الاثنين، 3 سبتمبر 2012

مشروع محمد البساطي : د. صالح الرزوق



image




بعد عام 1960 أصبح بمقدورك أن تختزل القصة في مصر بواحد من إثنين: جمال الغيطاني و يوسف القعيد. لقد تعايش كلاهما بطريقة دكتور جيكل و مستر هايد. حيثما حضر الأول على الثاني أن يغيب. و ربما كان الاتفاق أن يستحوذ الغيطاني على الدائرة المدينية، و لكن ببلاغة مملوكية مدعومة برؤيا منفتحة على التجريب و التحديث، و أن يحتل القعيد المركز الأول في ما تبقى من مساحة. عالم الغبار و التراب. لتقديم شهادة على أفول أخلاقيات كانت مشرقة. 

و من بينهما استطاع محمد البساطي مؤلف ( دق الطبول ) ، و الأهم من ذلك ( ساعة مغرب ) و ( غرف للإيجار ) أن يعبر فوق خط رفيع خاص به، يتحكم به البؤس و القسوة. حتى أصبح من الممكن أن نقول إنه مؤلف البؤساء بنسختها المصرية.

بدأت علاقتي بشكل جدي مع محمد البساطي في عام 2001 خلال طريق العودة من القاهرة إلى دمشق مرورا بسيناء. خلال هذا الطريق الطويل في البر و البحر قرأت له ما في الجعبة من أعمال جديدة .

و لم يكن هذا التواصل المعرفي هو الأول. فقد قرأت له في الثمانينات أعماله الأولى التي تعكس كل سمات العقد السادس، و هو القوس الذي بدأ مع ثورة الضباط الأحرار و الجمهورية الأولى وصولا إلى مشكلة العدوان الثلاثي.. و الذي ركز كتابه على معاناة أبناء الريف مع الطبيعة البشرية و الطبيعة المادية القاسية التي تأخذ منهم الكثير و لا تترك لهم غير الفتات. و من أهم تلك الأمثلة أعماله الدافئة الصغيرة كالمقهى الزجاجي و الأيام الصعبة و غير ذلك.
**
لقد اختار البساطي الجهاد ضد مأساة الواقع الخانق، و بكل المستويات فصارع اللغة و مفرداتها أو المعاني و مضامينها، و صنع لنا بانوراما عن شقاء مزدوج: يمكن اختصاره في الكشف عن مكامن الفجور الاجتماعي و الأخطاء المعرفية الناجمة عن خطأ في الحضارة.

لقد احترق بؤساء البساطي بنيرانهم، و لم يكونوا بحاجة إلى عدو ليناضلوا ضده. كان الموضوع لديهم ضد الذات، لذلك لم يتورعوا عن الصدام مع الأشباه. و هذا يعني أنهم كانوا يقاتلون العادات البالية و الجهل و الظلم و الإصرار على العنف كأسلوب للتطهير من خلال التشبث بها. فتصعيد الأخطاء أول خطوة للتصحيح.
لا شك أن مشروع البساطي هو إقامة " ماكوندو " له وحده، و على طريقة ماركيز، حيث أن الواقع يطير عاليا إلى حدود الخيال. فعلى ما يبدو المبالغة مع الشقاء فن واقع عالم – ثالثي بامتياز. و من هذه الحقيقة ولدت روايته الدافئة ( الخالدية ).

و فيها كانت أخيلته واقعية بمحتواها، و من غير صور فانتازية، و ابتعدت عن  القطاع اللاشعوري من النفس البشرية ، و أسرفت في تعرية ما يساعدنا ضوء النهار على اكتشافه من منغصات أو بلوى.
و هنا كانت طبيعة العلاقة بين الإنسان و الواقع شاقة ، و كل طرف يحاول أن يفرض مفاهيمه الخاصة عن معنى الحياة الغامضة و المتورطة. فالإنسان يجهل أقداره و ماضيه، و الواقع جدلي بخصوماته و شكاياته و غير تاريخي بتوقفه عند لحظة ثابتة من التخلف و الجمود. 

و دعم ذلك حوار نصفه بالعامية تقف من ورائه قدرة على محادثة تستعين بالصور، و تتطابق فيها اللغة مع موضوعاتها، و تؤسس لنوع من العبث ضد الوجود. 

و كان القانون عند محمد البساطي من غير مرجعية، و مرشحا إلى نوع من النشاط المتآمر ضد الإنسان البسيط . و كان مبهما و ظلاميا، و الظلام هنا يعني كما قال في إحدى لقاءاته: هو المرادف للصور القاسية  عن مجتمع مقهور و سجين.

إن مغامرة البساطي مع النص و الأفكار تقترح دائما سياقا مصموتا عنه. و في ضوء ذلك يمكن أن نفهم لماذا يؤكد على النهاية المفتوحة و لا يسدل الستار، و لم الزمن لديه  ليس حدسا و لكنه ظاهرة بطيئة، و لماذا يركز على إيديولوجيا غنية بالأسماء و النعوت و ليس على الأفعال و الأحداث. 

من أهم أعماله الأخرى : جوع ، فردوس، صخب البحيرة، الشرطي يلهو قليلا و سوى ذلك....
 
 
 
تموز 2012
 
 د. صالح الرزوق - سوريا
salehrazzouk@hotmail.com
 
منقول من موقع مجلة النرد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق