الاثنين، 5 أغسطس 2013

ديفيد جريبرصاحب شعار " نحن الــــ ٩٩٪ ". في حياة كل منا وهم اسمه الدولة



حوار‮: ‬جيه بى أومالى ترجمة‮: ‬أحمد شافعى
حظيت الحركة الأناركية في الولايات المتحدة بدعم من كبار المفكرين الليبرتاريينlibertarian  من أمثال »نعوم تشومسكي« لكنها بقيت تفتقر إلي الشخص الذي بوسعه أن يتناول مبادئها الهادية ليحولها إلي ما يشبه حركة سياسية. في خريف عام 2011، بدا أن »ديفيد جريبر« David Graeber  هو الشخص القادر علي إدخال الأناركية في متن السياسة.
كان جريبر هو الذي صاغ ـ مع غيره من الشخصيات الريادية في حركة »احتلال Occupy « ـ شعار »نحن التسعة والتسعون في المائة«. ليسري هذا الشعار مسري النار في الهشيم، ولا تمضي غير أسابيع ـ بفضل وسائل التواصل الاجتماعي ـ إلا وقد تحولت »احتلال« من جماعة صغيرة قوامها حفنة من المثاليين الذين لا يلقون دعما يذكر، إلي شبكة راديكالية تحتل ثمانمائة مدينة حول العالم.
يحتوي أحدث كتاب لجريبر، وهو »مشروع الديمقراطية« علي بعض التفاصيل المتعلقة بحركة احتلال، وفيه كذلك كثير من الحجج المتعلقة بشبكة من المسائل الفلسفية التي ترابطت عبر التاريخ: ما معني الديمقراطية فعلا؟ وكيف لنا أن نعيش في مجتمع يتساوي فيه حق كل شخص في الإسهام في عملية صنع القرارات، خاصة ما تعلق منها بكيفية عمل الحكومة والحكم؟
صلب هذه الإشكالية يتمثل في تبديد الأساطير الغامضة التي حيكت حول الحركة الأناركية. يقول جريبر إن الأناركية في جوهرها تتعلق بمنح الكتلة التصويتية سلطة الحكم الذاتي من خلال عملية صنع للقرار تقوم علي المساواة، ومن ثم تبطل الهيراركية. ويطلب جريبر من القارئ أن يحيّد شكوكه ويعمل خياله فيشطح إلي مكان تتخذ فيه القرارات جماعيا من خلال عملية اسمها التوافق consensus.
تحدثت مع جريبر في كانتين جامعة جولدسميث في لندن التي يقوم فيها حاليا بتدريس مادة الأنثروبولوجيا. تناقشنا في السياسة، والتاريخ، وفي أفكار أخري.
تقول إن الجدل السياسي العام في الولايات المتحدة ممتلئ حد التخمة بالكلمات الشفرية والعبارات البديلة المرققة. هل ثمة أي سبب لما طرأ علي لغة السياسة اليوم من سقم أو تحفظ؟
ـ كان دأب الناس في السياسة دائما أن يفكروا في الأمور الكبيرة، في الأمم المتحدة، في برامج الفضاء، في دولة الرفاه، وما إلي ذلك. ولكن ما من حكومة اليوم تفكر في شيء بمثل هذا الحجم، بل إنها فيما يبدو عاجزة كل العجز عن ذلك. ويبدو أن رجال الدولة يئسوا من فكرة أن بوسعهم الإتيان بشيء جديد لا سابق له، أو جريء لا مثيل لجرأته. وأحسب أن للغة علاقة كبيرة بهذا. وواضح طبعا أنها العرض، لا المرض.
تنظر أيضا إلي تاريخ كلمة الديمقراطية. تقول إنه في الفترة ما بين 1770 و1800 كانت مصطلحا سيئ الاستخدام، وفي الفترة ما بين 1830 و1850 بدأت كل من فرنسا والولايات المتحدة تعتبر نفسها ديمقراطية. ما السبب في هذا التغير؟
ـ تلك واحدة من أكثر أحاجي التاريخ غموضا. ما حدث في أمريكا هو أن »أندرو جاكسُن« (سابع رؤساء الولايات المتحدة) قال عن نفسه إنه ديمقراطي فكان قوله ذلك أداة ترويج نجحت نجاحا منقطع النظير.
ومر بالناس زمان كانوا ينسبون فيه أنفسهم إلي المصطلح، لكنهم ما كانوا يفعلون ذلك إلا ابتغاء للصدمة. بل إن (ماكسمليان روبسبيير) نفسه قال عن نفسه إنه ديمقراطي في مرحلة ما، ولكنه لم يكن يريد من ذلك إلا ترويع الناس لا أكثر. وفعلها الاشتراكيون في فرنسا، وبدأ الناس يتبنون المصطلح في كندا، وكسبوا من ذلك. وأدرك الناس أن للأمر فعالية لا تصدق.
لسبب ما، وبرغم أن أحدا لم يسمع قط عن الديمقراطية من أفواه المثقفين، كان أغلب الناس معجبين بالفكرة إعجابا حقيقيا. ومن جراء ذلك، وفي غضون عقد واحد فقط، حدث تغير هائل في أغلب الدول التي دأب أهلها علي اعتبار أنفسهم جمهوريين وكارهين للديمقراطية، حدث أنهم أعادوا تسمية الجمهوريات، باسم الديمقراطيات، وصار حتما علي كل شخص أن يكون ديمقراطيا. وهكذا، انتهي بنا الأمر، وهذا من قبيل المفارقات، إلي هذه البنية المؤسسية التي نشأت في الأصل لقمع أخطار الديمقراطية، ولكنها اليوم تحمل اسم الديمقراطية.
ـ تذهب إلي أن الديمقراطية ينبغي أن تكون مسألة حل جماعي للمشكلات. فماذا تقول لمن يزعمون أن هذه الفكرة ما هي إلا حلم طوباوي غير قابل للتحقق؟
ـ أعتقد أننا أنشأنا مؤسسات غايتها أن تحملنا علي الظن بأن هذا مستحيل. ومن بين الأشياء التي لا تكف النظم الأوتقراطية علي القيام بها أنها تحاول إقناعنا بأننا لا نتصرف تصرفات الناس العاقلين، الذين يستندون إلي المنطق. وذلك شيء لا غني عنه لحكم من أعلي لأسفل.
هل تعطينا مثالا لشرح حجتك؟
ـ يكفي أن نقارن الأجورا  في أثينا Athens Agora  والفورم في روما Roman Forum  وفيهما بالدرجة الأساسية كان الناس يجتمعون في اليونان وروما القديمتين علي الترتيب. في أثينا القديمة كانوا يأتونها للنقاش في القضايا العامة ومحاولة الوصول إلي حلول للمشكلات المشتركة. كان الأمر في جوهره محاولة للوصول إلي ما هو بنَّاءٌ لدي الناس.
أما روما، في المقابل، فلم تكن تحفل بالديمقراطية وكان الحكم فيها أوتقراطيا. فكان دأب روما في إنجاز شئونها أن تقول: هل تريدون بحق أن تكونوا مسئولين عن الحكم؟ هذا إذن ما يجب علي أفراد الشعب أن يفعلوه. يسعون إلي تحويل الناس إلي كتلة. واستمرت هذه الفكرة ألفي سنة، واستمرت الشعوب تقول: نحن لا يمكن أن نحظي بالديمقراطية، كانت الشعوب تتصرف مثلما كان يتصرف شعب روما. وفي أي نظام أوتقراطي ـ وأنا أدرج أوربا وأمريكا في هذا ـ هناك مؤسسات تعمل عمل الفورم في روما. وهو ما يسمي بالأثر المرآوي القبيح، وجوهره أن يقال للمرء إنك سوف تسيء التصرف إن أنت تحملت أي نوع من المسئولية. فخير لك أن تترك الأمر لمن هم أهل له.
هل تري أنه من الممكن فعلا ـ وما عمر الدول بطويل في تاريخ البشرية ـ أن نرجع إلي المجتمع الذي لم تكن للدول فيه وجود؟
ـ بل أذهب إلي ما هو أبعد. فالشيء الذي نطلق عليه الدولة ما هو إلا نتاج صدفة أدت إلي تقارب بين العديد والمختلف من العناصر التي لا تربط أحدها ببقيتها أية علاقة حقيقية.
كل ما هنالك أنها تلاقت بالمصادفة، ولكنها فيما بعد سوف تتفرق. هناك شيئان يحدثان بالتزامن مع تكوين الحكم، ولكن لكل منهما أصلا مستقلا إن أنت نظرت إليه في سياقه التاريخي. الأول هو البيروقراطية الإدارية التي يمكن أن توجد بمعزل عن السلطة المركزية. والثاني هو مبدأ السيادة، أي ـ بعبارة أخري ـ السلطة المركزية ذات القوة القاهرة للجميع. إذن يمكن أن تكون لدينا دول ذات سيادة بدون بيروقراطية، وتكون لدينا بيروقراطية بدون أي وجود من أي نوع للسيادة.
هذا تنافس قائم بين كيانين سياسيين باحثين عن الدعم والسبل القادرة علي تنفيذ المشاريع السياسية، ولكن لكل من الكيانين منشأ منفصلا تماما، والتنافس نفسه منشؤه الثقافة  الأرستقراطية. وبطريقة ما، خرج »الدولة« من وسط هذه الفوضي. وإذن سهل جدا أن نفهم إمكانية تفكك هذه الأشياء.
إذا أردت مثالا علي ذلك اليوم، يكفي أن تنظر إلي النظام الإداري العالمي القائم فينا الآن (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، إلخ)، ألا تري أنه قائم بغير دعم من مبدأ السيادة؟
ما رأيك في تدمير الممتلكات كوسيلة لتنفيذ العصيان المدني: هل تراها وسيلة فعالة إن استخدمها الأناركيون علي النحو الصحيح؟
ـ شوف، أعتقد أن أغلب الذين كان لهم دور في إنشاء »احتلال« في بدايتها الأولي، ربما لم يكن لهم سابق تورط في تدمير الممتلكات. ومع ذلك، أظن أنهم لا يعتقدون أنها عمل شرير. ولكننا فهمنا جميعا وعلي الفور أن هذا الأمر ليس ملائما في سياق »احتلال«. الأخلاق، بالنسبة لي أنا علي المستوي الشخصي، تعني عدم إيذاء الآخرين. وأعتقد أن أغلب من يعدون تدمير الممتلكات تكتيكا مشروعا لا يرونه مشروعا إن نجمت عنه معاناة شخص ما. فلو أننا نتكلم عن بقال، لن تجد من يريد إيذاءه في لقمة عيشه. ثمة أخلاقيات تحكم الأمر.
في معرض ذكرك لما تحاول حركة احتلال أن تحققه، رجعت إلي مصطلح التوافق consensus بوصفه عملية تمكِّن كل شخص أن يشارك في القرار. هل تعرض هذه الفكرة بمزيد من التفصيل؟
ـ حسن، إن لهذا الأمر بالفعل تاريخا شائقا، لأن هذه الطريقة في اتخاذ القرارات تجري تقريبا في كل مكان في العالم يري أهله أنه ضرورة لأن يكون لكل شخص رأي مساو لآراء غيره، لكنهم لا يملكون سبيلا لإرغام أقلية علي القبول بذلك. بصفة عامة،  يكون هناك أحد أمرين. إما أن تكون لدي أصحاب السلطة آلية تحمل الأغلبية علي المشاركة، ولكن أصحاب السلطة لا يبالون برأي أغلب الناس لأنهم يمارسون سلطة أوتقراطية. أو يكون لديك في السلطة من تهمهم آراء الجميع، ولكنهم يعجزون عن إرغام الجميع علي المشاركة.  ولذلك فإنك تضع نظاما تصل من خلاله إلي ما يمكن أن يتقبله الجميع.
وحركة احتلال تحاول أن تقيم هذا؟
ـ نعم. وكانت هناك محاولات علي مدار السنوات ـ من الحركات السلمية والحركات النسوية ـ لإقامة أنظمة يمكن من خلالها تحقيق هذا. وهو أمر منطقي، لأنهم بقيامهم بهذا، يحاولون الوصول إلي قرارات لا تهدد أي أحد بالإرغام علي التوصل إلي القرارات. ولكن من المهم أن نتذكر أن هذه العملية لا تعدو وسيلة لتحقيق الهدف. ففي نهاية المطاف هناك مبدأ يقول إننا بحاجة إلي الإصغاء إلي آراء الجميع، وبحاجة إلي أن يكون لكل رأيه بالتساوي، وإن شعر البعض أن هناك مبدأ أساسيا لا يريدون أن يتعايشوا معه، فلا يمكن إكراههم علي التعايش مع قرار لا يريدونه. وأنت لو أعملت هذه المبادئ فإن ما سوف تتعايش معه هو شيء شبيه بالتوافق.
هل لك أن تبين كيف لهذا أن ينجح في احتجاج سياسي واقعي أو في موقف حياتي فعلي؟
ـ لنقل إن هناك مظاهرة تحتج علي هدم مبني ما. ولنفرض أنك تقول »استفتاء برفع الأيدي: هل ننام أمام البلدوزرات أم لا ننام أمامها؟ فيقول ستون شخصا »هيا ننم أمام البلدوزرات«. أي سبب يمكن أن ، يجعل الأربعين شخصا يتقبلون هذا ويتعايشون معه؟ أنت عندما انضممت إلي الجماعة كان فيها حكم الأغلبية، وأنت في الأساس وافقت علي هذا بانضمامك وبالتزامك بالأغلبية.
ومن ثم، بمعني من المعاني، حتي تصويت الأغلبية يقوم علي التوافق ما دام لا يوجد من يرغم أحدا علي تقبل شيء. فلو أنك قلت: هل الجميع موافقون علي الالتزام بالقرار؟ وقرر الجميع أن بوسعنا إجراء اقتراع، يكون مبنيا علي التوافق.


منقول من موقع أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق