الاثنين، 12 أغسطس 2013

" بورترية ".. جورج لومتر.. راهب بلجيكي صاغ نظرية (الانفجار العظيم).. . عاطف يوسف محمود

 

  


  • كان لومتر أول عالم يعطى وصفًا مفصلاً منطقيًّا لما نطلق عليه الآن «الانفجار العظيم Big Bang» كنموذج لنشأة الكون. وكان يكرر أنه ليس مجرد نموذج، بل إنه الصورة الحقيقية لمولد الكون
 على خلاف صورة الكون الاستاتيكي الأزلي المستقر استقرارًا أبديًّا، تلك الصورة التي كان علماء الكونيات يبجلونها كثيرًا، ابتكر العالم الروسي «ألكساندر فريدمان» Alexander Friedmann رؤية مستحدثة للكون، مؤداها أنه دائب التحوّر، آخذ في التمدّد. ومع وفاة «فريدمان» عام 1925، توارت إلى حين رؤيته الكونية تلك، لافتقارها للمادة التجريبية الفلكية الكافية. على أنه من حسن الحظ أن مفهوم الكون المتمدد والآخذ في التطور لم يختفِ كلية، وعادت الفكرة لتطفو على السطح بعد سنوات قلائل من وفاة فريدمان. ولم يكن الفضل في بعثها هذه المرة منسوبًا إلى روسيا، بل أُعيد نموذج الكون المتمدّد مرة أخرى على نحو مستقلّ على يد «جورج لومتر» Georges Lemaître، وهو راهب لاهوتي وعالم كونيات بلجيكي اضطربت مسيرته التعليمية، شأنه شأن غيره من العلماء، من جراء أحداث الحرب العالمية الأولى.
 وُلِد «لومتر» (1894-1966) في «شارلروا» Charelroi، وحصل على درجة علمية في الهندسة من جامعة «لوفين» University of Louvain لكنه اضطر للتخلي عن دراسته حينما غزت قوات النازي الألمانية بلجيكا، حيث قضى السنوات الأربع التالية في الجيش، ونال لشجاعته وسام صليب الحرب. وفي أعقاب الحرب، استأنف دراسته في «لوفين»، لكنه انتقل هذه المرة من الهندسة إلى الفيزياء النظرية. وفي عام 1920، انخرط أيضًا في مدرسة لاهوتية في «مالين» Maline، ورُسّم في سنة 1923 كاهنًا. وقد حافظ لومتر، طيلة ما تبقى من حياته، على مسيرتيه المهنيتين المتوازيتين كفيزيائي وقسيس على نحو متوازن، وقال عن ذلك: «إن هناك سبيلين للوصول إلى الحقيقة، ولقد قررت أن أسلكهما كليهما».
وبعد تنصيبه قسيسًا، أمضى لومتر عامًا في «كيمبردج» مع العالم الشهير «آرثر إدينجتون» Arthur Eddington، الذي رأى فيه تلميذًا باهر الذكاء. وفي العام التالي رحل لومتر إلى أمريكا، حيث قضى وقته في إجراء قياسات فلكية في مرصد «هارفارد» Harvard Observatory، وعكف على دراسة الدكتوراه بمعهد «ماساتشوستس» التكنولوجي Massachussetts Institute.
وفي عام 1925 عاد إلى جامعة «لوفين» وشغل وظيفة أكاديمية، وشرع في تطوير نماذجه الكونية الخاصّة به، والمبنية على أساس معادلات آينشتاين للنسبية العامة. بيد أنه تغاضى، وبدرجة كبيرة، عن دور «الثابت الكوني» الذي أقحمه آينشتاين في معادلاته ليحافظ على صورة الكون الاستاتيكي المستقر. وعبر العاميْن التالييْن، أعاد لومتر اكتشاف النماذج التي تصف تمدّد الكون، دون أن يدري أن الكسندر فريدمان (العالم الروسي) قد سبقه إلى خوض العمليات الفكرية ذاتها في وقت مبكر من العقد نفسه.
على أي حال، مضى لومتر إلى أبعد مما توصل إليه سلفه الرّوسي، باتباعه - دون هوادة - للتضمينات المحتواة في نموذج الكون الآخذ في التمدّد.
 كان شغوفا بتاريخ الكون الفيزيائي بصفة خاصّة، فلو أن الكون يتمدد حقًا فلابد أنه كان بالأمس أضألَ منه اليوم، وبالمثل كان أضأل وأضألَ في العام المنصرم. وهكذا إذا ما مضينا القهقري بقدرٍ كافٍ، فلابد من أن الفضاء برمته - منطقيًّا- كان مدموجًا في حيّز ذي ضآلة متناهية.
كان حدس لومتر الأعظم هو أن نظرية النسبية العامة تقتضي وجود لحظة بداية. وانتهى لومتر إلى خلاصة مؤدّاها أن الكون بدأ في حيز مدموج بالغ الضيق، انفجر إلى الخارج ليُفضي - مع الوقت - إلى الكون الذي نجد أنفسنا فيه اليوم، كما أن من شأنه أن يتطور في الاتجاه ذاته مستقبلاً.
وبعد أن أتم صياغة نموذجه عن نشأة الكون، شرع لومتر في البحث في الفيزيائيات التي من شأنها أن تدعم نظريته عن تلك النشأة وتطورها، فوقع على منطقة كانت تثير شغفًا متناميًّا بين الفلكيين هي «فيزيائيات الأشعة الكونية» Cosmic Ray Phys. كان لومتر بالمثل مطّلعًا على عملية انحلال النشاط الإشعاعي، التي تتكسر خلالها الذرات الضخمة - كذرة اليورانيوم - إلى ذرات أضأل، مطلقة جسيمات وإشعاعًا وطاقة.
بدأ لومتر في تأمل أن عملية مماثلة، وإن تكُنْ على مقياس أكبر بكثير، يمكن أن تؤدي إلى ولادة الكون. وباستقراء الأزمنة الغابرة تصوّر لومتر كلّ نجوم الكون منضغطة في حيز بالغ الاندماج أطلق عليه اسم «الذّرّة الابتدائية» Premeval atom، ثم تصوّر اللحظة التي تحللت فيها تلكم الذرّة المفردة المدموجة بغتةً، مطلقةً كل مادة الكون.
وفي إيجاز، كان لومتر أول عالم يعطى وصفًا مفصلاً منطقيًّا لما نطلق عليه الآن «الانفجار العظيم Big Bang» كنموذج لنشأة الكون. وكان يكرر أنه ليس مجرد نموذج، بل إنه الصورة الحقيقية لمولد الكون. لقد انطلق من نظرية النسبية العامة لآينشتاين، ثم استحدث نموذجًا نظريًّا لنشأة الكون وتمدده، ثم طابقه مع أرصاد الظواهر المعروفة مثل الأشعة الكونية وانحلال النشاط الإشعاعي.
كانت لحظة النشأة هي جوهر نموذج لومتر، ورغم أن بحثه كان علميًّا ومنطقيًّا، فقد صاغه في قالب شاعري: «يمكننا تشبيه تطور الكون بألعاب نارية توقف إطلاقها للتوّ، فاستحالت إلى أشرطة واهية من الدخان والرماد. وإذ تبرد المادة المتفحمة شيئًا فشيئًا، فإننا نشاهد الشموس الخابية، محاولين أن نستحضر صورة العالم المتوهج الذي كان ثم لم يلبث أن اختفى».
وإذ قرن ما بين النظرية والأرصاد، وصاغ رؤيته للانفجار العظيم في إطار من العلوم الفيزيائية والأرصاد الفلكية، وصل لومتر إلى ما هو أبعد كثيرًا من أعمال «فريدمان» السابقة لأعماله. ورغم ذلك، فعندما أعلن ذلك الراهب البلجيكي نظريته عام 1927، جوبِه بالصمت الفاتر ذاته الذي قوبلت به نماذج سلفه فريدمان. ولم يشفع للومتر أنه اختار لنشر أفكاره صحيفة بلجيكية محدودة الانتشار هي «سوسييتيه ساينتيفيك دي بروكسيل» Societe Scientifique de Bruxelle.
ولقد زاد من سوء الأمر، تدخل من آينشتاين بعد أن نشر لومتر مقاله عن «فرضية الذرّة الأولية» مباشرةً. فقد حضر لومتر مؤتمر «سولفاي» Solvay Conference ببروكسيل عام 1927 الذي كان تجمعًا لأعظم علماء العالم آنذاك، حيث لفت الأنظار بزيّه الكهنوتي المميز. ولقد أمكنه أن ينتحي بآينشتاين جانبًا، ويشرح له رؤيته عن مولد الكون وتمدده، فأجاب آينشتاين بأنه سبق له أن سمع بتلك الرؤية من فريدمان، وأطلع القسَّ البلجيكي على عمل سلفه الروسي لأول مرة، ثم لم يلبث آينشتاين أن سخّف الفكرة وأحبط لومتر بقوله: «إن حساباتك صحيحة حقًا، بيد أن فيزيائياتك بغيضة وممجوجة».
لقد أتيحت الفرصة لآينشتاين مرتين كي يتقبل سيناريو «الانفجار الأعظم»، أو على الأقل كي ينظر إليه بعين الاعتبار، لكنه في المرتين عارض الفكرة. وكان رفض آينشتاين يعني رفض كل الدوائر العلمية. وفي غياب برهان رصين دامغ، كان انتقاد آينشتاين كفيلاً بوأد النظرية الوليدة. لقد أصبح آينشتاين، ذلك الذي كان ذات يوم عنوانًا على التمرد، دكتاتورًا متسلّطًا. غير أنه في خاتمة المطاف، أقر بالتضارب في موقفه، وقال ذات مرة متحسّرًا: «لقد عاقبني قدَري على ازدرائي للسلطات، بأن جعل مني أنا نفسي سلطة غاشمة».
أحبطت الأحداث التي جرت في مؤتمر «سولفاي» لومتر، فقرر ألا يمضي في أفكاره إلى مدىً أبعد.
وبنظرة مستقبلية، يسعنا القول بأن لكل من النموذجين نقاط قوة ونقاط ضعف. وفي نهاية الأمر كان كلاهما مترابطًا من الناحية الرياضية، وصالحًا من وجهة النظر العلمية. وقد انطلق كل منهما من معادلات النسبية العامة، ولم يتعارض مع أي قوانين فيزيائية مصطلح عليها، إلا أن كلتا النظريتين عانت حينذاك افتقارًا تامًا لأي بيانات رصدية أو تجريبية تدعمها. وكان هذا الافتقار للبرهان العملي هو ما دعا الدوائر العلمية إلى التأرجح في موقفها قبل أن تميل إلى التحامل، محبّذةً رؤية كون آينشتاين الاستاتيكي على نموذج فريدمان ولومتر... نموذج الانفجار العظيم.
ثم كان للأرصاد الضافية التي قام بها عالم الفلك النابه «إدوين بوويل هابل» Edwin Powell Hubble من مرصد «مونت ويلسون» القول الفصل في تلك القضية، إذ أثبتت أرصاده - بما لا يدع للشك مجالاً - تمدد الكون، وتباعد مجراته وأظهرت قياساته أن الكون كما لو كان قد بدأ من حالة مدموجة متناهية في كثافتها، ثم أخذ في التمدد إلى الخارج، ذلك التمدد الذي ما زلنا نرصده حتى الآن.
-------------------------------------
عاطف يوسف محمود
* كاتب ومترجم علمي، حاصل على الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية - مصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق