الجمعة، 13 سبتمبر 2013

إدوارد سعيد‮ ‬يكتب عن روايات الكوميكس‮..‬ومغامرات‮ "‬تان تان‮" ‬و"جو ساكو‮ ":‬ ‮"‬فلسطين‮" ..‬ حكايات الضحايا


ترجمة‮ :‬‮ ‬محمد عبد النبى


تُعد كُتب الكوميك ظاهرة عالمية مرتبطة بفترة المراهقة‮. ‬ويبدو أنها تُوجد في جميع اللغات والثقافات من الشرق إلي الغرب‮. ‬ومن ناحية موضوعاتها فهي تتنوع في طيفٍ‮ ‬واسع ما بين الملهم والخيالي والعاطفي والساذج؛ وجميعها مع ذلك من السهل قراءته،‮ ‬وتداوله،‮ ‬وتخزينه والتخلي عنه كذلك‮. ‬الكثير من كتب الكوميك،‮ ‬علي‮ ‬غرار آستريكس وتان تان،‮ ‬هي سلسلة مغامرات لا تنقطع بالنسبة للنشء الذي يقرأها في إخلاص شهراً‮ ‬بعد شهر؛ وهذه المغامرات المسلسلة،‮ ‬مثل الاثنتين اللتين ذكرتُهما،‮ ‬تكتسب بمرور الزمن حياةً‮ ‬خاصة بها،‮ ‬بشخصياتها المتواترة،‮ ‬وأوضاع الحبكة الخاصة بها،‮ ‬وعباراتها المميزة،‮ ‬مما يجعل من قرائها،‮ ‬سواءً‮ ‬في مصر أو الهند أو كندا،‮ ‬نوعاً‮ ‬من النادي الخاص يعرفُ‮ ‬كل عضو من أعضائه مجموعة كاملة من الأسماء والافتراضات ويمكنه الاستشهاد بها‮. ‬أظن أن أغلب البالغين يربطون كتب الكوميك بما هو طائش وسريع الزوال،‮ ‬وهناك افتراض يقول بأنه مع تقدمنا في العمر ننصرف عنها إلي نشاطات أكثر جدية،‮ ‬فيما عدا بعض الحالات النادرة‮ (‬كما في حالة رواية‮ ‬Maus ‮ ‬لمبدع كتب الكوميك آرت سبيجلمان‮) ‬عندما يعالج فنان كوميك جاد موضوعاً‮ ‬جاداً‮ ‬وكئيباً‮ ‬إلي حد أنه يُفضّل السكوت عنه‮. ‬ولكن كما سنري سريعاً،‮ ‬تعد تلك حالات نادرة للغاية في الحقيقة،‮ ‬لأن المطلوب عندئذٍ‮ ‬قبل أي شيء هو موهبة من الطراز الأول‮. ‬   

لا أذكر متي قرأتُ‮ ‬أول كتاب كوميك في حياتي،‮ ‬ولكني أذكر تماماً‮ ‬إلي أي حد شعرتُ‮ ‬بالتحرر والتمرد نتيجة قراءتي له‮. ‬كل مزايا الكتاب المغوي بصوره الملونة،‮ ‬وعلي الأخص تصميمه الفوضوي‮ ‬غير المهندم،‮ ‬والبذخ الصاخب والمفعم بالألوان لصوره،‮ ‬والانتقال الطليق ما بين ما تفكر به الشخصيات وما تقوله،‮ ‬والشخصيات العجائبية ومغامراتها المدهشة مكتوبةً‮ ‬ومرسومة‮: ‬كل هذا معاً‮ ‬يكافئ إثارة هائلة الروعة،‮ ‬مغايرة تماماً‮ ‬لكل ما عرفته أو خبرته حتي تلك اللحظة‮.   ‬في أسرتي العربية البروتسنتية بما في هذا من تنافر،‮ ‬وكذلك في نظام التعليم في الشرق الأوسط الكولونيالي خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان الاعتماد الأساسي علي قراءة الكتب والاجتهاد الأكاديمي‮. ‬فقد كان كل شيء تحت الهيمنة المتواصلة للرصانة والحزم‮. ‬وبالطبع لم تكن تلك أيام التليفزيون أو وسائل التسلية العديدة المتاحة بسهولة‮. ‬كان الراديو هو صلتنا بالعالم الخارجي،‮ ‬وبما أن أفلام هوليود كانت لا مهرب منها،‮ ‬وبطريقةٍ‮ ‬ما خطره أخلاقياً‮ ‬فقد خضعنا لنظام الفيلم الواحد كل أسبوع،‮ ‬بعد أن يمر برقابة والديّ،‮ ‬حيث يتم الحكم عليه بمعايير‮ ‬غير معلنة‮ (‬لنا‮) ‬باعتباره مقبولاً‮ ‬وبالتالي ليس سيئاً‮ ‬بالنسبة للأطفال‮. ‬

قبل أن أتم الثالثة عشر تماماً،‮ ‬التحقت بالمدرسة الثانوية بعد سقوط فلسطين في‮ ‬1948‭.‬‮ ‬ومثل جميع أعضاء أسرتي،‮ ‬ذكوراً‮ ‬وإناثاً،‮ ‬ألحقتُ‮ ‬بالمدارس البريطانية،‮ ‬والتي يبدو أنها كانت تقتدي بنموذج نظيراتها من المدارس في رواية أيام تلمذة توم براون‮ (‬كتبها البريطاني توماس هيوز عام‮ ‬1857‮ ‬عن معاناة طالب مدرسة داخلية‮)‬ وكذلك ما قرأته من شهادات وأخبار عن مدارس مثل إيتون وهارو وراجبي،‮ ‬التي التقطها من بين قراءاتي التي لا تتعفف عن التهام كل ما تجد من كتب إنجليزية فقط تقريباً‮. ‬في هذا المحيط من الامبريالية المتأخرة لعالم متصارعٍ‮ ‬بشدة وبين طلابٍ‮ ‬أغلبهم من العرب والشرقيين،‮ ‬ومعلمين بريطانيين،‮ ‬في بلاد ذات أغلبية مسلمة هي نفسها تخضع لتغيّر عنيف،‮ ‬وحيث المناهج الدراسية معتمدة علي شهادة مدرسة أوكسفورد أو كامبريدج‮ (‬أو كما كانت‮  ‬يسمي في تلك الأيام دبلوم الثانوية الإنجليزية المعيارية‮)‬،‮ ‬وسط كل هذا بزغ‮ ‬الاقتحامُ‮ ‬المفاجئ لكتب الكوميك الأمريكية مثل إعصار صغير،‮ ‬وعلي الفور منعها كلٌ‮ ‬من الأهل ومسئولي المدرسة‮.  ‬وفي ظرف ساعات وجدتني أطفو ــ بطريقةٍ‮ ‬غير شرعية‮ - ‬مع طوفان من مغامرات سوبرمان وطرزان وكابتن مارفل والمرأة العجيبة،‮ ‬مغامرات أجفلت عقلي وحولته بالطبع عن الأشياء الأكثر خشونةً‮ ‬وكآبة التي كان ينبغي أن أنكبّ‮ ‬عليها‮. ‬

حين حاولتُ‮ ‬أن أفهم السر وراء الحظر المفروض علي هذا العالم الجديد الممتع والذي بدا مدعوماً‮ ‬بقوة في البيت لم أصل إلي أي شيء بالمرة مع والدي العنيدين فيما عدا أن كتب الكوميكس تتعارض مع العمل الدراسي للمرء‮. ‬قضيتُ‮ ‬سنوات في محاولة إعادة تركيب المنطق وراء هذا الحظر وتوصلتُ‮ ‬مع الوقت أن الحظر قد أدرك إدراكاً‮ ‬دقيقاً‮ (‬وبالطبع أكثر مما أدركتُ‮ ‬أنا حينذاك‮) ‬ما تقوم به كتب الكوميك علي خير وجه وبأسلوبٍ‮ ‬فريد‮. ‬قبل كل شيء كان هناك أشياء من قبيل اللغة الدارجة والعنف اللذين يشوّشان الهدوء المزعوم للعملية التعليمية‮. ‬وثانياً،‮ ‬وربما الأمر الأهم رغم عدم التصريح به،‮ ‬انطلاق صباي البكر المكبوت جنسياً‮ ‬علي أيدي شخصيات فاضحة‮ (‬بعضها مثل شينا الأدغال،‮ ‬التي ترتدي ثياباً‮ ‬ضيّقة ومثيرة‮) ‬تلك الشخصيات التي تفعل وتقول أشياءً‮ ‬لا يقبلها العقل ولا الإمكانية لا المنطق،‮ ‬أو لأنها،‮ ‬وربما هذه النقطة أكثر حسماً،‮  ‬تتعدي علي القواعد التقليدية للأمور قواعد السلوك،‮ ‬والتفكير،‮ ‬وكذلك القواعد الاجتماعية المقبولة‮. ‬تتلاعب كتب‮ ‬الكوميك بمنطق أ+ب+ج+د وهي بلا شك تشجع المرء علي ألّا يفكر كما يتوقع منه المعلم أو كما تُلزمه مادة كالتاريخ مثلاً‮. ‬أتذكر بكل وضوح إحساسي بالنشوة العارمة بينما أهرّب خفية‮ ‬نسخة من الكابتن مارفل في حقيبتي المدرسية وأقرأها اختلاساً‮ ‬في الباص أو تحت الأغطية بالفراش أو في الطرف البعيد من الفصل‮. ‬علاوةً‮ ‬علي ذلك،‮ ‬تقدم كتب الكوميك للمرء مقاربة واضحة ومباشرة‮ (‬المزج ما بين الكلمات والصور علي نحوٍ‮ ‬جذاب ومُضخّم بالمعني الحرفي‮) ‬مقاربة بدت صادقة صدقاً‮ ‬منيعاً‮ ‬من ناحية،‮ ‬ومن ناحية أخري قريبة وحميمة بقدر مدهش،‮ ‬ومقتحمة ومؤثرة كذلك‮. ‬لازلتُ‮ ‬بطريقةٍ‮ ‬أو بأخري مفتوناً‮ ‬بمحاولة فك هذه الشفرة،‮ ‬بدت كتب الكوميك في تميزها العنيد عن الفنون الأخري بدرجات بعيدة‮ ‬ــ لنقل مثلاً‮ ‬أفلام الكارتون أو رسوم الكاريكاتير،‮ ‬اللذين ما لم أهتم بأيٍ‮ ‬منهما ذ بدت ما لا يمكن أن يقال بأسلوبٍ‮ ‬آخر،‮ ‬وربما ما لم يكن مسموحاً‮ ‬بقوله أو تخيله،‮ ‬بحيث تتحدي العمليات المعتادة للتفكير،‮ ‬تلك التي تخضع لانضباط وتشكيل وإعادة تشكيل جميع أنواع الضغوط التربوية إلي جانب الإيديولوجية‮. ‬لم أكن أعلم شيئاً‮ ‬من هذا كله حينذاك ولكنني شعرتُ‮ ‬أن كتب الكوميك حررتني بحيث أفكر وأتخيل وأري بطريقة مختلفة تماماً‮. ‬

‮> > >‬

لننتقل الآن إلي العقد الأخير من القرن العشرين‮. ‬بصفتي أمريكياً‮ ‬من أصل فلسطيني،‮ ‬وجدتُ‮ ‬نفسي متورطاً‮ ‬بالضرورة في معركة حق تقرير المصير الفلسطيني وحقوق الإنسان‮. ‬ورغم معوقات المسافة والمرض والمنفي،‮ ‬صار دوري هو الدفاع عن هذه القضية الأشد صعوبة،‮ ‬وكذلك الدفاع عن أبعادها المخفية عمداً‮ ‬ورسم صورة لهذه‮ ‬الأبعاد كتابةً‮ ‬وتحدثاً‮ ‬أمام الجمهور،‮ ‬ومحاولاً‮ ‬طوال الوقت أن أتابع استكشاف تاريخنا كشعب في أماكن مثل عمّان وبيروت،‮ ‬ثم أخيراً‮ ‬علي الحقيقة في الضفة الغربية وغزة،‮ ‬حين صار بمقدوري أن أعود إلي فلسطين في عام‮ ‬1992‮ ‬للمرة الأولي‮ ‬منذ أن‮ ‬غادرت أسرتي القدس في‮ ‬1947‮. ‬

حين بدأت جهودي هذه بعد حرب يونيو‮ ‬1967‮ ‬كانت حتي كلمة‮ »‬فلسطين‮« ‬يكاد يكون من المستحيل استخدامها في الخطاب العام‮. ‬أذكر رؤية لافتات مرفوعة أمام قاعات النقاش والمحاضرات حول فلسطين تصرخ‮:»‬ليس هناك فلسطين‮« ‬وفي‮ ‬1969‮ ‬أطلقت جولدا مائير تصريحها الشهير قائلةً‮ ‬إن فلسطين لا وجود لها‮. ‬القسم الكبير من عملي ككاتب ومحاضر انشغل بدحض كل ما نال تاريخنا من تحريف ومسخ ونزع الصبغة الإنسانية عنه،‮ ‬محاولاً‮ ‬في الوقت نفسه أن أعطي الحكاية الفلسطينية حضوراً‮ ‬وشكلاً‮ ‬إنسانياً،‮ ‬تلك الحكاية التي محاها بكل كفاءة الإعلام وجحافل المجادلين الخصوم‮. ‬

بدون أي تحذير أو استعداد مسبق،‮ ‬وقبل عشر سنوات أحضر ابني الصغير إلي البيت كتاب الكوميك الأول لجو ساكو عن فلسطين‮. ‬ولما كنتُ‮ ‬منقطع الصلة عن عالم القراءة الحيوية لكتب الكوميكس،‮ ‬وعن شرائها ومقايضتها،‮ ‬فلم تكن لديّ‮ ‬أي فكرة عن وجود جو ساكو وعالمه الخلاب‮. ‬استعدتُ‮ ‬مباشرةً‮ ‬صلتي بعالم الانتفاضة الأولي العظيمة‮ (‬1987‮ ‬ــ‮ ‬1992‮)‬،‮ ‬كما عدتُ‮ ‬بتأثر أعظم شأناً‮ ‬إلي عالم الحيوي والمنعش للكوميكس التي كنتُ‮ ‬أقرأها قبل زمن بعيد‮. ‬كانت صدمة الاستعادة مزدوجة،‮ ‬فقد صدر من كتب ساكو عن فلسطين حوالي العشرة كتب،‮ ‬جُمعت الآن كلها في مجلد واحد وهو ما أتمني أن يجعلها متاحة علي نطاقٍ‮ ‬واسع ليس فقط للقارئ الأمريكي ولكن علي نطاق العالم كله،‮ ‬وكنت كلما مضيت مسلوب الإرادة في قراءتها زاد اقتناعي أن أمامي هنا عملاً‮ ‬سياسياً‮ ‬وجمالياً‮ ‬يتمتع بأصالة نادر المثال،‮ ‬لا نظير له في

السجالات الملتوية التواءً‮ ‬لا شفاء منه ذات البلاغة الطنانة والتي تورط فيها الفلسطينيون والإسرائيليون وأنصار كلٍ‮ ‬من الجانبين‮. ‬
وبما أننا نعيشُ‮ ‬أيضاً‮ ‬في عالم‮ ‬غارق في الميديا حيث يتحكم في الغالبية الهائلة من صور الأخبار العالمية وينشرها حفنة قليلة من الرجال المستقرين في أماكن مثل لندن ونيويورك،‮ ‬فها هو ترياق رائع تزودنا به سلسلة من كتب صور وكلمات الكوميكس،‮ ‬مرسومة بخطوط واثقة،‮ ‬وأحياناً‮ ‬مؤكّدة علي طريقة فن الجروتسك ومُضخّمة لكي تناسب المواقف المتطرفة التي تصوّرها‮. ‬في عالم جو ساكو لا وجود للمذيعين والمحاورين معسولي اللسان،‮ ‬لا وجود للحكايات المداهنة عن الانتصارات الإسرائيلية،‮ ‬والديمقراطية،‮ ‬والإنجازات،‮ ‬ولا وجود للصور المفترضة والمؤكدة المرة بعد الأخري للفلسطينيين بوصفهم رماة حجارة،‮ ‬وممانعين‮ (‬رافضين للسلام والتطبيع‮)‬،‮ ‬وبوصفهم أشراراً‮ ‬أصوليين هدفهم الأساسي هو تصعيب الأمور علي الإسرائيليين المضطهدين محبي السلام‮. ‬ما نراه هنا بالمقابل من خلال عيني وشخصية رجل شاب أمريكي متواضع المظهر بشعر قصير يحب السفر إلي كل مكان،‮ ‬يظهر أن جولاته تقوده إلي عالم‮ ‬غير مألوف وعدواني،‮ ‬عالمٍ‮ ‬من الاحتلال العسكري والاعتقال العشوائي،‮ ‬والخبرات الخانقة من هدم منازل ومصادرة أراضي وتعذي‮ (‬ضغوط بدنية معتدلة‮) ‬ونظام ذو قوة‮ ‬غاشمة يستخدمها بقسوة وسخاء وبوتيرةٍ‮ ‬يومية إن لم يكن كل بضعة ساعات‮  ‬ضد الفلسطينيين الذين يعيشون تحت رحمته‮ (‬مثلاً‮: ‬جندي إسرائيلي يرفض السماح للناس بالمرور من أحد حواجز الطرق المؤدية إلي الضفة الغربية بسبب،‮ ‬كما يقول كاشفاً‮ ‬عن أسنان هائلة ومُهددة،‮ ‬هذه،‮ ‬أي بندقيته الإم‮-‬16‮ ‬التي يلوّح بها‮). ‬
ليس هناك عمود فقري واضح،‮ ‬لا خط طريق يمكن تمييزه في اللقاءات الساخرة‮  ‬لجو ساكو بالفلسطينيين تحت الاحتلال،‮ ‬ولا محاولة للتخفيف من وطأة وجود هو في الجزء الأغلب منه وجود هش ومتوتر يقوم علي انعدم اليقين،‮ ‬والبؤس الجماعي،‮ ‬والحرمان،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬في الأجزاء الخاصة بغزة،‮ ‬حياة التجول علي‮ ‬غير هدي في نطاق حدود المكان‮ ‬غير مريحٍ‮ ‬أو مُرحّب،‮ ‬التجوال ومن قبله ومن بعده الانتظار،‮ ‬والانتظار،‮ ‬والانتظار‮. ‬باستثناء واحد أو اثنين من الروائيين والشعراء،‮ ‬لم يستطع أحد أن يقدم الحالة الرهيبة للأمور خيراً‮ ‬من جو ساكو‮. ‬ولا شك في أن صوره نابضة بالحياة أكثر من أي شيء يمكنك قراءته أو رؤيته علي شاشة التليفزيون‮. ‬بصحبة صديقه المصور الصحافي الياباني سابورو‮ (‬الذي يبدو كأنه ضاع تماماً‮ ‬عند نقطةٍ‮ ‬ما‮)‬،‮ ‬جو هو حضورٌ‮ ‬يقظ ينصت ويراقب،‮ ‬متشكك أحياناً،‮ ‬وضجر وملول أحياناً،‮ ‬ولكنه أغلب الوقت متعاطف ومرح،‮ ‬كما حين يلاحظ أن كوب الشاي الفلسطيني‮ ‬غالباً‮ ‬ما يكون‮ ‬غارقاً‮ ‬في السكّر،‮ ‬أو كيف يجتمع الفلسطينيون عن طيب خاطر لتبادل حكايات الهول والمعاناة،‮ ‬كمما يقارن صيادو السمك بين حجم صيدهم أو كما يقارن صيادو البرية بين براعة وتسلل فرائسهم‮. ‬
‮> > >‬
نطاق الشخصيات المعروضة في الحكايات العديدة المجموعة هنا يتسم بتنوع رائع،‮ ‬بمقدرة رائعة لرسّام كوميك علي التقاط التفاصيل الموحية،‮ ‬شارب منحوت هنا،‮ ‬أسنان أكبر من اللازم،‮ ‬وبدلة رثة هناك،‮  ‬ينجح ساكو في مواصلة هذا كله ببراعة فنية يعوزها الحرص تقريباً‮. ‬كما أن الإيقاع المتمهل وغياب الهدف لجولاته يؤكدان علي أنه ليس صحافياً‮ ‬يبحث عن موضوع ولا دارس يحاول أن يثبّت الحقائق في مواضعها من أجل إنتاج بحث سياسي‮. ‬ذهب جو إلي هناك ليكون في فلسطين ــ وذلك فقط لأنه لا يستطيع إلا أن يقضي الوقت المتاح له هناك،‮ ‬وإلّا فالهدف النهائي أن يعيش حياة الفلسطينيين التي كُتب عليهم أن يعيشوها‮. ‬ومع الوضع في الاعتبار حقائق السلطة وتماهي ساكو مع الطرف المستضعف،‮ ‬فإن الإسرائيليين في كتابه مرسومين بصبغة تشككية ساخرة لا تخطئها العين،‮ ‬إن لم يكن بإساءة ظن علي الدوام‮. ‬فغالباً‮ ‬هم رموز لقوة‮ ‬غاشمة وسلطة مشبوهة‮. ‬لا أشير هنا فقط إلي الشخصيات المنفرة بوضوح مقل العديد من الجنود والمستوطنين الذين يواصلون الظهور المفاجئ لإقلاق عيشة الفلسطينيين وتحويلها عمداً‮ ‬إلي عبء‮ ‬غير محتمل،‮ ‬ولكن ــ خصوصاً‮ ‬في إحدي الحكايات‮ - ‬حتي هؤلاء من يسمون دعاة السلام ممن يناصرون حقوق الفلسطينيين‮ ‬يظهرون مراوغين،‮ ‬ومترددين للغاية،‮ ‬وأخيراً‮ ‬غير فاعلين بما يكفي ليكونوا أيضاً‮ ‬أهدافاً‮ ‬للسخرية المتسمة بخيبة الرجاء‮. ‬
ذهب جو إلي هناك ليكتشف ما سبب كون الأشياء علي ما هي عليه ولماذا بدا الطريق مسدوداً‮ ‬طوال كل ذلك الوقت‮. ‬إنه ينجذب إلي المكان جزئياً‮ ‬بسبب خلفية أسرته في مالطا خلال الحرب العالمية الثانية‮ (‬نعلم هذا من كتاب كوميك سابق له عجيب بدرجة استثنائية وهو‮ ‬War Junkie ،‮ ‬وجزئياً‮ ‬لأن العالم ما بعد الحداثي سهل المتناول بالنسبة للشاب الأمريكي ذو الفضول،‮ ‬وجزئياً‮ ‬لأن مثل مارلو شخصية‮ ‬جوزيف كونراد منجذب إلي الأماكن المنسية والأشخاص المنسيين من العالم،‮ ‬هؤلاء الذين لا يظهرون علي شاشات تليفزيوناتنا،‮ ‬وإذا وجدوا سبيلهم إليه يتم تصويرهم عادةً‮ ‬كهامش لا أهمية له،‮ ‬أو حتي جدير بالإهمال بما أنه يبدو مستحيلاً‮ ‬التخلص التام من قيمهم المزعجة،‮ ‬شأن الفلسطينيين‮. ‬ودون أن يفقد هذا الكتاب مقدرة الكوميك الفريدة علي نقل عالم سوريالي فهو حيوي وبالقدر نفسه عنيف عنفاً‮ ‬آسراً‮ ‬بطريقته الخاصة كرؤيا شاعر للأشياء،‮ ‬فإن جو ساكو يستطيع أيضاً‮ ‬ودون مباهاة أن ينقل قدراً‮ ‬عظيماً‮ ‬من المعلومات،‮ ‬ومن السياق الإنساني والأحداث التاريخية التي قلّصت الفلسطينيين إلي المعني الراهن لهم وهو العجز الراكد،‮ ‬علي الرغم من عملية السلام وعلي الرغم من البريق اللزج الذي يضفيه علي الأمور أساساً‮ ‬كلٌ‮ ‬من الزعماء‮ ‬المنافقين،‮ ‬وصانعي السياسات وخبراء الإعلام‮.‬
في أي موضع من الكتاب،‮ ‬لم يقترب ساكو إلي هذا الحد من الواقع المعيش الحي للفلسطيني العادي كما فعل في تصوير الحياة في‮ ‬غز،‮ ‬الجحيم الوطني‮. ‬فراغ‮ ‬الوقت،‮ ‬بلادة إن لم نقل دناءة الحياة اليومية في مخيمات اللاجئين،‮ ‬وشبكة العاملين في الإغاثة،‮ ‬والأمهات الثكالي،‮ ‬والشباب العاطلين عن العمل،‮ ‬والمعلمون،‮ ‬والشرطة،‮ ‬والطفيليون،‮ ‬وحلقات احتساء الشاي والقهوة المتواصلة في كل موضع،‮ ‬معني الحبس،‮ ‬الوحل الدائم والقبح الذي يرسمه مشهد مخيم اللاجئين والذي أضحي أيقونة دالة علي التجربة الفلسطينية بكاملها‮: ‬كل ذلك مُقدّم بدقة مفزعة وللمفارقة برقةٍ‮ ‬وهوادة في الحين نفسه‮. ‬وجو الشخصية موجود هناك متعاطفاً‮ ‬لكي يفهم ولكي يحاول أن يختبر بنفسه لماذا تمثّل‮ ‬غزة مكاناً‮ ‬من أشد الأماكن ازدحاماً‮ ‬لدرجة ميؤوس منها ومع ذلك تمثل فضاء بلا جذور للفلسطينيين الذين انتزعت بيوتهم وأراضيهم،‮ ‬ليس هذا وحسب بل أيضاً‮ ‬لكي يؤكد أنها موجودة هناك،‮ ‬ولا بدّ‮ ‬من التعامل معها بصيغة إنسانية،‮ ‬في تتابع الحكايات التي يمكن لأي قارئ أن يتماهي معها‮. ‬
وهكذا فإذا انتبهتَ‮ ‬سوف تلاحظ العرض المدقق للأجيال،‮ ‬كيف يتحدد الأطفال والبالغون خياراتهم ويعيشون حياتهم الهزيلة،‮ ‬البعض يتحدث والبعض يبقي صامتاً،‮ ‬وكيف يرتدون الكنزات الصوفية الرثة،‮ ‬والسترات مختلفة الأشكال،‮ ‬والكوفيات الفلسطينية‮ »‬الحطة‮« ‬الدافئة لحياة مرتجلة،‮ ‬علي هامش وطنهم الذي صاروا بداخله هم المخلوقات الأشد حزناً‮ ‬وعجزاً‮ ‬وإثارة للتناقض،‮ ‬غرباءً‮ ‬غير مرحب بهم‮. ‬يمكنك أن تري هذا كله بمعني ما من خلال عيني جو بينما يتحرك بينهم ويتلكأ هنا وهناك،‮ ‬منتهباً،‮ ‬ودوداً،‮ ‬مراعياً،‮ ‬ساخراً،‮ ‬وهكذا فإن شهادته البصرية تصير هو نفسه،‮ ‬هو مقدماً‮ ‬من خلال الكوميكس،‮ ‬من خلال أعمق أفعال الدعم والتعاضد‮. ‬وقبل هذا كله،‮ ‬فإن سلسلته الخاصة بغزة تُحي وتؤكد ثلاث شهادات بارزة أخري أتت من قبله،‮ ‬لثلاث كاتبات كتبن عن الأمر بصورة لا يمكن نسيانها‮ (‬إحداهن إسرائيلية،‮ ‬والثانية أمريكية ـ يهودية،‮ ‬والثالثة أمريكية لم يكن لها أي صلة سابقة بالشرق الأوسط‮): ‬أميرة هاس،‮ ‬المراسلة الشجاعة لصحيفة هآرتس والتي عاشت في‮ ‬غزة وكتبت عنها علي مدي أربعة أعوام،‮ ‬وسارة روي،‮ ‬التي كتبت دراسة شديدة الوضوح والحسم حول تراجع وانهيار تنمية الاقتصاد في‮ ‬غزة،‮ ‬وجلوريا إيمرسن،‮ ‬الروائية والصحافية صاحبة الجوائز التي وهبت عاماً‮ ‬من عمرها لتعيش بين أهل‮ ‬غزة‮. ‬
‮> > >‬
لكن في نهاية الأمر ما يميّز جو ساكو كمصوّر للحياة في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو أنه اهتمامه الحقيقي ينصب علي ضحايا التاريخ‮. ‬فلتتذكر أغلب كتب الكوميكس التي نقرأها وكيف تنتهي كلها تقريباً‮ ‬بانتصار شخص ما،‮ ‬انتصار الخير علي الشر،‮ ‬أو كيف يمحو العدلُ‮ ‬الظلم،‮ ‬أو حتي بزواج العاشقين‮. ‬يتم التخلص من الأشرار علي يد السوبرمان ولا نعود نراهم أو نسمع عنهم‮. ‬يحبط طرزان مخططات الرجال البيض الأشرار ويشحنهم خارج إفريقيا مُذلين‮. ‬لكن فلسطين ساكو لا تمضي علي هذا النمط بالمرة‮. ‬فإن الناس الذين يعيش بينهم هم خاسري التاريخ،‮ ‬مبعدين إلي الهوامش حيث يبدون كأنهم يضيّعون الوقت في يأس،‮ ‬بدون كثير من الأمل أو التنظيم،‮ ‬عدا رغبتهم في البقاء التي لا تتزحزح،‮ ‬رغبتهم المضمرة‮ ‬غالباً‮ ‬في المواصلة،‮ ‬واستعدادهم للتشبث بحكايتهم وإعادة حكيها مراراً‮ ‬وتكراراً،‮ ‬ومقاومة مخططات التخلص التام منهم‮. ‬بذكاء وفطنة،‮ ‬يبدو ساكو شكّاكاً‮ ‬حيال القتال،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬ذلك النوع الجماعي الذي ينفجر بالشعارات والتلويح بالرايات اللفظية‮. ‬كما أنه لا يحاول أن يقدم حلولاً‮  ‬من النوع المثير للسخرية لعملية سلام أوسلو‮. ‬غير أن الكوميكس الخاصة به تزود قرائه بإقامة طويلة بما فيه الكفاية بين شعب تم إهمال معاناته ومصيره‮ ‬غير العادل لوقتٍ‮ ‬أطول من اللازم وبقدر أقل من اللازم من الاهتمام السياسي والإنساني‮. ‬إن فن جو ساكو لديه القدرة علي أسرنا،‮ ‬وإبعادنا عن الشرود بنفاد صبر بحثاً‮ ‬عن عبارة لافتة أو حكاية متوقعة بصورة تعيسة عن الانتصار والتحقق‮. ‬ولعلّ‮ ‬هذا أعظم إنجازاته‮.   ‬
نص المقدمة التي كتبها إدوارد سعيد لرواية‮ ‬‮»‬فلسطين‮« ‬المصورة لجو ساكو‮..‬
والتي تصدر ترجمتها قريبا‮ ‬
عن‮ »‬دار التنوير‮« ‬في مصر وبيروت‮.

 منقول من موقع أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق