الثلاثاء، 10 سبتمبر 2013

شيموس هيني‮: ‬الشاعر في اكتماله



غيب الموت الأسبوع الماضي الشاعر شيموس هيني؛ أحد أهم الشعراء الأيرلنديين في أمة تتميز بتقليدها الأدبي العظيم‮. ‬هيني،‮ ‬الحائز علي جائزة نوبل للآداب في عام‮ ‬1995،‮ ‬في تجربة شبهها ب‮ "‬السقوط في انهيار جليدي حميد في معظمه‮"‬،‮ ‬ولد قبل وقت قصير من بدء الحرب العالمية الثانية في عائلة من المزارعين في كاسل داوسون،‮ ‬مقاطعة ديري‮. ‬نشرت مجموعته الشعرية الأولي،‮ "‬موت عالم طبيعة‮"‬،‮ ‬في عام‮ ‬1966،‮ ‬تلتها العديد من الأعمال،‮ ‬بما في ذلك‮ "‬شمال‮" (‬1975‮)‬،‮ "‬فانوس الزعرور البري‮" (‬1987‮) ‬ومجموعته الثانية عشر‮  ‬والأخيرة،‮ "‬سلسلة بشرية‮" (‬2010‮). »‬لقد كان منقوعاً‮ ‬في اللغة والمناظر الطبيعية لبلدته الأم ديري،‮ ‬وكذلك في الشعر الأنجلو ساكسوني،‮ ‬والإغريق والرومان‮« ‬حسب وصف النقاد له‮. ‬هنا ملف عن رحلة حياته‮.‬



شيموس هيني في حواره مع باريس بوك ريفيو
الشعر‮ ‬يملك القوة لإيقاف العنف


حاوره‮:‬‮ ‬هنرى كول‮ ‬ ترجمة‮: ‬‮ ‬أمير زكى

ولد في مقاطعة ديري بأيرلندا الشمالية عام‮ ‬1939،‮ ‬شيموس هيني كان الأخ الأكبر لتسعة أطفال في أسرة كاثوليكية‮. ‬بعد حصوله علي شهادة في اللغة الإنجليزية من جامعة كوين عام‮ ‬1961،‮ ‬عمل هيني معلما بإحدي المدارس،‮ ‬وبعدها بعدة سنوات ظل شاعرا بشكل حر‮. ‬عام‮ ‬1975‮ ‬عُين في وظيفة بقسم الإنجليزية بكلية التربية في دبلن،‮ ‬حيث كان‮ ‬يدرّب الطلبة علي التدريس حتي عام‮ ‬1981‭.‬‮ ‬دعته جامعة هارفارد لنصف عام دراسي عام‮ ‬1979،‮ ‬ثم عُرِض عليه ترتيب بأن‮ ‬يعمل هناك بشكل جزئي،‮ ‬مما سمح لهيني أن‮ ‬يقوم بالتدريس في نصف عام أثناء الربيع ثم‮ ‬يعود لأيرلندا حيث تقيم عائلته‮. ‬عام‮ ‬1984‮ ‬أنتخب كأستاذ لكرسي بويلستون للخطابة والشعر في جامعة هارفارد‮. ‬إلي جانب ذلك،‮ ‬وفيما بين العامين‮ ‬1989‮ ‬و1994،‮ ‬كان أستاذا للشعر بجامعة أوكسفورد‮. ‬بعدها حصل علي جائزة نوبل في الأدب عام‮ ‬1995،‮ ‬استقال هيني من كرسي بويلستون،‮ ‬ولكن ظل مرتبطا بجامعة هارفارد كشاعر زائر ببرامج الإقامة‮.‬

هيني كتب إثنتي عشرة مجموعة أشعار،‮ ‬وهي‮: ‬موت مولع بالطبيعة‮ (‬1966‮)‬،‮ ‬باب‮ ‬يفتح علي الظلمة‮ (‬1969‮)‬،‮ ‬تجاوز الشتاء‮ (‬1972‮)‬،‮ ‬عمل الحقل‮ (‬1979‮)‬،‮ ‬سويني متشردا‮ (‬1984‮)‬،‮ ‬جزيرة ستيشن‮ (‬1985‮)‬،‮ ‬مصباح الزعرور‮ (‬1987‮)‬،‮ ‬رؤية الأشياء‮ (‬1991‮)‬،‮ ‬مستوي الروح‮ (‬1996‮)‬،‮ ‬ونثره جُمع في ثلاثة كتب‮: ‬انشغالات‮ (‬1980‮)‬،‮ ‬حكومة اللسان‮ (‬1989‮)‬،‮ ‬إصلاح الشعر‮ (‬1995‮). ‬أعماله تتضمن أيضا نسخة من مسرحية فيلوكتيتس لسوفوكليس بعنوان‮ "‬العلاج في طروادة‮" (‬1990‮) ‬وترجمة مع ستانسيلاو برانتشاك لانتحابات‮ ‬يان كوفانوسكي‮ (‬1995‮).‬

أجري اللقاء في ثلاثة نهارات في منتصف مايو عام‮ ‬1994‮ ‬في‮ ‬غرفات هيني في منزل آدامز بهارفارد‮. (‬أضفت إليه بشكل مقتضب بعدما تلقي هيني جائزة نوبل‮) ‬شجرة تفاح في قمة توردها تبدو من نافذة‮ ‬غرفة المعيشة‮. ‬سيعود هيني إلي أيرلندا مع نهاية الشهر‮. ‬أثناء حديثنا تتسلل أصوات وضحكات الطلبة من الممر‮. ‬كان التليفون‮ ‬يرن باستمرار حتي تم فصله‮. ‬تم تقديم الشاي مع كعك من مخبز بيبريدج فارم‮. ‬ترابيزة للقهوة مع مكتبين من خشب البلوط مغطيين بشكل مرتب بأكوام رسائل ومسودات وأوراق إدارة ومجلات أدبية وكتب إلخ‮. ‬كان هيني‮ ‬يجلس علي الأريكة تحت ضوء المصباح‮. ‬خليط مريح من النظام وعدم الترتيب جعل الحوار‮ ‬يسهل بدؤه‮. ‬باقة من الليلك موضوعة في إناء قريب‮. ‬وعلي المدفأة كانت هناك صور للعائلة‮. ‬مع كل جلسة كان هيني‮ ‬يرتدي بدلة،‮ ‬وقميصا أبيض مكويا ورابطة عنق،‮ ‬حذاؤه من ماركة دكتور مارتنز كان ملمعا‮. ‬ورغم أن شعره الأبيض كان محلوقا إلا أنه كان أشعث‮. ‬كان‮ ‬يسافر بكثافة في الأسبايع الماضية،‮ ‬ورغم أن عينيه البنيتين كانتا مثقلتين،‮ ‬إلا أن عقله كان حاضرا‮. ‬بعد كل جلسة كنا نشرب كأس جاك دانييلز‮.‬

هل تشعر أن التدريس طوال هذه الأعوام أثر علي‮  ‬كتابتك؟

من المؤكد أنه أثر علي مستويات طاقتي‮! ‬أذكر أن روبرت فيتزجيرالد حذرني،‮ ‬أو علي الأقل كان قلقا بشأني من هذه الجهة‮. ‬ولكن بطريقة جيدة أو سيئة ـ الآن أشعر أنها سيئة،‮ ‬وفي وقت مبكر كنت أشعر أنها جيدة ـ ـ كنت أعتقد أن الشعر سيأتي كهبة وسيجبر نفسه علي الوجود في أي وقت أحتاجه فيه ليأتي‮. ‬إحساسي بالعالم،‮ ‬وبما‮ ‬ينتظرني في الحياة،‮ ‬كان من ضمنه أن أحصل علي وظيفة‮. ‬ببساطة كان هذا مرتبطا بجيلي،‮ ‬بتكويني،‮ ‬بخلفيتي‮ »‬الصبي الحاصل علي منحة،‮ ‬القادم من الريف‮. ‬حقيقة الأمر هو أن أكثر الأشياء الإعجازية وغير المتوقعة في حياتي هو مجيء الشعر نفسه‮« ‬وكتعال وميل‮. ‬بدأت كمدرس‮  ‬في بلفاست عام‮ ‬1962‭.‬‮ ‬درّست لمدة عام في مدرسة توماس الثانوية‮. ‬وحصلت علي درجات جيدة في الإنجليزية بجامعة كوين وشعرت أن لديّ‮ ‬إمكانية أدبية،‮ ‬ولكني لم أكن أملك ثقة حقيقية‮. ‬ثم بدأت أكتب بجدية في نوفمبر عام‮ ‬1962‮ ‬ويراودني بعض الأمل‮. ‬وكشاب لم‮ ‬يتخرج بعد أسهمت بقصائد في مجلة دارسي اللغة الإنجليزية‮. ‬كنت جزءا من مجموعة ضمت،‮ ‬بين آخرين،‮ ‬شيموس دين،‮ ‬الذي كان نجم المجموعة إلي حد كبير،‮ ‬وجورج مكويرتر وهو شاعر الآن بجامعة بريتيش كولومبيا في فانكوفر،‮ ‬وكان هناك آخرون ذوو طموحات أدبية في جامعة كوين في هذا الوقت علي سبيل المثال ستيوارت باركر الذي أصبح كاتبا مسرحيا في النهاية ـ وأنا كنت واحدا وسط هذا الزحام‮. ‬ولكني لم‮ ‬يكن لديّ‮ ‬أي حس بالانتقاء أو الغرض أو الطموح‮. ‬كان اسمي المستعار في جامعة كوين،‮ ‬في المجلات التي نشرت فيها هو إنكيرتوس وهو‮ ‬يعني باللاتينية المتشكك ــ كنت أركل الكرة الموجودة بالقرب من المرمي،‮ ‬ولكني لم أكن أوجهها للمرمي‮. ‬ثم بدأ التيار‮ ‬يفيض عام‮ ‬1962‭.‬‮ ‬أذكر أنني أخذت كتاب‮ "‬لوبريكال‮" ‬لتيد هيوز من أرفف مكتبة بلفاست العامة وفتحته علي قصيدة‮ "‬منظر خنزير‮"  ‬وتركته في الحال وكتبت قصيدتين كانتا‮ ‬غالبا محاكاة لهيوز‮. ‬القصيدة الأولي كانت بعنوان‮ "‬جرارات"؛ أذكر السطر الذي‮ ‬يقول‮: "‬تُغَرغِر بحزن‮" ‬ـ هذا الذي أعجبني كثيرا وقتها‮. ‬أرسلتها لجريدة‮ "‬بلفاست تليجراف‮" ‬ـ ليست أعظم جريدة أدبية في العالم ولكنها مع ذلك نشرت القصيدة‮. ‬وكان لهذا أهمية كبيرة لأني لم أكن أعرف أحدا في الجريدة،‮ ‬هذا الذي عني أنهم قبلوها بسبب مميزات القصيدة نفسها كما هي‮.‬

نشأت في أسرة لم‮ ‬يكن الرجال فيها متعلقين بالكتابة،‮ ‬لكنك عرفت فكرة الإيقاع الشعري لأول مرة كشيء جميل عن طريق أمك‮. ‬هل‮ ‬يمكنك الحديث قليلا عن حياتك العائلية كطفل؟

أبي كان مخلوقا من العالم القديم فعلا‮. ‬كان من المفترض أن‮ ‬يكون في بيته في كهف طبيعي‮.‬الجانب الخاص بأسرته والبيوت التي ارتبطتُ‮ ‬بها من جانب أسرته كانت تنتمي لأيرلندا الريفية‮. ‬هذه الأيام أيضا أنا واع أكثر فأكثر به كشخص تيتم في فترة مبكرة من حياته‮. ‬توفي أبوه فجأة عندما كان صغيرا جدا‮. ‬وأمه ماتت من سرطان الثدي‮.‬بالتالي نشأ هو وأخوته وتربوا علي أيدي الأعمام والعمات‮. ‬تربي أبي مع ثلاثة أعمام عزاب،‮ ‬رجال منغمسين في تجارة الماشية حتي رؤوسهم،‮ ‬يرتحلون ويعودون من الأسواق في شمال إنجلترا،‮ ‬ومنهم تعلم تجارة الماشية‮. ‬بالتالي كان المنزل الذي قضي فيه أعوامه الناشئة خاليا من النساء،‮ ‬مكان بنمط محافظ ومتقشف‮. ‬كل هذا أثر فيه وبالطبع وصل إلينا بحضوره وشخصيته‮.‬

ماذا عن أمك؟

حسنا،‮ ‬أمي كانت أكثر حداثية‮. ‬عائلتها كانت تعيش في قرية كاسلداوسون،‮ ‬وقد كانت قرية صناعية من جهة ما‮. ‬العديد من الناس هناك كانوا‮ ‬يعملون في مصنع كلارك للكتان‮. ‬أحد أعمامها كان وقّادا بالمصنع،‮ ‬وشقيق لها كان‮ ‬يعمل هناك أيضا،‮ ‬وآخر كان‮ ‬يقود شاحنة ـ وحصل علي ترخيص لصناع مخبز بلفاست في منطقة كاسلداوسون‮. ‬واحدة من أخوتها كانت ممرضة،‮ ‬وأخري ذهبت إلي إنجلترا أثناء الحرب وتزوجت في النهاية من عامل مناجم في نورثومبيرلاند‮. ‬أعتقد أنه‮ ‬يمكن القول إن عالم أبي كان عالم توماس هاردي وعالم أمي كان عالم د‮. ‬هـ‮. ‬لورانس‮. ‬

هل كانت هناك كتب في المنزل؟

ليس الكثير منها‮. ‬وسط الكتب كان في منزل الخالة سارة‮. ‬هي تعلمت لتكون مُدرّسة في العشرينيات‮ (‬من القرن الماضي‮) ‬وجمعت لنفسها نوعا من المكتبة‮. ‬كان لديها الأعمال الكاملة لتوماس هاردي علي سبيل المثال،‮ ‬نسخة مبكرة من ثلاثة مجلدات لأعمال‮ ‬ييتس ـ المسرحيات والقصص والقصائد‮.‬

هل تظن أنك بشكل أكبر شاعر سيرة ذاتية،‮ ‬أم شاعر اجتماعي،‮ ‬أم شاعر رعوي أم شاعر سياسي؟

إن كنت في موقف مفزع حيث‮ ‬يوجد شخص لا ألفة ولا اهتمام له بالشعر وقال لي‮: "‬ما نوع الشعر الذي تكتبه؟‮" ‬سأميل للقول‮: "‬حسنا،‮ ‬أنا شاعر سيرة ذاتية بشكل أكثر أو أقل،‮ ‬شعر‮ ‬يعتمد علي الذاكرة‮". ‬ولكني سأقول أيضا أن محتوي السيرة الذاتية في ذاته ليس الهدف من الكتابة‮. ‬ما‮ ‬يهم هو دافع صياغة الشكل،‮ ‬بزوغ‮ ‬والتقاء الإثارة في الكل‮. ‬لا أظن أنني شاعر سياسي ذو موضوعات سياسية أو فهم سياسي محدد للعالم،‮ ‬بطريقة برتولت بريخت كشاعر سياسي أو آدريان ريش أو آلان جينسبيرج بطريقة أخري‮.‬

هل‮ ‬ييتس شاعر سياسي؟

ييتس شاعر عام‮. ‬أو شاعر سياسي بطريقة أن سوفوكليس كاتب مسرحي سياسي‮. ‬كل منهما مهتم بالمدينة‮. ‬ييتس ليس شاعرا سياسيا متحزبا،‮ ‬حتي لو مَثّل قسما محددا من المجتمع والثقافة الأيرلندية وانتقده الماركسيون لأن لديه تحيزا رجعيا وارستقراطيا بالنسبة لمخيلته‮. ‬ولكن الجهد الكلي للمخيلة متوجه نحو الشمول‮. ‬التشكيل الأولي للمستقبل‮. ‬إذن بالطبع هو شاعر ذو أهمية سياسية عظيمة،‮ ‬ولكني أظن أنه شاعر صاحب رؤية أكثر منه شاعر سياسي‮. ‬يمكنني أن أقول أن بابلو نيرودا شاعر سياسي‮.‬

كيف‮ ‬يمكنك أن تصف صوتك الخاص؟

حاولت بقصد شديد في مجموعة‮ "‬عمل الحقل‮" ‬أن أنتقل من نوع الكتاب المتأمل والممتع ذاتيا صوتيا إلي شيء أقرب لصوتي المتكلم الشخصي‮. ‬وأعتقد أنني بعد‮ "‬عمل الحقل‮" ‬كنت أسير في هذا الاتجاه‮. ‬هو نوع مختلف من الطموح اللغوي الذي كنت أتبعه في‮ "‬موت مولع بالطبيعة‮" ‬أو‮ "‬تجاوز الشتاء‮" ‬أو‮ "‬شمال‮". ‬أردت لهذه الكتب أن تعبر عن تركيب وحروف ساكنة ومتحركة وأصوات،‮ ‬أن تعبر عن المادية التامة للكلمات‮. ‬

لقد سمعت أنك قلت أن قصائدك الجديدة‮  ‬وسأُضمّن في هذه التصريح كل مجموعة‮ "‬تربيعات‮" ‬ـ هي جزء من حركة شعرية تبغي العودة،‮ ‬ليس لبراءة ووردسوورث،‮ ‬ولكن إلي ما قبل اللغة وقبل القومية وقبل الكاثوليكية،‮ ‬قبل أن‮ ‬يتشفر كل هذا،‮ ‬هل هذا حقيقي؟

حسنا،‮ ‬في‮ "‬تربيعات‮" ‬كان هناك تلهف ورغبة محددة لكتابة نوع من القصيدة لا تنغمس في الحال فيما‮ ‬يُطلَق عليه‮ "‬الجدل الثقافي‮". ‬وهي واحدة من مشاكل‮  - ‬إلي جانب كونها واحدة من امتيازات‮ - ‬الشعراء في أيرلندا‮. ‬كل قصيدة إما أن توضع في إطار الانتماءات السياسية أو‮ ‬يتم كشف انتمائها الخفي‮.‬

هل تظن أن فقدانك لأبويك أثر في كتابتك؟ بطريقة ما في‮ "‬تربيعات‮" ‬هناك محو للماضي،‮ ‬هذا الذي‮ ‬يأتي مع موت أحد الأبوين

لقد حضرت وفاتيهما،‮ ‬كنت في الغرفة مع أخوتي‮. ‬لحظات من الاكتمال‮. ‬كلاهما مات في سلام‮. "‬رحلا هادئين‮" ‬ربما قالا ذلك لنفسيهما‮. ‬لم‮ ‬يكن هناك اضطراب كبير أو ألم جسدي‮. ‬أبي مات من السرطان،‮ ‬بالطبع كانت هناك فترة تدهور،‮ ‬ولكن في النهاية كان الانهيار التدريجي متوقعا وغير مؤلم نسبيا‮. ‬ماتت أمي بشكل أسرع بسبب جلطة خلال ثلاثة أيام‮. ‬مرة أخري كانت لدينا الفرصة لنتجمع‮. ‬كان هناك حس بالاكتمال الشكلي‮. ‬ولكن أيضا إدراك بأنه لا شيء‮ ‬يمكن تعلمه،‮ ‬فأن تكون في حضرة الموت‮ ‬يعني أن تكون في حضرة شيء بسيط جدا وغامض جدا‮. ‬بشكل ما،‮ ‬أعادت هذه التجربة الحق في استخدام كلمات مثل‮ "‬النفس‮" ‬و"الروح‮"‬،‮ ‬كلمات كنت أخجل منها بشدة،‮ ‬خجل أدبي،‮ ‬أعتقد أن خجلي كان بسبب الإذعان الخاطيء لتحريمات التجريد،‮ ‬ولكنه أيضا خجل نتج عن العلاقة المعقدة مع ماضيّ‮ ‬الكاثوليكي‮. ‬أنا أحبه بالعديد من الطرق ولم أهجره تماما،‮ ‬ولكن من جهة أخري أنا أتشكك لأنه‮ ‬يقدم لي مدخلا جاهزا مرضيا للكلمات المتعلقة بما وراء الطبيعة‮. ‬ولكن تجربة وفاة والديّ‮ ‬أعادت إليّ‮ ‬بعض التنوع فيما‮ ‬يتعلق بهذه الكلمات،‮ ‬أدركت أن هذه الكلمات ليست مربكة،‮ ‬إنها متصلة بروح الحياة الموجودة بداخلنا‮.‬

هل تشعر أن الشاعر عليه التزام في الأوقات الصعبة سياسيا؟

أظن أن الشاعر الذي لا‮ ‬يشعر بضغط الأوقات الصعبة سياسية إما أن‮ ‬يكون‮ ‬غبيا أو متبلدا‮. ‬أشعر بثقة شديدة من هذا معتمدا علي صياغة روبرت بينسكي في مقاله عن مسئولية الشاعر‮. ‬هو‮ ‬يربط كلمة‮ "‬المسئولية‮" ‬لأصلها‮ "‬استجابة‮" ‬ثم إلي مرادفها الأنجلوساكسوني‮ "‬رد‮". ‬يقول بينسكي أنه طالما شعرت أنك بحاجة للاستجابة فأنت مسئول،‮ ‬لأنه علي أساس إستجابة المرء تقع مسئولية الشاعر‮. ‬كيف تعبر عن الاستجابة هو مسألة أخري بالطبع‮. ‬هناك طَبع متضمن،‮ ‬وهناك مسألة مهمة متعلقة بالقدرة الفنية،‮ ‬عن إن كنت مؤهلا فنيا للتعامل مع مسألة متعلقة بالتمرد السياسي‮.‬

ألم تناقش في إحدي مقالاتك‮  ‬مستخدما مثال المسيح وهو‮ ‬يكتب علي الرمل ـ أن الشعر‮ ‬يملك القوة لإيقاف العنف؟ شرحت أنه ليس المهم هو ما كتبه‮ ‬يسوع علي الرمل،‮ ‬ولكنها كانت إيماءة‮ ‬غير متوقعة حوّلت الانتباه من رجم الزانية،‮ ‬وأوقفت الكتابة علي الرمل عملية الرجم أو علّقتها؟

‮ ‬نعم،‮ ‬النقاش في الحقيقة لا‮ ‬يغير الأشياء،‮ ‬إنه‮ ‬يلوثك بشكل أكبر‮. ‬ولكن إن تكلمت أو أعدت فتح موضوع بطريقة جديدة،‮ ‬ومن زاوية مختلفة،‮ ‬إذن سيكون هناك أمل‮. ‬في أيرلندا الشمالية علي سبيل المثال،‮ ‬مجاز جديد للموقف الموجودين فيه أو لغة جديدة سيخلق إمكانية جديدة‮. ‬أنا مقتنع بذلك‮. ‬لذلك عندما أعجب بكتابة‮ ‬يسوع علي الرمل،‮ ‬فهذا لأنه مثال لنوع من إثارة الجديد‮. ‬هو قام بشيء حوّل الانتباه من هوس اللحظة،‮ ‬وكأنه نوع من الرقصة السحرية‮.‬

هذه إمكانية عجيبة للكتابة‮.‬

يحدق الناس فجأة في شيء آخر ويتوقفون للحظة‮. ‬وفي فترة تحديقهم وتوقفهم،‮ ‬يكونون متأملين لكلية معرفتهم أو جهلهم‮. ‬هذا شيء‮ ‬يمكن للشعر أن‮ ‬يقوم به،‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يفتنك للحظة عن تيار وعيك وإمكانياتك‮.‬

‮ ‬ماذا كان رد فعلك عندما حصلت علي جائزة نوبل؟

وكأني دخلت في حالة انهيار لطيف‮. ‬أنت تشعر بالرعب بالطبع عندما تفكر في الكتاب الذين حصلوا عليها،‮ ‬وتشعر بالرعب عندما تفكر فيمن لم‮ ‬يحصلوا عليها‮. ‬لو حصرت نفسك في أيرلندا،‮ ‬ستجد‮ ‬ييتس وشو وبيكيت في المجموعة الأولي وجيمس جويس في الثانية‮. ‬لذلك تدرك أنه من الأفضل ألا تفكر في المسألة برمتها‮. ‬لا شيء‮ ‬يمكنه أن‮ ‬يهيئك لها‮. ‬يرعد زيوس من حولك وكذلك العالم ولكنك تقوم علي قدميك مرة أخري لتواصل حياتك‮. ‬

مقاطع من حوار مطول مع الشاعر نشر في باريس بوك ريفيو خريف‮ 7991 .    

 

شاعر في المنتصف

 

 

هنرى كول

ليس من قبيل الصدفة أن أعمال شيموس هيني المختارة كانت بعنوان‮ "‬الأرض المفتوحة‮" ‬طالما أن كتابة الشعر بالنسبة لصبي الحقل المميز هذا كانت نوعا من الحفر‮: "‬بين سبابتي وإبهامي،‮ ‬يقف قلمي الصغير،‮ ‬مهيأ كبندقية‮"‬

وليس من قبيل الصدفة أن هذه المختارات لأفضل القصائد لثلاثة عقود بدأت بكلمة‮ "‬بين‮"‬،‮ ‬لأن هيني كان شاعر‮ "‬الما-بين‮" (‬كما قالت صديقته هيلين فيندلر‮)‬،‮ ‬هو الذي‮ ‬يكتب في مساحة بين الشمال والجنوب،‮ ‬بين الكاثوليكية والبروتستانتية،‮ ‬بين أيرلندا وإنجلترا وأمريكا،‮ ‬بين الشعر الموزون والحر،‮ ‬بين العام والخاص،‮ ‬بين الواقعية والرمزية،‮ ‬بين الكلام الواضح والمُحَمَّل‮ "‬كل شق داخله معدن‮"‬،‮ ‬بينما‮ ‬يوازن أيضا جدية موضوعاته بمرح وتعالي اللغة الشعرية‮. ‬كما قال هيني‮: "‬الفكرة هي أن تُحَلِّق تحت وفوق وفيما وراء نُظُم الرادار‮".‬يجب أن‮ ‬يظل الشاعر‮ "‬منفتحا‮" ‬بأي ثمن،‮ ‬يختبر بقدر الإمكان جانبي أي جدال ــ سواء كان جانب الحكومة،‮ ‬أو جانب الحبيب،‮ ‬أو جانب الذات‮. ‬وبالتالي ليس مفاجئا أن كتاب‮ "‬الأرض المفتوحة‮" ‬ينتهي بكلمة‮ "‬منفتح‮" ‬لأن هذا هو الشرط الضروري لأي شاعر عظيم وأصيل‮. ‬ولكن‮ "‬كيف تكون مسئول اجتماعيا وحر إبداعيا،‮ ‬بينما تظل صادقا بالنسبة للبراهين السلبية للتاريخ؟‮" ‬هذا هو السؤال الذي كان هيني‮ ‬يحاول دوما أن‮ ‬يجيب عليه بينما‮ ‬يكتب أشعارا ذات جمال استطيقي ويحوّل خشونة التجارب الإنسانية إلي هارمونيات معقدة.ولكن‮ ‬يا له من‮ ‬يوم حزين لأن هيني هرب منا وهو الآن‮ ‬ينتمي للأدب‮. ‬عنوان كتابه‮ "‬الأرض المفتوحة‮" ‬يجعلنا نشعر بحزن خاص‮.‬

كما قالت ماريان مور‮: "‬القوي التي ظهرت في شعره هي العاطفة‮ ‬غير المكبوتة،‮ ‬الفرح،‮ ‬الحزن،‮ ‬اليأس،‮ ‬الانتصار‮". ‬موضوعات هيني كانت‮: ‬ما هو الوفاء؟ ما هو المنفي؟ ما هو الصواب؟ ما هو الحب؟ وكيف‮ ‬يمكننا إدارة مشاعرنا؟ هذه موضوعات تشغلنا جميعا‮. ‬وعلي الرغم من أنه عاش في أيرلندا المنقسمة مع الدبابات والجنود وغير ذلك من أشكال التفسخ،‮ ‬إلا أنني لم أسمعه قط وهو‮ ‬يزعم أنه‮ ‬يعيش حالة الضحية‮.‬

أعتقد أن هيني شاعر أخلاقي،‮ ‬لأنه مهتم جدا بالخصائص التحولية للشعر الذي‮ ‬يعزي ويعلم ويدعم،‮ ‬هو كان‮ ‬يؤمن بأنه بإمكان الكتابة أن تغير الأشياء،‮ ‬كما حدث في قصة بالعهد الجديد حيث كتب‮ ‬يسوع علي الرمل وحول نظر الحشد من رجم امرأة قبض عليها وهي تزني‮. ‬إنها كتابة‮ ‬يسوع علي الأرض بإصبعه هي ما حولت نظر الحشد الغاضب،‮ ‬وكما قال هيني‮: "‬إنها لفتت الانتباه عن هوس اللحظة‮". ‬كان‮ ‬يعتقد أن الشعر‮ ‬يمكنه أن‮ ‬يحقق هذا‮.‬

كرجل،‮ ‬كان هيني شاعرا ذو كرامة كبيرة‮. ‬أقول هذا كزميله السباق وكشاعر من جيل أصغر،‮ ‬يبحث عن طرق ليجد مكانا في العالم الأدبي‮. ‬عندما رأيته بعد حصوله علي نوبل بوقت قصير،‮ ‬رفض تماما أن‮ ‬يستخدم الكلمة التي تبدأ بحرف‮ "‬ن‮" (‬نوبل‮) ‬كما كان‮ ‬يطلق عليها،‮ ‬عندما كان‮ ‬يحكي لي قصة وجوده في اليونان في رحلة بالسيارة مع زوجته راجت أخبار إعلان الجائزة التي تبدأ بحرف الـ‮ "‬ن‮". ‬لم تصل إليه الكلمة حتي اتصل بابنه الاتصال الروتيني وصاح فيه الابن‮: "‬انا فخور جدا بك‮ ‬يا أبي‮". ‬عندما كان هيني طالبا بجامعة كوين،‮ ‬كان اسمه المستعار انكيرتوس التي تعني باللاتينية‮ "‬المتشكك‮" ‬وبقدر ما أستطيع القول لقد جعلته جائزة نوبل أكثر تواضعا‮.‬

بالنسبة لي عنوان كتاب هيني‮ "‬الأرض المفتوحة‮" ‬يشير أيضا لشيء فيه بحث واستخراج،‮ ‬وكأنه متعلق بقبر‮. ‬إنه‮ ‬يكشف رجل‮ ‬يرفض أن‮ ‬يكون عاطفيا وهو‮ ‬يحفر ويستخرج الحقائق من روحه ومن العالم‮. ‬عندما أقرأ قصيدة لهيني أتذكر‮ "‬المقدمة‮" ‬لووردسوورث عندما كان‮ ‬يبحث من جانب القارب علي مياه ساكنة،‮ ‬يعزي نفسه وهو‮ ‬يري بريق صورته مختلط بالحصي والجذور والصخور والسماء‮. ‬الزمن،‮ ‬والتاريخ،‮ ‬والفكر،‮ ‬والذات مختلطين بطريقة جذابة ذ بالضبط كما هو الحال في أفضل أشعار هيني،‮ ‬الذي بعدما قام بالحفر قام بالإنبات والإثمار‮ .‬


هنري كول،‮ ‬كتب ثمانية مجموعات شعرية،‮ ‬آخرها‮ "‬اللمسة‮" ‬والمحرر الشعري لجريدة‮ "‬النيو رابابليك‮" ‬ويدرس بجامعة أوهايو‮. ‬ذ المقال نقلا عن النيويوركر‮ ‬30‮ ‬أغسطس‮ ‬2013


قصائد شيموس هيني

 

ت‮ : ‬ىاسر شعبان

كأنه لا‮  ‬شيء

في ذكري‮ " ‬م‮ . ‬ك‮ . ‬ه‮" ‬،‮ ‬1911‮ ‬ـ‮ ‬1984

عندما تسربت البرودة من طبقات البطانة‮ ‬

ظننت أن الرطوبة داخلها

لكن عندما شددت حواف سترتي الكتانية‮ ‬

وسحبتها عليها،‮ ‬في البداية لأسفل‮ ‬

ثم بشكل قطري،‮ ‬حتي تطايرت وكومت

‮ ‬ـ مثل شراع في ريح متعامدة ـ‮ ‬

وتحولت إلي سطح جاف ومتموج

عندئذ ـ‮ ‬

كان علينا أن نتمدد وننثني وننتهي يدًا في يد‮ ‬

لجزء من ثانية ـ كأنه لم يحدث شيء

وكأنه لا شيء يحدث ـ أبدًا‮ ‬

في متناول اليد،‮ ‬يومًا بعد يوم،‮ ‬فقط المس واذهب‮ ‬

نقترب من جديد بالرجوع إلي ما مضي

ألعاب كنت فيها‮ ‬X ) ‮)  ‬وكانت‮  ‬O )‮)‬،‮ ‬

مطبوعة علي أقمشة خاطتها من أكياس الدقيق المشقوقة‮.‬

أبداُ‮ ‬ـ لم نكن أقرب

كان الجميع‮  ‬بعيدًا في فوضي‮ ‬

وكنت لها تمامًا ونحن نقشر البطاطس

أشياء‮  ‬اخترقت الصمت‮ ‬

دعها تسقط واحدة فواحدة‮ ‬

مثل الجندي الذي يبكي من أغلال الجندية‮: ‬

راحات باردة بيننا‮ ‬

أشياء تدعونا لنتشارك‮ ‬

‮ ‬وميض في دلو من الماء الصافي

وثانية ـ دعها تسقط

نثارات قليلة وممتعة‮ ‬

فمن كل فعل للآخر

سنصل إلي أحاسيسنا

وهكذا ـ‮ ‬

بينما كان القس جوار مخدعها

والمصلون يتدافعون إلي الميت‮ ‬

بعضهم مستسلم،‮ ‬وبعضهم يصرخ

تذكرت رأسها و هي تميل تجاه رأسي

وأنفاسها تختلط بأنفاسي،‮ ‬ومديتنا التي تقطع بسلاسة‮ ‬

أبدًا ـ لم نكن أقرب طوال حياتنا السابقة

هليكون شخصي

مثل أي طفل‮ ‬،‮ ‬لم يستطيعوا إبعادي عن الآبار‮ ‬

والمضخات القديمة حيث الدلاء و الروافع

عشقت القطرة الداكنة،‮ ‬السماء الملبدة‮ ‬

روائح الخشب المبلل،‮ ‬الفطر،‮ ‬و الطحالب

فوق الأماكن الرطبة

بئر في فناء،‮ ‬يحيط به لوح خشب عطن

استمتعت بصوت ارتطام عميق‮ ‬

عندما انفع دلو لأسفل في نهاية‮  ‬جبل

وهناك،‮ ‬عميقًا جدًا،‮ ‬لن تري انعكاسًا لشيء

بئر سطحية تحت خندق حجري جاف‮ ‬

تنتشر عليها النباتات مثل أي مجري مائي‮ ‬

وعندما تسحب الجذور الطويلة من المهاد الناعم‮ ‬

سيتأرجح وجه أبيض في القاع

لآبار أخري ترجيعات‮ ‬،‮ ‬ترجع نداءك

بموسيقي جديدة رائقة تتخلله‮.‬

أحد الآبار كان مرعبًا لحد ما،

فمن بين نباتات السرخس و قفاز الثعلب

انزلق فأر عبر صورتي المنعكسةالآن ـ تأمل الجذور‮ ‬،‮ ‬اللعب في الطين

التحديق بعيني‮ "‬نرسيس‮" ‬المتسعتين

في الآفاق

كل هذا كامن في وقار البالغين

وأنا أكتب الشعر لأري نفسي

وأجعل‮  ‬الظلمة تردده

الهليكون‮ ‬Helicon  : آلة موسيقية

أغنية‮ ‬

‮" ‬الروان‮"  ‬مثل شفتي بنت حمراوين

بين الطريق الجانبية و الطريق الرئيسة‮ ‬

شجر بجوار الماء يمتد علي أرض مبللة‮ ‬

يقف بمنأي عن السرعة والعنف

هناك أزهار الطين في اللغة المحلية‮ ‬

والخالدون في نغمة متقنة‮ ‬

في تلك اللحظة عندما يغني الطائر‮ ‬

في تناغم مع إيقاع ما يحدث



الحفر

ترجمة‮:‬‮ ‬سماح جعفر

بين إصبعي وإبهامي

يرتاح القلم الرابض؛ ثابت كبندقية‮.‬

تحت نافذتي،‮ ‬صوت صرير نظيف

عندما تغوص المجرفة في الأرض الحصباء

أبي،‮ ‬يحفر‮. ‬أنظر لأسفل


حتي ينحني ردفه المجهد بين جنينات الزهور

منخفضاً،‮ ‬ليأتي بعد عشرين عام

وينحني بإيقاع بين بذور البطاطا

حيث كان يحفر‮.‬

الحذاء الخشن يختبيء في الحزم،‮ ‬العمود قبالة‮ ‬

الجانب الداخلي للركبة أُخرِجَ‮ ‬بحزم‮. ‬

قام باجتثاث القمم الطويلة،‮ ‬وغرز الحواف الزاهية عميقاً

ليبعثر البطاطا الجديدة‮  ‬التي قطفناها،

محباً‮ ‬لصلابتها الباردة في أيدينا‮.‬

بالرب،‮ ‬يمكن للرجل العجوز أن يتعامل مع المجرفة‮.‬

تماماً‮ ‬كأبيه‮.‬

قص جدي أعشاباً‮ ‬كثيرة في يوم واحد

أكثر من أي رجل أخر في مستنقع الحبر‮.‬

ذات مرة حملت له حليباً‮ ‬في زجاجة

مسدوداً‮ ‬بفلينة ورقية بإهمال‮. ‬استقام‮ ‬

ليشربه،‮ ‬ثم هبط فوراً‮ ‬

يجز ويقطع بدقة،‮ ‬يرفع العشب

فوق كتفه،‮ ‬يمضي عميقاً‮ ‬وعميقاً

لأجل العشب الجيد‮. ‬يحفر‮.‬

الرائحة الباردة لعفن البطاطا،‮ ‬وسحق ولطم‮ ‬

الجفت الرطب،‮ ‬العشب يجز من حوافه

عبر جذور حية يقظة في رأسي‮. ‬

لكنني لا أملك مجرفة لأتبع رجالاً‮ ‬مثلهم‮.‬

بين إصبعي وإبهامي

إرتاح القلم الرابض‮.‬

سوف أحفر به‮.‬

فاكهة‮ ‬غريبة

ها هو رأس الفتاة مثل قرعة مقطوفة‮.‬

وجه بيضاوي،‮ ‬بشرة خوخية،‮ ‬وأحجار مشذبة هي الأسنان

لقد نزعوا السرخس الرطب عن شعرها

وصنعوا معرضاً‮ ‬من لفائفه،

تاركين الهواء علي جمالها الجلدي‮.‬

عاطفة من الشحم،‮ ‬كنز قابل للتلف‮:‬

أنفها المكسور داكن مثل كتلة عشب،‮ ‬

محجر عينيها فارغ‮ ‬كأحواض في المقالع القديمة‮. ‬

إعترف ديوريوس الصقلي

سكونه المترنم مع أشباه هؤلاء‮:‬

القتل،‮ ‬النسيان،‮ ‬المجهول،‮ ‬الفظاعة

الفتاة مقطوعة الرأس،‮ ‬إطالة التحديق في الفأس

والتطويب،‮ ‬إطالة التحديق

في ما بدأ لأجل الإحساس بالخشوع‮.‬

من تخوم الكتابة

الندرة واللاشيء يلفان هذا الفضاء

عندما تتوقف السيارة في الطريق،‮ ‬تتفحص القوات‮ ‬

طرازها ورقمها،‮ ‬وبينما يحني المرء وجهه

قبالة نافذتك،‮ ‬تمسك بنظرك المزيد

علي تلة في الخلف،‮ ‬يتطلعون بقصدية

إلي أسفل،‮ ‬نحو البنادق المحتضنة التي تبقيك تحت‮ ‬غطاء

وكل شيء استجواب خالص

حتي تتحرك بندقية وتنتقل أنت

تحت حراسة‮ ‬غير مهتمة بالإسراع‮-‬

قليل من الجوع،‮ ‬قليل من الإنهاك

كما هو الحال دائماً‮ ‬مع هذا الإرتعاش في النفس،

مخضع،‮ ‬نعم،‮ ‬ومذعن‮.‬

لذلك تقود إلي تخوم الكتابة

حيث يحدث ذلك ثانية‮. ‬البنادق علي الرفوف؛

الرقيب عبر ميكروفونه يكرر

بيانات عنك،‮ ‬في إنتظار زعيق

الصفاء؛ الرامي يتدرب في الأسفل

بعيداً‮ ‬عن الشمس،‮ ‬أمامك مثل الصقر‮.‬

وفجأة تعبر،‮ ‬متهم تم إطلاق سراحه للتو،

كما لو كنت تمر من وراء شلال

في التيار الأسود للطريق المعبد

عابراً‮ ‬المركبات المصفحة،‮ ‬خارجاً‮ ‬بين

الجنود المنتشرين،‮ ‬متدفقين ومنحسرين

مثل ظلال الشجر علي زجاج السيارة الأمامي المصقول‮.‬

منقول من موقع أخبار الأدب

 















































ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق