الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

«دراسة في التفاهمبين البشر» للوك: عقل الإنسان يوصله إلى الأخلاق.. ابراهيم العريس




لوك 


ربما يكون كتاب جون لوك «دراسة في التفاهم بين البشر» أشهر كتاب فلسفة صدر بالإنكليزية عند نهاية القرن السابع عشر. وربما يعني هذا أنه الكتاب الفكري الذي قرئ منذ ذلك الحين أكثر من أي كتاب آخر من نوعه. بل يقول لنا تاريخ الفكر إن لوك نفسه أصدر خلال السنوات القليلة التي تلت صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ثلاث طبعات أخرى، أجرى في كل منها بعض التنقيحات البسيطة حيناً، والمركّبة حيناً آخر. وهو أمر كان نادر الحصول في عالم الكتب الفكرية. ومع هذا كله لا يمكن اعتبار «دراسة في التفاهم بين البشر» كتاباً شعبياً سهلاً. بل على العكس تماماً، هو كتاب في منتهى الصعوبة، بل إنه يتّسم بشيء من الفوضى المنهجية حتى. ولقد قال مؤرخو الفكر، دائماً، إن المسوّدات التي عُثر عليها للكتاب بين أوراق لوك تشي بأن هذا المفكر كان ترك المئات من الأفكار موزعة بطريقة عشوائية، آملاً بإدخالها فصول الكتاب (أو بالأحرى أبوابه)، لكنه، على رغم مرور السنوات، لم يتمكن من ذلك... ففي زمنه لم يكن الكومبيوتر قد وجد بعد. وكان عقل إنسان واحد، حتى وإن كان هذا الإنسان في عبقرية لوك، غير قادر على مثل ذلك الترتيب الممنهج لمجموعة هائلة من الأفكار. ومهما يكن من أمر، فلا بد من أن ندرك أن هذا الأسلوب نفسه الذي اتبعه لوك في وضع كتابه وتطويره، يمكن اعتباره جزءاً جوهرياً من فكره نفسه. فهو كان فيلسوف التجربة الأكبر من تاريخ الفكر الغربي. وما كتابه هذا سوى بحث في التجربة الإنسانية التي لا تتوقف أبداً والتي تضيف يومياً إلى ما كان يسميه «صفحة الإنسان البيضاء»، عشرات الخبرات والأفكار والاكتشافات. فالكينونة المدركة للإنسان ليست معطاة سلفاً، بل هي تتكون من تلك الإضافات اليومية التراكمية. إذاً، وحده يومها، رحيل لوك بعد 14 عاماً من صدور الطبعة الأولى للكتاب، وضع نهاية لصوغه. فما هو هذا الكتاب الذي سيكون له تأثير قوي في الفكر الفلسفي الغربي وسيُطبع ويُفسَّر عشرات المرات خلال القرون الثلاثة التاية لصدوره؟
> هو، بالتحديد، كما يقول عنوانه، بحث في كيفية حصول الإنسان على الإدراك: إدراك الوجود المحسوس من حوله، وإدراك الوجود المعقول الذي لا يمكن الوصول إليه من طريق الحس. وهذا الإدراك المزدوج لا يتأتى، في رأي لوك، إلا من طريق التجربة... ولما كانت تجربة الوعي والإدراك هذه، مقتصرة على الإنسان من دون سائر المخلوقات، فإن الانسان يولد، مثل بقية الكائنات والمخلوقات، صفحة بيضاء، تُكتب التجربة عليها لاحقاً بالتدريج وتتواصل حتى الموت. إذاً، فإن مذهب لوك التجريبي هذا هو مذهب إنساني بامتياز. والتجربة الإنسانية هذه، يفيدنا لوك منذ البداية، بأنها وكما أشرنا عرضاً أعلاه، تنقسم إلى تجربتين: تجربة برّانيّة تتم من طريق الحسّ، وتجربة جوّانية تتم من طريق التفكير التأملي. ومن طريق هذين تدخل الأفكار إلى عقل الإنسان، سواء كانت متعلقة بالأشياء المحسوسة، أو بالأمور المرتبطة بتقلبات الروح. وبالنسبة إلى لوك، نراه يعني بكلمة «فكرة» كل موضوع من مواضيع المعرفة سواء كان محسوساً أو روحياً. وهو يرى أن مجموع الأفكار يكون، جزئياً، بسيطاً، وجزئياً، معقداً. وفيما تكون الأفكار البسيطة المتعلقة بالأمور البرّانية، المحسوسة، محدودة العدد، نصل إليها من طريق الإحساس، واضح أن الأمور الأخرى، أمور الروح والتي تتطابق مع النشاطات العضوية، مثل الإرادة والتذكّر وما إلى ذلك، تبدو غير متناهية العدد.
> كل هذا قد يبدو هنا، في هذا المعرض، أمراً تقنياً. ولكن، في الحقيقة، ثمة في خلفية هذه «التقنية»، رغبة في وضع أسس قويمة فكرية وعميقة لما يبدو أنه كان يشكل المحور الأساس لفكر جون لوك: السلام المدني، والتسامح. كيف؟ من طريق إضفاء جوهر تجريبي على المهمات التي ينيطها الفيلسوف برأس البلاد (ملكاً كان أو رئيساً، أو أي شيء من هذا القبيل): إن مهمته أن يفرض على كل الناس، المبادئ الأخلاقية التي تؤسس الحياة المدنية، وفي مقدم هذه المبادئ فكرة وجود الله، التي يرى لوك أن في وسع الإنسان، كل إنسان وأي إنسان، أن يصل إليها من طريق شتى أنواع التجارب المحسوسة أو التأملية (روبنسون كروزو ليس بعيداً هنا). وإذا كان الإنسان، كجوهر مفكّر يحصل على يقينه من طريق التجربة، فليس عليه أن ينتظر الأديان حتى يؤمن بوجود الله. وبالتالي يمكنه أيضاً من طريق التجربة المتنوعة أن يصل إلى أمور مثل ضرورة الحياة الأخلاقية ثم احترام الكلمة. إن لمن الواضح من هذا كله أن الغاية الأساسية للوك، إنما تكمن في البرهان على أن الأخلاقية التي يفرضها رأس الدولة، عقلانية تماماً وبالتالي واجبة الوجود إنسانياً، ما يجعل من هذه الأخلاقية «ديناً طبيعياً»: إن الإنسان قادر من ذاته على اكتشاف وجود الله، ومن ثم فإن الله، واجب الوجود عقلياً، يفرض على إنسان مقداراً معيناً من الواجبات... وهي الواجبات التي تكوّن شروط الحياة الاجتماعية. فهل يمكن هنا القول، بالتالي، إن كل إنسان يمكنه، ومن تلقائه، استنباط القواعد الأخلاقية الجوهرية؟ إن لوك، وفقط للإجابة عن هذا السؤال، الذي يبدو هنا بسيطاً وبدهياً، يضع كتابه هذا كله، في أبوابه المعقدة الأربعة... الكتاب الذي يهدف بالتالي وتأسيساً على هذا، إلى تحديد إمكانات التفاهم الإنساني وحدوده، إذ يترك الإنسان لذاته مستنبطاً هذا كله من ذاته المجربة. وما الكتاب سوى نص أراد منه مؤلفه، لنا، أن نعرف ما إذا كانت الأخلاق علماً في متناول كل فرد (من الأفراد الذين يحددهم لوك بـ «القادرين على التفكير العقلاني» الممتلكين أدواته)، وما إذا كان في إمكان المجتمع أن يتأسس على قاعدة هذه الأخلاق التي يمكن، عقلياً، البرهان عليها.
> في هذا السبيل، إذاً، يعمد لوك، على مدى صفحات الكتاب إلى المقارنة بين المعرفة الأخلاقية والمعارف الأخرى، حيث يفيدنا بأن ثمة نوعين من المعرفة: أولاً المعرفة التي تنتج من الأفكار وتتطور من طريق تحليل هذه الأفكار، ومن ثم إقامة علاقات الربط بين العناصر التحليلية التي تم استنباطها وهو ما سيدعى لاحقاً المعرفة التحليلية إلى حد ما. وثانياً المعرفة التي تجمع الأفكار التي تدفعنا التجربة إلى جمعها عقلياً وهو، تقريباً ما سيسمى لاحقاً المعرفة التركيبية. ويقول لوك إن الأول فقط من بين شكلَي المعرفة هذين، هو الذي يمكن برهانه ويكون بالتالي يقينياً، أما الشكل الثاني فإنه يستند إلى ملاحظات ظرفية وواقعية من الصعب بل المستحيل تعميمها: والمعرفة السائدة، والعلوم الطبيعية والفيزياء والفطنة الأخلاقية كلها أمور ترتبط بهذا النمط الأخير المحتمل فقط من المعرفة. من هنا، فإن الغاية الأساس لهذا الكتاب، لا سيما لجزئه الرابع، إنما تكمن في تحليل مختلف أنواع المعرفة، وتحديد ما يعنيه لوك حصراً حين يتحدث عن «معرفة»، ومن ثم إقامة البرهان على الشروط التي تدنو منها الأخلاقية ولماذا لا يمكن العلوم الأخرى أن تدنو منها.
> ذلكم هو باختصار، الأساس الفكري الذي بنى عليه جون لوك (1632 - 1704) هذا الكتاب الذي يعتبر أساسياً بين كتبه، والذي من الواضح أنه، إنما شاء في جانب (خفي!) منه، أن يعيد ربط الفكر الحديث بالفكر الإغريقي القديم، الفكر السابق لظهور الأديان، ومع هذا كان توصل - إنسانياً وفي العمق إلى الاستنتاجات نفسها التي ستكون مهمة الأديان، لاحقاً، الوصول إليها، وتحديداً وجود الله، وضرورة الأخلاق، والحياة الاجتماعية. وجون لوك درس أولاً في كنيسة وستمنستر البريطانية ثم حاول أن ينخرط في سلك رجال الدين، لكن موقفه المناهض لعدم التسامح البيوريتاني لدى هؤلاء، أبعده عنهم فتابع دراسة مدنية وطبية، ليصبح من كبار أنصار التجريب العلمي. ولاحقاً إذا انضم إلى إرل شافتسبري الأول، وجد نفسه في معترك العمل السياسي من دون مواربة من طريق هذا الناشط. ثم حين حدثت اضطرابات سياسية، لجأ لوك إلى فرنسا حيث أقام في مونبلييه. وكانت تلك بالنسبة إليه بداية تنقل ومنافٍ، لينتهي به الأمر أخيراً إلى العودة في ركاب وليام أورانج، ليمضي سنوات حياته الأخيرة منصرفاً إلى العمل القضائي، كما إلى التأليف والتأمل وشتى أنواع المناقشات الفلسفية والحقوقية. ومن أهم كتب لوك، إلى «دراسة في التفاهم بين البشر»، «رسالتان إلى الحكومة»، «أفكار في التربية» و «دراسات في قانون الطبيعة»...

alariss@alhayat.com

منقول من موقع الحياة اللندنية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق