الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

رحيل الكاتب الشاب هاني درويش







إعلان فشل الخيال السياسي‮: ‬بعد أن فسخ الواقع الخيال،‮ ‬يحبو الخيال قزماً‮ ‬بين أشجار اللا طمأنينة،‮ ‬تبدو الطرق في مفترقاتها متاهة بورخيسية مكتملة،‮ ‬من هنا سكة الندامة،‮ ‬من هنا سكة البلاهة،‮ ‬إن لم تستطع الاختيار،‮ ‬خذ حبة المهدئ كاملة،‮ ‬واثبت علي الأقل في مكانك،‮ ‬حتي تتغير أبعاد المتاهة،‮ ‬أو‮ ‬ينتهي الجيم بانقضاء الوقت،‮ ‬المرحلة القادمة تحتاج جيوستيك أحدث‮.‬
كانت تلك آخر كلمات الكاتب الشاب هاني درويش علي صفحته الشخصية علي الـ‮ »‬فيس بوك‮« ‬تعبر عن رأيه فيما‮ ‬يحدث الآن في مصر‮. ‬كلمات ربما لا تناسب شخصية هاني الذي عرفه أصدقاؤه وقراؤه‮ ‬يتمكن عادة من الوصول إلي معني مما‮ ‬يحدث حوله‮ ‬يكون من خلاله رأيه وينطلق مدافعاً‮ ‬عنه ومجادلاً‮ ‬حوله في حماس‮. ‬إنما‮ ‬يبدو أن القلب كان قد تعب،‮ ‬قلب الشاب الثلاثيني لم‮ ‬يحتمل أكثر،‮ ‬فتوقف عن العمل،‮ ‬عصر الثلاثاء الماضي تاركاً‮ ‬كل من عرفه في مصر ودول عربية من كتاب ومثقفين في صدمة عبرت عنها كلماتهم علي صفحته وصفحاتهم‮.‬
عمر هاني درويش‮ (٤٧٩١) ‬كان مليئاً‮ ‬بالنشاط والطاقة‮.. ‬بدأ منذ فترة الدراسة الجامعية حيث كان واحداً‮ ‬من الناشطين السياسيين في جامعة عين شمس،‮ ‬جزءا من تنظيم الاشتراكيين الثوريين،‮ ‬معبراً‮ ‬بوضوح عما‮ ‬يعتقد فيه،‮ ‬ففي عام‮ ‬1996‮ ‬شارك في التضامن مع الطلاب المعوقين بعد إلغاء النسبة الخاصة بهم في التعيين بالوظائف الحكومية،‮ ‬وهو الموقف الذي تم القبض عليه بسببه وخضع للتحقيق في النيابة ثم أفرج عنه بعد شهر تقريباً‮.‬
عرف الوسط الثقافي المصري واللبناني هاني درويش من خلال كتاباته المتنوعة في مجالات مختلفة لا‮ ‬يربط بينها سوي حماسه اللافت لما‮ ‬يكتب عنه،‮ ‬في الأدب والسياسة بشكل خاص،‮ ‬وبالقدر نفسه من الاحتراف عن المكان والبشر،‮ ‬مستفيداً‮ ‬في ذلك بسعة إطلاع،‮ ‬واتصال دائم بما‮ ‬يحدث حوله في المجتمع،‮ ‬وبهواياته أيضاً‮ ‬التي مارسها بالشغف نفسه وعلي رأسها ولعه بكرة القدم‮.‬
نشر هاني درويش كتاباته في أكثر من موقع منها جريدة‮ »‬الحياة‮« ‬اللندنية،‮ ‬وفي مجلات وجرائد لبنانية‮: »‬نوافذ‮«‬،‮ ‬ومؤخراً‮ ‬في جريدة‮ »‬المدن‮«‬،‮ ‬و»بالمستقبل،‮« ‬وكان من العناصر الفاعلة في تجربة جريدة‮ »‬البديل‮« ‬المصرية،‮ ‬كما عمل لفترة في مؤسسة‮ »‬أخبار اليوم‮« ‬وتحديداً‮ ‬في مجلة‮ »‬آخر ساعة‮«‬،‮ ‬وأشرف في العام الأخير من حياته علي الجزء المصري من موقع‮ »‬مراسلون‮« ‬وهو مشروع ألماني كان هدفه دعم مراسلي الأقاليم الصحفيين في مصر وتونس وليبيا‮. ‬
ننشر هنا لهاني درويش واحداً‮ ‬من آخر مقالاته التي نشرها في جريدة‮ ‬‮»‬المدن‮« ‬الإلكترونية في ‮٥٢/٧/٣١٠٢.‬
جمعة تفويض الفاشلين قتل البلطجية
دعوت قبل شهر،‮ ‬في مقالي بـ‮ »‬المدن‮«‬،‮ ‬إلي عقلنة الإخوان المسلمين،‮ ‬وذلك قبل أيام من خروج ملايين المصريين إلي الشوارع في ‮٠٣ ‬يونيو‮. ‬كان افتراض العقلنة قائماً‮ ‬علي تصور مبسط يخلو من السذاجة،‮ ‬بل ويبشر في مضمونه بقدرة التيار الإسلامي علي التسييس‮. ‬فتجربة عام من حكمهم أظهرت ما في‮ »‬سياستهم‮« ‬أحياناً‮ ‬من التوحش والغبن،‮ ‬بل وأكاد أضيف الانقلاب علي مفهوم السياسة نفسه،‮ ‬كصراع للمصالح‮. ‬كان مقالي عن العقلنة دعوة،‮ ‬لا إلي مواجهة أطراف أخري تبدي الجنون،‮ ‬بل إلي مواجهة الميل للانتحار الجماعي لدي التيار الذي سقطت مشروعيته السياسية حتي قبل‮ ‬30‮ ‬يونيو‮. ‬كان الإسلام السياسي الذي أتمناه عاقلاً،‮ ‬مدعواً‮ ‬من كل الأطراف إلي تبني مصالحة‮. ‬نذكره،‮ ‬كخصوم،‮ ‬بمصالحة في البقاء جزءاً‮ ‬من المشهد السياسي،‮ ‬معترفين له بالغلبة لا بالمغالبة،‮ ‬نكاد نتوسل إليه النظر خارج مجاري الانحطاط التي يشد إليها مجمل المجال السياسي‮.‬
دارت الأيام الصعبة،‮ ‬وكتبت هنا أيضاً،‮ ‬عن احتمالات العنف،‮ ‬وإمكان حفر التيار الإسلامي لقبره بيده،‮ ‬إن أدام عنفاً‮ ‬منفلت العقال في مواجهة الدولة بأدواتها التسلطية المشرعنة،‮ ‬وفي مواجهة الناس في بيوتهم وأحيائهم‮. ‬وما تخيلته في انفلات العقال،‮ ‬واختيار العنف بديلاً‮ ‬من التفاوض تم بحذافيره،‮ ‬بل ووصلنا اليوم،‮ ‬بطلب الجيش من الجماهير تغطية عنفه الآتي،‮ ‬إلي انغلاق المصيدة كاملة علي الطائفة الإسلامية السياسية‮. ‬فبعد أسابيع من توزيع الصدامات في قسمة لا تخلو من جنون،‮ ‬بين سيناء وكمائن الشرطة من جهة،‮ ‬وبين الهجوم السافر علي أحياء قاهرية في عز صوم المصريين وتقواهم البراغماتية،‮ ‬أثبت التيار الإسلامي جنونه المطبق‮. ‬لقد تحول من طائفة سياسية إلي عشيرة من اللصوص القتلة،‮ ‬معبّرين عن كمّ‮ ‬الكره الدفين للمجتمع،‮ ‬غير مفرّقين في عنفهم بين أجهزة الدولة التسلطية التي تمارس العنف المشرعن بشكل‮ ‬غير فني أو قانوني،‮ ‬وبين آحاد الناس من الأهالي المتنقلين في شوارعهم،‮ ‬لتلتحم إرادة تأديب التيار الإسلامي وتتساند،‮ ‬جيشاً‮ ‬وشعباً‮.‬
لماذا أذكر القارئ في هذا المقال بمقالات سابقة،‮ ‬حاولت استشراف المستقبل القريب،‮ ‬المستقبل الذي بات الآن حاضراً‮ ‬أو ماضياً؟ لأن بعضاً‮ ‬من التفاعل الجاري الآن مع الأزمة مقطوع الصلة بسياق التاريخ القريب والمقدمات الموضوعية‮. ‬ولأن ماكينة العنف الدائرة أنست الكثير من المتابعين مسؤولية أي من الأطراف عن إدامتها،‮ ‬بل والسباق نحو إطلاق سعارها‮. ‬فما طرحته أيضاً‮ ‬حول ميل المصريين إلي نبذ العنف المستدام،‮ ‬أو الانتقام،‮ ‬ثبت حسن ظنه‮. ‬الإسلاميون يسيطرون منذ شهر علي ميدان النهضة بالجيزة‮. ‬خرجوا منه،‮ ‬في عنف ممنهج،‮ ‬إلي الأحياء القريبة،‮ ‬نحو أربع مرات،‮ ‬أسقطوا فيها عشرات القتلي،‮ ‬في ظل‮ ‬غياب كامل للشرطة والجيش الفاشلين إلا في حماية مقراتهما‮. ‬ورغم ذلك،‮ ‬أقول رغم ذلك،‮ ‬لم تلتئم عصبة هذه الأحياء بتنويعاتها الطبقية علي قلب رجل واحد للهجوم علي اعتصام القتلة الغرباء‮. ‬بل وتحمّل حيّ‮ ‬مدينة نصر،‮ ‬حيث اعتصام رابعة العدوية،‮ ‬بلادة وابتذال الاعتصام،‮ ‬واكتفي قاطنوه بالشكوي عبر فيديوهات،‮ ‬بوجوه مموهة،‮ ‬خشية الانتقام منهم‮. ‬أليس هذا دليلاً‮ ‬كافياً‮ ‬علي نبذ المواطنين العاديين لدعاوي الثأر لقتلاهم أو العصبوية المناطقية؟‮ ‬
لماذا أسجل هذا الآن؟ لأننا لو وضعنا،‮ ‬إلي جوار ذلك،‮ ‬الجهوزية الاستباقية للأجهزة الأمنية التي ثبت فشلها في حماية مقرات الجيش في سيناء،‮ ‬وثبت تهافتها في صد عدوان السلفيين والإخوان علي أقسام الشرطة،‮ ‬حيث استعملت القنابل والقناصة من قبل التيار الإسلامي،‮ ‬لاكتشفنا سوياً‮ ‬صدق وعد الإسلاميين الإلهي في ابتزاز العنف‮. ‬نحن أمام أجهزة دولة مذعورة،‮ ‬حمت فقط مقر الحرس الجمهوري بمذبحة،‮ ‬وجمهور صائم منقسم علي نفسه حول حرمة الشهر الكريم،‮ ‬فيما الطرف المبادر بالهجوم،‮ ‬الجوال بين الأحياء والميادين،‮ ‬بأسلحته وإرهابه،‮ ‬مدرك لحجم هذه الرخاوة،‮ ‬وقادر علي استغلالها حقوقياً‮ ‬ودولياً‮ ‬في ظل عفن شامل بإسم الشرعية الصندوقية المجهضة‮.‬
وأعود وأذكر بما قلته هنا من قبل،‮ ‬الآن،‮ ‬قبل ساعات من مشهد المعركة الاخيرة‮ (‬دعوة السيسي لملايين المصريين للخروج لشرعنة عنفه‮)‬،‮ ‬أن الباب الموارب لاستيعاب‮ »‬الجماعة‮« (‬بعدم القبض علي قياداتها التي تمارس التحريض جهراً،‮ ‬أو بعدم تنفيذ حكم حل جماعتهم بشكل قانوني،‮ ‬أو بتصميم الجيش علي محاكمة مرسي وإخفائه بشكل قسري بتهم تافهة كالتخابر‮)‬،‮ ‬هو الجزرة التي طالت فقضمها‮ »‬الإخوان‮« ‬حتي عروشها الخضراء‮. ‬بل وأكلوا،‮ ‬في سباق العض التفاوضي،‮ ‬اليد التي حمتهم من الملاحقة القانونية الحقيقية،‮ ‬أي الجيش نفسه‮. ‬وحتي بعد خروج دخان التفاوض السري حول إجلاء مرسي من دون محاكمة،‮ ‬هو وقيادات جماعته،‮ ‬في مقابل فض الاعتصام،‮ ‬علي ما رشح من تقارير صحافية،‮ ‬ظل‮ »‬الإخوان‮« ‬والسلفيون في هلوسة جماعية يرتلون نغمة عودة مرسي المستحيلة‮. ‬هذا في العلن،‮ ‬فيما وفودهم الجوالة علي مقرات السفارات الأجنبية لا تخفي الازدواجية التفاوضية‮. ‬الجيش وبالإخوان‮« ‬يتفاوضون سراً‮ ‬علي عدم المحاسبة،‮ ‬فيما يستثمر الطرفان في جمهوريهما أرصدة العنف،‮ ‬ويدفع الثمن علي الأرض أناس عاديون،‮ ‬هم في الغالب ضحايا‮ »‬الإخوان‮« ‬في الأحياء والطرق‮. ‬وعلي العاديين الآن تفويض الجيش الذي لم يحمهم بإدامة قمع كاسح يعيدهم إلي البيوت سالمين‮.‬
ولكي يكتمل المشهد،‮ ‬اختفت القوي المدنية الديموقراطية بالكامل‮. ‬عاجزة هي كالعادة عن طرح جدول أعمال حقيقي لنداء التفويض‮. ‬استسلم البرادعي،‮ ‬وهناك تشكيل الحكومة الجديدة لأداء الدور البيروقراطي الإنقاذي النخبوي‮. ‬وذلك من دون أي قدرة علي التفريق بين جمهورهم السياسي التائه الآن رعباً‮ ‬من تصاعد فاشيتين،‮ ‬وبين‮ ‬غريزة الجماهير العادية،‮ ‬التي ستنزل بأكبر تفويض سياسي تاريخي لإدامة العنف خارج القانون،‮ ‬مستسلمين للشرط الأخلاقي المبدئي حول اللاتفاوض اللحظي مع سافكي الدماء من الإسلاميين،‮ ‬ومن دون حتي طرح مبادرة أو جدول أعمال يثني الجيش عن إجراءاته الاستثنائية الملوح بها‮. ‬جدول أعمال لإنقاذ السياسة نفسها من‮ ‬غشم الطرفين،‮ ‬مستسلمين إلي لاعقلانية توقيع شيك أبيض‮. ‬الثورة علي محك،‮ ‬ويبدو أن استمرارها يبقي رهينة الغرائز
هاني درويش‮ ‬


منقول من موقع أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق