنين،‮ ‬4‮ ‬يناير‮ ‬1960‭.‬‮ ‬كانت السيارة ماركة فاسيل فيجا تجري علي الطريق بين سون وفونتانبلو،‮ ‬يركب بها ألبير كامو،‮ ‬وميشيل جاليمار‮( ‬صاحب دار النشر الأشهر جاليمار وصديق كامو‮)‬،‮ ‬وزوجته جانين،‮ ‬وابنته آن‮. ‬اصطدمت السيارة بحاجز،‮ ‬فانقلبت وتدحرجت علي الأرض العشبية علي جانب الطريق‮. ‬مات كامو علي الفور‮. ‬وفي حقيبته السوداء كتاب العلم المرح لنيتشة،‮ ‬ونسخة فرنسية من نص‮ " ‬عطيل‮" ‬ومخطوطة‮ ‬غير مكتملة من‮ ‬144‮ ‬صفحة،‮ ‬والتي عرفت فيما بعد بالرجل الأول‮.   ‬في هذا اليوم لم‮ ‬يكن كامو‮ ‬يبلغ‮ ‬من العمر سوي‮ ‬46‮ ‬عاماً‮! ‬كم ننسي إلي أي حد مات كامو شاباً‮! ‬إذ‮ ‬يري الكثيرون أن مسيرة أخري كانت تنتظر الكاتب والفيلسوف،‮ ‬مسيرة عنوانها‮ "‬صاحب نوبل في الآداب‮". ‬وآخرون تمنوا لو شهد كامو استقلال الجزائر‮(‬1962‮)‬،‮ ‬ليروا ما سيكون عليه رد فعله،‮ ‬خاصة وهو المعروف بموقفه الجدلي من تلك القضية‮. ‬وربما انبري الصحفيون والمتابعون للساحة الثقافية في تصور تعليق كامو عند رفض صديقه اللدود سارتر تسلم جائزة نوبل‮(‬1964‮)‬،‮ ‬متعللاً‮ ‬بأسباب سياسية وأيديولوجية،‮ ‬فيما‮ ‬يعلم الخبثاء أن رفضه لم‮ ‬يأت إلا اعتراضاً‮ ‬علي منح الجائزة لمنافسه الأهم،‮ ‬قبل ترشحه لها بسبع سنوات كاملة‮. ‬كان‮ ‬ينقصه الكثير ليشهده‮. ‬ولكن انتهت حياته في ذاك اليوم،‮ ‬دون أن‮ ‬ينتهي الجدل حول أفكاره ومواقفه،‮ ‬جدل‮ ‬يتراوح بين القبول والرفض،‮ ‬وبين سماحة التأويل وعنف الإتهام‮. ‬

‮ ‬لم‮ ‬ينشغل كامو بقيم كما انشغل بالحقيقة والحرية،‮ ‬ويقول موجزاً‮ ‬مكانة الكاتب‮ : "‬أحببت أن أعيد الكاتب إلي مكانته الحقيقية،‮ ‬بلا أية ألقاب،‮ ‬سوي تلك التي‮ ‬يتشاركها مع زملائه في النضال،‮ ‬مغلوب علي أمره وعنيد،‮ ‬غير عادل ومفتون بالعدالة،‮ ‬يكتب أعماله بلا خجل ولا‮ ‬غرور،‮ ‬وعلي مرأي ومسمع من الجميع‮"‬،‮ ‬هذا التعبير البليغ‮ ‬القصير‮ ‬ينضم إلي باقي كتابات كامو وتوصيفاته للإنسان والتاريخ والحرب والحق والحب والصداقة،‮ ‬مانحاً‮ ‬للقراء متعة مقابلة الذات واكتشافها عبر لغة فريدة ومختلفة،‮ ‬تتسم بالتجسد من فرط وضوحها،‮ ‬وحروف نابضة بتثمين حقيقي للحياة،‮ ‬واحتفاء دائم بها‮. ‬

بضدها تتمايز الأشياء‮... ‬هذا التثمين والاحتفاء بالحياة،‮ ‬له ما‮ ‬يفسره؛ إذ أن درب الكاتب لم‮ ‬يكن ممهداً‮ ‬علي أي مستوي من مستويات الحياة‮. ‬فألبير كامو ولد في‮ ‬7‮ ‬نوفمبر‮ ‬1913،‮ ‬في مدينة‮ " ‬موندوفي‮" ‬القريبة من مدينة عنبة الحالية في الجزائر الفرنسية،‮ ‬محافظة القسطنطينة،‮ ‬أبوه هو لوسيان أوجستان كامو،‮ ‬الذي ولد هو الآخر في الجزائر،‮ ‬وينحدر من عائلة تنتمي للفرنسيين الأول الذين استوطنوا الجزائر،‮ ‬المستعمرة الفرنسية آنذاك،‮ ‬وأمه هي كاترين سينتي‮. ‬مات أبوه في معركة مارن في بريطانيا،‮ ‬تاركاً‮ ‬الأم بلا مورد ومعها طفلاها‮ (‬لوسيان،‮ ‬وألبير‮). ‬لتعود الأم إلي بيت والدتها وتعيش مع طفليها في‮ ‬غرفة من‮ ‬غرف المنزل مع الجدة والخال‮. ‬إذن لم‮ ‬يعرف كامو عن أبيه سوي بعض الصور وحكاية ذات دلالة تتلخص في شعور الأب بالقرف أمام مشاهد الإعدام التي كانت تنفذ في الحرب‮. ‬لم تكن الأم تسمع تقريباً،‮ ‬وبالطبع لا تقرأ ولا تكتب‮. ‬ولم تكن تفهم ما‮ ‬يقوله محدثها إلا عند الإمعان في حركات شفتيه‮. ‬وعن ذلك كتب كامو‮: "‬كانت هناك امرأة،‮ ‬أضحت فقيرة بسبب موت زوجها،‮ ‬تاركاً‮ ‬إياها مع طفليها‮. ‬عاشت عند والدتها،‮ ‬التي كانت فقيرة هي الأخري،‮ ‬مع أخ لها،‮ ‬عامل‮. ‬كانت تعمل لتكسب قوت‮ ‬يومها،‮ ‬كانت تنظف البيوت،‮ ‬تاركة تربية أولادها لأمها‮ . ‬القاسية،‮ ‬والمتكبرة،‮ ‬والمسيطرة،‮ ‬والتي ربتهم بقسوة شديدة‮".‬

الأم‮.. ‬يزخر تاريخ الأدب بنماذج الأمهات‮. ‬ولكن ما من أم تشبه الأخري‮. ‬إلا أننا مع كامو نتوقف أمام نمط خاص؛ ونموذج فريد‮. ‬فأم الكاتب الكبير لم تكن تكتب‮. ‬وصاحب اللغة الفريدة،‮ ‬لم‮ ‬يسمع لغة أمه‮! ‬حيث تقتصر مفرداتها علي عدد‮ ‬يسير من الكلمات والذي لا تستخدمه إلا في أشد حالات الإحتياج للنطق‮! ‬كما أنها لم تكن تسمع تقريباً‮! ‬وظل الإبن لا‮ ‬يعرف ما إذا كانت هذه الحالة قد إنتابتها بسبب مرض التيفود الذي عانت منه في مراهقتها،‮ ‬أم أن صدمة خبر وفاة الزوج‮ (‬في‮ ‬11‮ ‬أكتوبر1914،‮ ‬في بريطانيا أثناء الحرب،‮) ‬هي التي سببت لها هذا الثقل اللغوي‮. ‬كما‮ ‬يروي أنه حين شاهد صورتها وهي تمسك بصورته وتنظر إليها بحنان،‮ ‬هب صارخاً‮ : " ‬إذن فهي تحبني‮... ‬نعم تحبني‮." . ‬كانت علاقته بأمه شديدة الخصوصية،‮ ‬إذ لم تنطو علي تبادل لغوي،‮ ‬ولكن انطوت علي الكثير من الحنان والعطف الذي‮ ‬يشعر به ابن‮  ‬إزاء أم محدودة الإمكانيات‮ ( ‬مادية،‮ ‬وجسدية،‮ ‬وذهنية‮) ‬ومسئولة عن نفسها وعن ابنيها،‮ ‬وبين أم رأت في الابن الواعد ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يعوضها عن فقد الزوج وعن سنوات الألم‮ ‬،‮ ‬دون أن تمتلك الوسيلة للتعبير له عما‮ ‬يدور بنفسها‮. ‬وعنها قال كامو‮ : " ‬أمي‮... ‬هي أكثر قضية آمنت بها في الوجود‮." ‬كما‮ ‬يذكر أنه حين كان‮ ‬يستيقظ من النوم ولا‮ ‬يجدها في المنزل،‮ ‬كان‮ ‬يخرج إلي الشرفة ويبحث عنها بعينين متلهفتين عبر الشرفات المحيطة،‮ ‬عله‮ ‬يجدها تعمل في إحدي بيوت الجيران،‮ ‬وإذا وجدها تابعها في صمت إلي أن تعود‮.     ‬

‮ ‬في خدمة الحقيقة والحرية‮... ‬أحياناً‮ ‬ما‮ ‬يعرّف الفيلسوف،‮ ‬تعريفا أوليا،‮ ‬علي أنه من‮ ‬يصنّع المفاهيم ويوفقها مع بعضها البعض،‮ ‬وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذا التعبير،‮ ‬فإننا لا نستطيع أن ننكر عن كامو هذه المهمة وهذا الإنشغال والموهبة،‮ ‬بل،‮ ‬والتقنية‮. ‬ولنتأمل مثالاً‮ ‬واحداً‮ ‬دالاً‮: ‬مثال‮" ‬التاريخانية‮"‬،‮ ‬والذي كان محور كتابه‮  ‬الإنسان المتمرد،‮ ‬وعن سؤال ما‮ " ‬التاريخانية"؟ أجاب كامو‮: "‬هي الحالة الذهنية لأولئك الذين‮ ‬يستجيبون للتاريخ‮. ‬أو بالأحري‮: ‬هو سلوك تلك الفئة الخاصة جداً‮ ‬من العبيد الذين‮ ‬يرون في التاريخ سيداً‮ ‬لهم،‮ ‬ويعتبرونه التجسيد للمطلق والقانون‮. ‬بل هي الميتافيزيقيا،‮ ‬ضمنية كانت أو صريحة،‮  ‬التي تعد مصدراً‮ ‬للحلول،‮ ‬الممنوحة لعالم أصبحت فيه‮ "‬العلامات‮" "‬أهدافا‮"‬،‮ ‬وتبدل فيه مفهوم‮ " ‬فيما وراء‮" ‬ب‮" ‬فيما بعد"؛ ولا‮ ‬يُعتّد بالقيم فيه إلا حين تنتصر‮".   ‬‮ > > > ‬

حياة نكتبها‮... ‬وكتب نحياها‮... ‬يعد كامو،‮ ‬وفقاً‮ ‬لمواقفه،‮ ‬فيلسوفا من نوع خاص،‮ ‬فقد اعتبر منذ أيامه الأولي كصحفي أن الصحافة عمل فلسفي مكتمل الأركان،‮ ‬كما أنه عرف الصحفي‮ " ‬الناقد‮" ‬بأنه‮ " ‬مؤرخ‮ ‬يوم بيوم‮" ‬حيث‮ " ‬ينبغي أن‮ ‬يكون همه الأول هو الحقيقة‮". ‬وهو فيلسوف‮ ‬يري في الكتابة الروائية،‮ ‬الطريق الملكي،‮ ‬لتقديم الفلسفة،‮ ‬فكتب في عام‮ ‬1936،‮ ‬في الجزء الأول من‮ ‬يومياته‮: " ‬في هذه الحالة،‮ ‬لا نفكر إلا من خلال الصورة،‮ ‬إذا أردت أن تكون فيلسوفاً‮ ‬فإكتب روايات‮." ‬ثم أضاف في عام‮ ‬1938‮ "‬الرواية ليست إلا فلسفة في هيئة صور‮". ‬ثم في الجزء الخامس من‮ ‬يومياته‮: " ‬أنا لست سوي فنان‮: ‬والفنان بداخلي هو الفيلسوف؛ وذلك لسبب واحد بسيط وهو أنني أفكر وفقاً‮ ‬للكلمات،‮ ‬وليس وفقاً‮ ‬للأفكار‮"... ‬إذن هو فيلسوف فنان‮. ‬بل‮ ‬،‮ ‬وفيلسوف لم‮ ‬يفصل‮ ‬يوماً‮ ‬حياته الشخصية عن مغامراته الفكرية،‮ ‬ودائماً‮ ‬ما مارس اللعبة المزدوجة لحياة‮ ‬يكتبها،‮ ‬وكتب يحياها‮. ‬هذا النوع من الفلاسفة هو نوع‮ ‬يبتكر سلوكاً‮ ‬وأسلوباً‮ ‬في الوقت الذي‮ ‬يؤلف فيه عملاً‮ ‬أدبياً‮. ‬

الغريب‮... ‬هي أول رواية منشورة لألبير كامو،‮ (‬1942‮)‬،‮ ‬والتي مثـّلت حدثاً‮ ‬أدبياً‮ ‬حال ظهورها‮. ‬وتعد من أهم كلاسيكيات الأدب العالمي،‮ ‬قُرئت في العالم أجمع،‮ ‬وتُرجمت إلي كل اللغات تقريباً،‮ ‬بل وأحياناً‮ ‬ما ترجمت أكثر من مرة إلي نفس اللغة‮ (‬لها أربع ترجمات إلي العربية،‮ ‬علي سبيل المثال‮) ‬وتتنافس هي وروايته الطاعون‮ (‬1947‮) ‬علي لقب‮ "‬أفضل أعماله الروائية‮" ‬إذ‮ ‬ينقسم القراء بين هاتين الروايتين‮. ‬فأنصار الطاعون،‮ ‬يرون أنها تقدم طاقة إيجابية للقراء،‮ ‬نص‮ ‬يموج بالتفاؤل والأمل،‮ ‬فيما‮ ‬يري أنصار الغريب أنها الأولي باللقب لما أحدثته من صدمة فكرية حين قدم كامو اللامبالاة الناعمة،‮ ‬وسوء الفهم المستقر في قلب الحالة الإنسانية،‮ ‬وفي العلاقة بين الإنسان وواقعه،‮ ‬من خلال بطل الرواية الذي‮ ‬يشعر أنه‮ ‬غريب عن العالم المحيط به،‮ ‬ثم‮ ‬يجد نفسه قاتلاً‮ ‬بالصدفة،علي إثر‮  ‬سلسلة من‮ " ‬الظروف‮" ‬،‮ ‬ويستمر في الشعور اللامبالاة حيال قضيته ومصيره‮. ‬فلا‮ ‬يختار المستقبل علي حساب الحاضر،‮ ‬ولا‮ ‬يحتفي بالمشاعر بل بالحواس‮. ‬

‮" ‬اليوم ماتت أمي‮. ‬أو ربما أمس،‮ ‬لا أعرف‮" ‬دشّنت تلك العبارة اللامبالية والصادمة في آن،‮ ‬مشروعاً‮ ‬أدبياً‮ ‬وفكرياً‮ ‬أكثر إتساعاً‮ ‬مما تمثله رواية الغريب في مجملها،‮ ‬هذا المشروع الذي وعي له كامو مبكراً‮ ‬جداً‮ ‬،‮ ‬بل وقسمه إلي مراحل كما أوجز هو شارحاً‮ ‬من خلال كلمته في ستوكهولم حين تسلم جائزة نوبل للآداب ديسمبر‮ ‬1957‮ : " ‬كانت لدي خطة محددة حين بدأت الكتابة‮: ‬أردت أولاً‮ ‬أن أعبر عن العدمية‮. ‬من خلال ثلاثة أشكال؛ روائي‮: ‬الغريب،‮ ‬ومسرحي‮ : ‬كاليجولا،‮ ‬وفكري‮: ‬اسطورة سيزيف‮. ‬كما أنني بشرت بالإيجابية من خلال ثلاثة صور أيضاً‮ : ‬روائي‮: ‬الطاعون‮. ‬ومسرحي‮: ‬العادلون‮. ‬وفكري‮: ‬الإنسان المتمرد‮. ‬ثم أدخلت علي الخطة مرحلة ثالثة تدور حول موضوع الحب‮." ‬ولكنه هو الموضوع الذي عاشه أكثر مما استطاع التعبير عنه،‮ ‬إذ لم‮ ‬يمتلك الوقت الكافي بعد هذه الليلة لإستكمال مشروعه الفكري‮.           ‬تعبر الغريب عن كاتب متمكن من بنية السرد،‮ ‬وكتابة ذات شكل وأسلوب خاص وفريد؛ ويلاحظ النقاد أن فنه قد نضج من خلال الإنغماس في تأملاته الإنسانية والفلسفية،‮ ‬بل ومن خلال حياته اليومية،‮ ‬ومن اقترابه من معاصريه نساء ورجالاً،‮ ‬ومن قراءاته المستمرة للنقد الأدبي‮. ‬

ومع تصفح أوراق كامو ومذكراته نجد بعض تفاصيل رواية‮ " ‬الغريب‮" (‬1942‮) ‬مكتوبة في‮ ‬يومياته في ربيع‮ ‬1938‮ ‬،‮ ‬فمثلاً‮ ‬،‮ ‬في أعقاب زيارة قام بها لحماة أخيه لوسيان في دار المسنين الموجودة في مارنجو‮ (‬وهي نفس الدار التي تحدث عنها في روايته ذاكراً‮ ‬موت أمه فيها‮)‬،‮ ‬فكتب في نوفمبر‮ ‬1938‮ "‬اليوم ماتت أمي‮" ‬علي الرغم من أنه لم‮ ‬يكن قد شرع‮  ‬في كتابة الرواية نهائياً،‮ ‬والتي بدأ كتابتها في ديسمبر‮ ‬1939‭.‬‮ ‬كما أفضي لفرانسين فور،‮ ‬التي تزوجها فيما بعد،‮ ‬بأنه بعد أن بدأ في كتابة الرواية،‮ ‬توقف،‮ ‬وأنه‮ ‬يتقدم أكثر في كتابه الفكري‮: ‬أسطورة سيزيف معللاً‮ : " ‬أنه أكثر نضجاً‮ ‬بداخلي من الرواية‮". ‬ولم تبدأ الخطة الفعلية لكتابة الغريب إلا فيما بين‮ ‬يناير ومارس‮ ‬1940،‮ ‬بين الجزائر ووهران،‮ ‬إلا أنه انطلق في كتابتها بعد انتقاله للعيش في باريس والعودة للعمل الصحفي هناك‮. ‬كتب في مايو‮ ‬1940‮ ‬في خطابه إلي فرانسين فور‮: " ‬لقد أنهيت الرواية لتوي‮. ‬ولكن عملي لم‮ ‬ينته،‮ ‬بلا شك‮. ‬فمازال أمامي بعض التفاصيل التي سأراجعها‮ ‬،‮ ‬وأخري سأضيفها،‮ ‬وأخري سأعيد كتابتها‮. ‬ولكن المهم أنني انتهيت،‮ ‬وأنني خططت آخر عبارة‮... ‬إنني أحملها منذ سنتين،‮ ‬وتأكدت من خلال الطريقة التي كتبتها بها،‮ ‬أنها كانت محفورة بداخلي‮."‬

وفي إحدي فقرات مذكراته نجد عبارته الرنانه،‮ ‬التي كتبها في‮ ‬21‮ ‬فبراير‮ ‬1941‮: " ‬أنهيت سيزيف،‮ ‬اكتملت ثلاثية العبث،‮ ‬إذن،‮ ‬تبدأ الحرية‮."        ‬‮ ‬


كامو‮- ‬سارتر‮.. ‬كيف بدأت القطيعة؟

 

.

يصعب علي الباحثين والكتاب المرور بحياة كامو،‮ ‬دون الاصطدام بعلاقته الشائكة التناقضية‮ : " ‬كامو‮- ‬سارتر‮" ‬وهي التي تثير أحياناً‮ ‬مثيلاتها التاريخية‮: "‬راسين‮- ‬كورناي‮"  ‬و"فولتير‮- ‬روسو‮" . ‬حيث احتل الكاتبان،‮ ‬في أعقاب الحرب العالمية الثانية ساحة الجدل الفكري،‮ ‬واهتم كل المتابعين بالحلقات المتوالية بين الكاتبين.في الأصل كانت الصداقة هي التي تجمعهما،‮ ‬ولكن سريعاً‮ ‬ما‮ ‬غيرت المنافسة بينهما طبيعة العلاقة‮. ‬وفي نهاية سنوات الأربعينيات اتسعت المسافة بينهما،‮ ‬وكان كل منهما‮ ‬يعلن إنتماءه‮  ‬لليسار،‮ ‬مع احتفاظ كل منهما بمفهوم مختلف عن الأدب الملتزم‮. ‬

ثم كتب كامو الانسان المتمرد‮ (‬1951‮ ) ‬،‮ ‬بما‮ ‬يتضمنه من نقد شديد للماركسية والإشتراكية‮. ‬هنا بدأت القطيعة،‮ ‬علي إثر مقال عنيف كتبه فرانسي جانسون بناءً‮ ‬علي طلب من سارتر رئيس تحرير مجلة‮ " ‬لو تومب مودرن‮" ‬التي نشر فيها هذا المقال،‮ ‬والذي رد عليه كامو وفنّده نقطة بنقطة‮. ‬ولا‮ ‬يفوتنا الإشارة إلي أن كامو قد وجه رده إلي سارتر وليس إلي كاتب المقال،‮ ‬علماً‮ ‬منه بأن سارتر هو من‮ ‬يقف وراء مقال كهذا،‮ ‬وبالطبع هو من جذب سارتر نحو حلبة الصراع العلني،‮ ‬فوجد سارتر نفسه مجبراً‮ ‬علي الرد مرة أخري بمقال‮ ‬يحمل اسمه،‮ ‬استهله بعبارة‮: "‬عزيزي كامو‮"‬،‮ ‬كما فعل جانسون الشيء ذاته،‮ ‬متهمين كامو بعدم كفاءته الفلسفية،‮ ‬وإفراغه التاريخ من محتواه،‮ ‬وتصدير فكرة إستحالة الثورة‮. ‬فيما حاول آخرون أمثال جورج باتاي تفهم توجه كامو ومسيرته الفكرية حول الثورة الروسية والإشتراكية‮. ‬

‮     ‬كتب كامو الرد تحت عنوان‮: ‬رسالة إلي رئيس التحرير،‮ ‬واستهله بكلمات رسمية‮: " ‬سيدي رئيس التحرير‮" ‬ثم أضاف‮: " ‬لقد انتهزت فرصة مقال،‮ ‬عنوان ساخر،‮ ‬نشر في مجلتكم‮ ‬،‮ ‬لأوضح للقراء بعض الملحوظات‮  ‬التي تتعلق بفكر وسلوك هذا المقال‮. ‬السلوك،‮ ‬الذي لا ترفضه أنت بالطبع،‮ ‬وأنا علي‮ ‬يقين من ذلك،‮ ‬بل،‮ ‬كنت داعم له،‮ ‬ولكن ما‮ ‬يذهلني في الواقع هو الضعف الواضح في مستوي المقال‮". ‬مستمراً‮ ‬في إضافة عباراته القوية المباشرة،‮ ‬التي لا تحمل أي مواربة‮. ‬

فيما رد سارتر،‮ ‬تحت عنوان‮" ‬رداً‮ ‬علي كامو‮" : " ‬عزيزي كامو‮... ‬علي الرغم من أن صداقتنا لم تكن سهلة إلا أنني أتحسر عليها كثيراً‮. ‬وإذا كنت تقطع صداقتنا اليوم،‮ ‬فلابد لها أن تنتهي‮. ‬لقد جمعتنا أشياء كثيرة،‮ ‬وفرقتنا أشياء قليلة‮. ‬ولكن هذا القليل هو كثير في حد ذاته‮: ‬فالصداقة،‮ ‬هي الأخري،‮ ‬قد تكون شمولية‮." ‬مسهباً‮ ‬ومستخدماً‮ ‬ألعابه اللفظية،‮ ‬وعباراته اللاذعة في توجيه أقسي الإتهامات إلي كامو‮. " ‬

والمنافسة بين سارتر وكامو لم تتوقف علي الإنتاج الأدبي،‮ ‬بل امتدت إلي الصعيد الإنساني والعاطفي،‮ ‬أي منافسة الرجل للرجل،‮ ‬وليس المفكر والمفكر فحسب‮. ‬فقد كتب سارتر،‮ ‬في‮  ‬رسائل إلي كاستور‮ : ‬لا أطيق رؤية هذا‮ " ‬المتشرد الجزائري‮" ‬،‮ ‬الذي‮ ‬يجذب ويغوي كل امرأة تقابله في طريقه‮! " ‬إذن المنافس] أيضاً‮ ‬امتدت لمجال وارد بين الرجال عامة،‮ ‬ولا‮ ‬يستثني منه الكتاب والمفكرون‮. ‬وإلي جانب المعلن،‮ ‬كان بينهما الكثير من‮ " ‬المسكوت عنه‮" ‬سياسياً‮. ‬ولكن بعد مرور السنوات،‮ ‬وجد العديد من أنصار سارتر،‮ ‬يعترفون أنه ربما كان كامو علي حق،‮ ‬وربما كان هو الأكثر رؤية للحقيقة،‮ ‬والأكثر بصيرة‮. ‬

‮    ‬وبعد ذاك اليوم،‮ ‬الإثنين‮ ‬4‮ ‬يناير‮ ‬1960،‮ ‬بعده بثلاثة أيام،‮ ‬نعي سارتر صاحبه،‮ ‬في‮ "‬لانوفال اوبسرفاتوار‮" ‬داعياً‮ ‬المجتمع الثقافي إلي عدم اعتبار منجزه الأدبي منجزا "غير مكتمل‮"‬،‮ ‬بل اعتباره‮ "‬مجملاً‮". ‬فاستهل مقاله قائلاً‮: " ‬منذ ستة أشهر كنا نتساءل فيما بيننا،‮ ‬ماذا عساه سيفعل؟ كان ممزقاً‮ ‬بين متناقضات،‮ ‬توجب عليه إحترامها،‮ ‬فاختار الصمت‮. ‬ولكنه كان من اولئك الرجال النادرين،‮ ‬الذين نستطيع إنتظارهم،‮ ‬لأنهم‮ ‬يختارون علي مهل،‮ ‬ويظلون أوفياء لاختياراتهم‮."  ‬


نحن ورثة تاريخ فاسد

 

ترجمة‮:‬‮ ‬عاصم عبدربه
.

نص الخطاب الذي ألقاه كامو أثناء استلامه جائزة نوبل‮ (‬1957‮) ‬عن ترجمة‮ "‬الغريب‮" ‬التي صدرت مؤخراً‮ ‬في هيئة قصور الثقافة‮ - ‬سلسلة المائة كتاب‮.‬

ومن اختار مصيره كفنان،‮ ‬لأنه‮ ‬يشعر أنه مختلف،‮ ‬سوف‮ ‬يدرك سريعاً‮ ‬أنه لن‮ ‬يشري فنه ويعزز تفرده إلا من خلال اعترافه بالتشابه مع الجميع‮. ‬فالفنان‮ ‬يتشكل خلال رحلات الذهاب والعودة الدائمة بينه وبين الآخرين

لا‮ ‬ينفصل دور الكاتب عن واجبات وتبعات ثقيلة‮.. ‬وبالتحديد،‮ ‬فإنه لايمكنه اليوم أن‮ ‬يضع نفسه في خدمة من‮ ‬يصنعون التاريخ‮: ‬إنه في خدمة من‮ ‬يرزحون تحت نيره‮. ‬أو إن لم‮ ‬يفعل،‮ ‬فسوف نراه وحيداً‮ ‬معزولاً‮ ‬ومحروماً‮ ‬من فنه

كل جيل‮ ‬يعتقد أنه مكلف ومنذور لإعادة بناء العالم‮. ‬غير أن جيلي‮ ‬يعرف جيداً‮ ‬أنه لن‮ ‬يقوم بذلك،‮ ‬لكن دوره ربما كان أكثر أهمية‮. ‬إنه‮ ‬يقوم علي منع العالم من أن‮ ‬يتفسخ وينهار

سيدي،‮ ‬سيدتي،‮ ‬أصحاب السمو الملكي،‮ ‬سيداتي،‮ ‬سادتي‮:‬

بقدر ما كان امتناني عميقاً،‮ ‬بحصولي علي هذا التقدير الذي شاءت مؤسستكم الحرة تشريفي به،‮ ‬بقدر ما رأيت إلي أي حد كانت هذه الجائزة تفوق إمكانياتي الشخصية‮. ‬إن كل رجل،‮ ‬وبالأحري كل فنان،‮ ‬يود أن‮ ‬يكون مشهوداً‮. ‬وأنا أيضا أرغب في ذلك لكن بالنسبة لي،‮ ‬لم‮ ‬يكن ممكناً‮ ‬أن أتلقي قراركم دون أن أجري مقارنة بين أهميته وآثاره وبين ما أنا عليه في حقيقة الأمر‮. ‬كيف‮ ‬يمكن لرجل‮ ‬يكاد‮ ‬يكون شاباً،‮ ‬لايملك إلا ظنونه ومشروعاً‮ ‬أدبياً‮ ‬ما‮ ‬يزال قيد الإنشاء،‮ ‬معتاد علي العيش في عزلة العمل أو في خلوات الصداقة،‮ ‬ألا‮ ‬يتلقي بشيء من الذعر قراراً‮ ‬ينقله فجأة من حالة رجل وحيد ومقتصر علي ذاته،‮ ‬إلي بؤرة ضوء باهر؟ وبأي قلب أيضاً‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يتقبل هذا التكريم،‮ ‬في الوقت الذي‮ ‬يرغم فيه كتاب آخرون‮ - ‬من بين أهم الكتاب في أوروبا‮- ‬علي أن‮ ‬يلوذوا بالصمت،‮ ‬وفي نفس الوقت الذي‮ ‬يمر فيه وطنه الأم بفاجعة لاتنتهي؟

لقد مررت بهذه الحيرة،‮ ‬وعرفت هذا الارتباك الداخلي‮. ‬ولكي أستعيد الطمأنينة،‮ ‬تعين علي،‮ ‬باختصار،‮ ‬أن أؤدي ما علي تجاه قدر كان شديد السخاء معي‮. ‬ونظراً‮ ‬لأنني لا أستطيع أن أضاهيه معتمداً‮ ‬علي قدراتي وحدها،‮ ‬فلم أجد ما‮ ‬يدعمني في ذلك إلا ما دعمني طوال حياتي،‮ ‬وفي أكثر ظروفها تبايناً‮: ‬إنها الفكرة التي كونتها عن مهنتي وعن الدور‮  ‬المنوط بالكاتب‮. ‬لعلكم تسمحون لي فقط أن أشرح لكم،‮ ‬بكل الحب والامتنان،‮ ‬وبأبسط ما‮ ‬يمكن،‮ ‬ماهية هذه الفكرة‮.‬

بصفة شخصية،‮ ‬فلم أكن لأستطيع أن أحيا بدون مهنتي وفني،‮ ‬لكنني لم أنصب هذا الفن أبداً‮ ‬فوق كل شيء‮. ‬بالعكس،‮ ‬فهو‮ - ‬إن كان ضرورياً‮ ‬بالنسبة لي‮ - ‬فذلك لأنه لاينفصل عن أحد،‮ ‬ويتيح لي أن أعيش كما أنا،‮ ‬في مستوي الجميع‮. ‬الفن‮ - ‬من وجهة نظري‮ - ‬ليس ابتهاجاً‮ ‬شخصيا،‮ ‬تسلية فردية‮. ‬إنه وسيلة لتحريك مشاعر أكبر عدد ممكن من البشر،‮ ‬عبر تقديم صورة متميزة للأفراح والأتراح المشتركة‮. ‬وعليه،‮ ‬فإنه‮ ‬يجبر الفنان علي ألا‮ ‬ينفصل عن ذاته،‮ ‬إنه‮ ‬يخضعه للحقيقة الأكثر بساطة وشمولية‮. ‬ومن اختار مصيره كفنان،‮ ‬لأنه‮ ‬يشعر أنه مختلف،‮ ‬سوف‮ ‬يدرك سريعاً‮ ‬أنه لن‮ ‬يشري فنه ويعزز تفرده إلا من خلال اعترافه بالتشابه مع الجميع‮. ‬فالفنان‮ ‬يتشكل خلال رحلات الذهاب والعودة الدائمة بينه وبين الآخرين‮. ‬في وسط الطريق بين الجمال الذي لايمكنه أن‮ ‬يستغني عنه،‮ ‬وبين الجماعة التي لا‮ ‬يمكنه أن‮ ‬ينتزع نفسه منها‮. ‬هذا هو السبب في أن الفنانين الحقيقيين لا‮ ‬يغفلون الاهتمام بأي شيء إنهم‮ ‬يلزمون أنفسهم بالاستيعاب بدلاً‮ ‬من التخمين وإبداء الآراء‮. ‬وإن كان عليهم أن‮ ‬ينتصروا لشيء في هذا العالم،‮ ‬فلابد أن‮ ‬يكون انتصارهم،‮ ‬كما تقول عبارة نيتشه الخالدة،‮ ‬لمجتمع لن‮ ‬يكون القاضي هو السيد فيه‮... ‬وإنما المبدع،‮ ‬سواء كان عاملاً‮ ‬أو مفكراً‮.‬

في نفس الوقت،‮ ‬فلا‮ ‬ينفصل دور الكاتب عن واجبات وتبعات ثقيلة‮.. ‬وبالتحديد،‮ ‬فإنه لايمكنه اليوم أن‮ ‬يضع نفسه في خدمة من‮ ‬يصنعون التاريخ‮: ‬إنه في خدمة من‮ ‬يرزحون تحت نيره‮. ‬أو إن لم‮ ‬يفعل،‮ ‬فسوف نراه وحيداً‮ ‬معزولاً‮ ‬ومحروماً‮ ‬من فنه‮: ‬ولن تنزعه من وحدته كل جيوش الاستبداد،‮ ‬بالملايين من رجالها،‮ ‬حتي،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬إن قبل أن‮ ‬يتبع خطاهم‮. ‬لكن صمت سجين مجهول‮ ‬يعاني من المذلة والمهانة،‮ ‬في الطرف الآخر من هذا العالم،‮ ‬يكفي لإخراج الكاتب من منفاه الاختياري في كل مرة،‮ ‬علي الأقل،‮ ‬يتمكن فيها من ألا‮ ‬ينسي هذا الصمت،‮ ‬وسط نعيم الحرية،‮ ‬وأن‮ ‬يحل محله حتي‮ ‬يجعله‮ ‬يتردد عبر الوسائل الفنية‮.‬

ما من أحد منا كبير بما‮ ‬يكفي للقيام بدور مماثل‮. ‬لكن في كل ظروف حياته،‮ ‬مغموراً‮ ‬كان أو مشهوراً‮ ‬بصورة عابرة،‮ ‬مقيداً‮ ‬في سلاسل الطغيان،‮ ‬أو حراً،‮ ‬بصورة مؤقتة،‮ ‬في التعبير عن نفسه،‮ ‬يستطيع الكاتب أن‮ ‬يتعرف علي شعور جماعة حية،‮ ‬سوف تقبل به،‮ ‬شريطة أن‮ ‬يقبل بقدر ما‮ ‬يمكنه،‮ ‬بالنهوض بالمهمتين اللتين تصنعان أهمية مهنته‮: ‬أن‮ ‬يكون في خدمة الحقيقة وفي خدمة الحرية‮.‬

ولأن رسالته هي أن‮ ‬يوحد بين أكبر عدد ممكن من البشر،‮ ‬فإنها لايمكن أن تتوافق مع الكذب والاستعباد،‮ ‬اللذين‮ ‬يزيدان من عزلة الكتاب أينما وجد‮.‬

ومهما كانت أوجه عوارنا الشخصية،‮ ‬فإن نيل مهنتنا سوف‮ ‬يترسخ دائماً‮ ‬في التزامين من الصعب التمسك بهما والحفاظ عليهما‮: ‬رفض الكذب بشأن ما نعرفه‮" ‬ومقاومة الاستبداد‮.‬

وخلال أكثر من عشرين عاماً‮ ‬من تاريخ أخرق،‮ ‬مفقود بلا حيلة،‮ ‬وشأن كل أقراني من البشر،‮ ‬في تقلبات الزمن،‮ ‬كان ما ساعدني،‮ ‬هو ذلك الشعور المبهم بأن الكتابة اليوم كانت شرفاً،‮ ‬لأن فعل الكتابة هذا كان‮ ‬يجبر ويحتم ألا تكون مجرد كتابة‮. ‬كان‮ ‬يجبرني بصورة خاصة علي أن أحمل،‮ ‬بنفسي‮ - ‬وكما أنا،‮ ‬وتبعاً‮ ‬لقدراتي،‮ ‬مع كل من‮ ‬يعيشون نفس القصة‮- ‬الآلام والآمال التي نتقاسمها،‮ ‬إن هؤلاء الرجال المولودين مع بداية الحرب العالمية الأولي،‮ ‬الذين وصلوا إلي العشرين من عمرهم في الوقت الذي أقيم فيه النظام الهتلري،‮ ‬وأقيمت أولي الدعاوي الثورية،‮ ‬التي سوف تتواجه بعد ذلك،‮ ‬لتكمل خبراتها الثقافية،‮ ‬في حرب إسبانيا،‮ ‬في الحرب العالمية الثانية،‮ ‬في عالم المعتقلات،‮ ‬في أوروبا التعذيب والسجون،‮ ‬هؤلاء الرجال عليهم اليوم أن‮ ‬يقوموا بتربية أبنائهم،‮ ‬والقيام بأعمالهم في عالم‮ ‬يهدده الدمار النووي‮. ‬وأظن أن أحداً‮ ‬لايمكنه أن‮ ‬يطلب منهم أن‮ ‬يكونوا متفائلين‮. ‬وأنا أري أن علينا حتي أن نتفهم،‮ ‬دون أن نتوقف عن مقاومتهم،‮ ‬خطأ هؤلاء الذين‮ - ‬مزايدة في اليأس‮ - ‬قد طالبوا بالحق في وصم أنفسهم بالعار،‮ ‬واندفعوا بقوة إلي عدمية هذه الحقبة،‮ ‬لكن‮ ‬يبقي أن‮ ‬غالبيتنا،‮ ‬في بلادي أو في أوروبا،‮ ‬قد رفضوا هذه العدمية،‮ ‬وشرعوا في البحث عن مشروعية ما كان عليهم أن‮ ‬يصنعوا لأنفسهم طريقة للعيش في ظرف كارثي،‮ ‬ليولدوا مرة أخري،‮ ‬ويناضلوا‮ - ‬بعد ذلك في أعمالهم وبلا أقنعة‮ - ‬غريزة الموت في دنيانا‮.‬

ولاشك أن كل جيل‮ ‬يعتقد أنه مكلف ومنذور لإعادة بناء العالم‮. ‬غير أن جيلي‮ ‬يعرف جيداً‮ ‬أنه لن‮ ‬يقوم بذلك،‮ ‬لكن دوره ربما كان أكثر أهمية‮. ‬إنه‮ ‬يقوم علي منع العالم من أن‮ ‬يتفسخ وينهار‮. ‬إنه وريث تاريخ فاسد،‮ ‬تختلط فيه الثورات الخائبة،‮ ‬بالتقنيات،‮ ‬التي أصابها‮  ‬الجنون،‮ ‬بالآلهة التي ماتت والمذاهب الفكرية التي خارت قواها،‮ ‬حيث تستطيع أنظمة حكم مبتذلة أن تدمر كل شيء،‮ ‬مع أنها لم تعد قادرة علي الإقناع،‮ ‬حيث انحط العقل الإنساني إلي حد أن‮ ‬يجعل من نفسه خادماً‮ ‬للكراهية والاستبداد‮. ‬ولابد لهذا الجيل من أن‮ ‬يستعيد،‮ ‬في ذاته،‮ ‬وفيمن حوله،‮ ‬وبدءاً‮ ‬من سلبياته وحدها،‮ ‬شيئاً‮ ‬مما‮ ‬يخلق كرامة المحيا والممات‮. ‬وإزاء عالم‮ ‬يتهدده التشقق والانشطار،‮ ‬حيث‮ ‬يجازف قضاة محاكم التفتيش الجدد بأن‮ ‬يقيموا ممالك الموت دائماً،‮ ‬يعرف هذا الجيل أن عليه،‮ ‬فيما‮ ‬يشبه سباقاً‮ ‬مجنونا بعكس عقارب الساعة،‮ ‬أن‮ ‬يخلق بين الأمم سلاماً،‮ ‬لايكون سلام العبودية،‮ ‬وأن‮ ‬يوفق من جديد بين العمل والثقافة،‮ ‬وأن‮ ‬يبني مع كل البشر جسراً‮ ‬يربط بينهم‮. ‬ليس من المؤكد أنه‮ ‬يستطيع الوفاء بهذه المهمة الهائلة،‮ ‬لكن من المؤكد أنه‮- ‬في كل مكان في العالم‮- ‬قد قيل فعلا برهانه المزدوج علي الحقيقة والحرية،‮ ‬وفي الوقت المناسب،‮ ‬يعرف كيف‮ ‬يموت بلا كراهية لذاته‮. ‬يستحق هذا الجيل أن نحييه وأن نشجعه في كل مكان نجده فيه،‮ ‬وخاصة هناك،‮ ‬حيث‮ ‬يضحي بنفسه‮. ‬إلي هؤلاء الرجال،‮ ‬أود علي كل حال،‮ ‬وأنا متأكد من موافقتكم الكاملة،‮ ‬أود أن أرد التكريم الذي أوليتموني إياه لتوكم‮.‬

في الوقت نفسه،‮ ‬الذي تحدثت فيه عن نبل مهنة الكتابة،‮ ‬لعلي أعدت الكاتب إلي مكانته الحقيقية،‮ ‬حيث لايمتلك أية مؤهلات وصفات أخري سوي تلك التي‮ ‬يتقاسمها مع رفاق النضال،‮ ‬رهيف لكنه عنيد،‮ ‬جائر ومولع بالعدالة،‮ ‬يبني عمله الفني بلا خجل أو‮ ‬غطرسة علي مرأي من الجميع،‮ ‬موزع دائماً‮ ‬بين الجمال والألم،‮ ‬مكرس في النهاية كي‮ ‬يستخرج من كيانه المزدوج الإبداعات التي‮ ‬يحاول بلا هوادة أن‮ ‬يجعل منها قدوة لحركة التاريخ الهدامة‮.  ‬فمن‮ ‬يستطيع،‮ ‬بعد كل هذا،‮ ‬أن‮ ‬يأمل منه حلولا جاهزة وأمثلة أخلاقية جذابة؟ إن الحقيقة‮ ‬غامضة،‮ ‬مراوغة،‮ ‬يجب السعي وراءها دائماً‮. ‬والحرية خطرة،‮ ‬صعبة المعشر وقاسية،‮ ‬بقدر ما هي مثيرة للحماس‮. ‬وعلينا أن نسير صوب هاتين الغايتين،‮ ‬في صعوبة ومشقة،‮ ‬لكن بإصرار‮  ‬وثبات،‮ ‬واثقين سلفاً‮ ‬من أننا سوف نواجه عثرات علي طريق بمثل هذا الطول‮. ‬فأي كاتب كان سيتجاسر إذن،‮ ‬بحسن نية،‮ ‬علي أن‮ ‬يجعل من نفسه داعياً‮ ‬للفضيلة؟ أما بالنسبة لي،‮ ‬فعلي أن أقول‮ - ‬مرة أخري‮ - ‬إنني لست شيئاً‮ ‬من كل ذلك‮. ‬إنني لم أستطع مطلقاً‮ ‬أن أتنازل عن النور،‮ ‬عن سعادة الوجود،‮ ‬عن الحياة الحرة الطليقة التي نشأت وكبرت فيها‮. ‬وبالرغم من أن اشتياقي الحزين إلي تلك الأرض‮ ‬يفسر الكثير من أخطائي وزلاتي،‮ ‬فقد ساعدني بلا ريب علي أن أفهم مهنتي بشكل أفضل،‮ ‬ولا‮ ‬يزال‮ ‬يساعدني علي التماسك والثبات،‮ ‬بالقرب من كل هؤلاء الرجال الصامتين،‮ ‬الذين لايتحملون الحياة التي قدرت لهم في هذا العالم،‮ ‬إلا من خلال الذكري أو عودة تلك الهناءات العابرة القصيرة والحرة‮.‬

عائد‮. ‬والحال كذلك‮- ‬إلي ما أنا عليه في الحقيقة،‮ ‬إلي حدودي،‮ ‬إلي ما أنا مدين به،‮ ‬مثل ما أنا مردود إلي عقيدتي الصعبة،‮ ‬أشعر بأنني تحررت‮" ‬أكثر،‮ ‬من أن أوضح لكم في النهاية مدي أهمية وسخاء هذا التقدير الذي منحتموني الآن،‮ ‬أكثر تحرراً‮ ‬من أن أقول لكم أيضا انني‮: ‬كنت أود لو تلقيته كتكريم موجه إلي كل من خاضوا معي هذه المعركة،‮ ‬ولم‮ ‬يحظوا بأية ميزة،‮ ‬بل علي العكس،‮ ‬قد لاقوا العنت والاضطهاد والشقاء‮. ‬يبقي علي إذن أن أشكركم عليه،‮ ‬من أعماق قلبي،‮ ‬وأن أقطع أمامكم علنا وعلي الملأ،‮ ‬كشهادة شخصية علي امتناني،‮ ‬نفس الوعد القديم بالوفاء،‮ ‬الذي‮ ‬يتعهد به لنفسه كل فنان حقيقي،‮ ‬دون أن‮ ‬يعلن ذلك‮.‬


التمرد في مواجهة العبث

 

أحمد عثمان
.

في عام‮ ‬1939،‮ ‬تحت عنوان‮ "‬بؤس بلاد القبائل‮"‬،‮ ‬وقع كامو سلسلة من المقالات التي أثارت فضيحة مدوية‮. ‬مواقفه المؤيدة للمسلمين لن تمر مرور الكرام‮. ‬بعد اعلان الحرب،‮ ‬منعت‮ "‬الجزائر الجمهورية‮" ‬من الصدور

استقلاله الذهني الحاد قاده للبعيد‮ : ‬علي الرغم من نشوة النصر،‮ ‬كان قادرا علي توبيخ المنتصرين‮. ‬حينما ألقيت القنبلتان الذريتان علي هيروشيما ونجازاكي،‮ ‬انفجر سخطه‮. ‬كان الوحيد الذي تجرأ علي الانتقاد‮.‬

‮ ‬التقي آلبير كامو والعبث منذ طفولته،‮ ‬حينما استدعي والده،‮ ‬العامل في معمل الخمور بقسطنطينة،‮ ‬للتوجه الي الحرب علي بعد آلاف الكيلومترات،‮ ‬في مستنقعات المارن ــ حيث‮ ‬يموت في بداية خريف‮ ‬1914‮ ‬لم‮ ‬يكن آلبير قد بلغ‮ ‬وقتها‮  ‬سوي بضعة أشهر‮. ‬بقول آخر لا‮ ‬يحتفظ بأدني ذكري عن الوجه الأبوي‮. ‬أو بالأحري،‮ ‬لا‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يذكر الا‮ ‬غيابه‮. ‬لآلبير أخ أكبر،‮ ‬لوسيان،‮ ‬الذي‮ ‬يكبره بثلاثة أعوام بالكاد‮. ‬كاترين،‮ ‬أمهما،‮ ‬التي وجدت نفسها برفقة طفلين وهي لم تزل صغيرة السن،‮ ‬غادرت مزارع الكروم الي المدينة واستقرت لدي أمها،‮ ‬في الجزائر العاصمة‮. ‬

‮   ‬الحياة شاقة‮. ‬يتقاسم الطفلان،‮ ‬الأم،‮ ‬الجدة،‮ ‬وأيضا الخال،‮ ‬اتيان،‮ ‬الأبكم الي حد ما،‮ ‬شقة صغيرة من ثلاث‮ ‬غرف،‮ ‬في شارع ليون،‮ ‬بالحي الشعبي ببلكور،‮ ‬حيث تهتز الجدران مع مرور عربات الترام‮.‬

‮   ‬لا تعرف كاترين القراءة ولا الكتابة‮. ‬حقق آلبير احدي معجزاتها حينما حاز علي شهادة التعليم الأولي من المدرسة الحكومية‮ : ‬حياة،‮ ‬قدر‮. ‬بعد سنوات طويلة،‮ ‬يتذكرها الكاتب حينما‮ ‬يهدي معلمه في الجزائر،‮ ‬السيد لوي جرمان،‮  ‬خطابه الذي قاله أمام أعضاء أكاديمية نوبل‮. ‬ولكن في دار السينما‮ "‬لو موسيه‮"‬،‮ ‬أكبر محل للجذب في الحي،‮ ‬قام آلبير،‮ ‬التلميذ النجيب عن أخيه،‮ ‬بفك شفرات المشاهد الدخيلة التي تتلاحق علي الشاشة بين الأخبار المصورة والفيلم‮. ‬وأنشأ‮ ‬يكتشف رويدا رويدا الخزي الذي‮ ‬يحيط بالفقر‮...‬في عام‮ ‬1930،احتفالات‮  ‬بالجزائر الفرنسية منذ مائة عام‮. ‬بلبلت الاحتفالات بمئوية الغزو أفكاره‮. ‬محموما،‮ ‬نافثا دما من فمه،‮ ‬يصاب بداء السل‮. ‬يرقد في مصحة مصطفي علي اعتبار أنه‮ ‬يتيم الأمة في حالة سيئة‮...‬

‮   ‬بدأت أولي خطواته الأدبية بعد عامين،‮ ‬في عام‮ ‬1932،‮ ‬في مجلة‮ "‬سود‮" (‬جنوب‮). ‬قصائد،‮ ‬مقالات قصيرة،‮ ‬مقالات نقدية‮. ‬نبرة تتحرر تدريجيا‮ : ‬البداية الاحتفالية‮.‬

‮   ‬لدي ماكس-بول فوشيه التقي كامو وسيمون هييه‮ : ‬وجه بيضوي،‮ ‬عينان بنيتان واسعتان،‮ ‬ساقان طويلتان تسبقها سمعة فتاة‮ "‬متحررة‮" ‬قبل الأوان‮. ‬الرجلان،‮ ‬وآخرون بالتأكيد،‮ ‬يغازلونها‮. ‬ارتبط كامو بها‮. ‬بهر العاشقان أصدقاءهما‮. ‬يتزوجان سريعا،‮ ‬غير أن البعض ذكر أنهما تزوجا في عام‮ ‬1934‭.‬

‮   ‬في العشرين من عمره،‮ ‬كان لكامو هذا العبوس الذي‮ ‬يعبر عن حزمه‮. ‬في‮ ‬يده شهادة في الفلسفة وعمل في الصحافة‮. ‬يحسم مزاجه الكثير من الانشغالات،‮ ‬الأدبية والجمالية علي وجه الخصوص،‮ ‬التي‮ ‬يجابهها‮. ‬ولكن مع الوقت تنفتح حياته علي بعد آخر‮ : ‬السياسة‮. ‬

‮   ‬لم‮ ‬يتأخر الصخب الذي‮ ‬يعصف بأوروبا عن اللحاق بركب المستعمرات‮. ‬لاقامة سد أمام الفاشية،‮ ‬اتحدت قوي اليسار بمختلف دول القارة العجوز مؤسسة الجبهة الشعبية‮. ‬بين القوي المختلفة،‮ ‬انتسب كامو الي الحزب الشيوعي‮. ‬لكن الشعبة الجزائرية من الحزب الشيوعي الفرنسي انحرفت نوعا ما عن الخط الذي حددته الدولة الأصلية‮. ‬بينما كان العدو في باريس هو ألمانيا الهتلرية وايطاليا الموسولينية،‮ ‬كان العدو في الجزائر هو باريس،‮ ‬أو بالأحري،‮ ‬الامبريالية الكولونيالية،‮ ‬التي نظر الشيوعيون الجزائريون اليها علي كونها الطور الأعلي للرأسمالية،‮ ‬علي حد مساواة مع الفاشية‮. ‬تذكر كامو عمال بلكور،‮ ‬من فرنسيين و"أولاد البلاد‮"‬،‮ ‬الذين‮ ‬يدخنون نفس السجائر في المشارب أو في مركبات الترام،‮ ‬وبذلك جذب من هذا الماضي أعدادا من الجزائريين المنتمين الي التزامه اليساري،‮ ‬وكذا بداية العقيدة‮ : ‬ضد الشر،‮ ‬أي الظلم،‮ ‬الذي لن‮ ‬يمحيه الا التضامن الانساني العالمي‮. ‬في نفس الوقت،‮ ‬قادته الكتابة عن سان أوغسطين في ذكراه الي أن‮ ‬يعزز رأيه عن النزعة التشاؤمية الميتافيزيقي‮. ‬التزام وتشاؤم‮ : ‬هكذا نشأت المفارقة الكاموية‮.‬

‮   ‬هل السياسة والجمالية قابلان للتوفيق بينهما ؟ ظل هذا السؤال‮ ‬يلاحق كامو‮. ‬بدون شك،‮ ‬في محاولة للرد علي هذا السؤال أسس‮ "‬مسرح العمل‮"‬،‮ ‬حيث الاسم نفسه برنامج‮. ‬الهدف ؟ عرض المسرحيات الكلاسيكية والمعاصرة علي أكبر عدد من الجمهور‮. ‬في البداية،‮ ‬لم‮ ‬يكن سوي دراماتورجيا‮ ‬يهتم بالمسرح‮. ‬كانت الوظائف التي‮ ‬يشغلها عديدة‮ : ‬مدير،‮ ‬مخرج،‮ ‬معد،‮ ‬ممثل‮... ‬ولكن لم‮ ‬يحن الوقت بعد كي‮ ‬يكون مؤلفا‮. ‬

‮   ‬كان عاما‮ ‬1936‮ ‬و1937‮ ‬عامين مفصليين‮. ‬في بادئ الأمر،‮ ‬انفصل كامو عن زوجه‮. ‬كمدمنة علي المخدرات،‮ ‬أمضت سيمون فترة من الزمن في مصحة للتخلص من سمومه‮. ‬بين علاجين،‮ ‬كانت اللحظات النادرة التي تمضيها بصحبة كامو تنتهي بالمشاجرة ذ وهكذا انفصل الزوجان‮. ‬فضلا عن ذلك،‮ ‬طالبه الحزب الشيوعي الفرنسي بتعديل بعض مواقفه،‮ ‬غير أنه رفض وغادر الحزب‮. ‬ولكن في عام‮ ‬1937‮ ‬صدر له‮ "‬الظهر والوجه‮"‬،‮ ‬وكذا مقالات مكرسة تحديدا عن حي بلكور‮. ‬أقام كامو لدي بعض الأصدقاء أو استأجر‮ ‬غرفا بأسعار زهيدة،‮ ‬غازل فتيات،‮ ‬وكتب‮. ‬متحررا من هذين الالتزامين،‮ ‬السياسي والعائلي،‮ ‬اللذين أصاباه بقلق عنيف،‮ ‬استسلم لنفسه في شوارع الجزائر‮.‬

‮   ‬علي الرغم من تسويده للعديد من الصفحات البيضاء،‮ ‬لم‮ ‬ينظر كامو بعد الي نفسه ككاتب‮. ‬بالمقابل،‮ ‬ارتضي بكونه صحافيا‮. ‬في عام‮ ‬1938،‮ ‬لم‮ ‬يتردد عن ملاقاة باسكال بيا،‮ ‬الذي أسس لتوه صحيفة‮ "‬الجزائر الجمهورية‮". ‬كناقد أدبي،‮ ‬كان معجبا أساسا بجيد‮ (‬آندريه‮) ‬ومالرو‮ (‬آندريه‮). ‬

‮   ‬ومع ذلك،‮ ‬لمع جيدا في المجال السياسي‮. ‬في عام‮ ‬1939،‮ ‬تحت عنوان‮ "‬بؤس بلاد القبائل‮"‬،‮ ‬وقع كامو سلسلة من المقالات التي أثارت فضيحة مدوية‮. ‬مواقفه المؤيدة للمسلمين لن تمر مرور الكرام‮. ‬بعد اعلان الحرب،‮ ‬منعت‮ "‬الجزائر الجمهورية‮" ‬من الصدور‮.‬

‮   ‬كان العالم بأسره علي طريق الجنون والرعب‮. ‬كامو،‮ ‬بلا عمل،‮ ‬ارتحل بين الجزائر ووهران،‮ ‬حيث‮ ‬يحيا حبه الكبير،‮ ‬وليس الحصري‮ : ‬فرانسين فور‮. ‬سريعا،‮ ‬أضجرته وهران،‮ ‬وعلي وجه الخصوص التعطل‮. ‬معالجا من داء السل،‮ ‬كان‮ ‬يعرف بأنه لن‮ ‬يتوجه للقتال‮. ‬أخبره باسكال بيا،‮ ‬الذي رجع الي باريس بعد منع‮ "‬الجزائر الجمهورية‮"‬،‮ ‬بأنه وجد له مكانا في‮ "‬باريس-سوار‮". ‬كان الانفصال عن فرانسين مؤلما‮. ‬

‮   ‬في‮ ‬16‮ ‬أكتوبر‮ ‬1940،‮ ‬وصل كامو الي باريس،‮ ‬خلال الفترة التي حفظها التاريخ تحت اسم‮ "‬غرابة الحرب‮". ‬كانت الرقابة تسيطر علي صحافة العصر،‮ ‬وقد أفرغت المهنة من كل معني،‮ ‬مما أفضي بكامو الي الاتجاه نحو الأدب‮. ‬بينما كانت الصحافة تؤكد أن الجيش الفرنسي في أفضل حالاته وأن علي الألمان أن‮ ‬يلبثوا مكانهم،‮ ‬شرع آلبير كامو في كتابة‮ "‬الغريب‮"‬،‮ ‬رجوعا الي المدونات،‮ ‬المقاطع والفصول المبعثرة التي كتبها في الجزائر‮. ‬بعد أيام،‮ ‬قبل أن تشن ألمانيا هجومها الشامل،‮ ‬كتب الي فرانسين فور‮ ‬يعلنها بأن روايته انتهت‮. ‬منهكا ومحرضا،‮ ‬كان‮ ‬يشعر بأنه انتهي من عمل الكاتب الحقيقي‮.‬

‮   ‬بيد أن التاريخ أنشأ‮ ‬يكتب في هذه اللحظة،‮ ‬لحظة المعركة‮. ‬كانت‮ "‬باريس-سوار‮" ‬والصحف الباريسية الأخري‮ ‬متفائلة الي حد كبير،‮ ‬ولكن كان الاندحار العسكري‮. ‬في يونيو،‮ ‬فرت الحكومة من باريس‮. ‬فريق‮ "‬باري‮-‬سوار‮" ‬تبعها‮. ‬وهنا طلب الماريشال بتان الهدنة‮.‬

‮   ‬خلال هذا الهدوء،‮ ‬قدمت فرانسين للقاء آلبير في ليون،‮ ‬حيث استقرت هيئة تحرير‮ "‬باري‮-‬سوار‮". ‬يتزوجان‮. ‬لسوء الحظ،‮ ‬الصحيفة،‮ ‬وقد فقدت جانبا كبيرا من قرائها،‮ ‬تخلصت من عدد من محرريها‮. ‬وهنا فقد كامو بدوره وظيفته‮. ‬كانت وهران ذ حيث تستطيع عائلة فرانسين استضافة الزوجين‮ - ‬طوق نجاة الزوجين‮. ‬

‮   ‬مرة أخري وهران،‮ ‬مرة أخري السأم‮... ‬كامو،‮ ‬للوقوف علي قدميه،‮ ‬أنشأ‮ ‬يعتقد في عمله أكثر فأكثر‮. ‬تراسل مع باسكال بيا،‮ ‬الذي بقي في ليون‮. ‬

‮   ‬باسكال بيا،‮ ‬الذي أحب كامو كأب له،‮ ‬بحث له مرة أخري عن عمل في فرنسا‮. ‬ولم‮ ‬يجد‮. ‬غير أنه قدم له خدمة‮ : ‬عمل علي تنشيط معارفه لكي‮ ‬يساعده في نشر‮ "‬الغريب‮" ‬لدي‮ ‬غاليمار‮. ‬

‮   ‬عاده المرض ثانية‮. ‬نصحه الأطباء بالاقامة شتاء في الجبل،‮ ‬بالأحري في أوروبا‮. ‬بقليل من المال الذي أتاه من‮ ‬غاليمار ومن راتب فرانسين تمكن الزوجان من الرحيل‮. ‬استقرا في البداية في شامبون-سور-لينيون‮ (‬في‮ "‬الهوت-لوار‮"). ‬ثم رجعت فرانسين الي وهران،‮ ‬تاركة زوجها وحيدا في فرنسا‮. ‬منخرطا في حركة‮ (‬وصحيفة‮) "‬كومبا‮" (‬معركة‮)‬،‮ ‬قام باسكال بيا باخطار كامو بمجريات المقاومة‮. ‬ولكن،‮ ‬وقتذاك،‮ ‬كان الكاتب لا‮ ‬يفكر الا في كسب الجزائر‮. ‬وبما أنه أمر مستحيل،‮ ‬كتب‮ "‬الطاعون‮"... ‬

‮   ‬عام‮ ‬1943‮ ‬وفاة جون مولان خلال ترحيله الي ألمانيا،‮ ‬وهبوط الحلفاء في صقلية‮. ‬مع استقراره في باريس،‮ ‬أصبح كامو قارئا للنصوص في‮ ‬غاليمار،‮ ‬حيث بدأ‮ ‬يربح عيشه بصورة طيبة‮. ‬وعلي وجه الخصوص،‮ ‬استعاد عمله الصحافي‮. ‬في المقاومة السرية،‮ ‬في‮ "‬كومبا‮"‬،‮ ‬حيث لم‮ ‬يزل باسكال بيا مرشده‮. ‬قاوم كامو بالقلم،‮ ‬بالقلم وحده‮. ‬لم‮ ‬يلمس السلاح‮. ‬علي مدار هذه المرحلة،‮ ‬صادق جون بول سارتر وعقد علاقة مع الممثلة ماريا كاساريس‮. ‬كما جري طوال حياته،‮ ‬لم‮ ‬يكف المرض السابق بالسل عن التدخين ولم‮ ‬يهجر كذا الشراب‮. ‬بعد سنوات،‮ ‬كتب في احدي كراساته،‮ ‬أن الشراب حقق له نشوة خادعة وأنه أصبح مع الوقت زاهدا‮... ‬

‮   ‬مع التحرير،‮ ‬كامو،‮ ‬الذي لم‮ ‬يكن‮ ‬يسعي لكي‮ ‬يكون بطلا،‮ ‬أصابه القلق من عمليات التطهير ومن هؤلاء المثقفين الذين‮ ‬يعتبرون أقل بطولة منه بيد أنهم‮ ‬يظهرون أكثر صلابة‮. ‬استقلاله الذهني الحاد قاده للبعيد‮ : ‬علي الرغم من نشوة النصر،‮ ‬كان قادرا علي توبيخ المنتصرين‮. ‬حينما ألقيت القنبلتان الذريتان علي هيروشيما ونجازاكي،‮ ‬انفجر سخطه‮. ‬كان الوحيد الذي تجرأ علي الانتقاد‮.‬

‮   ‬بداية العصر الذهبي لحي سان-جرمان-ديه-بريه‮. ‬وبرغم من أنه ليس من أعمدة‮ (‬مقهي‮) "‬الفلور‮"‬،‮ ‬صداقته مع سارتر احدي صور هذه المرحلة‮. ‬عن الأخ الذي‮ ‬يصغره بثماني سنوات،‮ ‬قدم سارتر هذا الوصف‮ : "‬اتصال رائع بين رجل ونتاجه‮". ‬وذات مساء،‮ ‬قال له باسما،‮ ‬بنبرة ودية‮ : "‬أنا أكثر ذكاء منك‮". ‬لم‮ ‬يعارضه كامو مطلقا‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬اذا كان سارتر مقتنعا بذلك،‮ ‬فهل كان‮ ‬يحتاج الي تنبيهه ؟ أو الي طمأنته ؟

‮   ‬استعاد كامو الصلة مع احدي محبوباته‮ : ‬المسرح،‮ ‬مسرحية‮ "‬كاليجولا‮" ‬التي حققها جيرار فيليب،‮ ‬التي شغلت ذهنه منذ عام‮ ‬1938‮ ‬والتي لم‮ ‬يكف عن التفكير فيها خلال الحرب‮.‬

‮   ‬لم‮ ‬يزل أحد وساوسه القديمة‮ ‬يلاحقه‮ : ‬كيف‮ ‬يتم التوفيق بين السياسة والجمالية،‮ ‬الابداع والالتزام ؟ كان هذا السؤال‮ ‬يثير جميع معاصريه‮. ‬حتي أنه طرحه في خطاب نوبل‮. ‬في هذا الصدد،‮ ‬كان سارتر متمسكا بموقفه‮ : ‬وهكذا تبدي مفترق طرق لوجهات النظر بين الرجلين‮. ‬بدون أن‮ ‬يدافع عن نفسه اعلاميا،‮ ‬رفض كامو مع ذلك الاشارة اليه‮ "‬بالوجودي‮" ‬التي عمل البعض علي تصنيفه بها‮. ‬في عام‮ ‬1951،‮ ‬صدر كتاب‮ "‬الانسان المتمرد‮". ‬وتبعه مقال لفرانسيس جونسون‮ ‬ينتقده لرجعيته‮. ‬نشر المقال في‮ "‬الأزمنة الحديثة‮"‬،‮ ‬المجلة التي‮ ‬يديرها سارتر‮. ‬متجاهلا كاتب المقال،‮ ‬كتب كامو مباشرة الي صديقه،‮ ‬الذي نشر تعليقه في العدد التالي،‮ ‬مرفقا برد صارم‮. ‬ما هي الجملة القاتلة ؟‮ "‬أخلاقك تحولت في البداية الي نزعة أخلاقية،‮ ‬واليوم ليست الا أدبية‮".‬

‮   ‬لم‮ ‬يكن سؤال العلاقة بين الفن والسياسة بعيدا‮. ‬في نفس هذا الرد،‮ ‬رجع سارتر الي الطفولة الفقيرة لكامو،‮ ‬متهمه بكلمات‮ ‬غير صريحة بكونه ذريعة اليسار‮. ‬خلف تواضع ظاهر،‮ ‬كامو السريع التأثر،‮ ‬شعر بكونه قد جرح‮. ‬لم‮ ‬يعد الرجلان‮ ‬يتحدثان‮.‬

‮   ‬كانت حرب الجزائر آخر التزام لآلبير كامو‮. ‬وآخر مواجهاته مع سارتر‮. ‬بينما كان الأخير‮ ‬يعظم الاستقلال الخالص والبسيط،‮ ‬كان كامو لا‮ ‬يري الي أن الأرض التي شهدت ولادته تكون أرضا‮ ‬غريبة‮. ‬حقق هذان الموقفان شيئا من الحيرة وعدم الفهم‮. ‬الدم الذي‮ ‬يروي الجزائر مثل دمه‮. ‬عاني كامو من هذا الصراع،‮ ‬الذي اعتبره كصراع الأخوة‮. ‬هل خففت جائزة نوبل،‮ ‬التي تلقاها في عام‮ ‬1957،‮ ‬المصاحبة بتحيات فرانسوا مورياك وويليام فوكنر،‮ ‬عن أحماله ؟ من المحتمل‮. ‬مكنته من شراء منزل في البروفانس،‮ ‬بلورمارين،‮ ‬قرب بحر متوسط طفولته،‮ ‬تحت هذه الشمس الدافئة التي تنقصه دوما‮. ‬هذا الشراء لم‮ ‬يجلب له الحظ‮. ‬في‮ ‬4‮ ‬يناير‮ ‬1960،‮ ‬بدلا من أن‮ ‬يسافر الي باريس من لورمارين بالقطار،‮ ‬عرض ميشال‮ ‬غاليمار عليه أن‮ ‬يستقل سيارته‮. ‬وعلي بعد مئات من العاصمة،‮ ‬ولسبب‮ ‬غير معروف،‮ ‬انحرفت السيارة عن طريقها‮. ‬ويموت‮ ‬آلبير كامو تحت وقع الحادثة‮.‬


‬من وإلي جان دانيال
رسائل كامو

ت‮: ‬أحمد عبداللطيف

شاهدان من القرن العشرين‮ ‬يتبادلان المراسلات خلال سنوات‮. ‬هنا نجد كامو العنيد والحريص علي الشكليات لكنه أيضاً‮ ‬المتيقظ،‮ ‬الذي‮ ‬يقدم عملاً‮ ‬أو مساعدة لصديق من أجل إطلاق سراح بعض السجناء‮. ‬كما نجد جان دانيال الحنون والمشغول بأزمة صديقه‮. ‬مفكران كبيران ‬فرنسيان من أصل جزائري،‮ ‬وجهاً‮ ‬لوجه‮. ‬مراسلات أخرجها هذا العام،‮ ‬في عامه الثالث والتسعين،‮ ‬جان دانيال،‮ ‬وبشكل حصري لجريدة الكولتورال الإسبانية التي احتفلت بكامو عبر نشر هذه الرسائل‮.‬


كابري،‮ ‬26‮ ‬فبراير‮ ‬1950

‮ ‬أشكرك لأنك أرسلت لي نسخة‮  ‬من كاليبا‮ ‬]مجلة ثقافية أسسها دانيال[ التي تضم‮ "‬العادلون‮". ‬الطبعة جيدة بصدق،‮ ‬لكنني لا أستطيع أن أقول نفس الشيء عن النصوص المنشورة‮. ‬الحقيقة أن العدد في مجمله بدا لي مغرضاً،‮ ‬لقد ركز علي الجانب السلبي من القضية فقط‮. ‬وبعد أن قرأت النصوص،‮ ‬بدا لي أنكم تنصحون الناس أن‮ ‬يبقوا في البيت مكتوفي الأيدي‮. ‬الأمر ليس أنني أعرف إن كان‮ ‬يتحتم قتل الحارس مع وجود أطفال ثم الهروب ‬بل هل‮ ‬يتحتم قتل أبناء الحارس أيضاً‮ ‬لتحرير السجناء‮. ‬القضية هامة‮. ‬زمننا لا‮ ‬يجيب بنعم أو لا‮. ‬أنا لم أقترح الموضوع،‮ ‬غير أنني اخترت أن أحيي من اقترحوه،‮ ‬واستخدمتهم ووقفت خلفهم مختبئاً‮. ‬حقيقي أيضاً،‮ ‬مع ذلك،‮ ‬أن إجابتك ليست‮: ‬حتمية البقاء بالبيت،‮ ‬بل‮ ‬1‮) ‬هناك حدود والأطفال حد‮ (‬من بين حدود أخري‮) ‬2‮) ‬يمكن قتل الحارس‮. ‬3‮) ‬لكن من الضروري أن‮ ‬يموت الشخص نفسه‮. ‬أما الإجابة الضمنية للفترة التي نعيشها فعلي العكس‮: ‬1‮) ‬ما من حدود‮. ‬الأطفال بالطبع،‮ ‬لكن في حسابات موجزة‮.. ‬2‮) ‬لنقتل كل العالم إن كان ضرورياً‮. ‬3‮) ‬لنرفع شعار الشرف‮.  ‬
تدخلي الوحيد‮ ‬يكمن في عرض الدراما،‮ ‬إبراز كيف تتطور والقول‮:‬فكروا فيه‮. ‬نحن علي مسافة من مشكلة الرعاية التي تمزق القلب والتي اراد البعض أن‮ ‬يراها في‮ "‬العادلون‮" ‬والتي‮ ‬يبدو أن حضرتك تستحضرها من جديد‮. ‬بالطبع ‬لم أكن لأكلف نفسي عناء الرد إن لم‮ ‬يكن الأمر متعلقاً‮ ‬بمجلة كاليبا‮. ‬لكنني أعرف أنه في حالتك وحدها‮ ‬يمكنني التحدث عن إهمال ما،‮ ‬وبالتالي ما من شيء أفضل من التحدث بصراحة‮. ‬أما ما‮ ‬يخص الأمور الأخري،‮ ‬فربما أكون مخطئاً‮. ‬
رغم هذا،‮ ‬فالعدد‮ ‬يبدو لي ممتازاً‮. ‬كنت محقاً‮ ‬تماماً‮ ‬بنشر‮ ‬سيد وخادم ‬لتولستوي ‬فهي عمل عظيم‮. ‬هل فكرت في أدولف‮ (‬بي‮. ‬كونستانت‮) ‬وهي عمل آخر عظيم؟
مودتي
كامو
ملحوظة‮: ‬احتفظ بما قلته لك سراً،‮ ‬بالطبع ‬ولا تلوم أحداً‮ ‬من مساعديك ولو كان لوماً‮ ‬ناعماً‮.‬



ألبير كامو إلي جان دانيال
٢٥‮ ‬أغسطس‮ ‬1954

عزيزي دانيال
أكتب لك كلمات سريعة لأقول لك علي الأقل إنني حزين لطريقة تقديم مقالي‮. ‬اسمي في الغلاف والإشارة الغامضة في نهاية المقال،‮ ‬جعلاني أستحضر جريدة‮ ‬L Express. هذه ليست القضية‮ ‬فأنا لم أقرر بعد وعندما أقرر سأفعل بشكل عملي‮. ‬لكن قمة الكوارث خطأ مطبعي نقل كلمة‮ ‬حرية‮ ‬في عبارة عن أورتيجا إلي جاسيت‮. ‬طالع سييء،‮ ‬لكنني كنت أريد أن أخبرك برد فعلي،‮ ‬ما لا‮ ‬يمنع احترامي لحضرتك‮.‬
ألبير كامو

جان دانيال إلي ألبير كامو‮ (‬ورقة عليها لوجو فندق سان جورج بالجزائر،‮ ‬ربما في عام‮ ‬1957‮)‬

عزيزي ألبير كامو
لا أعرف إن كنت ستتلقي هذه الرسالة وأنت في باريس أم لا‮. ‬أتمني ذلك،‮ ‬لأنك‮ ‬يجب أن تعرف أنني لم أشتق لصداقتك مثل الآن وأن هذا العام الحزين ترك علامته في نفسي،‮ ‬وكان بعدنا سبباً‮ ‬من بين أسباب أخري لحزني‮. ‬ربما أنا المسؤول عن هذا ‬ربما‮. ‬لكن ذلك لم‮ ‬يجعل العاقبة القاسية محل قبول من جانبي‮. ‬
سبب آخر كان العام الجزائري‮. ‬هنا أري،‮ ‬رغم كل انتصارات السماء التي تعرفها حضرتك،‮ ‬مشاهد مبغضة‮. ‬نحمل للجزائر جرحاً‮. ‬ففي الجزائر العاصمة،‮ ‬حيث نتمني أن نسعد بعودة الهدوء إليها،‮ ‬تمحو الاعتقالات والتعذيبات كل ما‮ ‬يثير في العالم العربي الفخر بالنصر‮. ‬شيء فظيع‮ ‬يا ألبير كامو‮ ‬ما‮ ‬يعيشه هنا بلدنا،‮ ‬شيء فظيع لا‮ ‬يمكن احتماله‮. ‬هذه المرة عليك أن تنصت لي‮ ‬وعليك أن تنصت لي بالثقة التي أري بها الأشياء من خلال حساسيتك الخاصة‮. ‬انتهيت من قراءة‮ ‬الضيف‮ ‬التي هي‮ "‬السيد والعبد‮" ‬الجزائرية‮. ‬إنها تقدم أفضل كامو‮. ‬والإهداء أثار عاطفتي،‮ ‬كما أثار عاطفة أصدقائك‮  ‬الحميمين‮.‬
المخلص
جان دانيال



جان دانيال
ألبير كامو إلي جان دانيال
باريس،‮ ‬18‮ ‬يوليو‮ ‬1952



عزيزي دانيال
أكتب لك هذا الخطاب لضرورة قصوي‮. ‬ومنذ عدة ساعات وأنا أحاول أن أطلعك علي وضع ربما‮ ‬يهمك‮. ‬
الأمر كالتالي‮: ‬بلوخ ميشيل‮ ‬]جان بلوخ ميشيل،‮ ‬كاتب فرنسي ومن أصدقاء كامو[ قام بحوار مع بريت،‮ ‬الذي تعرفه حضرتك،‮ ‬علي ما أظن،‮ ‬والذي‮ ‬يدير وكالة أنباء‮ ‬يعمل بها بلوخ ميشيل‮. ‬بريت قال له إنه‮ ‬يريد أن‮ ‬يوسع عمله،‮ ‬وكما قد علمت فحضرتك متاح،‮ ‬وبما أنك تشعر بألفة مع مجلة كاليبان فقد تحب أن‮ ‬يرحبوا بك في فريق عملهم‮. ‬لقد حدثني ميشيل في الأمر في الليلة السابقة علي انصرافك،‮ ‬وهاتفتك في الثانية عشرة والنصف ليلاً،‮ ‬ولأنك لم ترد،‮ ‬فكرت أنك انصرفت منذ الصباح،‮ ‬بحسب ما قلته لي‮. ‬أندريه بينيكوه‮ ‬]صحفي فرنسي{ صحح لي خطأي وأعطاني عنوانك‮. ‬لكن لم نخسر شيئاً‮. ‬أبسط شيء أن تقوم حضرتك بزيارة بريت دون تأخير،‮ ‬وأن تخبره أن ميشيل قد أخبرك بنيتهم وتسأله ماذا‮ ‬يمكن أن تفعل‮. ‬
يجب أن أقول لك إنني أتمني من كل قلبي أن توفق في هذا الامر،‮ ‬لأنك بذلك ستعود من جديد لتكون بيننا‮.‬
أضغط علي‮ ‬يدك بكل ود‮.‬



جان دانيال لألبير كامو 1951

عزيزي ألبير كامو
لدي ما‮ ‬يكفيني من دماء متوسطية لأخشي عادات الأدباء-هذا التجسيد للتدهور الباريسي‮- ‬ولا أريد أن أشكرك أن أرسلت لي مخطوط كتابك‮. ‬لكنني انتهيت في التو من‮ ‬الرجل المتمرد‮ ‬وأحب أن تسمح لي،‮ ‬قبل أي شيء،‮ ‬أن أعبر عن إعجابي وتقديري الحار‮. ‬لقد انتهيت من الكتاب قبل أن تظهر المقالات النقدية ورغم أنني كنت مقتنعاً‮ ‬بأهمية الكتاب التي لا جدال فيها،‮ ‬إلا أنني لم أكن متأكداً‮ ‬من عدم تصويب سلاح القضاة المتخصصين إليك‮. ‬حسناً،‮ ‬سواء عبروا عن رأيهم بمديوكرية أم لا‮ ‬كلهم استقبلوا عملك كحدث‮. ‬وأنا شعرت بسعادة كثيفة وعميقة كأنني بطريقة ما أشارك في نجاح حضرتك‮. ‬ولأنني أشاركك،‮ ‬أطلب منك أن تصدق صداقتي المخلصة والكلية،‮ ‬واسمح لي أن تكون صداقة أخوية‮.‬



ألبير كامو
جان دانيال إلي ألبير كامو


عزيزي ألبير كامو
شكراً‮ ‬لرسالتك‮: ‬لمحتواها،‮ ‬لاهتمامك الذي توليه لي،‮ ‬لما‮ ‬يرمز إليه فعلك،‮ ‬في بيئة تمنحني كل أنواع الألم،‮ ‬أو أغلبه‮. ‬لا أضجر من قول إن نفس الأشياء،‮ ‬نفسها،‮ ‬التي كانت نبعاً‮ ‬للسرور صارت نبعاً‮ ‬للضيق‮. ‬حتي ماء البحر قد‮ ‬يغير ملمسه‮. ‬شيء فظيع‮. ‬اعذرني إن استفضت،‮ ‬فالذنب ذنبك‮: ‬فكل ما تفعله لي أفعال صديق‮.‬
‮  ‬كتبت في الحال إلي بريت،‮ ‬الذي أعرفه بالفعل‮ (‬إنه أحد القلائل في اليونيسكو الذي ساعدني بشكل فعال وبحسن تصرف‮). ‬إن عاودت لقاء بلوخ ميشيل،‮ ‬أيمكن أن تشكره نيابة عني؟‮  ‬
قبل أن أتلقي خطابك كنت قد قررت الكتابة لك‮. ‬الموضوع متعلق بهذه الأزمة التي تمر بها والتي لا أتجرأ علي تحليلها،‮ ‬وكنت أحاول أن أقول لك إن شيئاً‮ ‬واحداً‮ ‬فقط‮ ‬يمكن ويجب أن‮ ‬يخرجك من أزمتك‮: ‬احتياجي لك وبشدة،‮ ‬احتياج الآخرين لك وبشدة‮. ‬ربما تكون هذه حقيقة وحيدة تناهض الغرور‮. ‬لا تنظر لهذه الكلمات علي أنها ربما تكون وقحة،‮ ‬بل تعبر صدقاً‮ ‬عن تقديري لشخصك ولكتابتك‮.   ‬
جان دانيال‮ ‬


جان دانيال لألبير كامو‮ ( ‬رسالة عليها لوجو مجلة
L Express)
باريس،‮ ‬الثاني من ديسمبر‮ ‬1958


عزيزي ألبير كامو
أكدوا لي أن تدخلاً‮ ‬من جانبك‮ ‬يمكن أن‮ ‬يحقق،‮ ‬في هذه اللحظة الدقيقة،‮ ‬إطلاق سراح أو التخفيف من وضع السجناء المذكورين في القائمة التي أرفقها لك‮. ‬فقط أريد أن أدافع عن الاهتمام بهؤلاء السجناء،‮ ‬وبعضهم أصدقاء لي،‮ ‬وليس لدي نية لعمل أي دعاية من أي نوع لاقتراحي الذي أقدمه لك وما‮ ‬يمكن أن تقوم به من إجراءات‮. ‬لكنني أعرف أن السيد باتين،‮ ‬رئيس لجنة حماية الحريات والحقوق الفردية سيتحدث حول قضية عدد من المسلمين المعتقلين وأعرف أنه لن‮ ‬يتجاهل طلباً‮ ‬من جانب حضرتك‮. ‬الأمر عبارة عن مجموعة من القوميين القادرين علي فعل تأثير سياسي وقوي في دائرتهم‮.  ‬أنا سعيد بمكالمتك التليفونية‮. ‬هدفي لم‮ ‬يكن العودة لرؤيتك،‮ ‬بل استئناف صداقتنا‮.‬
جان دانيال
‮(‬استطاع كامو،‮ ‬كما‮ ‬يظهر ذلك في رسالة أخري،‮ ‬أن‮ ‬يساهم في إطلاق سراح السجناء‮)‬



منقول من موقع أخبار الأدب 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق