السبت، 21 سبتمبر 2013

عالم النفس المصري الشهير مصطفي صفوان‮:‬ الثقافة‮ ... ‬أو الفناء‮!

حوار‮ :‬‮ ‬جىرار خورى ‮ ‬ترجمة‮ ‬‮:‬‮ ‬أحمد عثمان

مصطفي صفوان،‮ ‬عالم نفساني مصري شهير،‮ ‬ولد في عام‮ ‬1921‮ ‬ونشأ في مصر خلال الانتداب البريطاني‮. ‬علي الرغم من اعتقال والده في عام‮ ‬1924‮ ‬بتهمة الشيوعية،‮ ‬مضت طفولته بدون أي مشاكل وفي هدوء‮. ‬

‮   ‬درس الفلسفة في الجامعة المصرية ثم التحليل النفسي علي يد الدكتور مصطفي زيور‮. ‬

‮   ‬غادر صفوان مصر الي فرنسا في يناير ‮٦٤٩١‬،‮  ‬وفي ربيع هذا العام،‮ ‬بدأ تحليلاً‮ ‬شخصيا سرعان ما تحول علي مدار الأيام الي تحليل تعليمي‮. "‬هل يفضي أي منهج آخر الي نفس النتيجة ؟‮"‬،‮ ‬هكذا يتساءل دوما‮. ‬تكون علي يدي جاك لاكان،‮ ‬وأصبح من كبار مريديه وتلامذته،‮ ‬لأنه يقدر بقوة فرادة لاكان النّظريّة وفرادة تقنيته،‮ ‬ويدرك أهمّيّة‮ "‬العودة إلي فرويد‮". ‬شهد كلّ‮ ‬الانشقاقات التي اخترقت حركة التّحليل النّفسيّ‮ ‬بفرنسا بما في ذلك حل‮ "‬المدرسة الفرويدية‮". ‬وهو من الأعضاء المؤسسين‮ "‬للجمعية التأسيسية للتحليل النفسي‮"‬،‮ ‬في عام‮ ‬1983،‮ ‬ومن ثم‮ »‬المؤسسة الأوروبية‮« ‬للتحليل النفسيّ‮. ‬وعضو شرفي لعدّة جمعيّات تحليل نفسيّة‮.‬

‮   ‬في العام السابق صدر له كتاب‮ "‬لماذا العرب ليسوا أحرارا ؟‮"‬،‮  ‬الذي يتعرض إلي اشكالية قضية تحرير الإنسان العربي من مختلف ألوان الاستبداد السياسي والديني‮.‬

من كتبه‮ : "‬الجنسانيّة الأنثويّة‮" (‬1976‮)‬،‮ ‬و"فشل مبدأ اللّذة‮" (‬1979‮) ‬و"اللاّشعور وكاتبه‮" (‬1982‮)‬،‮ ‬و"الطّرح وشوق المحلّل‮" (‬1988‮)‬،‮ ‬و"دراسات في الأوديب‮" (‬1994‮)‬،‮ ‬و"الكلام أو الموت‮" (‬1999‮) ‬و"ضيق في التّحليل النّفسيّ‮" (‬2000‮)‬،‮ ‬و"عشر محاضرات في التّحليل النّفسيّ‮" (‬2001‮) ‬و"ندوات جاك لاكان‮" (‬2001‮) ‬و"البنيوية في التحليل النفسيّ‮" (‬2001‮). ‬

هنا حوا ر جري‮  ‬معه في فرنسا حول سيرته وأفكاره‮.. ‬وتوقعاته‮ ‬‮ ‬في البداية،‮ ‬من الجميل أن أستدعي معك،‮ ‬مصطفي صفوان،‮ ‬طفولتك في مصر،‮ ‬ثم اختيارك الدراسة في فرنسا بعد تردد ما بين كامبريدج وانجلترا‮.‬

فيما يتعلق بطفولتي،‮ ‬ليس هناك ما أشير اليه سوي اعتقال والدي،‮ ‬بسبب الشيوعية‮. ‬وهذا في عام‮ ‬1924،‮ ‬وقتذاك كنت في الثالثة من عمري‮. ‬أعتقد أنه حكم عليه بالحبس لثلاث سنوات،‮ ‬ولكن لأنه مسجون سياسي وحسن السلوك،‮ ‬لم يمكث إلا‮ ‬27‮ ‬شهراً‮ ‬بدلا من36‮  ‬شهرا‮. ‬خلال هذه الفترة،‮ ‬تولي خالي وجدتي رعايتي‮.‬

‮ ‬هل كنتم كثيري العدد،‮ ‬كما أتخيل ؟

لا،‮ ‬اثنان،‮ ‬ولكن بما أن أختي لم تولد بعد،‮ ‬كنت الطفل‮ "‬الوحيد‮".‬

‮ ‬ماذا كانت تفعل والدتك ؟ هل كان لديها نشاط معين ؟

لم يكن لها أي نشاط خارج البيت‮ ! ‬نشأت نشأة تقليدية،‮ ‬أي تعلمت منذ طفولتها،‮ ‬مثل أي فتاة،‮ ‬أعمال البيت لكي تكون ربة بيت‮...‬

تمثل المرأة النمطية في العالم المصري والعربي،‮ ‬أي امرأة تربت علي أعمال البيت‮.‬

بالتأكيد‮.‬

‮ ‬هل كانت محجبة أم لا ؟

لا،‮ ‬لم تكن محجبة‮. ‬من اللازم أن نتذكر أن الحركة النسوية كانت قوية آنذاك‮. ‬وأكثر شئ أثر في يتمثل في المجتمع الذي كان يحيط بوالدي،‮ ‬المكون من معلمين وأساتذة مثقفين،‮ ‬حيث تتجلي الكلمة العقلية‮. ‬أذكر أن أول كلمة في التلاعب بالكلمات كانت ذات معنيين في اللغة العربية‮ : "‬ظلل‮" ‬التي تعني‮ "‬ظلل‮" ‬و"انحرف عن الطريق‮". ‬يقول صديق لآخر يفتح مظلته‮ : "‬امنحنا شيئا من الظل وقدنا الي طريق الضلال‮" ! ‬كانت تلك أول كلمة عقلية أفك شفراتها‮. ‬أتقاسم مع كثير من المصريين هذا الذوق للكلمة الجميلة ووقت المرح‮.‬

‮   ‬هذا ما يطلق عليه‮ "‬النكتة‮".‬

نعم‮ "‬النكتة‮". ‬الدعابة بصورة عامة‮. ‬ثم كانت المدرسة الثانوية،‮ ‬الجامعة‮... ‬في الاسكندرية حيث درست الفلسفة‮.‬

‮ ‬كان والدك معلما ودرس في الاسكندرية ؟

بالضبط‮. ‬كنا في الاسكندرية وقت الحرب الدائرة في أوروبا‮...‬

‮  ‬كلمات أخري عن والدك‮. ‬هل كان متأثرا بحركات محمد عبده الاصلاحية نهاية القرن التاسع عشر ؟

نعم بالتأكيد‮. ‬فضلاً‮ ‬عن ذلك،‮ ‬كانت مرحلة الرجوع إلي الذات،‮ ‬أي سؤال من نحن وأين نريد أن نكون في هذا العالم الذي تم اكتشافه في نفس الوقت‮. ‬كان هناك محمد عبده وتجديد‮ (‬الفكر‮) ‬الإسلامي،‮ ‬كانت هناك حركات تحرير المرأة‮...‬

‮ ‬مع هدي شعراوي‮.‬

نعم،‮ ‬بالضبط‮. ‬كان هناك مناخ يحث علي فتح الطرق الجديدة‮. ‬وفي هذا المناخ كبرت،‮ ‬مع الارتقاء المتوالي للثورة السوفيتية ثم الكمالية‮... ‬وهذا ما جعلني ألاحظ،‮ ‬رغماً‮ ‬عن خلفية والدي،‮ ‬أنه كان متأثراً‮ ‬بالنزعات المتطرفة اليسارية القريبة من الشيوعية‮.‬

‮     ‬أيضا،‮ ‬نتذكر أنه في هذه الفترة كان الإنجليز،‮ ‬ما بعد الحرب‮ (‬العالمية الأولي‮)‬،‮ ‬مجبرين علي تقديم بعض التنازلات لكي يحافظوا علي وضعهم في مصر‮.‬

نعم،‮ ‬بدلا من الانتداب في مصر،‮ ‬قاموا بتحويل مصر إلي ملكية‮. ‬بما أن الملك يحصل علي شرعيته من الإنجليز،‮ ‬وهي محل نقاش،‮ ‬يريد أن يقوم بدور الخليفة لكي تكون شرعيته أكثر صلابة،‮ ‬أكثر ثباتاً‮. ‬لهذا الهدف،‮ ‬طلب أن يجدوا له نسباً‮ ‬يمتد إلي الرسول،‮ ‬لاثبات أنه من سلالته‮!  ‬بالتأكيد،‮ ‬في هذا المناخ كان علماء الأزهر حاضرين لتلبية رغبات الملك‮. ‬في هذا المناخ كتب علي عبد الرازق كتابه الرائع عن‮ "‬الاسلام وأصول الحكم‮"‬،‮ ‬الذي‮  ‬بيّن في متنه أن لا شئ اسمه الدولة الاسلامية بناء علي ما ورد في القرآن والحديث‮. ‬أيضا أنها فترة الجسارة الكبري‮. ‬ففي نفس الفترة كتب طه حسين كتابه عن الشعر الجاهلي‮.‬

هذا الكتاب تم النظر اليه كمحارب للأيقونات من قبل أوساط الأزهر الدينية‮.‬

بالطبع‮. ‬عبد الله عنان،‮ ‬وهو مؤرخ من مستوي رفيع،‮ ‬كتب هو الآخر كتابا عن‮ "‬القضاء‮" ‬في العالم العربي،‮ ‬حيث توصل الي أنه لم يكن هناك أي انفصال بين السلطات وأن الجميع كان تحت‮ "‬حذاء‮" ‬السلطان‮.‬

بمعني ما،‮ ‬أنك عشت في ظل سلطة‮ (‬الفرد‮)‬،‮ ‬قبل أن تقوم بتحليل هذا الشكل من السلطة اليوم في كتابك الأخير‮. ‬نشأت في أحضان وسط سياسي نسبيا،‮ ‬لأنه حتي بعد خروج والدك من المعتقل لم يكف عن القيام بنشاطات عدة،‮ ‬ربما في مجالات أخري ؟

بالطبع‮. ‬زادت الحركات الشيوعية مع الوقت وكان علي صلة معها‮. ‬ثم،‮ ‬علي وجه الخصوص وتدريجيا ركز نشاطه علي محاربة الأمية‮.‬

بعد المعتقل،‮ ‬حول جهوده من النشاط الثوري الي العالم التربوي‮.‬

خصوصا بعد تولي ناصر الحكم‮. ‬ركز جهده كله في التربية‮.‬

‮  ‬هل كانت دراساتك باللغة العربية في جامعة الاسكندرية ؟

نعم،‮ ‬بالعربية‮. ‬خلال مرحلة الاحتلال البريطاني،‮ ‬كنا نتحصل علي تعليم محترم باللغات الأجنبية‮. ‬كان لدينا أساتذة انجليز للغة الانجليزية وفرنسيون للغة الفرنسية‮. ‬نبدأ في تعلم اللغة الانجليزية في سن السادسة،‮ ‬والفرنسية في سن الحادية عشرة والثانية عشرة‮. ‬في الجامعة،‮ ‬كنا علي اتصال دائم مع الجامعات الأوروبية،‮ ‬علي وجه التحديد الفرنسية‮. ‬قبل الحرب‮ (‬العالمية الثانية‮)‬،‮ ‬كان لدينا أساتذة مثل لالاند،‮ ‬كويريه،‮ ‬بريهييه‮... ‬خلال الحرب،‮ ‬كان هناك جون‮ ‬غرونييه‮. ‬من الجانب الانجليزي،‮ ‬كان هناك ويسدام من كامبريدج‮. ‬وبالتالي تكونا بصورة طيبة‮.‬

‮ ‬‮ ‬بالتالي،‮ ‬من الطبيعي أنه مع هذا التكوين وهذا التعليم بثلاث لغات أنك رنوت الي الغرب،‮ ‬في مناخ لم يزل كولونياليا بعد‮. ‬

كان هناك تقليد طويل منذ محمد علي يتأسس علي ارسال الطلبة أكثر فأكثر الي أوروبا‮. ‬وبالتالي كان طبيعيا أن الطلبة الذين يحصلون علي نتائج طيبة في دراساتهم العليا يبعثون لتكملتها في أوروبا‮. ‬هو ذا التقليد‮.‬

‮ ‬تستدعي الدور الكبير الذي قام به محمد علي خلال القرن التاسع عشر،‮ ‬الذي يعتبر من الأوائل الذين سعوا الي تحديث العالم العربي والاسلامي‮.‬

من اللازم أن ندون أن الكولونيالية ذ كما تم تحقيرها في كثير من الأحيان ـ لم تكن شرا مطلقا‮. ‬عزز الانجليز تعليم اللغات الأجنبية والمنح الدراسية للخارج‮.‬

‮ ‬هذا صحيح،‮ ‬لأنهم ذ كالفرنسيين ومن بعد الأميركيين ذ عملوا علي توافر عقول شابة لامعة مكونة في أوروبا،‮ ‬وبالتالي يتوفرون علي أنصار عند عودتهم من الدراسة بفضل التكوين الذي تلقوه‮.‬

نعم بدون شك‮. ‬كانوا في حاجة الي نخبة تدير شئون الدولة‮.‬

‮ ‬تحصلت علي منحة من الحكومة المصرية،‮ ‬وهذه المنحة كانت الي انجلترا أو فرنسا ولكن في آخر الأمر كانت فرنسا،‮ ‬لماذا ؟

كان من الصعب التسجيل في جامعة كامبريدج،‮ ‬التي اختارها لي أساتذتي،‮ ‬لأنه كانت هناك أولوية مطلقة ما بعد الحرب للمحاربين القدامي‮. ‬مما دعاهم الي عدم الاجابة علي طلبات التسجيل قبل أن يحلوا هذه المشكلة‮. ‬وهذا يعني أنني سوف أنتظر طويلا بدون أن أعرف اذا كان الانتظار سيدوم لعام أو عامين،‮ ‬ولذلك رحلت في عام‮ ‬1945‮ ‬الي فرنسا‮. ‬

‮ ‬وسجلت أوراقك في السوربون‮.‬

قمت بالحصول علي شهادة ثانية،‮ ‬ولكن في‮ ‬غضون ذلك درست التحليل النفسي‮.‬

‮ ‬وقتذاك،‮ ‬لم يكن للتحليل النفسي أي وجود في مصر وفي العالم العربي‮. ‬هل كنت سمعت عن التحليل النفسي في مصر ؟

نعم،‮ ‬لأن كان هناك في مصر الدكتور مصطفي زيور،‮ ‬الذي كان مبعوثا الي باريس قبل الحرب،‮ ‬ودرس الطب والفلسفة والتحليل النفسي فيها‮. ‬وبسبب الحرب أجبر علي العودة الي مصر،‮ ‬حيث عمل أستاذا في جامعة الاسكندرية‮. ‬ومعه اكتشفنا التحليل النفسي‮. ‬خلال الحرب،‮ ‬كانت هناك جماعة سوريالية،‮ ‬من بين أفرادها جورج حنين ورمسيس يونان تحديدا،‮ ‬تتحدث عن الفرويدية أيضا‮. ‬من ناحية هذا الرابط الثقافي وعلي السطح العام،‮ ‬بدأنا مع زيور في الاقتراب من التحليل النفسي،‮ ‬أي قراءة الكتب،‮ ‬عرضها،‮ ‬الخ‮. ‬كان محللا نفسيا،‮ ‬مرتبطا بجماعة باريس مع لاغاش،‮ ‬لاكان ودولتو‮...‬

‮ ‬هل كان‮  ‬هناك محللون نفسيون‮  ‬آخرون معكم؟

لم يكن هناك‮ ‬غيره في هذه الفترة‮. ‬بما أنه كان الأستاذ ولم نكن سوي ثلاثة أو أربعة طلبة،‮ ‬كنا قريبين منه،‮ ‬علي صلة قوية به‮. ‬وبالتالي كان تكوينا شخصيا للغاية،‮ ‬فعالا لتوجهه الي عدد قليل من الأفراد‮.  ‬

إنها ظروف مثالية للنقل‮. ‬بصورة من الصور،‮ ‬كان مكونا‮...‬

نعم وهو ذا التعبير الذي يلائمه‮...‬

كان يوجد مكونون آخرون في مصر مثل‮ ‬غابرييل بونور في الأدب‮. ‬مما حقق مصائر شعرية طيبة في المشرق كما في مصر،‮ ‬ومن بعد في المغرب،‮ ‬هل تعارفك الي مصطفي زيور في مصر فتح لك أبواب باريس حقا ؟‮ ‬

‮ ‬لقد سافر معي الي باريس ما بعد الحرب‮.‬

‮ ‬اذاً،‮ ‬حصلت علي دعم منذ المراهقة علي المستوي العائلي والجامعي بفضل أستاذك في الفلسفة‮. ‬أحيانا في العالم العربي والاسلامي ننمي نفي أي رابطة‮ ‬غربية تجازف بمناقضة البني التقليدية،‮ ‬أي الروابط العائلية،‮ ‬ولكن هذا الشأن لم يكن من اهتمامك‮. ‬هل كان المناخ الذي نشأت فيه خلال هذا العصر منفتحا للغاية ؟

بدون شك هذا صحيح‮. ‬وأضيف أن هذا العصر كان نشطا للغاية علي مستوي الترجمة‮. ‬كانت هناك‮ "‬لجنة التأليف والترجمة والنشر‮"‬،‮ ‬التي ترجمت العديد من الروائع الي العربية‮. ‬

تلك فترة خصبة كان العالم العربي يحاول فيها الانفتاح‮. ‬

علي أي حال كانت مصر تحيا فترة الأنوار‮.‬

منذ ذاك مضينا لأسباب لن نقوم بتحليلها من فورنا الي الظلامية والعودة الي الديني بالمعني الرجعي‮.‬

في بادئ الأمر ليس الرجوع الي الديني،‮ ‬وانما الرجوع الي النزعة الفرعونية مع ناصر،‮ ‬الذي وضع حدا لهذا المناخ بين ليلة وضحاها‮. ‬

أنا سعيد لأنك ذكرت ذلك لاعتقادي بكونك كنت مؤيدا في البداية لناصر،‮ ‬ثم انتقدته نقدا لاذعا‮.‬

لا‮. ‬لا‮. ‬لم أكن مؤيدا‮. ‬لنقل أنني تمكنت من احتمال العيش بشئ من حرية الحركة في البلاد خمس سنوات تحت حكمه،‮ ‬لأن علي الأقل كان هناك شئ مقبول في سياسته الخارجية‮.‬

أعتقد أنني قرأت في كتابك أنك ذكرت‮ (‬مؤتمر‮) ‬باندونغ‮ ‬ودوره مع شو ان لاي وتيتو،‮ ‬وأنك أيدته‮.‬

تأييد،‮ ‬نعم،‮ ‬وهو ذا كل شئ‮. ‬لأنني رأيت بين ليلة وضحاها أنه طرد ستين استاذا جامعيا وأن الجامعة حوصرت بالدبابات‮... ‬رأيت أن ضابطا بالجيش أو ملازما أيا كانت الرتبة أصبح وزيرا للتربية الوطنية‮. ‬رأيت أن رئيس الجامعة يركض أمامه لكي يفتح له باب سيارته‮... ‬قلب الأدوار‮.‬

إنها السخرية بلا حياء‮. ‬ثم بعد اضراب،‮ ‬حكم بالاعدام علي عاملين‮... ‬إنها هيمنة الخوف تدريجيا‮. ‬كل شئ انقلب رأسا علي عقب خلال أربع وعشرين ساعة‮ !‬

بمعني أن أمل النزعة القومية،‮ ‬التي تهدف الي ادراج العالم العربي والاسلامي في الحداثة،‮ ‬انطمس سريعا من خلال النظام البوليسي للمخابرات،‮ ‬الذي يعتبر المثال الصارخ لجميع الأنظمة في العالم العربي،‮ ‬كما في سوريا والعراق،‮ ‬التي سعت الي اصلاح السياسي‮. ‬مما حولها الي سلطة متسلطة وبوليسية،‮ ‬وربما هنا أيضا تتبدي قواعد تأملنا للعالم العربي-الاسلامي في كتابك،‮ ‬الذي سنتحدث عنه فيما بعد‮. ‬بدءا من اللحظة التي وضعت فيها قدميك في باريس،‮ ‬كما أعتقد،‮ ‬بدأت في فسخ العلاقات بين الاندماج الناجح‮  ‬دراساتك،‮ ‬تكوينك،‮ ‬عملك مع لاكان وأصولك،‮ ‬العائلة في مصر،‮ ‬ورحلاتك الي وطنك الأم‮. ‬

كيف عشت هذا الانشطار ؟

‮ ‬لا أتحدث عن المنفي،‮ ‬أعتقد أنك كنت في مأمن في كل الأماكن‮.‬

‮    ‬‮ ‬غادرت بلدا كان منفتحا علي العالم بأسره وكان ناسه مسيسين،‮ ‬منجذبين الي المسألة الوطنية،‮ ‬وبالتالي كان بلدا يناضل من أجل الاستقلال‮. ‬

كانت هذه هي المرحلة الوحيدة التي كانت الجريدة تتساوي مع الخبز،‮ ‬علي وجه التحديد في المدن‮. ‬حتي هذه اللحظة،‮ ‬لم يكن هناك أي صراع‮. ‬الوصول الي أوروبا كان امتدادا لكل ما سبق‮. ‬اقامة الديكتاتورية مع ناصر وظهور الاسلاموية مع السادات خلقا الصراع‮. ‬كان الدين يأتي في المقام الثاني‮. ‬والسادات بعد التوقيع علي كامب ديفيد مع اسرائيل،‮ ‬اعتقد أن هناك ثورة شيوعية،‮ ‬ولكي يحاربها،‮ ‬قرر أن يقطع العلاقات مع الاتحاد السوفيتي،‮ ‬وبذلك فتح السوق أمام البترودولار وكل أنواع التنظيمات الأكثر رجعية في الاسلام‮. ‬

علي هذا النحو،‮ ‬سقوط ناصر والناصرية،‮ ‬ليس فقط في مصر وانما في العالم العربي علي وجه العموم بعد‮ ‬1967،‮ ‬أفضي الي هذه السياسة الساداتية،‮ ‬التي انفصلت عن العالم العربي بحيث أن لعبة‮ "‬فرق تسد‮"‬،‮ ‬التي يمارسها الغرب واسرائيل،‮ ‬انتهت الي ما نحن عليه اليوم‮. ‬في الواقع،‮ ‬أصبح استغلال الدين أكثر فأكثر نشيطا سواء من جانب السادات أو من جانب الآميريكيين في المملكة العربية السعودية،‮ ‬أو أخيرا من قبل الاسرائيليين لحماس في بداياتها‮. ‬كيف عشت،‮ ‬بين باريس ومصر،‮ ‬كيف عشت تأسيس دولة اسرائيل والحروب المتتابعة التي لم ينتصر العالم العربي في بعض منها ؟

بما أنني كنت في أوروبا،‮ ‬بدأت ألمس واقعة‮ "‬الشوا‮"‬،‮ ‬الهولوكوست،‮ ‬وقابلت رفاقا اعتقلوا وأودعوا المعسكرات،‮ ‬مما لا يمكنني الشك فيها‮. ‬كان اكتشافا‮. ‬لا يمتلك أي شخص في العالم العربي أدني فكرة عما جري،‮ ‬واذا امتلك الشخص فكرة،‮ ‬تكون الاجابة‮ "‬وما الذي علينا عمله؟ الأمر لا يعنينا‮"‬،‮ ‬من ناحية أولي،‮ ‬حتي أنني نفسي كنت من مؤيدي تقسيم‮ ‬1948‭.‬‮ ‬ومن الناحية الأخري،‮ ‬كنت أري أن رد الفعل العسكري للبلاد العربية كان بلا أساس،‮ ‬غبي،‮ ‬لأن دولة تم الاعتراف بها من جميع الدول،‮ ‬وتحديدا روسيا وآميركا،‮ ‬لا يستدعي اعلان الحرب علي هذه الدولة‮. ‬كما أنه يعني اعلانها علي العالم بأسره‮.‬

استدلاليا يعتبر اليوم شكلا من أشكال الحكمة بما أن الحروب المتتابعة لم تحقق الا تفاقم الوضع علي الدوام‮.‬

نعم،‮ ‬من الضروري الاعتقاد أنني كنت حكيما الي درجة لا أتصورها‮ !‬

وبالتالي،‮ ‬كانت نقطة الانطلاق ووجدت في براغماتية زعيم آخر‮ ‬غير ناصر،‮ ‬بورقيبة‮ ‬1965،‮ ‬الذي تم انتقاده حينما أقترح عقد سلام مع اسرائيل‮ !‬

كان الوحيد أيضا ـ بعد نكسة‮ ‬1967‮ ‬ـ الذي واتته شجاعة القول أن المرء بعد أن يقود بلده الي نكسة كبري يجب عليه أن يعتزل،‮ ‬يستقيل‮. ‬كان بورقيبة واقعيا وشجاعا‮.‬

لنرجع الي كتابك‮ : ‬لماذا العالم العربي‮ ‬غير حر ؟ منذ متي فكرت في هذا الكتاب ؟

بدأ منذ وفاة ناصر،‮ ‬وربما حتي بعد‮ (‬نكسة‮) ‬1967،‮ ‬وبما أنني كنت أذهب كثيرا الي مصر،‮ ‬وجدت أن البلد كان في حالة من التأخر الذهني‮ ‬غير المعقول،‮ ‬ولذلك بدأت الكتابة لبعض الصحف والمجلات‮. ‬وأقترح علي أحد الأصدقاء تجميع هذه المقالات ونشرها ككتاب سري‮ !‬

فضلا عن امكانية كتابة مقالات لمختلف المجلات هنا،‮ ‬اهتممت بلا بويسييه وكتابه عن العبودية المختارة‮. ‬ترجمت الكتاب الي العربية،‮ ‬وكتبت له مقدمة طويلة‮. ‬كل هذا كان نقطة انطلاق الكتاب الحالي‮.  ‬ما هو حافزك في كتابة هذه المقالات وترجمة هذا الكتاب ؟ ما الذي أثار اهتمامك ؟

آنذاك كنت مهموما من الحالة التي بلغها الشعب الذي هو مصر‮ ! ‬اهتم بالتحليل السوسيو-سياسي‮. ‬لا بويسييه يدخل في اطار هذا التساؤل‮. ‬من ناحية أخري،‮ ‬كمحلل،‮ ‬أستطيع أن أري جيدا أن العاهل من الممكن أن يتحصل علي علاقات‮ ‬غامضة مع ما يسميه‮ (‬الأب‮)‬،‮ ‬مع الرضي الذي يحقق الأمثلة‮ ‬Idealisation. كل هذا أستطيع أن أراه‮. ‬ما يثير اهتمامي،‮ ‬مع ذلك،‮ ‬ليس لمس الجذور العميقة التي من الممكن أن توجد في لا وعي كل فرد،‮ ‬ولكن هذه هي المشكلة التي طرحها لا بويسييه‮.‬

كيف جري التفاعل مع كتابك في مصر ؟

لم تكن هناك ردود أفعال،‮ ‬وتلك هي التعاسة‮ ! ‬ولكن لنبدأ بالقول‮ : ‬لا توجد دار نشر ولا قراء‮ !‬

لا توجد دار نشر‮ !‬

لا،‮ ‬لا توجد دار نشر توافق علي نشر ما قام صديقي بتجميعه‮... ‬كانت الاجابة‮ : "‬هل تريد أن تجرنا الي كارثة‮ !". ‬لم يعد هناك قراء،‮ ‬مستوي طلبة التعليم العالي أصبح سيئا،‮ ‬نتيجة لأثر الناصرية علي مجال التربية والتعليم‮... ‬وهنا بدأت أري الهوة التي تفصل الكتاب عن الشعب‮. ‬

كتابك،‮ ‬كما أتذكر،‮ ‬مؤسس علي أبحاث مكتوبة منذ الثمانينيات،‮ ‬ولكن أيضا في عام‮ ‬1991‮ ‬وعام‮ ‬1998‭.‬‮ ‬لهذا الكتاب ثلاثة أشكال‮. ‬في البداية نشر بالعربية تحت شكل موجز،‮ ‬ثم بالانجليزية مع عرض ومقدمة مترجمة عن العربية،‮ ‬واليوم بالفرنسية مع ملحق يحتوي علي مداخلة فرانسوا فال الذي اقترح عليك اضافة نص عن العلاقة بين السياسة والكتابة والارهاب الديني‮. ‬ما هي الأطروحة الرئيسية ؟‮  ‬هو الانفصال القائم في العالم العربي،‮ ‬بين المشرق والمغرب،‮ ‬بين اللغة الفصحي ـ‮  ‬اللغة المستخدمة للتأكيد علي السلطة أو لدعم السلطة ـ واللغات الشعبية،‮ ‬الدارجة،‮ ‬اللغات المحلية،‮ ‬التي توافق لغة الشعب ؟ أ هي لعبة سلطة الكتابة عبر الاستخدامات المتمايزة للغات،‮ ‬واحدة لأجل السلطة،‮ ‬أخري لأجل المسخرة أو الهزل،‮ ‬شئ ما وضع مصر،‮ ‬وربما البلاد العربية الأخري،‮ ‬في حالة تأخر نسبة الي الحداثة ؟

نعم في الواقع،‮ ‬وأستطيع القول إن أطروحة الكتاب تبين التواصلية في التاريخ السياسي في الشرق الأوسط‮. ‬أريد أن أقول إن ظهور الدولة،‮ ‬في الشرق الأوسط،‮ ‬كان الدولة الدينية،‮ ‬الفرعونية،‮ ‬الاستبدادية‮... ‬الاستبداد الشرقي،‮ ‬ليس ابتكار ماركس،‮ ‬وانما حدث يوجد منذ فجر التاريخ‮. ‬كان الاغريق واعين علي الوجه الأكمل باختلاف النظام السياسي بين الشرق والغرب‮. ‬وهذا لأن الأمر لا يتعلق‮ "‬بعرق سامي‮"‬،‮ ‬وانما بالجغرافيا‮ : ‬الشعب الذي يحيا علي جزر ليس شعبا يحيا في الأودية الرحبة‮. ‬لم تكن هناك لدي الاغريق امكانية الدولة المركزية‮. ‬بعض المفكرين رأي أن الأمر اختلف كليا مع العرب‮. ‬ما أريد توضيحه،‮ ‬أن العرب أسسوا دولتهم حسبما النموذج الساساني‮. ‬حينما يقال لي،‮ "‬ولكنها دولة مؤسسة علي القرآن‮"‬،‮ ‬أري الي أنه قول خاطئ لأنه لا يوجد في القرآن شئ عنه ذ وهنا أتناول أطروحات علي‮  ‬عبد الرازق وآخرين كثيرين مثل عز الدين العلام في المغرب وخليل عبد الكريم في مصر‮... ‬هذا ليس طريقا وحيدا‮. ‬وأبين أن الدولة الاسلامية ليس لها أسس في القرآن ولا في الحديث‮.‬

أسمي ذلك‮ "‬بني الامبراطورية‮"‬،‮ ‬كما ذكرت،‮ ‬الموجودة لدي الساسانيين،‮ ‬وأيضا لدي الامبراطورية البيزنطية،‮ ‬وريثة الامبراطورية الرومانية‮. ‬نجد بني الامبراطورية في شكل السلطة العربية‮. ‬

نعم،‮ ‬أريد أن أبين فكرة التواصلية علي المستوي السياسي من ناحية أولي،‮ ‬وأن وضعيتي تطابق الروابط القائمة بين السلطة السياسية وسلطة مجال الكتابة‮. ‬هنا لا أبتدع شيئا،‮ ‬إنها الأطروحة التي عرضها ليفي ستروس في‮ "‬مدارات حزينة‮"‬،‮ ‬والتي حققت أهمية كبيرة لسؤال كتابة اللغات‮. ‬أبين أن هذه الأنظمة حساسة تجاه هذا الشأن ولا تسمح في أي حالة من الأحوال من بمعرفة مبدأ الانسانية اللغوية‮. ‬مبدأ أدرجه شيشرون لما قال أن اللغة اللاتينية خليقة بالاغريق‮. ‬اذ ما يقال عن واحدة يمكن قوله عن الأخري‮. ‬تمتع لغة ما بالامتياز بمنحها صفة احتكار كل ما يدعو الي التفكير سياسة تخص الأنظمة الاستبدادية‮. ‬من الممكن تلخيص الكتاب في هاتين الأطروحتين‮. ‬هناك بداية التواصلية مع السلطة الاستبدادية،‮ ‬ثم روابط هذه السلطة الاستبدادية مع سياسة الكتابة‮. ‬

هذه السياسة،‮ ‬سياسة الكتابة استخدمت ما يوجد في مصر وفي البلاد العربية لمعرفة الاختلاف بين لغة القرآن،‮ ‬اللغة العربية الفصحي واللغات المحلية لكل بلد،‮ ‬وبالتالي نجد في في كل بلد لغة القرآن وتقديسها كوسيط لتوطيد السلطة السياسية علي حساب اللغة المحلية‮.‬

نعم،‮ ‬هناك تغير‮. ‬مثلا،‮ ‬تضاعف عدد الأشخاص الذين يعرفون القراءة والكتابة،‮ ‬إنه ليس العصر الفرعوني‮ ! ‬الكتابة أصبحت شيئا عموميا‮. ‬النقد الذي يمكن توجيهه الي الكتابة،‮ ‬أن المرء يتناول المكتوب علي كونه حقيقيا،‮ ‬مما أدي الي التشوش القائم بين ما هو حقيقي والمكتوب،‮ ‬ولكن بفضل الاغريق تم دحض هذه المسألة‮. ‬الجوهري،‮ ‬أن المرء لا يتعلم في الغالب في المدارس الا نحو اللغة العربية الفصحي‮... ‬مما يعني أن أحدهم يهتم بالكتابة،‮ ‬وتربي علي حب اللغة،‮ ‬يتعلم ما يدرس له في المدرسة،‮ ‬أي ما أطلق دانتي عليه‮ "‬اللغة النحوية‮". ‬بالمثل نجد أن نقوش المعابد الفرعونية كانت خادمة للدولة،‮ ‬وأيضا اليوم يمكن أن يقال،‮ ‬فعلا،‮ ‬أن‮ ‬غالبية الكتاب خدام للدولة‮. ‬حتي اليوم الكاتب منفصل عن الشعب‮. ‬غير مقروء‮. ‬ولذا في كل تاريخنا،‮ ‬لا يمكن أن نجد اسم الكاتب الوحيد الذي قام بدور‮ ‬مثل الذي قام به فيكتور هوغو في فرنسا،‮ ‬بدون الكلام عن شكسبير،‮ ‬وغيرهما‮. ‬في تاريخنا،‮ ‬ليس من حق كتابنا ابداء الرأي،‮ ‬وهذا مثير للدهشة،‮ ‬لانفصال الشعب عن عمل الفكر‮. ‬يقولون إن الشعب ليس من وظيفته التفكير‮. ‬وبالتالي،‮ ‬هذا الانفصال كارثي‮. ‬

علي هذا النحو،‮ ‬بالنسبة للعالم الغربي،‮ ‬بدءا من القرنين الثاني عشر والثالث عشر،‮ ‬هناك سعي حثيث لرفض السلطة المطلقة،‮ ‬سلطة الملك،‮ ‬مع بداية الأنوار في القرنين الثاني عشر والثالث عشر والنمو الاقتصادي للمدن ثم حركة الأنوار‮  ‬ونهاية الحكم المطلق،‮  ‬مما منح الحياة لما تطلق‮ ‬عليه تحديدا في كتابك‮ "‬المتعدد‮"‬،‮ ‬أي القواعد العميقة للديمقراطية‮. ‬ومن يقول‮ "‬ديمقراطية‮" ‬يقول‮ "‬عقل نقدي‮"‬،‮ ‬وكانت بدايتها علي الأرجح مع الترجمات الأولي للكتاب المقدس في ألمانيا لحظة الاصلاح‮. ‬اليوم هناك تيارات تتطور في المشرق والمغرب،‮ ‬بيد أنها قليلة ونبذتها السلطات،‮ ‬أي أننا لا نمتلك بعد امكانية التشكيك في السلطة الاستبدادية،‮ ‬سلطة‮ "‬الفرد‮". ‬

‮- ‬علي وجه الخصوص هناك أناس نشأت علي قاعدة خاطئة،‮ ‬علي معرفة أن لغتهم لغة أدني من اللغة التي يتعلمون قواعدها‮. ‬أنادي بالسماح بتدريس اللغة المحلية وقواعدها وأدبها في المدارس،‮ ‬لكي يربح الناس شيئا من احترامهم لأنفسهم ولغتهم المحلية‮.‬

‮ ‬ولهذا ترجمت أحد الأعمال البارزة في مسرح شكسبير،‮ "‬عطيل‮"‬،‮ ‬الي اللغة المحلية‮. ‬أهي مشاركتك السياسية كما تتمناها ؟

‮- ‬نعم،‮ ‬مشاركة،‮ ‬ولكن كما يقال‮ "‬طائر سنونو واحد لا يصنع ربيعا‮". ‬هناك أيضا مفهوم سيادة الشعوب‮. ‬وهذا يتعلق بأوروبا ومفهومها‮ ‬غير الموجود في الشرق‮. ‬في أوروبا،‮ ‬حتي خلال المسيحية،‮ ‬كانت هناك دوما فكرة سيادة الشعوب،‮ ‬كانت موجودة لدي الاغريق،‮ ‬ثم مع المسيحية ومقولتها‮ "‬أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله‮"‬،‮ ‬تعني دوما الفصل ما بين السياسة والدين الناتجة من فكرة سيادة الشعوب الحاضرة في الكتابات والأذهان السياسية،‮ ‬حتي في العصور الوسطي،‮ ‬بينما لم يكن الحال نفس لدينا‮.‬

‮ ‬تريد القول‮ "‬دين ودولة‮" ‬في العالم العربي والاسلامي من الصعب فصلهما‮. ‬أنه أحد الانتقادات الجارية منذ فترة طويلة‮.‬

‮- ‬نعم،‮ ‬بينما أن مقولة‮ "‬دين ودولة‮" ‬تريد الاشارة الي ذ كما لدي أي دين ذ مظهر العلاقة القائمة بين الانسان والله ومظهر يتعلق بعلاقة الانسان مع الآخرين،‮ ‬النظراء‮.‬

لنتكلم الآن،‮ ‬اذا أردت بالطبع،‮ ‬عن سؤال سمم العالم العربي والاسلامي منذ ما يقرب من قرن،‮ ‬وهو الصراع بين الصهيونية والقومية الفلسطينية‮. ‬كيف تري،‮ ‬اليوم،‮ ‬المشكلة‮ ‬الفلسطينية ؟

‮ ‬الاثبات اليوم في عيني،‮ ‬أنه لا توجد مشكلة فلسطينية لأنه لا توجد فلسطين‮ ! ‬لا يوجد الا الفلسطينيون‮ ! ‬قبل عام‮ ‬1948،‮ ‬كانوا يستطيعون الهجرة‮. ‬هربوا،‮ ‬وفي هذه الحالة،‮ ‬حينما ذهبوا الي بلد كالأردن،‮ ‬تم منحهم الجنسية الأردنية‮. ‬ثم جاءت الموجة الثانية،‮ ‬أناس‮ ‬1967،‮ ‬ولكن هؤلاء،‮ ‬حينما ذهبوا الي لبنان والأردن‮... ‬لم يتم منحهم الجنسية وكدسوا في معسكرات اللاجئين‮. ‬الآن،‮ ‬تتمثل المشكلة في أنهم لا يجدون المكان الذي يذهبون اليه،‮ ‬لا أحد يريد شيئا منهم،‮ ‬لا أحد يريدهم،‮ ‬وبالأخص البلاد العربية‮. ‬غير مرغوب فيهم في كل مكان‮. ‬ولهذا الحل الذي يمكن أن باب الخروج من هذه المشكلة ذ الهجرة،‮ ‬الهروب ــ ممنوع عليهم‮. ‬والآن لم تزل مشكلة اسرائيل مع الفلسطينيين باقية‮. ‬

‮ ‬يقال إن القومية العربية والعالم العربي فشلا خلال القرن العشرين،‮ ‬ولكن اليوم،‮ ‬أين نحن؟ لا توجد وحدة عربية ممكنة‮.‬

‮- ‬علي أي حال فقد العرب امكانية امتلاك المستقبل،‮ ‬اذا تجاسرت علي القول‮. ‬وهو ما جعلنا في مكاننا،‮ ‬وقت نهضة العلم مع‮ ‬غاليليو‮. ‬كل شئ بدأ من هنا‮. ‬ليس الوقت مناسبا للكلام عن تاريخ العلم‮. ‬ولكن في العالم العربي،‮ ‬كان هناك علماء،‮ ‬عباقرة من الممكن مقارنتهم بالكبار‮. ‬ولكن هذا‮ ‬غير العلم بالمعني الغربي،‮ ‬الذي نشأ وتطور بدءا من القرن السابع عشر مع‮ ‬غاليليو‮. ‬وهنا تمكنا من رؤية قوة ما يمكن أن نسميه الكلمة،‮ ‬ابداع اللغة التي تخلصت من اللبس وخلقت التعبير الذي ينبني عليه العلم‮. ‬بدءا من هنا،‮ ‬هناك الاختراعات الناتجة عن التطبيق‮. ‬لنتذكر أن أول اختراع،‮ ‬كان قوة النار‮. ‬من هذه اللحظة وقف العرب قبالة حالة من الأشياء التي لا يمكن أن يتكيفوا معها‮. ‬في هذا الصدد قاموا بمحاولات،‮ ‬أي مع رجل مثل محمد علي،‮ ‬والغرب لم يكن لديه سوي مشكلة واحدة،‮ ‬وهي أن يضع رأسه في المياه،‮ ‬أي أن لا يدع هذا العالم يأخذ نصيبه من التطور‮. ‬

‮ ‬أنت محق لأنه في كل مرة يقوم بلد عربي بمحاولة الخروج من هذا الركود تعمل الدول الغربية علي تدميره‮.‬

‮- ‬نعم،‮ ‬تدميره وبالأخص حينما تكون‮ (‬الدول‮) ‬قريبة من بعضها البعض‮. ‬نجح اليابانيون،‮ ‬أو الصينيون،‮ ‬في الهروب منها‮. ‬

سهل الترابط المتوسطي المتبادل أنساق الهيمنة‮.‬

‮- ‬بالتأكيد‮ !‬

‮ ‬لانهاء هذا الحوار،‮ ‬أتمني أن تتذكر الفصل الأخير الذي كتبته بناء علي طلب من فرانسوا فال،‮ ‬الجزء الأخير من ذلك الذي أسميته‮ "‬سياسة الكتابة والارهاب الديني‮".‬

‮- ‬بما أن الأمر يتعلق لدينا بدولة تتحصل علي شرعيتها من الدين وأن المؤسسة الدينية يهيمن عليها رئيس الدولة،‮ ‬الذي يطلق عليه‮ (‬أمير المؤمنين‮)‬،‮ ‬والذي يشير اليها بالسلطات الدينية،‮ ‬وبالتالي من هنا،‮ ‬هناك تماه بين سياسة الأمير و"الحق‮". ‬وفي اطار المتعالي،‮ ‬المقدس،‮ ‬حينما يستسلم الشعب طوعا،‮ ‬من الممكن أن ينجح نفوذ الأمير،‮ ‬بدون أي معارضة‮. ‬وهذا في اطار نظام الأشياء‮. ‬ولكن حينما تفشل الدولة،‮ ‬حينما يفشل هذا الأمير،‮ ‬علي جميع المستويات،‮ ‬هنا تبدأ المعارضة‮. ‬ولكن المعارضة نفسها لا يمكن أن تمتلك أي فعالية الا اذا خاصمت هذه الشرعية‮. ‬في دولة لا تمنح أي مزايا ويخضع المرء فيها للرعب،‮ ‬في الداخل،‮ ‬ولا يمكن معارضتها،‮ ‬واذا توافرت قوة قادرة علي معارضتها،‮ ‬تحت شكل الرعب المضاد،‮ ‬سوف يتحقق الارهاب ويتهم الدولة بكونها خائنة‮. ‬وهذا ما يجري حاليا‮ !‬

‮  ‬اذاً‮ ‬هي ذي جذور الارهاب الديني‮ !‬

‮- ‬نعم‮. ‬بدأت نزعة الارهاب في مصر مع اغتيال السادات،‮ ‬ولكن هذا كان نتيجة لكل ما عاناه الإخوان المسلمون في سجون ناصر‮. ‬ولذا اختار جزء من الإخوان المسلمين طريق الارهاب،‮ ‬مرتكنين علي عقيدة‮ "‬التكفير‮" ‬التي أتحدث عنها في كتابي‮.‬

‮ ‬اذا صح القول،‮ ‬سقوط دولة‮ "‬الفرد‮" ‬والدولة الاستبدادية،‮ ‬استدعت،‮ ‬اذا تمكنت من الايجاز جيدا،‮ ‬رد فعل المعارضة تحت الشكل الديني،‮ ‬أي العودة الي كلام الاسلام واستخدامه كوسيط للتجديد بعد السقوط‮. ‬

‮- ‬بما أن الاسلام أصبح قاعدة لتأسيس السلطة،‮ ‬لا يمكن أن يستمر كقاعدة لمن يريدون اسقاط هذه السلطة‮ !‬

ولكنك لا تري أن الدول التي تهيمن علي الاقليم تستغل أيضا الاسلام كوسيط لتدمير السلطات العلمانية،‮ ‬مثلا اسرائيل لكي تقاوم فتح في فلسطين مهدت لصعود حماس خلال السبعينيات واليوم الآميركيون في العراق‮. ‬في نهاية العصر الناصري،‮ ‬استخدم الآميركيون المملكة العربية السعودية وقمة جدة‮ ‬1970‮ ‬لمقاومة السياسة المؤيدة للاتحاد السوفياتي ويسار ناصر‮.‬

‮- ‬بالتأكيد ومن المؤكد أن الاسلام،‮ ‬في ذاته،‮ ‬غير مناقض للتقدم‮. ‬وهو ما ذكرته حينما تكلمت عن طفولتي ومراهقتي،‮ ‬مبينا جيدا امكانية البقاء مسلما وامتلاك الأفكار النقدية نوعا ما‮. ‬هناك اختلاف بين الاسلام واستخدامه الذي ذكرته،‮ ‬أي استخدام المملكة العربية السعودية،‮ ‬السادات،‮ ‬الآميركيين‮... ‬وهؤلاء‮ ‬غير عاجزين عن استخدام الاسلام سياسيا كقوة رجعية‮. ‬

‮ ‬سؤال لكي أنتهي من الحوار بصورة شخصية‮. ‬أتخيل الاجابة ولكن سأطرحه‮. ‬هل تري نفسك اليوم ملحدا،‮ ‬غنوصيا ؟ ما هي علاقاتك بأصولك الاسلامية ؟

‮- ‬علي المستوي الشخصي أتجاسر علي القول،‮ ‬لا أمتلك أي معتقد‮. ‬لست ضد المعتقدات‮. ‬ولكن أخمن بأنه من الممكن العيش بدون معتقد،‮ ‬علي أي حال علي المستوي السياسي‮.‬

‮ ‬هل قلته في كتابك ؟

‮- ‬قلته‮. ‬أنا بدون أي معتقد،‮ ‬ولكن هناك اختلاف ما بين الاعتقاد ودعم أي برهان،‮ ‬أي حينما أقول‮ (‬أ‮) ‬لا يمكن أن أقول أي شئ بعدها‮. ‬اذ يمكن أن أبدي رأيا،‮ ‬أن أتكلم،‮ ‬وبالتالي ليس هناك اعتقاد،‮ ‬أقوم بها كأنني أمتلك مقدمة منطقية وأبحث عن أن أكون متناسقا‮.‬

‮ ‬في هذا الصدد،‮ ‬تجيب علي ضرورة الفلسفة التي تعتبر استعمالا للعقل والفكر‮.‬

‮- ‬نعم‮. ‬أعرف أنه لا توجد نقطة انطلاق للفكر خارج الاعتقاد بصورة عامة،‮ ‬ولكننا من الممكن أن نمتلك شيئا من الحرية،‮ ‬كأن نختار مقدمات منطقية‮ : ‬سواء كانت ضرورة عقلية،‮ ‬منطقية في المجال العلمي،‮ ‬سواء كانت ضرورة الأفعال‮. ‬وحينما نبدأ بمقدمة منطقية لهذا النظام،‮ ‬ضرورة الأفعال أو اللوغوس،‮ ‬نكون متناسقين‮. ‬وبالتالي،‮ ‬أقيم اختلافا بين الاعتقاد ودعم البرهان،‮ ‬وأخذ مكاني في الحقل الثاني‮.‬

ونحن ننهي حوارنا بذلك،‮ ‬اذا وددت بالطبع،‮ ‬أنت من نسل الفلسفة الاغريقية والأنوار‮. ‬أنت رجل البرهان،‮ ‬النقاش،‮ ‬العقل النقدي،‮ ‬وليس رجل الاعتقاد بالمقدمات الدينية المنطقية‮.‬

‮- ‬أضيف أن هناك أساطين عربا أعطوا دروسا لكيفي امتلاك الأفكار المتماسكة والمتناسقة‮.‬

‮    ‬بالتأكيد‮. ‬هل تري الي مفكر مثل ابن رشد ؟

‮- ‬مثل ابن رشد والمعري‮.‬

لا ينقصنا شئ في تاريخ العالم العربي والاسلامي،‮ ‬ولكننا نطمح اليوم الي تمييز مظاهر التخلف بدلا من مظاهر التقدم والانفتاح‮.‬

‮- ‬نعم،‮ ‬بالتأكيد‮. ‬يقومون بإعلاء شأن رجال مثل ابن حنبل أو ابن تيمية،‮ ‬بينما المفكرون النقديون يتركون في الظل‮.‬

من الممكن أن نأمل أن تكون فترة‮ ‬غير طويلة،‮ ‬وانما فترة تمر بالعالم العربي والاسلامي وأن تجربة العنف،‮ ‬الفقدان،‮ ‬التدمير والحرمان ستؤتي ثمارها،‮ ‬حتي وان لزم الصبر علي رؤية هذه الثمار تنضج‮.‬

‮- ‬أنهي قولي بأن كل شئ يعتمد علي الأهمية التي نمنحها للثقافة والتعليم‮. ‬أو بالأحري نشعر بالحاجة الي تغيير سياسة الثقافة والتربية،‮ ‬أو بالأحري نبقي حيثما نحن ونتلاشي‮.‬

ولهذا نتمني أن تجد الثقافة حلا‮.‬

منقول من موقع أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق