الأحد، 1 يوليو 2012

العلم بين الأصالة والزيف

| |
 

الكاتب
 :  د. شوقي جلال: مصر





دراما الحياة الإنسانية على مدى التاريخ أن الإنسان وحده هو الذي يشعر في هذا الكون -أو هكذا نظن- بالغربة والغرابة والحيرة, وهو دائم السؤال عن سر الحياة والوجود. إنه وحده من يسأل ويشك ويبحث عن تفسير, يلتمس إجابة تهدئ روعه، أو تبث في نفسه طمأنينة وسكينة، أو يحاول أن يفهم أنه أسير قلق وجودي وبحث لا يهدأ عن المعرفة لتجيب عن سؤاله وتهدئ حيرته، وهكذا نشأت له ثقافة. 
عاش الإنسان دهراً منذ أن تميز عن سواه بذاكرة واعية ويدين ماهرتين، فضلاً عن قامة انتصبت ليرى الوجود من حوله بأبعاده الثلاث، والسماء فوقه تمنحه وتعطيه دفئاً وماء فيهما الحياة. وظل الإنسان، وليس غريباً أن لا يزال، يرى نفسه يعيش في عالم مسكون بالأشباح والقوى الخفية التي تثير في نفسه القلق والرعب ظناً منه أنها تتحكم في مصائر البشر. تسعده أو تشقيه وليس بيده من أمره شيئاً. وتعلم فن التوسل، كيف يسترضيها لتمنحه السعادة أو يعوذ بها لتذود عنه شراً. 
عالم ملئ بالأحداث الغامضة المبهمة المروعة التي لا يعرف لها تفسيراً. أحداث ونوازل تقع على حين غرة ويعجز عن التنبؤ بها, برق خاطف، زلزال مدمر، بركان تتصدع بسببه الجبال، طوفان يغرق الأخضر واليابس وتندثر معه معالم الحياة، أمراض موجعة تحصد الأرواح. ولا يجد الإنسان لذلك تفسيراً, عالم بلا مستقبل, يحاول أن يفهم، يراجع نفسه: لماذا؟.. ويتسع نطاق السؤال ليشمل الوجود بكل مظاهره, وجود الإنسان والطبيعة والحيوانات والهوام، المبتدأ والنهاية.. من أين وإلى أين المصير.. وتستبد به الحيرة، ويؤرقه العجز. 
نشأت الأسطورة مع بداية الجهود الجمعية أداةً للفهم والتفسير والتعامل مع ظواهر الوجود.. والقابضون عليها هم أهل المعرفة.. أو العرافون.. ملاذ الناس للسؤال وللشفاء.
وظلت الجماعات البشرية على حالها هذا إلى أن استهلت مرحلة جديدة تمثل تحولاً كيفياً في مسيرتها. وهو تحول اقترن بتغيرات مناخية منذ عشرة آلاف سنة. بدأت مرحلة الاستقرار والزراعة والأسرة الممتدة بعد حياة القنص وقطف الثمار.. وأفاد الإنسان من ذاكرته بأن تابع الظواهر المتواترة وآثارها على نفسه وعلى بيئته إيجاباً وسلباً، ويسجلها في ذاكرته ليعزز أسلوب حياة الاستقرار الجديدة. 
وتوافرت الظروف اللازمة لاختراع الكتابة والأعداد ليسهما في إثبات وتسجيل ظواهر الطبيعة ودلالتها ونتائجها, فيسرت المشاركة الجمعية، وتبادل الخبرة بين الأجيال على مدى الزمان. وتخصص رجال من أجل علم أو معرفة هذه الظواهر الخاصة بالبيئة ومردودها على الإنسان, وتسجيلها كتابة ورسوماً، وتسجيل الكلمات والشعائر اللازمة للتفاهم معها. ومع مرور القرون تهيأت للمجتمعات رصيدها المعرفي الذي يمثل إجابة عن تساؤلات الحياة تمنحهم الطمأنينة لكي ينصرفوا هم إلى شؤون معاشهم. ونشأت البدايات الأولى لعلوم/معارف تطبيقية ربما لا تعتمد نظرية أو برهاناً ولكن تعتمد النتائج في التطبيق. وشهدت المعمورة كيانات متفرقة هي المرتكزات الحضارية الأولى في بابل وآشور ومصر القديمة والصين وأوغاريت والمكسيك.. وغيرها. 
وطبيعي أن جرى تلاقح معرفي بين المجتمعات، ومن ثم تطور وتجديد وظهرت نهضات علمية/ معرفية على مراحل وأطوار حفظت وأثرت وطورت الرصيد الإنساني المشترك. ونذكر هنا الحضارة العربية والصينية كمثال في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر التي يدين لهما الغرب بالكثير. وهكذا إلى أن مال ميزان التطور الحضاري ناحية الغرب في أوروبا، وجاء عصر يوصف بأنه عصر العلم منذ أكثر من ثلاثة قرون تحددت فيه خصائص ومعايير مميزة للعلم. عصر هو ثمرة وامتداداً للمتصل الحضاري الإنساني، وطفرة كيفية جديدة امتلكت البشرية بفضلها قدرة متميزة للفهم والتحكم في ظواهر الطبيعة وأساليب أنتاج جديدة. وذاعت معها بدايات عبارة (العلم والتكنولوجيا) مقترنين معاً, ونصف إنجازاتهما المشروطة علماً, أما ما دون ذلك فهو امتداد لما ليس علماً في الماضي. 
ولكن عادة التشبث بالقديم تجعل أهل الماضي حريصين على وصف أعمالهم ونظراتهم بأنها علم، ولكنه علم زائف حتى وإن ظلت لها السيادة على الغالبية من عقول البشر. ألا ترى الناس، كمثال، مع كل صباح يستهلون يومهم بتصفح الطالع والأبراج ليعرف المرء كيف سيكون يومه.. أو حين يتعارف مع آخر يسأله ما اسم البرج الذي تنتمي إليه، وهو سؤال قديم قدم تاريخ الإنسان. 
وجدير بالذكر أن مخاض ميلاد العلم الحديث في أوروبا كان شديد الوطأة قاسياً. إذ دار صراع حاد بل حروب ضارية بين أنصار التشبث بالفكر التقليدي القديم وبين دعاة العقل الجديد وحق الإبداع والبحث والتغيير. ويذكر لنا التاريخ عديدين ضحوا بأرواحهم فداء إبداعاتهم. واستطاع رواد الفكر والعلم والنهضة أن يصوغوا إطاراً حاكماً للفكر العلمي يحدد عناصر وخطوات العلم أو المنهج العلمي في البحث والتحقيق والاكتشاف. 
واستقر الرأي، وهو رأي قابل للتطوير، أن العلم مشروع إنساني، ونشاط اجتماعي متطور هدفه فهم العلم وقوانين ظواهره، وأن له مردوداً في خدمة ورفاه البشرية والتنوير, أي الفهم العقلاني المنهجي لظواهر الوجود بما في ذلك الإنسان والمجتمع شرط أن يكون ذلك قرين السلوك الرشيد المحكوم بقيم سامية. هذا على الرغم من استخدام منجزات العلم في الصراع والحروب بين المجتمعات إلا أن ذلك يمثل انتهاكاً للمثل الأعلى والقيم السامية للعلم. 
ويعتمد البحث العلمي على وقائع تخضع للملاحظة، والفروض العلمية والاختبار والتجربة وصولاً إلى نظرية قابلة للاختبار، ومتطورة مع اطراد البحث وامتداد الزمان وتنوع السياق. وتتصف النظرية العلمية بالقدرة على التنبؤ، فضلاً عن أنها لا شخصائية بمعنى أنها ليست مرهونة برأي شخص أو سلطة خارج الظاهرة، وقابلة للتحكيم. وتتصف أيضا بالدينامية الخصبة إذ أنها تحفز إلى المزيد من المعرفة والبحث، وتتطور مع تطور وتباين الواقع. وتختلف جذرياً عن معارف التقليد بأنها لا تدعي العصمة واليقين المطلق بل تحتمل الشك على عكس ما كان الحال في أوروبا العصور الوسطى تقدس فكر أرسطو وترفض الخروج عليه أو الشك فيه. 
وفي موازاة العلم الحديث ومنهج البحث العلمي ظهرت تيارات فكرية جديدة لبست ثياب العلم شكلاً، بينما هي امتداد أو ردة لنهج فكري قديم، أو لنقل إحياء للقديم في ثوب عصري جديد. ولعل من أهم أسباب ظهورها بكثافة هو طبيعة الأزمة الفكرية وكذا الأزمات والكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها العالم في مرحلتنا الراهنة وتنذر بنهاية منظومة كاملة هي إطار العلم الحديث. ويكفي أن نشير إلى الخوف من احتمالات فناء العالم بسبب حرب نووية أو خطر احترار كوكب الأرض. وهذه أخطار يردها البعض إلى العلم دون النظر إلى ما وراء ذلك من أطماع وانتهاك لقيم إنسانية. هذا فضلاً عن أن العالم يعاني الآن أزمة اعتقاد خانقة سقطت معها كل النظريات التي تمثل أساساً لنهضة العصر الحديث. وباتت الإنسانية تعاني من حالة فراغ فكري وتلتمس سبيلاً للخلاص وإبداع جديد. زد على هذا الخوف الذي يستبد بالغرب وهو يشهد نذر الانحسار الحضاري بعد هيمنة وصعود الشرق. ومن ثم تفاقمت مشاعر الخوف والعيش أسير متاهة الحيرة. 
وحقيقة الأزمة إنها أزمة انحسار الطبقة الرأسمالية العليا المحافظة والرافضة للتغيير بعد أن توحشت أساليبها في استغلال الشعوب، وشنت حرباً بعد أخرى ثم حروباً بالوكالة دفاعاً عن مصالح أنانية مع إصرارها على استثمار العلم فكراً وإنجازات وقيماً بالخداع والتضليل لتأكيد هيمنتها. إنها ليست أزمة العلم ولكن أزمة أصحاب السلطات في استخدام وتمويل العلم. ويأبى هؤلاء إلى أن يطرحوا أزمتهم خارجاً على شعوبهم وشعوب العالم باسم العلم وفي صورة نظريات يدعون أنها علمية. وتروج أجهزة الإعلام التي تعمل في خدمتهم لهذه النظريات لكي تشيع بين الناس أو لتكون ذريعة ومبرراً لسطوتهم.
ونجد تجسيداً لذلك في نظريات ورؤى عديدة مثل النظريات الداعمة للنزعات العرقية وادعاء أن عرقاً ما له حق السيادة والهيمنة على الأعراق الأخرى. كذلك زعم فوكوياما أن حضارة الغرب هي الذروة ونهاية التاريخ. وهذا زعم سبق أن كرره فلاسفة ومفكرو الغرب مع بداية عصر الاستعمار. ونذكر أيضاً زعم صمويل هتنجتون الذي رأى أن صدام الحضارات مستمر بين الغرب وعقائد الشرق الإسلام والكونفوشية. ومن ذلك أيضاً الزعم أن حضارة الإغريق وحدها هي مهد الحضارات والفكر العقلاني وأن الشعوب الأخرى السابقة على الإغريق  لم تسهم أو عجزت عن أن تقدم إسهامات حضارية. واستخدم الغرب هذه النظريات في العصر الحديث ليبرر (حقه) في استعمار الشعوب. 
واقترن هذا بشيوع حركات (فكرية) تروج لمزاعم ليس لها سند علمي من مثل حركة العصر الجديد التي نشأت نتيجة أزمة الإيمان المسيحي في الغرب، نتيجة للتناقضات الواضحة بين ما نص عليه الكتاب المقدس وما كشفت عنه البحوث والاكتشافات العلمية. وتفاقمت الأزمة مع التشابك الوثيق بين مجتمعات وثقافات العالم. وهذه أزمة لها أصداؤها ولها قرائن في المجتمعات الأخرى يغذي بعضها بعضاً. 
وتحمل هذه النظريات والتيارات اسم (العلم الزائف) أو اللاعلم. ويتمثل العلم الزائف في صورة مجموعة أو بنية من أفكار تأسست على (نظريات) يقدمها أصحابها باعتبارها نظريات علمية أو ربما كانت كذلك قديماً وثبت خطؤها مثل نظريات الذكاء والعرق، أو الأثير، أو نظريات الفراسة التي ترى أن شكل الجمجمة مرتبط بسلوك الجريمة. 
ونجد من أهم خصائص العلم الزائف من حيث تمايزه واختلافه عن العلم الأصيل أن العلم الزائف زعم أو اعتقاد شخصي، يفتقر إلى قواعد منهج بحث علمي، كما يفتقر إلى الدليل أو البرهان. ويستخدم العلم الزائف مصطلحات غامضة مسرفة في غموضها ولا تخضع مزاعمه لبرهان أو ملاحظة، ولا تقبل النقد العقلاني.. إنه اعتقاد ذاتي لدى صاحبه لا يقبل الانفتاح على المناقشة أو الاختبار على أيدي خبراء. وبينما يخضع العلم للتحكيم ليكون ذلك شهادة تصديق على أنه معرفة علمية معتمدة فإن العلم الزائف لا يقبل النقد أو التحكيم ويقنع بالذيوع بين العامة. وخير مثال هنا طب الشعوذة، وأيضاً الزعم بأن إنجازات حضارة شعب ما في الزمان القديم هي من صنع رواد هبطوا من الفضاء. كذلك الزعم بأن نجم حاكم ما يؤكد انتصاره أو طول عمره. إنها جميعاً وغيرها مزاعم لا تخضع للاختبار، ولا سبيل للبرهنة على صدقها. 
وخطر العلم الزائف ليس في كذبة فقط بل في ما يمثله من دعوة إلى الانصراف عن العلم الأصيل، فضلاً عن أنه يحفز العامة للعيش أسرى سطوة قوى غير علمية ومن ثم تعطيل العلم والعقل، وتعطيل إرادة البحث والتغيير وهو ما يعني في النهاية تجريد الإنسانية من أهم إنجازاتها التي تكفل لها التطور والتقدم. 
ويمكن إجمالاً أن نحدد أهم خصائص العلم الزائف في تعارضه مع العلم الأصيل فيما يلي: 
العلم الزائف يعتمد سلطة خارج الظاهرة وليس الملاحظة والاختبار والبحث التجريبي والسببية داخل الظاهرة. 
ذو طبيعة إستاتيكية لا يحفز إلى مزيد من البحث ولا يقود إلى اكتشاف عملي جديد.
لا يدعم الفكر العقلاني النقدي ولا يعنيه فهم قوانين ظواهر العلم الطبيعي.
لا يمايز بين الوقائع، ولا يبالي إزاء ما بينها من اختلاف ظاهري أو سياقي أو من حيث أسباب النشأة وتطورها التاريخي. 
لا يؤمن بمعايير للصواب والخطأ.
يعتمد على المواضعات التعسفية للثقافة المحلية، مثال ذلك التنجيم رهن الرؤية الثقافية المحلية فيما يتعلق بمصير الإنسان الفرد دون اعتبار لاختلاف ذلك من ثقافة إلى أخرى. 
ليست له مصطلحات موحدة المنطوق والمفهوم. 
لا يؤمن بأن ظواهر ووقائع الطبيعة تخضع لقوانين هي أداة التفسير والفهم ولكنها نزوة لقوى خفية: الصحة والمرض/ الزراعة وفرة وجدباً.. إلخ. ولذلك ابتدع الإنسان فن الاسترضاء. 
يعتمد القياس على الماضي دون اعتبار لتطور السياق أو تطور الزمان، ويعتمد القياس على النص. لذلك نراه امتداداً نمطياً دون إبداع، وجموداً متصلاً مع غلبة الشكل ومع التعمد إلى لَيْ الواقع قسراً ليتوافق مع النص. إنه أيدولوجيا مغلقة على ذاتها. 
ونعود من حيث بدأنا ونقول إن دراما الحياة الإنسانية على مدى تاريخ الإنسان على الأرض وما شهدته من معاناة وآلام وتضحيات إنما كانت في سبيل الوصول إلى وسيلة موثوق بها لفهم ظواهر النفس والعمل. وهذا هو جوهر البناء الحضاري، إذ يمثل العلم الأصيل ذروة هذه الجهود مرحلياً حتى الآن. ويبشر العلم الأصيل باطراد النجاح بما يحقق للإنسان الرفاه والأمن في الحياة شريطة الالتزام بقيم حددها العلم ولا تتناقض مع العقائد، وأهمها المحبة والتعاون والعدالة والأخوة والحرية بين الناس والمجتمعات.
وليس لنا من سبيل للخلاص إلا بتكثيف الجهود على صعيد عالمي لتأكيد قيم العلم قرين اطراد جهود البحث العلمي وليس التخلي عن العلم لصالح من استغلوا منجزاته لأسباب ومنافع أنانية دون شعوبهم وشعوب العالم بحجج تعتمد على العلم الزائف. ومثلما بدأ عصر النهضة بالدعوة إلى تنوير إنساني حرىُّ بنا نحن أن ندعو إلى تنوير إنساني جديد يصحح أخطاء الماضي ويؤكد من جديد قيم الحرية/ العدالة/ الأخوة/ الإبداع/ المساواة بين أبناء المجتمع وبين شعوب الأرض دون تمييز على أساس من عرق أو لون أو دين. وليكن العلم أداتنا نسخرها لتحقيق هذه القيم. نعم لقد انتهى عصر الأنبياء، إذن، وفي تناغم مع قيم العقائد، ليكن العقل العلمي وروح المواطنة الجمعية محلياً وعالمياً هاديا لنا ومرشداً.
منقول من المجلة العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق