الخميس، 19 سبتمبر 2013

نجم.. سفير الفقراء

لا يراه الكثير


مايكل عادل

"حد يموت قبل اليوم ده يا إمام؟ حد يموت قبل ما يشوف العيال دي يا إمام؟ تعالي غنّيلهم هلّي يا شمس البشاير، تعالي غنّيلهم بهيّة يا إمام"

قالها يوم 11 فبراير 2011 بعد انتهاء بيان تنحّي حسني مبارك عن الحكم بعد 18 يوم من الثورة الشعبية في 25 يناير، ثم بكي العم "نجم" وهو من لم يعتد البكاء سواء بين جدران السجن أو في الحوش ولا في أحلك أوقات الفقر والتعب اللذان كانا ضريبة رأيه و"فاجوميّته" وهجومه الدائم علي السلطة.

في الحقيقة فإن حكايات أحمد فؤاد نجم وقصصه مع السلطة والمعتقل ومنافقي الحكّام وشعره المقاوم، هي قصص معروفة للجميع ولا تحتاج للسرد، بل إن حصره في هذا الإطار إعلامياً كان جزء من مسلسل الظلم الذي تعرض له هذا الرجل طيلة حياته.

فالعم "نجم"، والذي اعتدنا علي مناداته بـ"أبو النجوم"، يمكنه أن يحدّثك في أمورٍ عدّة، يمكنه أن يحدّثك في الحب، في الغَزَل، في الجمال، في الفلسفة، في التاريخ، في المجتمع، عن المرأة، عن الأسرة، عن التربية، عن الحياة، وعن الموت.

و"نجم" الوطني الثوري سليط اللسان هذا، وبقدر قسوته علي الحكّام، يمتلك بنفس القدر حب للجنس البشري وللحياة، وبقدر كتاباته المقاومة هناك كتاباته الرقيقة التي قد لا يعلم عنها الكثيرون. فمن كتب "إنشالله يخربها مداين عبد الجبّار" بعد نكسة 67 ملقياً باللوم علي جمال عبد الناصر، هو من كتب "عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت" في رثاء نفس الرجل، ومن كتب "هات وشّك خدلك تفّه" هو من كتب "إن كان أمل العشّاق القرب، أنا أملي في حبّك هو الحب".

ويبدو أن الرجل كان دائماً في حالة حيرة وصراع بين طاقة حب هائلة، وطاقة رفض ونفور من السلطة وأتباعها، وقد تجلّت هذه الحالة حينما فاض به الكيل وقت القبض عليه من بيته أمام زوجته في يومهم الأول للزواج وكتب قصيدته "بلدي وحبيبتي"، القصيدة التي سارت علي خطّين متوازيين أحدهما سياسي والآخر عاطفي، لتبدأ بـ"الغرام في الدم سارح، والهوي طارح معزّة"، مروراً بـ "النهاردة يا ملاكي جُم زاروني جوز تنابلة ونص دستة من التيران"، نهاية بـ "أصله شاف صورتين جُمال في العيون الطيّبين، مصر في العين الشمال وانتي في العين اليمين". القصيدة التي تحمل من طاقة الحب ما جعلها بداية لقصة حب حين ألقيتها أمام تلك الجميلة التي قابلتها صدفة وأحببتها صدفة علي كلمات هذا الرجل، ومن المؤكد أنها ليست القصة الوحيدة التي بدأت بهذه الطريقة علي هذه الكلمات، فما بيني وبين هذا الرجل ليس فقط صداقة أو تلمذة، فما لا يعرفه هو أنني مدينٌ له بقصة حب رائعة.

قابلت "نجم" للمرّة الأولي قبل قيام الثورة، قابلته في محراب الثقافة والفن الذي أصبح فيما بعد بيت الثورة المصرية، دار "ميريت" للنشر وفي حضرة الأب الروحي لمثقّفي وفنّاني جيلي "محمد هاشم"، تحدثنا عن كل شيء، عن الموسيقي والسياسة والوطن، عن ثورة قادمة، وعن وطن مسروق، عن حلم قرر نجم أن يحيا ليراه، وعن شباب لا يطيق صبراً ليري لحياته معني. ودار بيننا حديث جانبيّ عن المرأة، عن مواطن جمالها، عن لمستها التي تضيف دائماً الجديد والجميل للأشياء.

حدّثني نجم عن المرأة الشرقية التي أسماها "مريم"، قال إن كل مرأة في الشرق تحمل بداخلها "مريم" تلك الفتاة التي فوجئت في عز شبابها بأنها تحمل علي يديها طفلاُ مطارداً من الجميع، فحمته بمنتهي القوّة، وحضنته بمنتهي الحب، وتوجّهت به إلي مصر بمنتهي الذكاء.

قال نجم فيما قال أنه يكاد يري في عين كل امرأة فلسطينية لمعة "مريم" التي تدرك أن الحل في مصر، والأمان في مصر، والخلاص في قلب ابنها يبدأ من مصر.

الكلمات السابقة ربّما هي أكثر كلمات حفظتها وأتذكرها جيداً بنبرة الصوت نفسه ولا أعتقد أنها قابلة للنسيان، ولم يسمعها غيري يومها.

وبعد قيام الثورة ونجاح موجتها الأولي في إزاحة نظام مبارك والحزب الوطني، كتب نجم عدة مقالات وتحدث فيها عن جيل من الشعراء قد تسلّم الراية ومضي نحو الحلم ليستكمل تحقيقه، وقد جاء ذكري في مقالين منهم في إعلان منه عن منحه الحلم لجيل جديد ربما رأي فيه ما يمكّنه من استكمال المسيرة، وكانت هذه جائزتي التي تذكّرتها قبل أن أكتب شهادتي.

في قصيدته بعنوان "الليل ملّاح" يمكنك أن تري نجم الذي لا تعرفه، بعيداً عن الشغب والصخب والسياسة والمقاومة والشد والجذب، يمكنك فيها أن تعلم الكثير عن ما بداخله من ألم وصراع وبهجة وحزن وخوف وتعاطف من خلال مشاهد يعلن من خلالها خلاصة رؤيته لحياته الحافلة حين يقول :

هتقوللي بتشكي أومّال من إيه؟

ولا من أوجاع

ولا شوق لمتاع

ده انا عمري ان ضاع

مش هبكي عليه

أبداً يا طبيب"

هذا هو نجم لمن لا يعرفه، هذا هو "أبو النجوم" الشقي الحالم المشاغب سليط اللسان، وهذا هو ما يفكّر فيه قبل أن يخلد إلي النوم ليصفّي حساباته مع الأيام ومع نفسه.

سفير الفقراء‮ ‬

إبراهيم عبد الفتاح

الفلاح الفصيح شاعر الثورات العربية سفير الفقراء أبو النجوم أحمد فؤاد نجم ذلك الحضور القوي والملهم أكبر من كل الجوائز وأكثر قيمة من هبة أو منحة أو تقدير فقد منحته الشعوب العربية جائزته المفضلة والخالدة حين خزنته في ضمائرها معولاً‮ ‬لهدم مؤسسات القمع والقهر والمصادرة ومعبراً‮ ‬عن الفرح والحنين والمجد ومحفزاً‮ ‬علي مواصلة الحياة مهما اعترضت الأحجار طرقها هو المنشد والشاعر والفيلسوف والحكيم وبوصلة التاريخ بقدرته المتفردة في استلهام السيرة والأسطورة الإنسانية بمختلف ثقافاتها فتشكلت في روحه هذه العجينة الحضارية التي تتماس وتتماهي مع القدرة والإرادة وتجاوز الألم والإخفاق فلم‮ ‬يترك مجالاً‮ ‬إلا وكان رائداً‮ ‬فيه من الأغنية إلي القصيدة إلي المقال وهو الحكاء الساحر الذي‮ ‬يمزج الواقع بالخيال بحسه الساخر وهو جبرتي العصر بما وثقه من تاريخ لن‮ ‬يقوي أحد علي تزيفه‮  ‬

من حوش قدم نغمات طالعة‮ ‬

كان بيته البسيط وجهتنا وكعبتنا وقبلة عشاق الوطن من كل صوب حيث لاباباً‮ ‬لتطرقه فبيته مفتوح مثل قلبه للجميع تقابلك ابتسامته الودودة فتحملك من علي الأرض وتحلق بك في سماء من الدهشة والألفة ونغمات سميه وشقيق روحه تبصرك بمفهوم الوطن وهي تتسلطن فتسلطن الحاضرين بمقام البهجة حين تنتقد وحين تمتدح فكأنك تشاهد التاريخ وهو‮ ‬يكتب للتو بل وتشارك فيه حين تردد مقطعاً‮ ‬وراءه وسرعان مايفاجئك طالباً‮ ‬منك أن تقرأ قصيدة فتفعل وأنت تراقب انفعالاته بما تقول مهما كان بسيطاً‮ ‬فقد دربتك رحابته علي جرأة القول ومن ثم التعبير عن روحك بصدق وشفافية فلم تكن جلسته مجرد تسلية بالوقت بقدر ماكانت مدرسة بل جامعة تخرج منها عشرات الموهبين في شتي المجالات‮ ‬

فأي جائزة تلك التي نبارك له بها والأولي ان نبارك للجائزة إذا أدركته ولعلها إحالة تنسحب علي المتشددين‮  ‬الذين‮ ‬ينظرون لكل مايكتب بالعامية علي أنه دون المستوي وظني أن شعراء كثر‮ ‬يمكنهم الحصول علي أعلي الجوائز العالمية لو أن نصوصهم ترجمت إلي لغات العالم المختلفة لكن علينا أن نكرمهم في وطنهم أولاً‮ ‬بالاهتمام بما‮ ‬يكتبون وتقديره‮ ‬يالشكل المناسب ولا أجد ختاماً‮ ‬لهذه الكلمة الموجزة سوي مقطع من أغنية كتبها أبو النجوم‮ :‬

آمشير علي نجعنا والريح بتصفر صفر

كل الدروب صفصفت مافي حدا في الكفر

غيرك‮ ‬ياعود الزان

ياطرحة الأحزان

قلبي عليك انشعف

وانا قلبي ده خزان

فيه الرفاقة العزاز بستان وضليلة

ونصل خنجر خيانة‮ ‬غوط في ذات ليلة

وفيه صبايا حلالك‮ ‬ياواحد العيلة

خايفين عليك تنكسر

ونجدد الإحزان

 عم نجم‮ ‬شكرا‮ ‬علي الصدفة السعيدة

 

رامى‮ ‬يحيى

بعد ما تحمست أني أكتب عن عم نجم لقيت نفسي مزنوق أكتب منين،‮ ‬إيه اللي ممكن أكتبه عنه ويبقي مش مجرد إعادة لكلام كتير أنكتب عنه،‮ ‬وفي النهاية قررت أكتب عن علاقة عم نجم ببداياتي المختلفة في الحياة،‮ ‬واللي كان الفاجومي دايمًا ضالع أساسي فيها بشكل مباشر أو‮ ‬غير مباشر‮. ‬

علاقتي بالشِعر كانت عن طريق المسرح،‮ ‬كنت كل ما أقرا مسرحية لكاتب عالمي أعرف أنه شاعر،‮ ‬وطبعًا علي أيامي لم‮ ‬يكن الله قد خلق الأنترنت،‮ ‬فكان المواطن بيوصل للمعلومة عن طريق الأتوبيس مش‮ "‬جوجل‮"‬،‮ ‬فكان الوقت في المكتبة له تمنه وماينفعشي أضيعه بعيد عن رفوف المسرح‮.‬

وفضلت ماعرفشي عن الشعراء‮ ‬غير أساميهم وبعض الأبيات اللي باسمعها أخر السهرة في برنامج تليفزيوني قديم‮ ‬غالبا كان الغرض منه الصد عن طريق الشِعر‮.‬

وفي‮ ‬يوم اشتريت ديوان شِعر من علي سور الأزبكية لأسم من الأسماء اللي معروفة جدًا واللي كتبهم بتبيع بغزارة،‮ ‬بس بصراحة ماقدرتش أكمل الكتاب نهائي،‮ ‬وبقيت كل ما أفتحه اسمع في الخلفية موسيقي الاسانسيرات اللي كنت باسمعها في البرنامج أياه‮.‬

استمرت علاقتي بالمسرح وتريقتي علي الشِعر كفكرة‮ "‬عن جهالة‮"‬،‮ ‬في ليلة سهران عند صديق بنشتغل علي مسرحية سوا،‮ ‬وقعت في أيدي أجندة بتاعته فقال أن فيها قصايد له،‮ ‬طبعا قعدت أتريق عليه وعلي الشِعر والشعر مستندًا علي موسيقي الأسانسيرات،‮ ‬فما كان منه إلا أنه صارحني بجهلي،‮ ‬وخرج من مكتبته كتابين كبار،‮ ‬واحد الأعمال الكاملة لأحمد فؤاد نجم والتاني الأعمال الكاملة لأمل دنقل،‮ ‬قصيدة من هنا علي قصيدة من هنا فبهت الذي كفر،‮ ‬وبعد ما بُهِت وتيقنت أني أنا اللي كنت باروح عند راس الشِعر وأشمها،‮ ‬بقيت من جمهور الشِعر‮.‬

كمان في بداية تعاملي مع الشارع السياسي من بوابة‮ "‬الاشتراكيين الثوريين‮" ‬كان الغذاء الأساسي للكادر حديث التجنيد هي أغاني الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسي،‮ ‬ومع أحتكاكي بباقي الفصائل السياسية في مصر لاحظت أن كل الفصائل تقريبًا بتسمع هذا الثنائي الوطني،‮ ‬مع بعض التحفظات عند الزملاء الليبراليين اللي بينتقوا الأغاني الوطنية فقط وبيبتعدوا عن الأغاني اللي بيناصر فيها الفقراء،‮ ‬وطبعًا عمري ما قابلت أي إخوانجي بيسمع أي حاجة

لدرجة شككتني أن ماعندهمشي ودان‮.‬

البداية التالتة كانت بداية كتابتي للشِعر،‮ ‬واللي اتطورت معايا لدرجة أني أتجرأت وجمعت ديوان وقدمته لمحمد هاشم،‮ ‬وكانت النتيجة لقاء مباشر مع عم نجم،‮ ‬كنت مخضوض بقي وحاجات من دي وزادت الخضة إلي توتر لما لقيت أني هاقرا له من شغلي،‮ ‬ودي كانت أول مرة أعرف فيها أن الشتيمة بتكون دليل علي الإعجاب مش العكس‮.‬

بدايات كتير في حياتي كان عم نجم ركن أساسي فيها،‮ ‬وأهم بداية فيهم بالنسبة ليا هي بداية كسر مفهومي عن الشاعر،‮ ‬من‮ ‬يوم ما أتعرفت علي الشِعر وأنا عارف أن الشاعر هو لسان المثقفين للحديث مع العامة والبسطاء،‮ ‬وكل الشعراء اللي قريت لهم أكدوا لي الفكرة دي أو ماقربوش منها أساسًا‮.‬

بس بعد فترة أنتبهت لتفصيلة‮ ‬غايبة عني في شغل عم نجم،‮ ‬وهي أنه لعب الدور العكسي،‮ ‬فقدر‮ ‬يكون لسان البسطاء في وسط مجتمع المثقفين،‮ ‬ودي كانت بداية تغيير نظرتي للشِعر من بابه،‮ ‬شكرًا‮ ‬يا عمنا علي كل البدايات دي‮.. ‬اللي أنت قصدتها واللي حصلت بالصدفة‮.‬


حديث قليل عن أشياء كثيرة

 

عبد الرحيم طايع

أن تكتب عن رجل مجرب وشاعر شديدةٌ‮ ‬مباشرته في نقد التردي السياسي والثقافي والاجتماعي،‮ ‬مباشر وحاد كالحلفاء الجنوبية،‮ ‬في نسيج فني سلس وعميق وذي أهداف إصلاحية بعيدة،‮ ‬لا تفسده المباشرة ولا‮ ‬يقلل من قيمته إقبال العاديين عليه وترديده،‮ ‬بل علي العكس،‮ ‬يشير ذلك،‮ ‬بقوة،‮ ‬إلي كونه نافذا إلي المصريين في جملتهم الكبري وسوادهم الأعظم،‮ ‬وهو ابن الشمال‮ ( ‬ينتمي إلي محافظة الشرقية‮ ) ‬الذي لا‮ ‬يمكن الارتياح،‮ ‬في آخر الأمر،‮ ‬سوي لمصريته الخالصة الصافية،‮ ‬دون أن‮ ‬يطمئن المتصدون لتأريخ سيرته،‮ ‬لنسبته إلي منطقة معينة من الوطن،‮ ‬صادف أنه أحد أبنائها النجباء‮!‬

تعبير‮ " ‬الأشياء الكثيرة‮ " ‬هو مفتاح هذا العم المخضرم‮ : ‬عاني كثيرا في طفولته وصباه‮ ( ‬تربي في الملجأ وكان معه عبد الحليم حافظ رفيق عنابر البؤس آنذاك‮ )‬،‮ ‬وأحب كثيرا،‮ ‬وتزوج كثيرا،‮ ‬وسافر كثيرا،‮ ‬وتم اعتقاله كثيرا،‮ ‬وعرف كثيرين متنوعين،‮ ‬وخاصم كثيرين،‮ ‬وسب كثيرين،‮ ‬ورضي عن كثيرين أيضا،‮ ‬إلي ما تشاؤون من الكثرة‮!‬

عمنا‮ " ‬أحمد فؤاد نجم‮ " ‬كثير بكل معني الكلمة،‮ ‬ليست كثرة سواه ككثرته،‮ ‬مهما بدا الآخرون‮ ‬يشبهونه في كثرة ما أحاط بهم‮!‬

علي المستوي الشخصي،‮ ‬لم أجالسه قط،‮ ‬علي الرغم من صداقته لمجموعة ثقافية وفنية قريبة مني ومنه أحبها كل الحب وأقدر جهدها الفذ تقديرا خاصا هائلا،‮ ‬كالشاعر الرائع إبراهيم داوود والناشر المهم محمد هاشم والفنان الكبير محمد منير‮...‬

يكون أحيانا ساهرا في‮ " ‬دار ميريت‮ " ‬وبالصدفة أكون في القاهرة علي بعد خطوات منه ـ في كافيتيريا الجريون،‮ ‬لكن أعرف في اليوم التالي،‮ ‬أو بعد عودتي إلي‮ " ‬قنا‮ "‬،‮ ‬أن فرصة أو فرصتين للقائه ضاعا مني‮!‬

في الحقيقة لست حريصا علي لقاء الأسماء التي لمعت في سماء الوطن لمعانا سرمديا،‮ ‬حتي صارت جزءا من ضياءات لياليه،‮ ‬ويكفيني تماما أن أضع‮ ‬يدي علي بعض المساحات التي خلقتها تلك الأسماء من ضياءات عبقرية،‮ ‬المساحات الأهم،‮ ‬من خلال قراءة لا تتوقف وتأمل لا‮ ‬ينقطع،‮ ‬مهما قالت الأجيال التي تلت أصحاب تلك الأسماء‮ : ‬انطفأ فلان أو بردت نار الذي اسمه كذا‮...‬،‮ ‬لا أري في عدم حرصي علي الاحتكاك المباشر بتلك الأسماء،‮ ‬ترفعا عن مقابلتها أو شبهة في مصداقية الاعتراف بحجمها وأهميتها،‮ ‬حاشاي،‮ ‬لكن فقط أتجنب‮ " ‬الدوشة‮ " ‬التي تحيط بهالات المشاهير،‮ ‬وأكثرها زيفا وكذب مما لا أحتمله‮!‬

حالة‮ " ‬نجم‮ " ‬بالذات حالة تختلف عن المشاهير الذين لا‮ ‬يحبون أن‮ ‬يراهم الناس ؛ فهو المتاح لمن أراد

رؤيته ومحادثته،‮ ‬وهو ابن الحياة المصرية البسيطة في الصميم،‮ ‬وليس أدل علي ذلك من حرصه علي المظهر الشعبي الواضح‮ : ‬الجلباب‮ ( ‬مع إهمال توضيب مشهده في كثير من الأحايين‮ )‬،‮ ‬حتي لو كان مستضافا في أكبر فضائية علي الإطلاق،‮ ‬كما أنك تلمحه،‮ ‬ولا تلمح‮ ‬غيره ممن مقامهم كمقامه،‮ ‬في شوارع الوطن وميادينه،‮ ‬كتفه بلصق أكتاف الجميع،‮ ‬مناديا بالحرية ومنددا بالجلادين‮!‬

في حالة‮ " ‬نجم‮ "‬،‮ ‬وكلامه العفوي الجرئ لمن‮ ‬يتهافتون علي إجراء مقابلات معه،‮ ‬تمسك مصارين الوطن،‮ ‬وفي حالات‮ ‬غيره،‮ ‬مهما ادعوا فهمهم لمصر وناسها وتعمدوا الحديث بلهجاتهم الإقليمية الصارخة،‮ ‬قد لا تصل إلي نصف هذا البعد الشاسع الشاسع‮!‬

فنيا،‮ ‬كما سبق وألمعت،‮ ‬نحن أمام شاعر لا‮ ‬يكاد‮ ‬يكلفك جهدا في العثور علي معانيه والوصول إلي مقاصده،‮ ‬لكنه لم‮ ‬يكن مجانيا قط،‮ ‬ففي الآخر هو الذي بدأ شعره بديوان عن الكرة ـ كرة القدم‮ ( ‬اللعبة الشعبية الأقرب لوجدان العالم والمصريين طبعا‮ ) ‬كمن‮ ‬يبشر بانحيازه التام إلي العدد الأكبر،‮ ‬وهو من انتهي،‮ ‬في استمراره اللافت أيضا،‮ ‬بلعن النظامين البائسين‮ : ‬مبارك والإخوان‮ ( ‬مرورا بما‮ ‬يمكن تسميته بالنضال الشعري العظيم لخلق حياة وطنية سليمة مرجوة‮ ‬يتساوي في ظل عدلها الناس وهي نفسها،‮ ‬باختصار،‮ ‬مطالب الثورات في كل الأحوال‮ )!‬

التخلص من الفقر والقهر قضيتان كبريان شغلتا مساحة كبري في شعر عمنا المناضل،‮ ‬لا‮ ‬يتفلسف بشأنهما أبدا،‮ ‬بل تخرج سطوره كطلقات رصاص،‮ ‬في صدور المتسببين في بؤسنا الوطني،‮ ‬لكن تلك السطور لا‮ ‬ينقصها أبدا،‮ ‬جملة هائلة من الصور الشعرية الطازجة البديعة التي حفرت لاسمه مكانة معتبرة في التطورات الفنية لحلقة شعر العامية المصرية،‮ ‬مع السابقين في مضماره واللاحقين‮!‬

‮"...............  ‬

وكل‮ ‬يوم في حبك

تزيد الممنوعات

وكل‮ ‬يوم بحبك

أكتر من اللي فات‮ ‬

‮............... "‬

هذا المقطع من قصيدة شهيرة له،‮ ‬أهداها للصديقة الفنانة‮ " ‬عزة بلبع‮ " ‬أيام كانا متزوجين،‮ ‬وكان هو‮ ‬يقضي صيفه أو شتاءه،‮ ‬في أحد معتقلات إحدي مراحل الحكم المصري الظالم‮!‬

في هذا الشعر الجميل القوي جم الإيقاع‮ ‬يبدو‮ " ‬نجم‮ " ‬عاشقا صوفيا بامتياز،‮ ‬يصر علي المحبة مهما كانت التحديات‮ / ‬الممنوعات،‮ ‬المرأة الحبيبة والوطن‮ ‬يتماهيان في الشعر،‮ ‬عزة هي مصر ومصر هي عزة بمعني ما‮ ( ‬الرمزية تغلف القصيدة كلها‮ )‬،‮ ‬وذات الشاعر هي المجموع العام الواعي النبيه الذي لا‮ ‬يبالي بمن‮ ‬يقمعونه،‮ ‬ويمعن في الولاء العاطفي لمشهدية البلاد المأزومة‮ ( ‬باحثا عن حل نهائي أو مخرج،‮ ‬ولو مؤقتا،‮ ‬يواصل بعده كفاحه في سبيل ما‮ ‬يتغياه وينشده‮ )!‬

‮" ‬نجم‮ " ‬الذي وصفه المقربون منه بالصعلوك،‮ ‬أكثر من أن‮ ‬يكون صعلوكا،‮ ‬وأكثر من أن‮ ‬يكون دون الصعاليك‮ (‬كثير جدا هذا العم،‮ ‬كما أشرت،‮ ‬وليس قليلا من أية زاوية‮ ) ‬؛ إنه المريض المصري الأشهر بمحبة هذه البلاد،‮ ‬كثر ما أراه في التليفزيون‮ ( ‬وربما كنت إلي جواره علي الأرض لو كنت في القاهرة‮ )‬،‮ ‬واقفا في مظاهرة لأجل الإفراج عن أحد المعتقلين أو رفع أجور العمال أو تغيير أحد القوانين الجائرة أو ما شابه،‮ ‬فأراقب أنفاسه،‮ ‬وقد كبر في السن،‮ ‬مراقبة طفل لأنفاس أبيه العجوز‮!‬

إنني لا أقيِّم شاعر مصر العظيم وحارسها النبيل تقييما من أي نوع،‮ ‬لكن أمرُّ،‮ ‬فيما تسعفني الذاكرة،‮ ‬علي محطات لعلها تفتح أبوابا للأجيال الجديدة‮ ( ‬لا سيما الألمعيون في هذه الأجيال‮ )‬،‮ ‬علي بحره الزاخر،‮ ‬فتمتاح هذه الأجيال منه قدر ما تستطيع،‮ ‬وفاء للطريق وانتماء للطريقة بغير تأثر ذميم ولا سقوط في شرك التقليد البائس‮! ‬

عمنا،‮ ‬بالمناسبة،‮ ‬يؤمن بالأصوات الصاعدة كما‮ ‬يبجل الراسخين في الشعر،‮ ‬وهي إحدي ميزاته،‮ ‬التي لا تتوفر عند كل شيخ مهيب كامل التحقق في علم من العلوم‮! ‬

قصائد‮ " ‬نجم‮ " ‬أقرب ما تكون لمنشورات سياسية سرية،‮ ‬لها خطورتها علي ما تسميه الأنظمة الأمنية القمعية،‮ ‬بالأمن العام‮. ‬القصيدة مظاهرة حاشدة ضد الفساد والاستبداد‮... ‬ضد الطغيان،‮ ‬عموما،‮ ‬مهما كان شكله ومضمونه ومرجعيته‮.‬

قلة استشهادي بشعر عمنا،‮ ‬لا ترجع إلي قلة حفظي لأطاريحه المدمدمة علي البغاة،‮ ‬بل أحفظ جل ما خطه بيديه،‮ ‬من القصائد ومن الأغاني المميزة المنقوشة علي جدران القلب كعلامات حنين لا تنطمس،‮ ‬مع كبار الفنانين والملحنين،‮ ‬لكنني أنظر،‮ ‬مدققا،‮ ‬للكيان الإنساني الذي هو مصدر كل ذلك الإبداع الفياض الزاهي،‮ ‬الكيان الإنساني الكثير الكثير‮! ‬

في مصر،‮ ‬مصر التي أحبَّها عمنا بكل كيانه ودافع عن رفعتها ودفع الثمن كأجلي ما‮ ‬يكون المرء دافعا للثمن ؛ لا نحتفي بعُمَد منادرنا الأكابر الحقيقيين العارفين بأصول الأمور وفروعها،‮ ‬احتفاء واجبا إلا حينما‮ ‬يغادرون الحياة،‮ ‬وبعض أسباب سعادتي،‮ ‬الآن،‮ ‬أنني أشارك كشاعر وكاتب وكمواطن مصري ضمن المجموع العريض من المواطنين الذين انتفعوا بالإبداع وغنيت أرواحهم أيضا،‮ ‬في الاحتفاء باسم جليل جميل من أسماء هؤلاء الملهمين المتربعين علي قمم الدنيا بالصدق والحق،‮ ‬اسم لمعت حروفه،‮ ‬تلقائيا،‮ ‬في تراصها الحميمي كصخور مقدسة،‮ ‬بالضبط كما لمعت فيوض معانيه في سماوات مصر العاليات،‮ ‬وعلي صفحة نيلها وجدران أهرامها،‮ ‬وخشب مسارحها،‮ ‬ورفوف مكتباتها،‮ ‬وبيوتها ومطاعمها وأنديتها ومقاهيها وباراتها وحاراتها جميعا ؛‮ " ‬نجم‮ "!‬

منقول من موقع أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق